مكتبة كل شيء-حيفا
لوحة الغلاف: للفنّان التّشكيلي محمد نصرالله.
ملاحظة: الأسماء الواردة في هذه الرّواية خياليّة، وإن صدف وتطابقت مع أشخاص حقيقيّين فهي مجرّد صدفة.
الإهداء
إلى زين الشّباب علاء ابن شقيقي داود.
التّوجيهيّ
لم تنتظر نتائج الثّانويّة العامّة كبقيّة الطّالبات والطّلّاب، وكأنّ الأمر لا يعنيها، مع أنّها جدّت واجتهدت لتحصل على معدّل علامات مرتفع، وذلك من باب إرضاء الذّات على الأقلّ، أمّا الالتحاق بالجامعة فليس واردا في حساباتها على الإطلاق؛ بسبب ضيق ذات اليد، فجدّها العجوز ووالدتها الأرملة لا يقويان على تحمّل عبء تكاليف التّعليم الجامعيّ، ويبذلان جهدهما كي يكمل شقيقها الذي يكبرها بثلاثة أعوام تعليمه، فقد بقي له عام واحد كي يكمل مرحلته الجامعيّة الأولى في التّجارة والمحاسبة.
عندما أعلن مسؤول كبير في وزارة التّربية والتّعليم عن اليوم المحدّد لإعلان النّتائج، بدأ ذوو الطّالبات والطّلّاب بتحضير المفرقعات؛ والبعض منهم ممّن يملكون الأسلحة النّاريّة ابتاعوا كثيرا من الرّصاص الحيّ؛ ليطلقوه عند نجاح بناتهم وأبنائهم. هي لا تؤمن بثقافة “الطّخطخة” ولا بهذه الفوضى غير المبرّرة، وتمقتها لما تلحقه من أضرار وتعكير لصفو الأهالي، عدا أنّها قد تصيب أبرياء فتقتل من تقتل وتشوّه من تشوّه، لذا فقد قالت لوالدتها عند الإعلان عن نتائج العام الماضي:
حتّى لو كان أبي -رحمه الله- حيّا، وكانت أحوالنا المادّيّة حسنة جدّا لما قبلت أن يطلق أحد المفرقعات أو الرّصاص احتفالا بنجاحي في العام القادم.
ردّت عليها والدتها بلهجة حزينة:
من يوم وفاة والدك -رحمه الله- لم تدخل الفرحة بيتنا، ولم نطلق مفرقعات بنجاح أخيك عزيز عندما نجح في التّوجيهي قبل ثلاث سنوات، اكتفينا بشراء علبة “شوكولاتة” صناعة محليّة؛ لنقدّم منها لمن يأتين دون استئذان للمباركة، وأنت لست أغلى من شقيقك، لكنّنا سنقدّم الشّوكولاتة لمن يأتين للمباركة بنجاحك.
ردّت عبير على والدتها مازحة:
وإذا حصلت على معدّل مرتفع أكثر من معدّل عزيز، هل سأصبح غالية مثله؟
تنهدّت الأمّ بعمق وقالت:
شقيقك سيحمل اسم أبيه وجدّه، وهذا ما سيفعله أبناؤه من بعده، أمّا البنات فسينتقلن إلى بيوت أزواجهنّ!
عادت عبير تسأل باستياء يشوبه حزن دفين:
وهل البنت عندما تتزوّج لا تعود ابنة لوالديها؟
نهرتها الأمّ قائلة:
اتركي طول اللسّان والكلام الفارغ.
كان الجدّ يستمع للحوار بين حفيدته ووالدتها، فأراد أن يرفع من معنويّات حفيدته فقال لها:
أنت أيضا يا عبير غالية على قلبي، لكن يا حبيبتي”العين بصيرة واليد قصيرة”، ومع ذلك فأنت لست أقلّ حظّا من بقيّة زميلاتك، سأشتري لك فستانا جديدا، وبإمكانك أن تذهبي إلى صالون تجميل، وأن تتزيّني يوم نجاحك كبقيّة البنات.
ردّت عليه كنّته أمّ عزيز مستنكرة:
ماذا تقول يا أبا نعمان؟ هل بقي للزّينة مكان في بيتنا بعد وفاة نعمان وولدينا؟
نزلت دمعتان من عينيّ الجدّ عندما تذكّر ابنه وحفيديه الذين قضوا نحبهم في حادث طرق قبل عشر سنوات، وقال بلهجة حزينة متهدّجة:
الحمد لله على ما جرى ويجري، فهذا قضاء الله وقدره، وإكراما منّا للمرحوم في قبره، سنقدّم لأبنائه ما نستطيعه.
استمعت عبير للحوار بين جدّها ووالدتها ونزل كلام جدّها على قلبها كالبلسم الشّافي، فقالت:
حبيبي يا سيدي، أنا لن أذهب إلى صالون التّجميل كبقيّة البنات، لا كرها في الزّينة، -فكلّ البنات يتزيّنّ- لكن لأنّني أصبحت على قناعة بأن لا إمكانيّة لي بإكمال دراستي الجامعيّة، مع أنّني على قناعة بأنّني سأحصل على معدّل مرتفع، يؤهّلني لدراسة الموضوع الذي أريده.
ردّ الجدّ عليها حزينا:
لا أحد يحبّ التّعليم أكثر منّي يا بنيّتي، لكن للضّرورة أحكام، و”على قدر فراشك مدّ رجليك”، وعندما يتخرّج عزيز في العام القادم، سيعمل، وعندها ستتمكّنين من الالتحاق بالجامعة.
قالت عبير وهي تغادر الجلسة بعد أن انهمرت دموعها:
“موت يا حمار تيجيك العليق.”
نهرتها والدتها عن التّلفّظ بهكذا كلام، لكنّها لم تلتفت وكأنّها لم تسمع.
حوقل الجدّ وهمس لكنّته:
اقتربي منّي يا لبنى.
نهضت من مكانها متثاقلة وجلست بجانبه وهي تقول:
خيرا يا أبا نعمان؟
اسمعيني يا بنتي، رحم الله من ماتوا، فلوعتنا عليهم ستبقى تلاحقنا حتّى الموت، لكن هذا قضاء الله. والحمد لله الذي أبقى لنا “عزيز” وعبير، و”القطعة أهون من القطيعة”، وكما قال المثل:”من خلّف ما مات”، وقد مضى على الحادث عشر سنوات حتّى الآن، وأنت لا تزالين ترتدين ثياب الحداد، وفرضت ذلك على عبير أيضا منذ طفولتها وحتّى يومنا هذا، وهذا ليس من الشّرع ولا من الفرع، والبنت الآن أصبحت عروسا، وقد يأتيها خاطب ولا يليق بك وبها أن تبقى بملابس الحداد السّوداء، فمتى سينتهي هذا الحداد؟
ردّت عليه كنّته باكية:
ليتني لم أسمع هذا الكلام منك يا عمّ، فهل بقي للحياة معنى بعد نعمان؟ ولمن سأتزيّن، فلم يعد في الدّنيا رجال بعد نعمان، وأنا نذرت حياتي بعده للعناية بولدينا عزيز وعبير، وللعناية بك فأنت بمثابة والدي خصوصا وأنّك أرمل بعد وفاة أمّ نعمان -رحمها الله-، وأنت الخيمة التي تخيّم علينا، ودرعنا وحامينا.
شعر الجدّ بالرّضا من كلام كنّته، فقال وهو يسأل الله الرّضا لها وعليها وعلى ابنيها:
محبّتنا لنعمان -رحمه الله- وحزننا على فراقه وعلى فراق ولديه اللذين قضيا نحبهما معه، لا ينفي أن نفرح بولديه المتبقّيين عزيز وعبير.
قالت الكنّة بلهجة فيها عتاب:
ما الدّاعي لهذا الكلام الذي لا نختلف عليه يا عمّ، وهل تراني مقصّرة بحقّيهما؟
قال الجدّ الذي غلبته الحيرة وعركته الحياة:
حماك الله من التّقصير يا ابنتي، لكنّ الحياة ليست في الأكل والشّرب والسّكن فقط، فمن حقّ عزيز وعبير علينا أن يعيشا حياتهما كبقيّة أبناء جيلهما، ومن حقّهما علينا أن نشعرهما بالفرح والسّرور، ولنتناسى مأساتنا فيمن رحلوا أمامهما، والذي في القلب سيبقى في القلب.
ردّت عليه الكنّة:
ما المطلوب منّي يا عمّ؟
الجدّ بلهجة فيها رجاء:
المطلوب منك أن تتركي ملابس الحداد أنت وعبير، ومن اليوم اشتري ملابس جديدة لك ولها، وابتعدي عن اللون الأسود. وشاركي أنت وعزيز وعبير الأهل والأصدقاء في أفراحهم، دعيهما يشعران بجمال الحياة.
استمعت أمّ عزيز لكلام حميها بانتباه شديد، استعادت أحداثا كثيرة تختزنها بذاكرتها، نزلت دموعها بغزارة وكأنّها تغسل الخلايا التي تختزن حزنا تنأى بحمله الجبال، بدأت تراجع نفسها. هي على قناعة بنصيبها في هذه الحياة، لكنّ الحزن ليس قدرا ملاصقا لها، عندما رحل زوجها وولداها كانت في ريعان شبابها، لم تنه العام الأربعين من عمرها، اختطف الموت ربّ البيت وطفلين، وأبقى لها اثنين عزيز كان في الحادية عشرة من عمره، وعبير كانت في الثّامنة من عمرها، وكانت تحظى بمحبة ورعاية والدها أكثر من أشقّائها كونها البنت الوحيدة في الأسرة، لكنّ الأمور انقلبت بعد الحادث المأساويّ.
أغلقت لبنى بابا حديديّا على أنوثتها في ملجأ أحزانها التي لا تنتهي، لم تفكّر يوما برجل بعد رحيل زوجها الحبيب، صحيح أنّها كانت في عزّ الصّبا وتتفوّق بجمالها على كثير من النّساء، لكنّها نذرت نفسها لتربية طفليها اللذين بقيا لها، بعد أن تعافت من كسر ساقيها وعدد من أضلاعها في ذلك الحادث المأساويّ.
بعد تفكير عميق اقتنعت بكلام حميها، فقرّرت أن تخلع ثياب الحداد، خصوصا وأنّها كانت تفكّر بضرورة تزويج ابنها عزيز هذا العام قبل أن ينهي تعليمه الجامعيّ، فهي تتوق إلى رؤية أبنائه، ومن غير اللائق أن تطلب عروسا له وهي ترتدي ثياب الحداد، كما أنّها تتوق لرؤية ابنتها عبير عروسا هي الأخرى.
في غرفة النّوم
تمدّدت عبير على سريرها في غرفة نومها، أصابتها نوبة بكاء، غسلت بدموعها تراكمات نفسيّة لم تكن مبرمجة. هي على قناعة تامّة بأنّ الثّانويّة العامّة لن تضيف شيئا في حياتها، وأنّها ستصبح حبيسة المنزل منذ الآن وإلى ما شاء الله.
طرقت الوالدة باب غرفة عبير بعد أن وجدته مقفلا من الدّاخل، لم تسمع جوابا، فقالت بصوت هادئ:
عبير…افتحي الباب يا حبيبتي.
عندما لم تجب عبير عادت الأمّ تقول:
افتحي الباب يا عبير، جهّزي نفسك لنذهب إلى المدينة؛ كي نشتري ملابس جديدة، ستختارين الملابس التي تريدينها بنفسك، وستختارين فستانا يليق بشبابك، سترتدينه يوم الإعلان عن نتائج التّوجيهي.
ردّت عبير بصوت فيه غضب:
لا أريد أيّة ملابس، ويوم الإعلان عن النّتائج يوم مثل بقيّة الأيّام، فنحن لا نرى أحدا ولا أحد يرانا.
الأمّ بلهجة آمرة:
جهّزي نفسك كما قلت لك.
عبير: لا أريد.
الأمّ: إن لم تجهّزي نفسك ولم ترافقيني سأختار أنا ملابسك على ذوقي وليس على ذوقك.
عبير: اختاري لك أنت ما تريدين، أمّا أنا فلا أريد شيئا.
الأمّ غاضبة: كيفما تريدين، لكنّك ستكونين الخاسرة.
عبير: لم يعد عندي شيء أخسره أو أكسبه.
عادت الأمّ لتجلس في صالون البيت مع حميها، وقرّرت تأجيل شراء الملابس ليوم آخر.
تعرّق جسد عبير من حرارة الجوّ الخانقة، فشمس شهر تمّوز-يوليو- هي الأشدّ حرارة في أيّام السّنة. استحمّت بماء بارد مع أنّه كان فاترا بسبب حرارة الجوّ، وقفت أمام المرآة تنظر صدرها الكاعب، مسّدت شعرها الأسود النّاعم، قسمته بالمشط من منتصف رأسها، ألقت به على صدرها من الجانبين، رأته يلقي ظلاله على نهديها النّافرين، تمعّنت باللمى على شفتيها، رأته يرسم خطّا بين شدقيها، لم تعلم إن كان ذلك دلالة جماليّة أم ماذا؟ تمنّت لو أنّ لديها أحمر شفاه كي تغطّيه، أسنانها بيضاء لامعة كما العاج، أنفها مستقيم كحدّ السّيف. نظرت إلى عينيها فانتبهت للمرّة الأولى أنّ عينيها بياضهما شديد البياض وسوادهما شديد السّواد، رموشها سوداء تمتدّ وكأنها تقف على جفنيها، لتحرس عينيها، تذكّرت قصيدة جرير التي كانت في المنهاج الدّراسيّ والتي يصف فيها عيني حبيبته فيقول:
إنّ العيون التي في طرفها حَوَرٌ….قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا
ضحكت وهي تتساءل هل في عينيّ حَوَرٌ فعلا؟ انتبهت إلى مؤخّرتها المكتنزة، فلم يعجبها ذلك، لكنها ابتسمت عندما تذكرت ما قاله عمرو بن كلثوم:
ومَتْنَى لَدِنَةٍ سَمَقَتْ وطَالَـتْ……..رَوَادِفُهَـا تَنـوءُ بِمَا وَلِيْنَـا
هذه هي المرّة الأولى التي تنتبه لجسمها فيها، تمنّت لو أنّ أباها لا يزال على قيد الحياة؛ ليوفّر لها متطلّبات الفتيات اللواتي من جيلها، فغالبيّة زميلاتها يرتدين ملابس فاخرة مختلفة الألوان خارج الدّوام المدرسيّ، ويتزيّن بمختلف المساحيق والعطور، لكنّها لم تكن تكترث بذلك وراضية بما هي فيه. حتّى أنّها لم تكن تشارك زميلاتها عندما يتحدّثن عن قصص وأفلام الحبّ التي يقرأنها أو يشاهدنها على شاشات التّلفزة. لم تكن تسمح لشابّ أن يتحرّش بها، واكتفت بالذّهاب إلى المدرسة والعودة منها عبر الطّريق نفسها، وهي تغضّ بصرها حتّى أنّها لم تكن ترى أحدا، وتعتقد أنّ أحدا لا يراها.
