عندما وقعت القدس العربية تحت الاحتلال الاسرائيلي في حرب حزيران 1967 العدوانية، لم يصدق الاسرائيليون أنفسهم أن القدس في قبضتهم، تماما مثلما لم يصدقوا أنفسهم بسرعة احتلالهم للضفة الغربية بجوهرتها القدس، وقطاع غزة، ومرتفعات الجولان السورية، وصحراء سيناء المصرية، بدون خسائر تذكر، فهم لم يخوضوا حربا بمقدار ما كانت هناك جيوش تتقهقر، ويلاحقها جيش يتقدم بسلاح جوّ سيطر على أجواء المنطقة بشكل مطلق، وتحقق الحلم الاسرائيلي الذي كان يتمثل كلما التقى يهوديان بقول: “العام القادم في القدس”.
في حين أن العربان أضاعوا القدس وهو لا يعلمون أيّ مدينة أضاعوا! ولا يعلمون أنهم أضاعوا جزءا أصيلا من عقيدتهم وتاريخهم وحضارتهم، ومن علم منهم ذلك فانه مغلوب على أمره، ولا يملك حتى أضعف الايمان لتحرير المدينة المقدسة، اللهم اذا استثنينا الشعراء والكتاب الذين سطّروا مراثي لجنة السماوات والأرض، ولم يعلم العربان أنّ انتهاك حرمات القدس قد فتحت الأبواب لانتهاك حرمات كل العواصم والمدن العربية، وقد سقطت بعدها عواصم مثل بيروت وبغداد وطرابلس الغرب، وها هي دمشق وصنعاء تدمّر تنفيذا لأجندات أجنبية معادية، والله أعلم على أيّ العواصم الأخرى ستدور الدوائر.
وفي العام 2009 اتخذت دول العربان قرارا بأن تكون القدس عاصمة للثقافة العربية لذلك العام، وقد منع المحتلون قيام أيّ نشاط ثقافي بهذه المناسبة في المدينة المقدسة، ولم يدعم العربان عاصمتهم الثقافية سوى ببيانات الشجب والاستنكار الخجولة لما يجري في القدس من تهويد ومصادرة للأراضي، واقتلاع لمواطنيها الفلسطينيين. وفي العام 2010 اتخذ وزراء الثقافة العرب قرارا باعتبار “القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية” وتجري توأمة المدينة المقدسة مع العاصمة العربية التي تكون عاصمة سنوية للثقافة العربية وبشكل دوري ومتعاقب، وبقي الموقف العربي كما هو، وتغيرت حكومات، وجاء وزراء ثقافة جدد، أراهن أن غالبيتهم إن لم يكونوا كلهم لا يعلمون أو لا يتذكرون قرار أسلافهم باعتبار “القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية”. ولم يحرّكوا هم الأخرون ساكنا تجاه القدس، ومع أن القدس هي العاصمة السياسية والدينية والتاريخية والعلمية والاقتصادية والحضارية للشعب الفلسطيني ودولته العتيدة، إلا أنها تاريخيا تمثل الشيء نفسه بالنسبة للعرب الآخرين، فماذا فعلت دول العربان للقدس؟ خصوصا وأن العربان قد أسقطوا من حساباتهم كلّ الخيارات لاستعادة القدس، وبقية الأراضي المحتلة، وحصروا خياراتهم بالاعتماد على حسن نوايا ووعود “الصديقة أمريكا”، مع علمهم المسبق بموقف البيت الأبيض الداعم لاسرائيل والذي يأتمر بأوامر الحكومات الاسرائيلية ليس فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية فحسب، بل بكل قضايا الشرق الأوسط، بحيث أن أمريكا تدوس القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، ولوائح حقوق الانسان العالمية، واتفاقات جنيف الرابعة بخصوص الأراضي التي تقع تحت الاحتلال العسكري، عندما يتعلق الأمر باسرائيل، ولا تتورع في استخدام الفيتو لحماية اسرائيل من أيّة إدانة. والمال العربيّ الذي ينفق بسخاء على حروب لقتل شعوب وتدمير بلدان عربية، يتوقف عند عتبات القدس التي يسرق تاريخها وثقافتها مثلما سرقت جغرافيتها. ولكم أن تتصوروا مليارات الدولارات التي تنفق في الجهة المقابلة لتهويد القدس، ولكم أن تتصوّروا أن المليونير اليهودي الأمريكي موسكوفتش قد تبرع بخمسة وعشرين مليار دولار لتهويد القدس، وهو على استعداد لدفع أيّ مبلغ آخر لشراء عقارات عربية في القدس، بينما تعاني المؤسسات الثقافية العربية في “العاصمة الأبدية للثقافة العربية” من حالة شلل نظرا لقلة الموارد المالية.
وهذا العام 2014 جرى تقسيم المسجد الأقصى زمانيا، وسيجري لاحقا تقسيمه مكانيا، تماما مثلما جرى في المسجد الابراهيمي في الخليل، أفلا يستدعي ذلك طلب اجتماع لمجلس الأمن الدّولي لتوفير الحماية للمقدسات على الأقل؟
فهل القدس حقا عاصمة أبدية للثقافة العربية، أم هي عار أبديّ للعواصم العربية؟
18-12-2014