اتّخذت عبير قرارها بأنّ يوم إعلان النّتائج سيمرّ مثل بقيّة الأيّام، وأنّها لن تخرج من البيت في ذلك اليوم، حتّى أنّها ستكلّف والدتها بإحضار نتيجتها وكشف علاماتها من مدرستها، رغم أنّ مدرستها (المأمونيّة) لا تبعد كثيرا عن بيتها الكائن في سلوان قريبا من المسجد الأقصى.
عندما وصلت الأمّ إلى المدرسة استقبلتها المديرة والمعلّمات بالأحضان، وهنّ يهنّئنها بتفوّق ابنتها عبير التي حصلت على معدّل 99% وهو أعلى معدّل من بين طالبات المدرسة.
شعرت أمّ عزيز بالفخر لتفوّق ابنتها، وعندما شكرتها المديرة والمعلّمات وسألنها عن الظّروف التي وفّرتها لابنتها حتّى تفوّقت، ردّت عليهنّ ودموعها تنهمر على وجنتيها:
خلّيها مستورة. وغادرت دون استئذان.
في طريق العودة تذكّرت أنّ “عزيز” حصل على معدّل 74%، فتمنّت لو أنّه حصل على معدّل مرتفع مثل شقيقته عبير، اشترت من بقالة قريبة علبة شوكولاتة، وعادت مرفوعة الرّأس.
عندما وصلت أمّ عزيز البيت أطلقت زغرودة بعفويّة لامت نفسها عليها، وجدت عبير تعدّ القهوة لجدّها، احتضنتها وقبّلتها وهي تقول:
هل تريدين معرفة معدّل علاماتك؟
ردّت عبير دون اكتراث:
أعلم أنّني سأحصل على معدّل مرتفع، لكنّ ذلك لن يفيدني شيئا. قدّمت القهوة لجدّها، وعادت تضع الحجاب تحسّبا ممّن يأتين للمباركة دون موعد، لفّت رأسها بحجابها أزرق اللون، بينما كانت ترتدي بنطالا وقميصا أسودين.
امتلأ سماء البلدة بالمفرقعات، صوت أبواق السّيّارت يصمّ الآذان. زغاريد النّساء تنطلق من بعض البيوت. بينما السّعادة تغمر الجدّ وهو يتمعّن بكشف علامات عبير.
صليات من المفرقعات تنطلق من بيت الجيران. عندما أطلّت أمّ عزيز من شرفة البرندة قالت لها الجارة:
الحمد لله حسّان نجح بمعدّل 55% العقبى لعبير يا ربّ. وسألت:
هل نجحت عبير؟
لم تسمعها أمّ عزيز بسبب صوت المفرقعات الكثيف، فعادت الجارة تقول:
والله كنت أتمنّى أن تنجح عبير، لكن لا حول ولا قوّة إلا بالله. “خيرها في غيرها”.
لم تقل أمّ عزيز شيئا، لكنّها ضحكت في سرّها.
مبارك
بعد ظهر يوم إعلان النّتائج جاءت ثلاث نساء كلّ على حدة؛ ليباركن لأمّ عزيز بنجاح عبير، أوّلهما كانت الحاجّة مريم خالة أمّ عزيز، وصلت تحمل في يدها علبة شوكولاتة، احتضنت لبنى عند مدخل البيت، قبّلتها وهي تردّد:
ألف مبروك يا خالتي، والله عندما سمعت أنّ علامات بنتك عالية رفعت رأسي وحمدت ربّي، وقلت ربّنا عوّض لبنى في الولد والبنت اللي نجوا من الحادث، ومليح ما راحوا مع أبوهم واخوتهم. إن شاء الله يا خالتي بتشوفيهم عرسان.
شكرتها أمّ عزيز مع أنّها أثارت أشجانها عندما ذكرت اسم المرحومين زوجها وولديها.
عندما أطلّت عبير لاستقبال المهنّئة التي جلست على كنبة في الصّالون، مدّت يدها لتصافحها، لم تعرفها الحاجّة مريم، فسألت:
مين هذي يا لبنى؟
ردّت أمّ عزيز باسمة:
هذه عبير بنتي التي نجحت في التّوجيهي.
التفتت إليها الحاجّة مريم وقالت معاتبة:
والله ما عرفتك يا مقصوفة الرّقبة، تعالي خلّيني أبوسك.
قامت عبير وهي تبتسم على استحياء…سلّمت على الحاجّة مريم مرّة ثانية، وانحنت تقبّل وجنتيها. لم تفلت الحاجّة مريم يد عبير، حدّقت في وجهها وقالت:
يا خيبتي من بنات هالوقت المايل، ليش لابسه اسود، شو بدّك؟ بعدك حادّة على ابوك واخوتك، صار لهم سنين ميتين، ترحمّي عليهم وشوفي حالك. لازم اليوم تكوني مثل العروس ليلة دخلتها.
تنحنح أبو نعمان وأراد أن يصرف الحاجّة مريم عن الحديث عمّن رحلوا فقال:
وحّدي الله يا حاجّة. أين راح الحاجّ عنك؟
بلعت الحاجّة مريم ريقها وقالت:
الحاجّ يا ابو نعمان تعبان، عندما يقعد ما بقدر يقوم، حطّيت قُدّامه دلّة قهوة “ساده” وقلت له: بدّي أروح أبارك للبنى بنجاح بنتها، وقال لي:
باركي عنّي وعنّك وسلمي على الحاجّ أبو نعمان.
– الله يسلمك ويسلمه….سقى الله على أيّام الشّباب.
ردّت عليه الحاجّة مريم مازحة:
ما بدوم غير وجه الله، ما ظلّ شباب ولا غيره… دنيا دوّاره بتدخل منها وبتطلع وانت ما بتعرف كيف دخلت ولا كيف طلعت.
احتست الحاجّة مريم فنجان قهوة، واستأذنت كي تتوضّأ لتصلّي العصر، شعرت عبير أنّ الحاجّة مريم ضيفة ثقيلة الظّلّ، لكنّها لا تملك إلا أن ترحّب بها.
أثناء صلاة الحاجّة مريم وأمّ عزيز وصلت الجارة زينب العلي”أمّ حسّان”؛ لتبارك بنجاح عبير، دخلت الباب وهي تضحك قهقهة، احتضنت عبير وقبّلتها وهي تقول:
ربنا يقطع الهبل وأهله، لا تواخذيني يا عبير يا خالتي، والله حسبتك مش ناجحة، وما باركت لأمّك، وبعدها حسّان قال لي:
عبير الطّالبة الأولى وأعلى معدّل في منطقة القدس كلّها. ما شاء الله عليك يا بنتي! وعقبال ما نبارك لك بالعريس.
التزمت عبير الصّمت بعد أن رحّبت بأمّ حسّان وأجلستها في الصّالون. لكنّ أمّ حسّان عادت تقول وهي تعمل بنظراتها مسحا جسديّا لعبير:
ليش ما رتّبتِ حالك مثل بقيّة البنات يا عبير؟ والله يا خالتي أوّل مرّة أنتبه فيها لك، سبحان الخالق، ربنا خالقك ومتلاطف عليك، والشّباب رايحين يتسابقوا عليك، جمال وشطارة، شو بدهم أكثر من هيك؟
سمع أبو نعمان حديث أمّ حسّان وهو يصلّي، أنهى صلاته وعاد يجلس في الصّالون بعد أن صافح أمّ حسّان التي قالت له:
مبروك نجاح بنت ابنك با أبو نعمان، والله ما شاء الله عليها! ما ناقصها غير عريس.
التفت إليها أبو نعمان وقال:
شايف نسوان هالبلد ما بفكرن غير في العرس!
ردّت عليه أمّ حسّان ضاحكة:
وليش هو العرس صار حرام؟ وللا ممنوع النّاس يحكوا فيه؟ والله اولاد وبنات هالوقت لو يلقوا مين يزوّجهم وهم اولاد عشر سنين ما وفّروا.
ردّ عليها أبو نعمان مازحا:
لولا أبو حسّان حيّ يرزق لقلت لك: شو رايك نزوجك؟
ضحكت أمّ حسّان وقالت ضاحكة:
أنا سلامة زوجي، لكن انت لك أكثر من خمس سنين أرمّل بعد ما ماتت أمّ نعمان -الله يرحمها- ليش ما تشوف لك عجوز أرمله تنستر انت ويّاها؟
ضحك أبو نعمان وقال:
أنا أخذت نصيبي من هالحياة، ويا ربّ حسن الختام.
التفتت أمّ حسّان لعبير وسألت:
شو ناويه تعملي يمّه؟ بدّك تدرسي في الجامعة؟
عبير: ربنا يجيب ما فيه الخير.
أمّ حسّان: حسّان -الله يرضى عليه- ناوي يدرس في جامعة أجنبيّة.
وهنا قالت أمّ عزيز وهي تحتضن أمّ حسّان وتقبّل وجنتيها:
ألف مبروك نجاح حسّان.
أمّ حسّان: تسلمي يا جارة الرّضا، ومبارك نجاح عبير، والله لولا حسّان ناوي يسافر عشان يتعلّم، ما زوّجناه غير عبير.
تجاهلت أمّ عزيز ما قالته أمّ حسّان، وطلبت من عبير أن تقدّم القهوة. فالتفتت إليها أمّ حسّان وقالت:
ما قصّرت عبير، فقد قدّمت القهوة لي وأنت تصلّين.
كانت المفاجأة عندما حضرت مديرة المدرسة تحمل باقة زهور؛ لتبارك لعبير ووالدتها، جلست في صالة البيت مع والدة وجدّ عبير، لم تكن المديرة على علم بأنّ والد عبير متوفّى، ولا تعرف كيف توفّاه الله، ترّحّمت عليه عندما أعلموها ذلك، شكرت الأمّ والجدّ على حسن التّربية، في هذه الأثناء عاد عزيز شقيق عبير من الجامعة، عرّفته عبير على مديرة المدرسة التي التفتت إليه وسألته عن دراسته. فأجابها بأنّه يدرس التّجارة ويتخصّص بالمحاسبة. أثنت عليه المديرة، وسألت:
هل ستدرس عبير في جامعة بيت لحم مع شقيقها؟
عندما لم تسمع جوابا سألت عبير:
هل اخترت الموضوع الذي ستدرسينه يا عبير؟
أجابت عبير بانكسار:
ظروفنا الاقتصاديّة لا تسمح لي بالدّراسة الجامعيّة، فوالدي متوفّى وجدّي شيخ هرم كما ترين.
تفاجأت المديرة بجواب عبير، تغيّرت ملامح وجهها وهي تحوقل، صمتت قليلا وقالت:
نسأل الله الفرج، فمن غير المعقول ألّا تستطيع طالبة مجتهدة كعبير استكمال دراستها الجامعيّة لأسباب ماليّة.
قال الجدّ: سينهي عزيز تعليمه في العام القادم، بعدها سيعمل وسنتساعد وإيّاه لتعليم عبير.
قالت المديرة بلهجة حزينة:
عبير الطالبة الوحيدة التي تفوّقت في محافظة القدس، وتتوفّر فيها كلّ المواصفات الحسنة، ومن حقّها أن تكمل تعليمها الجامعيّ، لكن هذا نصيبها في هذه الحياة.
فكّرت المديرة بطريقة تستطيع من خلالها مساعدة عبير للالتحاق بالجامعة، وفي اليوم التّالي عقدت اجتماعا للهيئة التّدريسيّة لتقييم نتائج الثّانويّة العامّة، على هامش الاجتماع شرحت للمعلمات الظّروف الاقتصاديّة الصّعبة التي تعيشها عبير، خصوصا وأنّها يتيمة الأب، اقترحت على المعلّمات أن تتبرّع كلّ واحدة منهنّ بخمسين دينارا على الأقلّ، وتشكيل وفد منهنّ لزيارة عبير وتهنئتها بالتّفوّق، وافتتحت هي باب التّبرّع بمئة دينار.
ذاكرة عبير
تنتبه عبير لكلّ ما يقال على مسمعها، تحتفظ به في ذاكرتها، تضيفه إلى مخزون يتراكم في خزائن ذاكرتها؛ تستعيده عندما تخلو بنفسها، تضع خططها لتغيير هذا الواقع الذي لم يكن يوما لصالحها، تتعاطف مع والدتها التي ترمّلت وفقدت طفلين وهي في ريعان شبابها.
تبكي عبير نفسها وفقدان الأب الحاني، تشفق على جدّها لأبيها الذي يرعاها ويرعى والدتها وشقيقها، ويكلّف نفسه أمورا فوق طاقته الجسديّة رغم شيخوخته، تشكر له حنانه الزّائد بعفويّة، من خلاله تلمس على أرض الواقع صحّة المثل القائل:” ما أغلى من الولد إلا ولد الولد”. تدرك تماما أنّ الجدّ قد كدّ في حياته، وبنى بيتا من أربع شقق، أعطى كلّ واحدة من ابنتيه شقّة لها، وسجّلهما باسمها في الدّوائر الرّسميّة، وسجّل شقّتين وقطعة أرض موروثة أبا عن جدّ باسم شقيقها عزيز، لكنّه لم يسجّل شيئا باسمها، فهل اعتبرها شريكة لشقيقها عزيز، أم أنّه لم ينتبه لها؟ صحيح أنّه يحتضنها ويغرقها حنانا، لكنّ هذا لا يغني عن حضن الأب الدّافئ والذي افتقدته فجأة وبمأساة لا تغيب عن ذهنها، وهي تفتقد حنان الأمّ الذي -كما يبدو- خصّصته لشقيقها عزيز، الذي لا تزال تعامله وكأنّه رضيع، رغم أنّه يكبرها عمرا.
عبير تحبّ شقيقها “عزيز” وتفديه بروحها، لكنّها تطمح إلى شيء من حنان الوالدة الذي تمطر به “عزيز”. تتذكّر كيف كانت والدتها تضع “عزيز” في حضنها على سرير النّوم رغم أنّه يكبرها بعامين، تضع يدها عليه وكأنّها تخاف أن يهرب منها، في حين تضعها هي خلفها، فتلتصق بظهر والدتها وكأنّها تستجدي يدا تطوّقها. تترحّم كثيرا على والدها وعلى المرحومة جدّتها لأبيها، تلك المرأة التي منحتها حبّا وحنانا أكثر ممّا لقيته من والدتها، لكنّ الموت عاجل تلك الجدّة الرّائعة بعد خمس سنوات من حادث الطّرق المأساويّ، تفكّر عبير بجدّتها كثيرا، وتراودها أفكار سوداويّة بأنّ الجدّة بقيت في حزن دائم على ابنها وحفيديها، فهل ماتت موتا بطيئا تحت تأثير الحزن، تتذكّر عبير بأنّها كانت تستيقظ من غفوتها في حضن جدّتها بسبب دموع الجدّة التي كانت تتساقط على وجنتيها، تنظر وجه جدّتها وتسأل ببراءة:
لماذا تبكين يا جدّتي؟
تمسح الجدّة دموعها بهدوء وتجيبها:
لا تخافي يا بنيّتي…أنا لا أبكي، ولكنّ دموعي تتساقط رغما عنّي، فكما يبدو هناك التهاب في عينيّ.
تعاود عبير السّؤال:
لِمَ لا تذهبين إلى الطّبيب يا جدّتي؟ ما رأيك أن أرافقك إلى الطّبيب؟
تحتضنها الجّدة متصنّعة ابتسامة ترتسم على شفتيها، تقبّل وجنتيها وتتساءل:
ماذا سيفيدني الطّبيب؟ ذهبت إليه أكثر من مرّة، ولم أستفد شيئا!
عبير: اذهبي إلى طبيب آخر يا جدّتي.
تضحك الجدّة وهي تحتضن عبير وتقبّلها قائلة:
إن شاء الله ستكبرين يا عبير، وستدرسين الطّبّ وستعالجيننا.
عندما تغفو عبير في حضن جدّتها، تسترق السّمع لحديث جدّتها وهي تقول للجدّ ولأمّ عزيز:
كم تمنّيت لو كانت هذه البنت ولدا؛ لتكون عونا وسندا لأخيها عزيز، وليبقى اسم العائلة خالدا بين أهل البلدة!
يقول الجدّ دون اكتراث:
سبحان الذي” يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ“، ولولا البنات لما جاء الذّكور.
لا تزال عبير صغيرة على استيعاب ما تقوله جدّتها وأمّها عن الأبناء والبنات، لكنّها تشعر بأنّهما تحبّان شقيقها “عزيز” أكثر منها.
تكريم
دعت لجنة أولياء الأمور، والهيئة الإداريّة لنادي سلوان الخرّيجات والخرّيجين وأولياء أمورهم، لحضور حفل تكريم سيقام في قاعة المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ -الحكواتي- في القدس تكريما لخرّيجي الثّانويّة العامّة من أبناء البلدة لهذا العام 2001-2002. وذلك في السّاعة الرّابعة من بعد ظهر يوم 25-7-2002.
قبل حفل التّكريم هذا بأربعة أيّام، اتّصلت هاتفيّا مربيّة الصّفّ الذي درست فيه عبير، وقالت أنّها ستحضر بصحبة زميلتين أخرتين نيابة عن بقيّة الهيئة التّدريسيّة لتهنئة عبير بتفوّقها.
في الوقت المحدّد وقفت عبير ووالدتها عند مدخل البيت لاستقبال المعلّمات المهنّئات، اللواتي قرعن جرس باب البيت، في حين وقف شقيقها عزيز وجدّها عند مدخل الصّالون:
قدّم عزيز للمعلّمات عصير الليمون البارد مع النّعناع، أعطت مربّية الصّفّ مغلّفا لعبير مهنّئة باسمها وباسم إدارة المدرسة وهيئتها التّدريسيّة وهي تقول:
عبير مثال يحتذى لجيل الشّباب من أبنائنا وبناتنا، وهي ليست فخرا لمدرستنا فحسب، بل هي فخر لشعبنا، لما تتحلّى به من أخلاق حميدة، وذكاء وتميّز، فهنيئا لكم ولنا بها.
ردّت عبير عليها:
شكرا لكنّ معلّماتي، فلولا علمكنّ ومثابرتكنّ لما تفوّقت، كما أشكر والدتي وجدّي لرعايتهما لي، وأضافت باسمة: ولا أنسى فضل أخي المشاغب عزيز، الذي لا يبخل عليّ بمناكفاته المحبّبة.
فضحك الجميع معها.
لم تنس عبير أن تدعو معلّماتها لحضور حفل التّكريم الذي ستقيمه لجنة أولياء الأمور في مدارس سلوان بالاشتراك مع نادي البلدة.
عندما فتحت عبير المغلف رأت فيه مبلغا كبيرا من الدّنانير الأردنيّة، كما وجدت فيه رسالة تهنئة من إدارة المدرسة وهيئتها التّدريسيّة. قرأت الرّسالة قراءة صامتة، طوتها وقالت:
أكرّرشكري لكنّ، هذا مبلغ كبير، ولا داعي لهذه التّكلفة.
ردّت عليها مربّية الصّف قائلة:
أنت تستحقّين الكثير يا عبير.
بعد أن غادرت المعلّمات قامت والدة عبير وعدّت المبلغ المالي، فوجدته ألفا ومئة دينار أردنيّ، ومع أنّها بدت سعيدة إلا أنّها تساءلت:
لِمَ هذا المبلغ؟ هل هناك دافع للمعلّمات من وراء ذلك؟ وهل يقدّمن هكذا مبلغ لكلّ طالبة متفوّقة بشكل دائم؟
فتحت عبير رسالة التّهنئة مرّة أخرى، قرأتها مرّة ثانية وقالت:
لقد تبرّعت كلّ معلّمة بمبلغ خمسين دينارا.
قال الجدّ الذي عركته السّنون:
أعتقد أنّ مديرة المدرسة هي من تقف وراء هذه المكرمة، ويبدو أنّها تأثّرت عندما تكلّمنا أمامها عن عدم قدرتنا على الإنفاق على عبير إذا ما التحقت بالجامعة، ومن خلال هذا المبلغ تريد أن توصل لنا رسالة غير مباشرة مفادها: إذا كنتم غير قادرين على تحمّل تكاليف تعليم عبير، فنحن نقدّم لكم تكاليف عام دراسيّ.
عقّبت عبير على كلام جدّها:
إذا ما تيقّنت من صحّة تخمينك يا جدّي، فسأعيد المبلغ للمدرسة، فأنا لا أقبل الصّدقات! وقد قرّرت أن أعمل في إحدى المؤسّسات، فأنا أجيد استعمال الحاسوب.
قالت الأمّ: هذا المبلغ سيساعدنا في خطبة عزيز، وأنا مع رأيك بأن تبحثي لك عن عمل، حتّى يبعث الله لك ابن حلال يسترك وتسترينه.
ردّ عليها الجدّ بلهجة غاضبة:
تعليم البنت درع يحميها في المستقبل يا لبنى، والزّواج ليس غنيمة يتسابق عليها النّاس.
تساءلت عبير باستياء:
ومن قال لكم بأنّني سأتزوّج بهذا العمر؟
قالت أمّها: كلّ البنات يتمنّين الزّواج وكثيرات من بنات جيلك تزوّجن وأصبحن أمّهات.
لم يعجب كلام الأمّ عبير فغادرت الجلسة.
قال عزيز مازحا:
عبير ستتزوّج بعد أن أتزوّج أنا، فأنا أكبر منها عمرا.
قالت الأمّ لعزيز ضاحكة:
نعم الأولويّة لزواجك يا حبيبي.
قال الجدّ بعد أن سحب شهيقا عميقا:
بإذن الله سيتزوّج عزيز وعبير.
في المسرح الوطنيّ
في حفل يوم التّكريم اكتظّت قاعة المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ في القدس بالطالبات والطّلاب وأولياء الأمور من أبناء البلدة، ومديري مدرسة البنات ومدرسة البنين، وعدد من المعلّمات والمعلّمين. البنات في ساحة المسرح الخارجيّة يتبخترن بملابسهنّ الجديدة المزركشة، وبقصّات شعورهنّ اللافتة، ورائحة العطور الفاخرة، بعض الطّلاب يتمازحون وهم يرتدون بناطيل “الجينز”، قصّات شعورهم لافتة حتّى أنّ البعض منهم ظهر شعره كعرف الدّيك، استغفر جدّ عبير الله وهو يحرّك خرزات مسبحته، ويقول بصوت منخفض:
الدّنيا آخر وقت.
لفتت عبير انتباه الطالبات والطّلبة وحتّى المعلّمات بسحر جمالها، فهذه هي المرّة الأولى التي يرونها فيها بلا حجاب، ترتدي قميصا زهريّ اللون، وبنطالا أبيض، شعرها حالك السّواد ينسدل بنعومة على طرفي صدرها، يتطاير عند هبوب النّسيم على وجهها. أمّهات الطّلاب والطّالبات يتهامسن بدهشة حول جمال عبير، بعضهنّ أضمرت بداخلها أنّها ستخطبها لابنها البكر الذي ينوي الزّواج. عبير تجلس بين جدّها ووالدتها، تغضّ نظرها من شدّة الحياء، بعد أن انتبهت للنّظرات المصوّبة نحوها.
بعد بدء الاحتفال بتلاوة من الذّكر الحكيم، وقف الحضور تحيّة للسّلام الوطنيّ الفلسطينيّ، وبعده وقفوا مرّة أخرى لقراءة الفاتحة على أرواح الشّهداء.
أعطيت الكلمة لرئيس لجنة أولياء الأمور للتّرحيب بالحضور، وتهنئة النّاجحات والنّاجحين، خاصّا عبير عن غيرها بتهنئة خاصّة كونها المتفوّقة الأولى. وهذا ما فعله بعده مدير التّربيّة والتّعليم في محافظة القدس، الذي طلب من عبير أن تقف ليتعرّف عليها هو والحضور، وعندما وقفت عبير رافعة يدها اليمنى غصّت القاعة بالتّصفيق الحادّ، في حين قام بعض الشّباب بالتّصفير المتواصل، ممّا دفع مدير التّربية أن يطالبهم بالهدوء.
شعرت أمّ عزيز بفخر بابنتها، بينما كان الجدّ يحمدل ودموع الفرح تنساب من عينيه.
قبل توزيع دروع التّكريم طلب عريف الحفل من عبير أن تلقي كلمة الخرّيجين، كونها الأجدر والأحقّ بإلقائها، فغصّت القاعة بالتّصفيق مرّة أخرى.
تفاجأت عبير بطلب عريف الحفل، فهي غير مستعدّة لإلقاء كلمة، ولم يخبرها أحد قبل ذلك بأنّ لها كلمة، لكنّها وقفت ومشت برشاقة وحياء إلى خشبة المسرح، وقفت خلف الميكرفون على استحياء، بسملت وحمدلت وقالت:
أشكر القائمين على هذا الحفل كلّا باسمه مع حفظ الألقاب، أشكر مدير التّربية والتّعليم لرعايته هذا الحفل، أشكر معلّماتنا ومعلمّينا الذين بذلوا جهودا رائعة في تعليمنا، أشكر والدتي وجدّي اللذين قدّما لي الكثير ولا يزالان يقدّمان، أشكر أخي عزيز الذي يشكّل درعا حصينا لي، أهنّئ زميلاتي وزملائي النّاجحين، وأتمنى الحظّ الأوفر لمن لم يحالفهم الحظّ.
واسمحوا لي أن أهدي تفوّقي هذا لمديرتي ولمعلمّاتي ولمدرستي، ولأسرتي الغاليّة، وقبل الجميع فإنّني أهدي هذا التفوّق لروح والدي -رحمه الله-.
وهنا انفرطت باكية، ولم تعد قادرة على الكلام، فنهضت مديرتها واحتضنتها، قبّلتها وأعادتها إلى مقعدها، حيث والدتها وجدّها وبعض من كنّ وكانوا يعرفون المرحوم والدها بكوا هم الآخرون لبكائها.
عند توزيع دروع التّكريم، ابتدأوا بعبير التي صمّموا لها درعا مميّزا، استلمته وهي تبكي حزنا متذكّرة والدها الذي لم يشاركها هذه الفرحة.
ذكريات حزينة
عندما عادوا إلى البيت أبدى الجدّ فخره واعتزازه بحفيدته عبير، بينما قالت الأمّ:
رفعتِ رؤوسنا يا عبير، حبّذا لو أنّك تمالكتِ نفسكِ ولم تبكي.
قالت عبير حزينة:
كلّ ما أذكره من أبي -رحمه الله- أنّه كان يضعني في حضنه ويداعبني، أحيانا كان يرفعني ويحملني على رقبته ضاحكا، وأنا أضحك أيضا سعيدة بأبي، عندما وقع حادث الطّرق اللعين، كنت غافية في مقعد السّيّارة الخلفيّ، صحوت على نفسي في المستشفى وهم يضعون الجبيرة على ساقي، لم أشاهد الحادث، ولم أشاهد ما جرى للمرحومين أبي وشقيقيّ، ولا أعرف حتّى يومنا هذا أين دفنوا، لم يحدّثني أحد عن ذلك، أنا ابنة الثّامنة من عمري يومئذ، لم أجرؤ على سؤال أحد منكم. لقد حان الوقت كي أعرف حقيقة ما جرى.
عقّب شقيقها عزيز على حديثها قائلا:
وأنا لا أعرف شيئا أيضا، فقد كنت في الحادية عشرة من عمري، ووجدت نفسي في المستشفى دون أن أعلم سبب ذلك، قالوا لاحقا أنّني كنت في غيبوبة جرّاء حادث طرق، لم أعلم يومذاك أنّ أبي وشقيقيّ قد فارقوا الحياة جرّاء ذلك الحادث، ولم أعلم كيف أصيبوا؟ ولا أعلم أين دفنوا؟ عدنا أنا وعبير ووالدتي التي كانت دائمة البكاء، ووجدنا جدّنا يبكي هو الآخر.
تنهّد الجدّ وقال بصوت حزين:
لم أكن معكم يا أبنائي، وحبّذا لو كنت معكم وفديت من رحلوا؛ لكان أهون عليّ ممّا أصبحت فيه بعد الحادث، هذا قدر الله وقضاؤه. ثمّ التفت إلى كنّته أمّ عزيز وطلب منها أن تروي ما حدث لعزيز ولعبير.
بكت أمّ عزيز حتّى احمرّت عيناها، وقالت:
كنّا في الطّريق الصّحراويّ في طريقنا إلى الكويت عبر العراق، حيث يعمل المرحوم نعمان، كان يعمل -رحمه الله- محاسبا في شركة عقارات، ويتقاضى راتبا مجزيّا، عدنا إلى البلاد لقضاء عطلة صيف العام 1992، كي لا نفقد حقنّا في ديارنا بسبب قوانين الاحتلال الجائرة، أمضينا شهرا كاملا في ربوع الوطن، وأثناء سفرنا إلى الكويت، وقبل أن ندخل الحدود العراقيّة بقليل، وعلى حين غرّة، داهمتنا شاحنة ضخمة من الجهة المقابلة، انحرفت من يمين الشّارع، وداست سيّارتنا، أخرجنا سائقو السّيّارات الأخرى من تحت تلك الشّاحنة، التي أثبتت التّحقيقات أنّ سائقها كان نائما، هرعت سيّارات إسعاف عراقيّة، قدّموا لنا الإسعافات الأوّليّة، ونقلونا إلى مستشفى عراقيّ، وتبيّن أنّ نعمان والولدين محمّد ومحمود قد فارقوا الحياة، في حين بقيت أنا وعزيز وعبير في المستشفى، أنا كُسرت ساقاي وعدد من أضلاعي، عبير أصيبت بكسر في السّاق، وعزيز تلقّى ضربة قويّة في رأسه نجا منها بأعجوبة، وبعد التّنسيق مع الجانب الأردنيّ، تمّت إعادة الجثامين إلى الأردنّ حيث دفنت في مقبرة سحاب. مكثنا في المستشفى حوالي أسبوعين وعدنا إلى عمّان، ومن هناك عدنا إلى البلاد مكسوري الأجنحة.
سأل عزيز: لِمَ لم تعيدوا الجثامين لدفنها هنا؟
ردّ الجدّ دامع العينين:
لم نستطع يا ولدي، طلبنا مساعدة الصّليب الأحمر في ذلك، لكن سلطات الاحتلال لم توافق، ولم تعد أمامنا خيارات أخرى سوى الدّفن في مقبرة سحاب، بمساعدة ابن عمّنا “أبو سمير”.
سألت عبير: هل تعرف موقع القبور يا جدّي.
ردّ الجدّ وفي حلقه غصّة:
نعم يا ابنتي فقد حضرت مراسم الدّفن.
عادت عبير تسأل:
أين كانت الإصابات يا جدّي؟
ردّ الجدّ باكيا:
لم أشاهد أيّا من الجثامين، فلم يطاوعني قلبي على ذلك، ولو شاهدتهم لمتّ فورا، أبو سمير هو من غسّلهم وكفّنهم، وأنا أحضرت تقرير الطّبيب الشّرعيّ الذي عاين الجثامين، ولا أزال أحتفظ به.
جحظت عينا عبير وقالت:
أريد التّقرير يا جدّي.
عاد عزيز يسأل:
من أين السّائق الذي عمل الحادث؟ ما اسمه؟
ردّ الجدّ: لا نعرف عنه شيئا، فقد اعتقلته الشّرطة الأردنيّة ولا نعرف ما هي الإجراءات التي اتّخذت بحقّه.
سألت عبير: لِمَ لم تتابع الوضع يا جدّي؟
ردّ الجدّ: كنت أبحث عنكم أنت ووالدتك وعزيز يا عبير، وعندما عدتم من المستشفى لم تكن أوضاعكم جيّدة، فعدت بكم إلى الوطن لمتابعة العلاج هنا، لأنّنا كنّا ضيوفا في بيت أبي سمير، ومن غير اللائق أن نبقى عنده مدّة طويلة.
تحسّست عبير جرحها الغائر في ساقها الذي كسر في الحادث، فهذا الجرح الذي ترك أثرا لا ينمحي على السّاق، إلا أنّ الجرح الغائر في النّفس جرّاء ذلك الحادث يبقى عذابا مستديما، فدفء حضن الأب لا ينسى ولا يمكن تعويضه، وملاعب الطّفولة البريئة مع أخوين رافقا الأب في رحلته الأبديّة التي ودّع فيها الحياة يصعب شطبها من ذاكرة أنهكتها الأحزان. حملت نفسها مثقلة بالأحزان التي غطّت على فرحتها في حفل التّكريم، عادت إلى غرفتها، وعلى سريرها غسلت روحها بدموعها.
همس الجدّ لنفسه:
غفرانك ربّي…ما ذنب عزيز وعبير؛ ليحملا هموما أكبر من طاقتيهما؟
سمعته أمّ عزيز فقالت:
أقترح أن نزوّج “عزيز”؛ كي يدخل الفرح بيتنا، ولندخل مرحلة جديدة في حياتنا، فالأفراح تقتل الأحزان.
ابتسم عزيز عندما سمع كلام والدته، بينما التفت إليها حموها ولم يقل شيئا.
عادت أمّ عزيز تسأل حماها:
ما رأيك يا أبا نعمان؟
ردّ عليها متسائلا: بِمَ؟
أجابته: باقتراحي.
تنهّد الجدّ وقال:
أمنيتي أن أرى “عزيز” وعبير عرسانا، وأن أحتضن أبناءهما قبل الرّحيل الأخير.
أمّ عزيز: أطال الله عمرك يا عمّ، فلنبدأ بعزيز، وعندما يأتي نصيب عبير فلكلّ حادث حديث.
قال الجدّ: المثل يقول:”دوّر لبنتك قبل ابنك”.
ردّت أمّ عزيز: عزيز شابّ -ما شاء الله عليه- كلّ البنات يتمنّينه، سنطلب له الفتاة التي يريدها زوجة له، أمّا عبير فسننتظر من يطرق بابنا طالبا يدها.
يستمع عزيز لحوار والدته مع جدّه، يفكّر بزميلته وداد التي يشتهيها، ويتمنّاها زوجة له، فهي تتعامل معه بودّ متناهٍ، لكن لم يسبق له أن غازلها، وهو على قناعة تامّة بأنّها تتمنّاه زوجا لها، التفت إليه جدّه وسأله:
هل تفكّر في الزّواج من فتاة بعينها؟
تساءل عزيز: ما جدوى الحديث بالزّواج ما دمنا لا نملك تكاليفه؟
الجدّ: أمور الزّواج ميسّرة يا ولدي.
قالت أمّ عزيز: سأبيع مصاغي الذّهبيّ، ولدينا المبلغ الذي قدّمته المعلّمات لعبير، لا تقلق بذلك يا بنيّ، سنتدبّر أمرنا.
ردّ عزيز على استحياء:
ما لعبير هو لعبير، ولن أقبل إنفاق هديّتها على زواجي.
وهنا سمعت عبير كلام عزيز فدخلت الصّالون حيث يجلسون وتساءلت عاتبة:
وهل هناك فرق بيني وبينك يا عزيز؟
ضحك الجدّ والأمّ لما قالته عبير، فقال الجدّ فرحا بما سمعه منها:
الله يرضى عليك يا عبير.
أمّا عزيز فقد قال:
لا فرق بيننا يا أختي، لكنّ ما لدينا لا يكفي للزّواج.
ردّت عبير: سأبحث عن عمل، وسنساهم جميعنا في تكاليف زواجك.
عبير تكتشف أنوثتها
لم تعش عبير حياتها كبقيّة الأطفال، فطفولتها اختطفت يوم رحيل والدها وشقيقيها في ذلك اليوم المشؤوم، ومنذ ذلك الوقت أصبح الحزن قدرها الذي لا مفرّ منه. حتّى في المدرسة عاشت انطوائيّة، تبتعد عن صحبة زميلاتها، تشمئزّ من أحاديث بعضهنّ عن النّظر إلى أقرانهنّ في مدارس الذّكور، فابتعدت عنهنّ خصوصا عند وصولها سنّ البلوغ، وحديث بعض زميلاتها عن الإعجاب بابن الجيران ووسامته، بل كانت ردّة فعلها قويّة جدّا، فسِرحان ابن الجيران الذي كانت تلعب معه في حديقة المنزل في طفولتها المبكرة، لم تعد تطيق رؤيته، ولم تكن تردّ عليه التّحيّة بمثلها عندما يطرحها عليها.
لكنّ الأمور اختلفت منذ أمس، فأثناء حفل تكريم النّاجحين في الثّانويّة العامّة، كانت نجمة الحفل دون منازع، ولفت انتباهها كثرة من يسترقون النّظرات إليها، حتّى أنّها لم تنج من نظرات الطّالبات الخرّيجات وأمّهاتهنّ أو قريباتهنّ وأمّهات الخرّيجين اللواتي شاركن في حفل التّخريج. في ذلك اليوم سمعت الكثير من كلمات الإطراء التي انطلقت من أفواه النّساء، لكنّها لم تثق إلا بما قالته مديرتها ومعلّماتها، فقد شعرت أنّ كلامهنّ نابع من قلوب محبّة، أمّا كلمات الغزل التي سمعت بعضها من خرّيجين وهم يتهامسون بها، فقد جعلتها تنتبه لأنوثتها الدّفينة في جسد أرهقته أحزان لم يكن لها فيها خيار.
لن تنسى حديث والدتها عن زواج شقيقها عزيز، وقولها: “عزيز شابّ ما شاء الله عليه! وكلّ البنات يتمنّينه! أمّا عبير فعليها انتظار نصيبها.” ففي حفل التّخريج لم تشاهد عبير أيّ بنت تتمنّى “عزيز”، لكنّها شعرت أنّ الشّباب ينهشون جمالها بعيونهم، وسمعت بأذنيها بعض النّساء وكلّ واحدة منهنّ تتمنّاها عروسا لابنها.
صحيح أنّ الزّواج غير وارد في حسابات عبير، لكنّ حديث والدتها وجدّها وشقيقها عزيز عنّ الزّواج لفت انتباهها، وفتح براكين الشّهوة الرّاكدة في جسدها، فصارت تشعر أنّها الآن فتاة بالغة من حقّها أن تحلم بالزّواج مثل بقيّة الفتيات، أرّقها هذا التّفكير، تحسّست صدرها وخوابي جسدها دون قصد منها، نهضت من سريرها ووقفت أمام المرآة تنظر جسدها، وقفت أمام قوامها الذي بدا مستقيما كتمثال رخاميّ صنعته يدا نحّات محترف، تمعّنت بابتسامتها التي تضاهي زهرة جوريّة في بداية تفتّحها.
أفاقت على نفسها وكأنّها كانت في غيبوبة، عادت إلى سريرها تلوم نفسها، وتتساءل حول إعجابها بجسدها هل هو أمر عاديّ أم ماذا؟ هل كلّ البنات معجبات بأجسادهنّ؟ وهل تفكيرها بالزّواج أمر عاديّ؟ تعوّذت بالله من الشّيطان الرّجيم، و”من شرّ الوسواس الخنّاس” حاولت النّوم. لكنّ الغلبة كانت للأرق الذي سيطر على دماغها، وسرق النّعاس من عينيها.
تقلّبت كثيرا في فراشها حتّى غلبها النّوم، استيقظت مرتاحة فرحة سعيدة من حلم رأت فيه نفسها عروسا، والعشرات يحيطون بها يرقصون ويغنّون وهم يزفّونها إلى عريسها الذي لم تعرفه من قبل، لكنّه بدا وسيما مفتول العضلات باسم الثّغر، طويل القامة ذا مهابة، يرتدي بدلة سوداء وربطة عنق حمراء اللون على قميص أبيض. شاهدت فرحة والدتها بها، وسمعتها تقول:
“نسأل الله أن يرزقنا عروسا لعزيز بجمال عبير ورجاحة عقلها”.
فهل جاء هذا الحلم ليعبّر عن أمر سيتحقّق مستقبلا، أم أنّها ستتزوّج قبل عزيز؟
لم تستطع تفسير حلمها، لكنّها تمنّت لو أنّها استمرّت طويلا في ذلك الحلم.
كثيرون هم من لا يعرفون معنى الجمال، وحتّى لا يعرفون معنى الحياة، لا يدركون الفوارق بين حديقة زهور غنّاء، أو بين مكبّ نفايات تفوح منه رائحة نتنة، وعبير هي الأخرى مرّت عليها سنوات من عمرها غمرتها فيها الأحزان، حتّى أنّها اندمجت بواقع لا خيارات لها فيه، وعندما كانت تسترق لحظات فرح بالصّدفة، كانت تستغرب ذلك، مثلها مثل المصاب بمرض مزمن تصاحبه آلام يصعب احتمالها، وعندما تخمد آلامه بسبب العقاقير المخدّرة فإنّه يستغرب ذلك، وكأنّ المرض والألم والأرق أصبحت ملازمة له، وما عليه إلا التّعايش بها والاستئناس بويلاتها.
أرّقها التّفكير بضرورة الخروج من هذه الحالة التي صاحبتها منذ وفاة والدها وشقيقيها، وكأنّ حديث والدتها وجدّها عن ضرورة الاستعجال بزواج شقيقها عزيز، قد فتح أمامها أبوابا مغلقة لا تعرف ماذا يوجد خلفها.
لم يغب عن ذهن عبير ذلك الغرور الذي سيطر عليها يوم حفل تكريم الخرّيجين، فالنّظرات إليها والتي لم يكن بعضها خجولا، والهمسات حول جمالها، جعلتها تنتبه لجسدها، بل قادتها إلى ما هو أبعد من ذلك، وصارت تقارن بين ذاتها وبين بعض قريناتها وزميلاتها، ووجدت نفسها تتفوّق عليهنّ ذكاء وجمالا، فشعرت بسعادة تمنّت ألّا تهرب منها.
ذات يوم ضحكت وأصابتها الحيرة عندما سمعت جارهم يصيح بزوجته قائلا:
منظرك مثل منظر التّمساح الذي يعيش في مستنقع، ولا تعرفين السّكوت، فكلامك مثل انهيار السّلاسل الحجريّة.
فردّت عليه زوجته المغلوبة على أمرها غاضبة:
أنا أجمل من أخواتك وقريباتك.
منذ تلك الحادثة صارت عبير تبحث عن معلومات عن التّماسيح، لتقارن بينها وبين جارتها، صحيح أنّها رأت صورا لتماسيح، لكنّ ذلك لم يكن كافيا، وأخيرا شاهدت فيلما عن حياة التّماسيح، شاهدتها بأشكال وحالات مختلفة، أكثر ما لفت انتباهها هي طريقة ابتلاع التّماسيح لفرائسها، وكيف يعضّ الواحد منها فريسته بفكّيه ويغرقها في الماء، حتّى تلفظ أنفاسها، ثم يقوم بنهش لحمها، بطريقة مرعبة مقزّزة، فيرفع رأسه وهو يتقلب في محاولة منه لابتلاعها، وعرفت أنّ سبب ذلك هو عدم وجود ألسنة للتّماسيح ممّا يصعّب عليها ابتلاع طعامها.
قارنت منظر التّماسيح التي رأتها في الفلم، مع منظر جارتها التي وصفها زوجها بالتّمساح، فوجدت بعض القواسم المشتركة بين منظر التّماسيح ومنظر جارها، بينما هناك بقايا جمال بجارتها التي جاوزت السّتّين من عمرها. أضحكتها هذه المقارنة، وقهقهت عندما راودها سؤال طارئ:
ومن يضمن لك يا عبير أن لا يكون نصيبك مع رجل تمساح، فيبتلعك مثلما ابتلع ذلك التّمساح غزالا وهو يعبر النّهر إلى ضفّته الأخرى؟
لكنّها أضمرت أن لا تقبل الزّواج إلا من رجل وسيم، تتوفّر فيه شروط أخرى مثل الذّكاء، العلم، المروءة، الكرم والشّجاعة، تماما مثلما كان المرحوم والدها الذي ترى فيه وسامة نبيّ الله يوسف كلّما تذكّرته، أو رأت صورته المعلّقة على حائط صالون البيت، ولمروءته فلم تره يوما يشتم والدتها، بل كان يخاطبها بربّة الحسن والجمال، وعندما يغضب منها كان يلومها ضاحكا مازحا محرّفا قول بشّار بن برد:
يا ربّة البيت لا تصبّي الخلّ في الزّيت
لك أربعة أطفال وزوج قبيح الصّوت
وكلّما سمعت الوالدة قوله هذا، كانت تبتسم وتقول له:
لبيّك يا حسن الصّوت. فيضحكان ويتمازحان وكأنّ شيئا لم يكن.
عندما مرّت عبير بوالدتها صباح ذلك اليوم طرحت عليها تحيّة الصّباح وقالت ضاحكة:
صباح الخير يا ربّة البيت هل تصبّين الخلّ في الزّيت؟
ضحكت الوالدة وردّت عليها:
لقد كنت طفلة صغيرة “يا مقصوفة الرّقبة”، فهل لا زلت تذكرين ذلك؟
أجابت عبير بلهجة تائهة بين الحزن والفرح:
الله يرحمه ويرحم تلك الأيّام.
حبّ من جانب واحد
فكّر عزيز كثيرا بكلام والدته وجدّه حول ضرورة الإسراع بزواجه، تعاطف كثيرا مع رغبة جدّه الذي تمنّى مرّات كثيرة أن يرى “عزيز” عريسا وأبا، فالجدّ يخشى أن يتوفّاه الله قبل أن يطمئنّ بأنّ نسب العائلة سيمتدّ من خلال الأحفاد الذّكور الذين لم يبق منهم على قيد الحياة سوى عزيز. أمّا الأمّ ومع صدقها وعاطفتها الجيّاشة فهي تريد أن تكسر مرحلة الحداد التي طالت على الزّوج وعلى الولدين، وترغب أن تغنّي وترقص كما تفعل بقيّة النّساء في زفاف أبنائهنّ. تتوق أن ترى نفسها جدّة مع أنّ هذا سيشعرها بأنّ مرحلة الشّباب قد ولّت.
قرّر عزيز أن يثبت لوالدته وجدّه أنّه شاب تعشقه الفتيات، وهو على قناعة بذلك خصوصا وأنّ والدته قد ردّدت مرّات كثيرة على مسامعه:
“عزيز شابّ -اسم الله عليه- كلّ فتاة تتمنّى أن يقبل بها شريكة له.”
ولهذا فقد قرّر أن يختار فتاته، وأن يتقرّب منها بكلمات معسولة، فتبادله حبّا بحبّ، وما أن يعاود جدّه ووالدته الحديث معه عن الزّواج، وعندما يسأله جدّه إن كان معجبا وراغبا بفتاة بعينها، فسيكون لديه الجواب اليقين بتحديد تلك الفتاة.
استذكر عزيز مختلف الفتيات اللواتي من جيله أو يصغرنه بسنوات قليلة من القريبات، ومن زميلات الدّراسة في الجامعة، لكنّ تفكيره يتمحور حول زميلته وداد التي تدرس معه في الجامعة، استعاد صورتها المطبوعة في ذاكرته، فهي فتاة حسناء، طويلة القامة، نحيلة الخصر، عيناها زرقاوان، بشرتها شقراء كما الأوروبيّات، أنفها مستقيم، شفتاها رقيقتان تحرسان ثغرا باسما، كلامها معسول، مشيتها لافتة، متفوّقة في دراستها. وقد أعجب بها عندما رآها للمرّة الأولى، اختزن حبّا لها في صدره. تبادله التّحيّة بابتسامة جاذبة، يتناقش معها في بعض الموادّ التي يدرسانها، تطرح رأيها بجرأة متناهية، فصار على قناعة بأنّها تحبّه كما يحبّها، وكلّ منهما لا يصرّح بمشاعره للآخر. وهنا فقد حان الوقت لحسم الأمور، ولا بدّ من وضع النّقاط على الحروف، وقرّر أن يقلّد بعض الزّملاء والزّميلات الذين ينزوي كلّ منهم في مكان معيّن مع من يراها أو تراه مناسبا لها؛ كي يكون نصفه الآخر مستقبلا، وهنا قرّر أن يدعو وداد؛ لتحتسي معه القهوة في مقصف الجامعة، اقترب منها أثناء خروجهما من قاعة المحاضرة بعد انتهاء محاضرة يعقبها فراغ لمدّة ساعة، وقال لها:
كيفك يا وداد؟
ردّت عليه باسمة كالعادة وقالت:
أهلا بك.
سألها على استحياء:
ما رأيك أن نحتسي الشّاي معًا؟
– لا بأس…هيّا بنا.
سارا إلى المقصف، وهناك سألها:
هل تريدين شيئا غير الشّاي؟
– لا شكرا لك…اجلس هناك فأنا سأحضر الشّاي لي ولك.
– ردّ عليها بحماس:
أنا من دعوتك، وبالتّالي أنا من يحضر الشّاي.
قالت له بثقة:
لا فرق بيني وبينك يا رجل، فنحن زميلان.
هرب الكلام من شفتيه، وأصبحت لديه قناعة بأنّها تحبّه، فوقف متجمّدا كتمثال حجريّ لم يكمل النّحات هندسته، لم يصحُ على نفسه إلا عندما عادت إليه بالشّاي، ناولته كأسا وقالت له وهي تشير إلى شجرة سرو معمّرة:
هيّا بنا نجلس تحت تلك الشّجرة.
لم تنتظر جوابا منه، وسارت باتّجاه الشّجرة، وهو يتبعها.
جلست تحت الشّجرة مسندة ظهرها للسّاق، ومدّت رجليها أمامها، افترش الأرض بجانبها متربّعا، فسألته:
خيرا يا عزيز؟ ماذا تريد أن تقول؟
تأتأ لثوان قليلة وسأل:
ماذا ستعملين بعد التّخرّج؟
ضحكت وقالت:
“عند ما نشوف الصّبي بنصلّي على النّبي.”
قال لها: سنتخرّج هذا العام الدّراسيّ، ويجب أن نفكّر بمستقبلنا.
ردّت عليه وبسمة تعلو وجهها:
لست قلقة على مستقبلي، فأبي تاجر عقارات وسأعمل محاسبة في شركته.
تفاجأ بما قالته وقال حزينا:
أنا أبي توفّي قبل عشر سنوات مع شقيقين لي في حادث طرق.
شعرت وداد بالأسى، وضعت يدها على كتفه وقالت:
الله يرحمهم، حياتنا كلّها مآسي، والحمد لله أنّك نجوت من الحادث، ماذا بالنّسبة لوالدتك؟
أجاب عزيز كئيبا مطأطئا رأسه:
أمّي نجت هي الأخرى من الحادث، كما نجت شقيقتي عبير التي تصغرني بثلاثة أعوام، ومنذ ذلك اليوم المشؤوم ونحن نعيش في بيتنا في سلوان قريبا من بئر أيّوب تحت رعاية جدّنا لأبينا، الذي لم يبخل علينا بشيء.
وداد: ليحفظكم الله، وليحفظ جدّكم، فالأجداد يحبّون أحفادهم أكثر ممّا يحبّهم آباؤهم وأمّهاتهم؟
قال عزيز يؤكّد ما قالته وداد:
نعم هذا صحيح، وقد لمسته بنفسي، فعاطفة جدّي وحبّه لنا لا حدود لها، وصدق المثل الذي يقول: “ما أعزّ من الإبن إلا ابن الإبن.”
ابتسمت وداد وقالت:
هناك مثل إغريقيّ يقول:” ابنك ولدتَه مرّة، وحفيدك ولدتَه مرّتين.”
استدرك عزيز وقال:
الأجداد رائعون-كما لمست ذلك من جدّي-، لكن لا أحد يملأ أو يعوّض الفراغ الذي يتركه الأب.
عادت وداد تقول:
الحمد لله أنّ والديّ وأجدادي لأبي وأمّي لا يزالون على قيد الحياة، ويتمتّعون بصحّة جيّدة.
عزيز: هنيئا لك بهم.
أرادت وداد أن تنحو بالحديث منحى آخر بعيدا عن الموت، وعن الأجداد، فقالت:
أنت يا عزيز شابّ رائع، ستنهي دراساتك الجامعيّة نهاية هذا العام الدّراسيّ، وستعمل، ستنجح في حياتك بالتّأكيد، ستتزوّج وستصبح أبًا، وإن شاء الله سيطول بك العمر؛ لتصبح جدّا أيضا.
امتلأ عزيز غرورا بنفسه، واعتبر حديث وداد عن زواجه دعوة له كي يطلب يدها؛ لتصبح أمّا لأطفاله، لكن دار في خلده عشرات الأسئلة حول احتمالات حصوله على عمل يناسب شهادته.
قطعت وداد صمته وسألته:
بِمَ تفكّر يا عزيز؟
– سرحت بخيالي حول إمكانيّة وجود عمل بعد التّخرّج، فأوضاعنا تحت الاحتلال ليست طبيعيّة، وعشرات آلاف الشّباب من حملة الشّهادات الجامعيّة، لا يجدون لهم عملا إلا في الأعمال السّوداء عند المحتلين.
وداد: هذه مرحلة ستمرّ، والاحتلال حتما إلى زوال.
عزيز: لقد طال زمن الاحتلال، ولا أحد يعلم متى سيرحل؟
وداد: المهمّ أن لا تقلق بخصوص العمل، وعندما تتخرّج سأتحدّث مع أبي بخصوصك، وستعمل معه في المحاسبة، وعندها سنبقى أنا وأنت زميلي عملٍ كما نحن زميلا دراسة.
شعر عزيز بنبضات قلبه تتسارع، فحديث وداد يشي بأنّها تعشقه، لكنّه متردّد بالحديث معها حول العشق والغرام، نظرت وداد إلى ساعتها وقالت له:
ستبدأ المحاضرة القادمة بعد ثلاث دقائق، هيّا بنا.
عندما وقفت التفتت إليه فلم ينهض من مكانه، مدّت إليه يدها تساعده على الوقوف، سارا إلى قاعة المحاضرات فسألها على استحياء:
ما تقييمك لي يا وداد؟
ردّت عليه ضاحكة:
أنت شابّ رائع يا عزيز، وسيكون النّجاح حليفك في مختلف مجالات الحياة.
انتزع كلمات من بين شفتيه محاولا مجاملتها فقال:
أنت الأكثر روعة من جميع الطّالبات والطّلاب.
في قاعة المحاضرات جلس عزيز بجانب نافذة القاعة الأخيرة، وضع يده تحت ذقنه، وكأنّه يحمل بها رأسه الذي أخذ يلفّ ويدور مفكرا بوداد، فهو يرى أنّها تعشقه، لكنّ حياء العذارى يمنعها من احتضانه وتقبيله. أمضى المحاضرة وكأنّه غير موجود، فعقله مشغول باستعادة جلسته مع وداد، ابتسم عندما تذكّر ما كانت تردّد والدته” عزيز زينة الشّباب وكلّ فتاة تدعو الله أن يكون نصفها الآخر.”
بعد الدّوام عاد إلى بيته وقد أضناه الغرام، جلس متعبا على كنبة في الصّالون، أرخى رأسه على حافّة الكنبة، تقدّمت والدته منه وسألته:
ما بك يا عزيزّ؟ هل أنت مريض؟
ردّ بتثاقل: لا تقلقي يا أمّي فأنا بخير.
عادت الأمّ تقول:
ما رأيك أن تتناول طعامك؟
التفت إليها وقال بصوت منخفض:
لست جائعا.
– هل أغضبك أحد يا ولدي؟
– لا يا أمّي.
التفت الجدّ أبو نعمان لكنّته أمّ عزيز وقال:
في بدايات شبابنا كنّا نعمل في الزّراعة مع آبائنا، وعندما يريد الواحد منّا الزّواج، يتكاسل ويتعمّد أن لا ينهض مبكرا من فراشه، -الله يرحم تلك الأيّام، كنّا نستيقظ مع صياح الدّيك، ونعمل في الأرض حتّى مغيب الشّمس، وعندما لا ينهض الابن من فراشه مبكرا كالمعتاد، يضحك أبوه ويقول: ” الولد مستعرس بدّه زواج”. فتختار له أمّه فتاة بالتّشاور مع أبيه، ويبدو يا لبنى أنّ عزيز يطلب الزّواج.
ضحكت أمّ عزيز وقالت:
إذا وافق عزيز على الزّواج فهذا ما نتمنّاه. والتفتت إلى ابنها وقالت:
اطلب وتمنّى يا روح إمّك، ما عليك إلا أن تؤشّر إلى أي فتاة تريدها، واترك الباقي عليّ.
ضحك الجدّ وقال:
ماذا جرى لك يا لبنى؟ هل تحسبين بنات العالم “بسطة خضار” وما عليك إلا أن تنتقي منها ما تريدينه؟
أمّ عزيز: “البنات مثل الهمّ على القلب”، وكلّ منهنّ تنتظر إشارة منّا.
تنهّد عزيز وقال:
سأتزوّج فتاة من خارج بلدتنا، ولا تعرفينها ولا تعرفين أهلها يا أمّي.
ابتسمت أمّ عزيز وقالت:
ما عليك إلا أن تؤشّر وأنا وجدّك سنتولّى تنفيذ المهمّة. من أيّ بلد عروسك يا عزيز؟ وما اسم والدها واسم عائلتها؟
سأل الجدّ: هل تفاهمت مع البنت يا عزيز؟ أم تريدنا أن نطلبها لك على “تسابيح” المولى.
ابتسم عزيز وأجاب:
البنت تريدني يا جدّي.
قال الجدّ: هل ترغب بها أنت؟
عزيز: لولا أنّني على قناعة بأنّها ترغب بي لما قلت لكم ذلك.
قالت أمّ عزيز: أبناء هذا الزّمن يختلفون عن أيّامنا يا أبا نعمان، و”البنات لولا ثلثين الحيا خوف” لطلبت كلّ واحدة منهنّ يد فارس أحلامها.
الجدّ: هل البنت تدرس معك في الجامعة؟
عزيز: نعم وهي بنت جميلة وذكيّة. والدها تاجر عقارات معروف.
الجدّ: تجّار العقارات يا ولدي أثرياء، و”ثوبهم مش من ثوبنا” ويا خوفي إذا وقع النّصيب ألا تسترك البنت، ومثلما قال المثل:”من طين بلادك لطّ اخدودك”.
عزيز: وهل رام الله ليست بلادنا يا جدّي؟
الجدّ ما قصدت هذا يا ولدي، ما قصدته هو أن تتزوّج فتاة من بيئتنا ومن مستوانا المعيشي، تفهمك وتفهمها.
عزيز: البنت زميلتي في الدّراسة، وأنا وإيّاها متفاهمان.
أمّ عزيز لابنها:
ألف مبروكة عليك يا حبيبي، ما عليك إلا ترتيب موعد معها لنذهب لطلبتها، ونحن نقبل بها دون أن نراها ما دمت معجبا بها.
صدمة
تتعاطف وداد مع عزيز منذ أن زاملته في الجامعة قبل ثلاث سنوات، فهو شابّ عصاميّ، يحترم نفسه ويحترم زملاءه، لا يثقل على أحد، يتعامل مع زميلاته بحياء شديد، كأنّه من طينة أخرى غير طينة بقيّة الطّلاب، صحيح أنّ بعض الطّالبات لهنّ تصرّفات لا يفهمها بعض الطّلاّب بطريقة صحيحة، فيتطاولون عليهنّ، وبعضهنّ يقع في حبائل بعضهم، ظنّا منها أنّه سيكون نصفها الآخر، دون أن يدرين بأنّ غالبيّتهم يقيم علاقات مع فتيات بقصد التّسليّة لا أكثر، حتّى أنّ بعضهم إذا ما طرحت عليه إحداهنّ التّحيّة يحدّث زملاءه بأنّها تعشقه، وإذا ما ابتسمت له لسبب ما فإنّه يبثّ لزملائه بأنّها خليلته، فيشوّه سمعتها دون أن تدري هي بذلك. لكنّ “عزيز” نوعيّة مختلفة كما عرفته وداد.
عندما تستعرض وداد حياتها الجامعيّة، تغبط “عزيز” على اتّزانه في التّعامل مع الآخرين، وتلاحظ أنّه يحظى بتقدير وإعجاب أساتذته، بسبب ذكائه وأخلاقه. انطبع في ذهنها أنّ “عزيز” على خلق، وأنّه حظي بتربية صارمة جعلت منه إنسانا يتخطّى مرحلة المراهقة بسلام مع ذاته على الأقلّ، فانعكس ذلك على علاقته مع الآخرين.
صحيح أنّها تشعر أحيانا بأنّ لديه ما يشغله، فبغضّ النّظر عن أسبابه إلا أنّ جدّيّته فرضت احترامه عليها.
عندما علمت وداد بحادث الطّرق الذي أودى بحياة والد عزيز وحياة شقيقيه، تألّمت لذلك، حاولت أن تصرفه عن الحديث حول تلك المأساة التي مضى عليها عشر سنوات -كما أخبرها-، فهي لا تريد لأحزانه أن تتجدّد، لكنّها أقرنت جدّيّة عزيز في علاقاته مع الآخرين بذلك الحادث اللعين، الذي ترك شرخا لا يندمل في نفسيّته، تعاطفت معه، وتمنّت له أن ينجح في حياته.
لم ينم عزيز تلك الليلة، فقد سيطر عليه طيف وداد، ابتسامتها لا تفارق مخيّلته، مرّ بذاكرته شريط بدايات معرفته بها منذ التحاقه بالجامعة قبل ثلاث سنوات، ورغم جمالها الأخّاذ الذي لفت انتباه الجميع لها، إلّا أنّ أيّا من الطّلّاب لم يستطع الاقتراب منها، أو التّطفّل عليها، فهي تعرف حدودها جيّدا وتعرف كيف تضع حدودا لمن يتعامل معها. لذا فإنّ استجابتها لدعوته لها لشرب الشّاي في مقصف الجامعة، هي بالتّأكيد رسالة حبّ عذريّ شريف له، وازداد قناعة بذلك عندما قالت له بأنّها ستتحدّث مع والدها كي يوظّفه في شركته العقاريّة بعد التّخرج؛ ليبقى زميلا لها، فهذا بالتأكيد دعوة له للزّواج منها. بعد تفكير مضنٍ قرّر أن يدعوها لزيارة بيتهم؛ ليعرّفها على والدته وشقيقته وجدّه.
عندما التقاها صباح اليوم التّالي في باحة الجامعة ابتسمت له قبل أن يصلها وقبل أن يبادرها بتحيّة الصّباح، فقالت له:
أهلا بالغالي.
ردّ عليها مبتسما:
صباح الخير للزّميلة الأغلى.
ضحكا وتمشّيا جنبا إلى جنب، فقال لها:
بالأمس تكلّمت عنك لوالدتي وشقيقتي وجدّي.
التفتت إليه وسألته:
ماذا تكلّمت عنّي لهم؟
– قلت لهم أنّك أجمل وأذكى طالبة في الجامعة.
– شكرا لك.
– ما رأيك أن تتعرّفي عليهم؟
– أتشرّف بذلك.
– إذن أدعوك أن نشرب القهوة معا هذا اليوم في بيتنا بعد الدّوام.
ضحكت وقالت: وأنا قبلت الدّعوة، بشرط أن تزورونا في بيتنا بعدها.
ابتسم عزيز وقال:
هذا أمر مفروغ منه.
كاد يطير فرحا، ابتعد عنها قليلا وهاتف والدته:
صباح الخير ماما.
– أهلا حبيبي.
– سينتهي دوامنا في الجامعة عند السّاعة الثّانية ظهرا، وستأتي زميلتي وداد معي إلى البيت للتعرّف عليكم.
– من وداد هذه؟
– زميلتي التي أحبّها وتحبّني، والتي سأتزوّجها.
– لِمَ لم تخبرنا مسبقا كي أجهّز غداء يليق بها؟
– لا تقلقي بالغداء ولا بغيره، لن تمكث عندنا أكثر من نصف ساعة على الغالب، سنحتسي القهوة وهذا يكفي.
– ولا يهمّك…أهلا وسهلا بك وبها.
أغلقت سمّاعة الهاتف وهي ترقص فرحا، قالت لحميها:
يا خيبتي من أولاد هذا الوقت! عزيز اتّصل؛ ليخبرني أنّ خطيبته ستزورنا هذا اليوم، ولا يريد أن نحضّر لها غداء يليق بها.
استند أبو نعمان في جلسته وتساءل:
عن أيّ خطيبة تتحدّثين يا لبنى؟
ردّت عليه ضاحكة متسائلة:
هل نسيت يا رجل؟ ألم يقل لنا يوم أمس أنّه يحبّ زميلة له من رام الله تدرس معه، ويريد خطبتها؟
قال لها أبو نعمان:
” في العجلة النّدامة يا لبنى”، وإيّاك أن تتلفّظي بهكذا كلام قبل أنّ تتمّ الخطبة، فهكذا إشاعات عواقبها ليست في صالح أحد.
بعد انتهاء دوامهما في جامعة بيت لحم، قالت وداد لعزيز:
هيّا بنا.
ردّ عليها: إلى أين؟
ابتسمت وسألته: هل نسيت؟ ألم نتّفق أن أذهب معك لبيتكم؛ كي أتعرّف على أسرتك؟
قال لها: لا لم أنسَ، لكنّني ظننت بأنّك تريدين الذّهاب إلى مكان آخر قبل زيارتنا.
فتحت له باب سيّارتها على مرأى من زملائها وزميلاتها المتواجدين في مرآب الجامعة وقالت له:
تفضّل أستاذ عزيز.
انتبه الزّملاء لذلك، فهمس أحدهم لزميل آخر:
الدّنيا حظوظ…يبدو أنّ صنّارة عزيز قد اصطادت السّمكة.
سمعه عزيز ووداد، فاحمرّ وجه عزيز حياء، بينما ضحكت وداد وهمست لعزيز:
بعض الزّملاء مراهقون في كلامهم.
ردّ عليها عزيز:
ما لنا ولهم، لكنني أسألك:
هل سبق لك أن زرتِ قريتنا سلوان؟
أجابته بدلع:
مع الأسف لا…..لم أزرها.
– إذن ما رأيك أن آخذك في جولة سريعة؛ لتعرفي معالم البلدة؟
– هذا اليوم لا أستطيع؛ لنترك الأمر لمرّة أخرى.
– كما تريدين.
عادت وداد تقول:
هل تعلم أنّك أوّل شخص غريب يرافقني في سيّارتي وحده؟
شعر عزيز بخدر يغزو جسده دون استئذان، امتلأ غرورا، تساءل بينه وبين نفسه إذا ما كانت رافقته للتّعرف على أسرته أم لتطلب يده منهم! فقال لها:
شكرا لك.
عادت تقول له:
اسمع يا عزيز، سمعة النّساء في بلادنا حسّاسة كالزّجاج، فكما أنّ الزّجاج ينتهي بأيّ خدشٍ يصيبه، فإنّ أيّ إشاعة على المرأة قد تدمّر حياتها إلى الأبد. ومجتمعنا لا يرحم، هل سمعتَ ما تلفّظ به بعض زملائنا عندما دخلنا سيّارتي أمامهم؟ لذا فأنا لا أسمح لأيّ شابّ أن يرافقني بسيّارتي وحده، درءا للشّبهات، وعلى رأي المثل:” لا تنام بين القبور ولا تحلم أحلام مزعجه.” لكنّك إنسان مختلف، فأنت زميل رائع.
ازدادت نبضات قلب عزيز، رأى نور الشّمس يضيء له طرقات كان يراها معتمة، فهبّ نسيم عليل منعش أطاح بالأشواك جانبا، فرش دروبه حريرا، وفتح له أبواب السّعادة. شكرها على لطفها وعلى مشاعرها تجاهه.
عند مدخل الشّارع الموصل إلى حيّ الثّوري، والمحاذي لسور الدّير الألماني طلب منها أن تأخذ يمين الشّارع للدّخول من هناك باتّجاه الثّوري. نزلوا الجبل في الشّارع اللولبيّ الذي يشبه الأفعى في زحفها، ويزدحم بالسّيّارات التي تصطفّ على جانبيه رغم كثرة عدد السّيّارات التي تعبره. عندما وصلا الوادي، استغلّ عدم معرفتها بالطّريق، وبدلا من أن يدور يمينا باتّجاه بئر أيّوب، تركها تسير في الشّارع العامّ ليريها مدخل عين سلوان التّحتا، ومن عند العين الفوقا سيدور بها يمينا عائدا إلى بئر أيّوب، فبيتهم يقع في تلك الطّريق.
قال لها عن العين:” عين سلوان مركز بداية مدينة القدس الكنعانيّة قبل آلاف السنين. وتعتبر العين مقدّسة عند المسيحيّين لأنّ المسيح استعمل ماءها لشفاء الرّجل الأعمى. ويقال أنّ السّيّدة مريم العذراء غسلت بمائها ملابس الرّضيع عيسى، ولهذا سمّيت أيضا بعين العذراء.
وقال عنها ياقوت الحموي: “عين سلوان عين نضّاحة، يُتَبرَّك بها ويُستشفَى بها بالبيت المقدس.”
” كما وتزيد أهمّيّة العين لتعيينها وقفًا إسلاميًا على زمن الخليفة عثمان بن عفّان، حيث وقفها لفقراء المدينة، ومن بعده جاء صلاح الدّين الأيوبيّ ليوقف القرية ومقدّراتها وعينها على مصالح مدرسةٍ في شمال البلدة القديمة، بجانب باب الأسباط تحديدًا، واسمها “المدرسة الصّلاحيّة”. ورُمّمت مرافق العين عبر السّنوات من نفقة أوقاف هذه المدرسة.”
عندما أوقفت وداد سيّارتها على رصيف الشّارع، ونزلت وعزيز منها، رأتهما أمّ عزيز، فركضت تفتح باب البيت الرّئيس، احتضنت وداد وقبّلتها، وهي تقول:
أهلا بالغالية، شرّفتينا…البيت بيتك.
شكرتها وداد ودخلت إلى البيت فوجدت عبير شقيقة عزيز، تصافحتا وتبادلتا القُبل بشكل عاديّ، في الصّالون صافحت وداد جدّ عزيز الذي رحّب بها هو الآخر.
شكرتهم وداد على حسن الاستقبال وقالت:
من كثرة أحاديث عزيز عنكم أحببت أن أتعرّف عليكم.
ردّت عليها أمّ عزيز وهي تكاد ترقص فرحا:
والله شرّفتينا يا بنتي، أهلا وسهلا بك دائما وأبدا، فالبيت بيتك.
سأل الجدّ أبو نعمان:
ما اسم عائلتكم يا ابنتي؟
– أنا يا عمّ اسمي وداد وأبي جابر مصطفى السّعيد، نحن من بيت حنينا، لكنّنا نسكن في رام الله، فوالدي مقاول وصاحب شركة مقاولات، وأعماله بغالبيّتها في رام الله. وبيتنا في بيت حنينا نعود إليه حينما يكون لدينا وقت، وفي الأعياد.
هذه أوّل مرّة يعرف فيها عزيز أنّ وداد من بيت حنينا، وليست من رام الله، فقال بلهفة طفل يكتشف شيئا جديدا:
لهذا تركبين سيّارة “نمرتها صفراء” وتستطيعين دخول القدس والخروج منها دون عراقيل.
ردّت عليه وداد: هذه البلاد بلادنا والقدس مدينتنا، وتقسيمات الاحتلال الإداريّة لوطننا لن تغيّر الحقائق.
قال الجدّ: الله يرحم جدّك مصطفى، فقد كان صديقا لي أيّام الشّباب، وبعدها سافر لأمريكا واستقرّ فيها أكثر من عشرين عاما.
استغربت وداد أنّ أبا نعمان يعرف جدّها وقالت ضاحكة:
هذا يعني أنّنا أصدقاء أبا عن جدّ.
ضحك الجميع معها وقالت عبير:
أدام الله المحبّة بيننا.
فقالت وداد: بناء على هذه الصّداقة الممتدّة سأدعوكم لحضور حفل خطبتي في فندق الإمبسادور يوم 28 ديسمبر الحالي، في عطلة الفصل الأوّل بعد أسبوعين.
وقع كلامها على رؤوسهم كصاعقة صيفيّة جاءت فجأة على غير المتوقّع، شهقت أمّ عزيز وقالت ودموعها تنساب على وجنتيها، بينما خرج عزيز من الجلسة خائبا:
ماذا قلتِ يا ابنتي؟ والله كلّ تفكيرنا أن نطلب يدك لعزيز فهو يحبّك.
دهشت وداد ممّا سمعت وقالت:
أنا فاتحتي مقروءة منذ أكثر من شهر، وأحبّ وأحترم عزيز كزميل وكأخ.
تنهّد الجدّ وقال:
أهلا بك يا ابنتي، فالزّواج “قسمة ونصيب”، ومباركة خطوبتك ونتمنّى لك التّوفيق.
شكرته وداد وقالت: العقبى لعزيز وشقيقته عبير.
أحضرت عبير القهوة، سألت وداد عن عزيز، سمع سؤالها فعاد إلى الجلسة مشدوها، وبقايا دموع ترتسم على وجنتيه. التفتت وداد إليه وقالت:
عزيز من أفضل الزّملاء الذين عرفتهم في الجامعة، وهو شابّ نبيل يحظى باحترام من يعرفونه، وأنا فخورة بمعرفته وأعتبره مثل أخي تماما.
أصيب عزيز ووالدته بكسوف عندما سمعا بخطبة وداد، خيّم الصّمت “وكأن على رؤوسهم الطّير”، أمّا الجدّ فلم يتفاجأ بذلك، فواصل الحديث مع وداد التي انتبهت لوجوم عزيز ووالدته، بينما حاولت عبير أن تغطّي على موقف والدتها وشقيقها فسألت وداد:
متى ستتخرّجين يا وداد من الجامعة؟
ردّت وداد: نهاية هذا العام الدّراسيّ سنتخرّج أنا وعزيز.
بعد أن احتسوا القهوة قالت وداد:
تشرّفت بمعرفتكم، وسعدت بلقائكم، أشكر “عزيز” الذي أتاح لنا هذه الفرصة، وأستأذنكم لضيق الوقت.
خرج معها عزيز وشقيقته عبير، عند سيّارتها سألتها عبير:
هل تعرفين كيف تصلين إلى القدس من هنا أم نرافقك؟
ضحكت وداد وقالت:
القدس على مرمى نظر منّا، ولن أضلّ الطّريق.
أشار عزيز إلى الشّارع الذي يصعد الجبل من جانب “العين التّحتا” وقال:
ادخلي ذلك الشّارع، وواصلي الطّريق، إلى قمّة الجبل، حيث الشّارع الآخر، اتّجهي معه يمينا وستصلين إلى باب الأسباط.
عاد عزيز إلى البيت مهدود الحيل، دخل غرفة النّوم، أغلق الباب خلفه، ألقى جسده على السّرير كجثّة هامدة، بكى بحرقة، تساءل بينه وبين نفسه إن كان غبيّا أم مغفّلا، وهل خدعته وداد؟ كيف سيواجه والدته التي أوهمته بأنّ الفتيات كلّهن يتمنّينه وينتظرن إشارة من إصبعه؟
صمت قليلا وهو يحملق بسقف الغرفة، فكّر كثيرا بموقف زميلته وداد منه، تساءل إن كانت تشفق عليه كونه يتيما، أم أنّها أرادت أن تخرجه من عزلته التي اعتاد عليها.
طرقت شقيقته عبير باب غرفة نومه وقالت له:
جدّي يريدك.
تحامل على نفسه، غسل وجهه، ذهب إلى الصّالون مثقلا بالخزي كأنّه ارتكب جنحة كبرى، جلس قبالة جدّه الذي قال له:
لا داعي للقلق يا ولدي، فالنّساء كثيرات.
وهنا انتفضت والدته وقالت غاضبة:
هذه البنت وداد لا أسف عليها، “فهي لا محضر ولا منظر”، ووجهها يشبه مؤخّرة التّمساح الذي يعيش في مستنقع يوشك على الجفاف.
ضحك الجدّ وحفيدته عبير التي قطعت حديث والدتها وقالت:
وداد فتاة حسناء عذبة اللسان، تفوح منها رائحة البرتقال، الخطأ ليس فيها، بل فينا نحن، لا تغترّي كثيرا يا أمّي بنفسك وبنا أنا وعزيز، “فالقرد في عين أمّه غزال”،
أنت تتوهّمين أنّ النّساء لم ينجبن مثل أبنائك، وعزيز إذا أراد الزّواج فسيجد نصيبه، “فلكلّ فوله كيّال”، ويبدو أنّ “عزيز” لم يختر “الفوله” التي يستطيع هضمها وتستطيع هضمه.
نهرت لبنى ابنتها عمّا قالته وسألتها:
من طلب رأيك حتّى قلت ما قلتِه؟
سألت عبير ضاحكة:
لكن كيف رأيتِ مؤخّرة التّمساح يا أمّي حتّى تشبّهي وجه وداد الحسن بها؟
تدخّل الجدّ وقال لكنّته أمّ عزيز:
سبق وأن حذّرتك من التّهوّر بهكذا أمور، وقلت لك مرّات كثيرة بأنّ بنات النّاس لسن لعبة لك، وكما قالت عبير الفتيات كثيرات وسيجد عزيز نصيبه.
التفتت إليها عبير وقالت:
لا داعي كي أستأذن من أحد لأبدي رأيي بأمر يخصّ أخي عزيز.
وهنا قال عزيز بلهجة حزينة:
لا تختلفوا من أجلي، فأنا لا أريد الزّواج في هذه المرحلة، ولن أتزوّج قبل أن أنهي تعليمي، وحتّى أعمل، وأضمن دخلا يكفينا.
قالت عبير: وأنا أؤيّدك بما قلتَه.
عادت الأمّ تنهر ابنتها عبير عن الحديث بهذا الموضوع، لكنّ الجدّ قطع حوارهم وقال:
” الزّواج مش سَبْقَهْ” لكنّي أصلّي لله أن يطول عمري حتّى أرى أبناء عزيز وعبير.
وأن أرى ابنًا لعزيز يحمل اسم أبيه وجدّه؛ ليكون امتدادا لنا في المستقبل.
سألت عبير ساخرة:
وماذا بالنّسبة لأبنائي أنا يا جدّي.
أجاب الجدّ بصوت هادئ:
أبناؤك يا ابنتي سيحملون اسم عائلة من ستكونين من نصيبة.
تساءلت عبير وهي تخلط الجدّ بالهزل:
إذا كان الحسن والحسين أبناء لرسول الله-صلى الله عليه وسلّم- فكيف لا يكون أبناء عبير أبناء لأبيها نعمان -رحمه الله- ولجدّها أبي نعمان -أطال الله عمره-.
تنهّدت أمّ عزيز وقالت:
لهذا سأختار لعزيز عروسا اليوم قبل غد.
عادت عبير إلى المناكفة وقالت ضاحكة:
أخشى أن تعتبري كلّ الفتيات وجوههن تشبه مؤخّرة التّمساح.
ردّت أمّ عزيز موبّخة ابنتها:
لا داعي لترديد الكلام الزّائد يا بنت!
تدخّل الجدّ وقال:
اتركي “عزيز” يا لبنى يختار عروسه بنفسه؟
عبير
أمضت عبير يومها تفكّر بمنظر مؤخّرة التّمساح التي شبّهت والدتها وجه وداد الجميل بها، صحيح أنّه لم يسبق لها أن رأت تمساحا حقيقيّا في بيئته الطّبيعيّة، لكنّها رأت أفلاما بثّتها فضائيّة عن الحيوانات ومنها التّماسيح، وتذكّرت جارهم أبا حسّان الذي يصرخ بزوجته كلّما غضب منها، مشبّها وجهها بوجه التّمساح، ولم يدر بخلدها أن تنظر إلى مؤخّرة التّمساح، فمنظر التّمساح مرعب ومقرف، ولا وجه مقارنة بين وداد كفتاة حباها الله جمالا مميّزا وبين التّمساح!
حاولت عبير أن تتخلّص من التّمساح وقرفه، عادت إلى ذاتها…تذكّرت ما كانت تقوله والدتها عن عزيز، خصوصا تلك الجملة التي تحسم أمر الزّواج( كلّ البنات يتمنّين “عزيز”)! ابتسمت وهي تسائل نفسها:
إذن لِمَ لَمْ تقبل به وداد؟ وهل هي صادقة عندما قالت بأنّ فاتحتها مقروءة، أم هي كذبة بيضاء منها للهروب من الموقف الذي وجدت نفسها فيه فجأة؟
ضحكت عبير بملء فيها وهي تتساءل حول نظرات الشّباب إليها، فهل هناك من يتمنّاها؛ لتكون شريكته؟ صحيح أنّها سمعت مرّات عديدة كلمات إطراء من عدد من الشّباب أثناء ذهابها وإيّابها من المدرسة، لكنّها لم تأبه بأيّ منهم، وحتى لم تلتفت إلى أيّ منهم؛ لترى من هو ذلك الفتى الذي يبدي إعجابه بها. أخذت ترسم في خيالها صورة فتى أحلامها، فرأته فارسا يقطع الصّحاري والفيافي ليصل إليها، يركب أمواج البحر؛ ليطوف بها في لجاج البحار. تريده وسيما كأبيها الرّاحل، وهنا توقّفت قليلا تسائل نفسها إذا كان والدها وسيما أم لا؟ فقد غادر الحياة الدّنيا وهي في الثّامنة من عمرها، وقتذاك كانت تراه الأب الوحيد في الكرة الأرضيّة الذي يحبّ أبناءه، لكنّها لا تريد فارس أحلامها شبيها بشقيقها عزيز، رغم حبّها اللامتناهي له، فهي لا تراه جريئا ولا وسيما ولا مفتول العضلات. شرعت تتساءل عن شخصيّة عزيز المهزوزة، نزلت دموعها عندما فكّرت بأنّ اليتم قد يكون سببا في ذلك، فالأبناء يشعرون بقوّة خفيّة وهم في رعاية آبائهم، اعتقدت بأنّ الفقر والحرمان قد يكون سببا هو الآخر، مع أنّهما لم يحتاجا شيئا فقد وفّر لهما جدّهما ووالدتهما كلّ احتياجاتهما، لكنّهما لم يشعرا يوما أنّهما متساويان مع أقرانهما.
في صباح اليوم التّالي وقفت أمام صورة أبيها المعلّقة على حائط صالون البيت، وقبالة سرير والدتها التي تشاركها النّوم في غرفة واحدة، أمعنت النّظر بصورة الوالد، فرأته وسيما، سألت جدّها:
هل كان والدي يشبهك يا جدّي؟
ضحك الجدّ من سؤالها وقال:
أبوك كان أكثر شابّ وسامة رأيته في حياتي.
عادت تسأله: طيف أبي يحوم أمامي دائما، لكنّني كنت صغيرة، ومتعلّقة به ككلّ الأطفال الذين يتعلّقون بوالديهم، فهل يوجد شبه بينه وبينك؟
أجابها دون أن يعيرها انتباهه:
أنا أكل الدّهر منّي وشرب يا ابنتي، فهموم الدّنيا استهلكتني، ووفاة والدك قصمت ظهري وأورثتني حزنا لا يندمل. فإن كنت معنيّة بمعرفة الجواب على سؤالك، فستجدينه عند أمّك. وهنا دخلت أمّ عزيز تحمل القهوة لها ولحميها، فرأت دموع حميها على وجنتيه، فسألتها عبير عن وجه الشّبه في الشّكل بين والدها نعمان وبين جدّها.
ردّت عليها الأمّ وهي ترشف القهوة:
أبوك -رحمه الله- كان زين الشّباب دون منازع، وفيه شبه كبير من والده الذي كان هو الآخر مثالا للوسامة والشّهامة والرّجولة الحقّة.
وهنا ابتسم أبو نعمان وقال:
رحم الله أيّام زمان يا لبنى.
ضحكت عبير من كلام جدّها الذي يتحسّر على أيّام طواها الزّمن بحلوها ومرّها وقالت تجامل جدّها:
وجدّي لا يزال وسيبقى سيّد الرّجال. لكنّي أسأل:
هل شقيقي عزيز يشبه جدّي والمرحوم أبي؟
فردّ عليها الجدّ:
عزيز يشبه خاله سعد الدّين. وكما قال المثل:”كادت المرأة أن تلد أباها أو أخاها”.
سألته أمّ عزيز: أليس هذا حديثا نبوّيّا يا أبا نعمان؟
– كنت أظّنّه حديثا إلا أنّ أحدّ المتعلّمين صوّبني وقال بأنه مثل وليس حديثا.
قالت عبير: لكنّ خالي سعد الدّين يعيش في استراليا، ولم ألتقه في حياتي.
سألت أمّها: لِمَ تسألين يا عبير؟
ردّت دون مبالاة: هكذا من باب العلم بالشّيء ولا الجهل به. لكنّها أضمرت في نفسها أنّ أهل والدتها ليسوا بوسامة جدّها وأبيها، ولا يتحلّون بجرأة جدّها لأبيها، فهل ورث عزيز صفات أخواله وورثت هي صفات أبيها وجدّها؟
في المسجد الأقصى
قرّرت عبير أن تشارك جدّها ووالدتها الاحتفالات الدّينيّة في ذكرى الإسراء والمعراج في المسجد الأقصى، دخلوا المسجد الأقصى من باب الأسباط، بعد أن ساروا من بيتهم على الأقدام صعودا مع وادي قدرون، مرّوا من باب كنيسة الجثمانيّة، والجدّ يقول عندما نشدّ الرّحال إلى المسجد الأقصى ففي كلّ خطوة حسنة، لم تعقّب عبير شيئا على ما قاله جدّها، مع أنّها ترغب بأن يستقلّوا حافلة البلدة، فكتمت رغبتها وعقّبت على اقتراح جدّها بأنّ المشي مفيد للصّحة، فهو رياضة مطلوبة لما لها من فوائد صحّيّة.
في المسجد الأقصى اتّجهت عبير ووالدتها إلى مسجد الصّخرة المشرّفة المخصّصة للنّساء، في حين واصل الجدّ طريقه إلى المسجد القبليّ الذي كان يغصّ بالمصلّين، بينما كانت باحات المسجد تعجّ بآلاف الشّباب والشّابّات، وكأنّهم يستطلعون معالم المسجد العظيم، فاتّخذ مكانا تحت شجرة زيتون، فرد سجّادته وصلّى ركعتي تحيّة المسجد، ثمّ أسند ظهرة إلى ساق الشّجرة مادّا رجليه أمامه، وشرع يسبّح بحمد ربّه.
مسجد الصّخرة المشرّفة أيضا لم يعد في داخله متّسع لمزيد من المصلّيات، فاتّخذت أمّ نعمان مكانا لها في الجزء الشّماليّ الشّرقيّ من السّاحة المحيطة به، فردت سجّادتها وطلبت من ابنتها عبير أن تفعل الشّيء نفسه، لكنّ عبير اكتفت بصلاة ركعتي تحيّة المسجد، وقالت لوالدتها بأنّها ستلقي نظرة على معالم المسجد وستعود إليها سريعا، لم تنتظر عبير موافقة والدتها وواصلت طريقها باتّجاه المسجد مثمّن الأضلاع الذي تعلوه القبّة المذهّبة.
لم تستطع عبير دخول مسجد الصّخرة المشرّفة لعدم وجود متّسع فيه، فلم تزاحم أحدا كما فعلت نساء كثيرات، استدارات لتعود حيث تجلس والدتها، وإذا هي أمام ابنة بلدتها ميسون الموسى، التي صافحتها مع ابتسامة عريضة، نظرت إليها عبير باستغراب، فقالت ميسون:
يبدو أنّك لم تعرفيني!
عبير: نعم صحيح.
ميسون: معك حقّ فلم يسبق لنا أن التقينا أو تحادثنا وجها لوجه، أنا بنت ابن عمّ جدّك أبو نعمان، بيتنا مقابل عين اللّوزة، ليس بعيدا عن بيتكم، ربّما فارق العمر بيني وبينك له دور في عدم لقائنا، أنا أعرف والدتك جيّدا وهي تعرفني أيضا، رأيتك من بعد في حفل تخرّجك في الثّانويّة، تفوّقك وجمالك كانا لافتين، ومع فرحتي بك إلّا أنّ ذلك اليوم قد فتح جراحا في قلبي لا تندمل.
سألت عبير حائرة:
عن أيّ جراح تتكلّمين؟
عن جراح اليُتم، فقد عشت يتيمة مثلك منذ طفولتي، عندما استشهد والدي فؤاد الموسى في حرب حزيران 1967، وعانيت ووالدتي وشقيقتي رائدة ما عانينا جرّاء ذلك، ولمّا رأيتك في حفل التّخريج دعوت الله أن يوفّقك وأن يجنّبك ما عانيناه.
قالت عبير وقد احمرّ وجهها حياء وهي تديره حيث تجلس والدتها:
تشرّفت بمعرفتك، فما رأيكّ أن تذهبي معي؛ لنصلّي بجانب والدتي، هل ترينها؟
ميسون: نعم أراها وهذه فرصة سانحة للسّلام عليها.
بعد أن صافحت ميسون أمّ نعمان جلست بجانب عبير، تنحنحت عبير وهي تلتفت إلى ميسون وسألت على استحياء:
ما هي المعاناة التي تكلّمتِ عنها قبل قليل؟
قالت ميسون وعيناها تدمعان:
عندما استشهد والدي كنت في الخامسة عشرة من عمري، استشهد قبل أن أتعرّف عليه، لم أعرف لماذا كانت والدتي كثيرة البكاء، لكنّي صحوت على نفسي وأنا أفتقد حنان الأب، يصيبني حزن كبير عندما أرى أبًا يداعب أبناءه، وأسأل والدتي:
لِمَ لا يأتي أبي ليحضننا ويلاعبنا مثلما يفعل الآباء مع أطفالهم؟
فتجيبني أمّي بدموعها، وأحيانا تقول:
والدك رحمه الله.
وأحيانا كانت تجيبني:
أبوك في الجنّة، ولن يعود إلينا.
فأسألها ببراءة:
لِمَ لا نذهب للعيش معه؟
فتجيب: ليتنا ذهبنا معه وارتحنا من هذا العناء!
وأضافت ميسون: أنت يا عبير ربّما عوّضك جدّك شيئا من حنان الأبوّة، بينما جدّنا كان متوفّى هو الآخر، وأعمامنا نزحوا إلى الأردنّ، فكانت أمّنا هي الأمّ والأب والجدّ والعمّ.
عانينا من ضنك الحياة، ممّا أجبر والدتنا على العمل كخادمة في بيوت الأغنياء؛ لتوفّر لنا لقمة العيش.
حاول بعض الأقارب البعيدين أن يزوّجونا لأبنائهم، لكنّ والدتنا كانت ترفض وتقول لهم: لن تتزوّج ابنتاي قبل أن تنهي كلّ منهما مرحلتها الثّانويّة على الأقلّ.
وصلت الوقاحة حدّا بأحدهم أن قال لها ونحن في المرحلة الإعداديّة:
أريد ابنتيك لولديّ لأسترهنّ ولأريحك من مؤونتهنّ! فردّت عليه والدتي غاضبة:
الرّزق على الله الذي لا ينسى من فضله أحد، والله يقول:” وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ“.
فعاد يقول لها:
لكنّ الزّواج سترة.
فردّت عليه والدتي:
ابنتاي ما زالتا طفلتين، وليستا في عمر الزّواج.
فانصرف الرّجل غير راض من ردّ أمّي عليه، وتركها تغسل همومها وضيقها بدموعها، فنبكي معها.
سألتها عبير: كم كان عمرك وقتذاك؟
أجابت ميسون: كنت في السّادسة عشرة من عمري وشقيقتي تكبرني بعام.
صمتت ميسون قليلا ثمّ أضافت:
وفي اليوم التّالي عاد الرّجل يطرق باب بيتنا، دخل وجلس في الصّالون وقال لوالدتي:
اسمعي يا ربيحة!
فردّت عليه: نعم ماذا تريد؟
لقد مضى على استشهاد زوجك المرحوم فؤاد الموسى سنتان، وقد قصّرنا بحقّك وحقّ ابنتيك، و”من عاد ما خاب”، و”الرّجوع عن الخطأ فضيلة” ثمّ سكت.
فسألته الوالدة ماذا تقصد؟
فأجاب: أريد أن أصحّح الخطأ والقصور السّابق.
فجاملته أمّي قائلة:
حماك الله من القصور، ولا نريد منك إلا أن تكون سالما غانما.
فتحمّس الرّجل وقال:
كلامك صحيح، ولهذا جئتك بحلّ لك ولابنتيك.
فردّت عليه الوالدة:
لا مشكلة لدينا لتحلّها، ولو وقعنا في مشكلة لما استعنت إلا بك لحلّها.
حوقل الرّجل وقال:
إن لم تكن مشكلة فهي حقّ في رقابنا لك ولابنتيك، وقد فكّرت في الأمر كثيرا، وارتأيت أن أعرضه عليك؟
احتارت الوالدة بكلامه وسألت:
عن أيّ حقوق تتكلّم يا رجل؟
في هذه الأثناء أحضرت شقيقتي رائدة الشّاي، قدّمت للرّجل كأسا ولأمّي كأسا، وجلست بجانبي، نظر إلينا الرّجل نظرات مريبة، والتفت إلى والدتي بعد أن ارتشف رشفة من كأس الشّاي وقال:
يقول تعالى:” وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”. وأنا أعرض عليك يا ربيحة أن تقبلي بي زوجا لك، وأطلب ابنتيك لولديّ محمد ومحمود على سنّة الله وسنّة رسوله.
دهشت والدتي من كلامه وقالت له:
اشرب شايك و”الله يسهّل طريقك”، فأنا لا أريد زوجا وابنتاي ما زالتا طفلتين.
غادرنا أنا وشقيقتي رائدة الجلسة. وسمعت الرّجل يقول وهو يغادر البيت دون أن يكمل احتساء كأس الشّاي: “إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ”. وسمعت الوالدة تقول بصوت خفيض” طريق تاخذ وما تردّ”.
التفتت أمّ نعمان والدة عبير إلى ميسون وقالت:
وحّدي الله يا ميسون هذا مكان عبادة، وليس للقيل والقال، فاتّقي الله في هذه الليلة المباركة، واحمدي الله على ما أنت فيه، وأنت الآن جدّة ولا داعي لفتح الجراح.
ردّت ميسون على أمّ نعمان وقالت:
“الأسى ما ينتسى” ومنذ أن رأيت عبير في حفل تخرّجها من المدرسة وأنا قلقة عليها، وأنت أدرى النّاس بحياة الأيتام في بلادنا يا لبنى.
ردّت عليها أمّ عزيز:
شكرا لك ولا داعي للقلق على عبير، فهي وشقيقها بحمد الله لم ينقص عليهما شيء.
همست ميسون لعبير:
الحمد لله، لقد “صبرنا ونلنا” بعد أن أنهت شقيقتي رائدة “التّوجيهي” تزوّجت معلّم مدرسة وهي الآن أمّ لثلاثة أبناء وابنتين، وجدّة لخمسة أحفاد. وبعدها بسنتين وعندما أكملت الثّانويّة تزوّجت شقيق زوج رائدة، وأنجبت بنتين وثلاثة أبناء، وأنا الآن جدّة لحفيد يملأ حياتي سعادة.
قالت أمّ عزيز لميسون:
على الإنسان أن يجاهد كثيرا كي يتجاهل كثيرا من التّجارب المريرة التي مرّ بها، وألا يجعلها قاعدة للآخرين كي يختبروها هم أيضا.
أصيبت عبير بالوجوم من كلام والدتها، فكّرت به كثيرا، وتساءلت في داخلها إذا ما كانت هناك أسرار في حياة والدتها وتخفيها عنها؟
العريس
عانى أبو نعمان الأمرّين بعد حادث الطّرق، وكرّس حياته للعناية بحفيديه عزيز وعبير، تظاهر بالقوّة أمام زوجته أمّ نعمان وأمام لبنى أرملة نعمان وأمام الحفيدين اليتيمين عزيز وعبير، لكنّ داخله يعجّ بحزن كبير، لا يخبو إلا قليلا عندما يغسله بدموع يذرفها عندما يأوي إلى فراشه أو أثناء فلاحته لأرضه، فهو يحرص دائما أن يخفي دموعه عن الآخرين، عندما توفّيت زوجته أمّ نعمان شعر بوحدة يصعب تعويضها، وإن كان يعزّي نفسه بوجود عزيز وعبير.
في لحظة صفاء مع الذّات قال لكنّته أمّ عزيز:
اسمعي يا لبنى، “الدّنيا ما بتظل قمر وربيع”، ووضع عزيز لا يعجبني، فالولد حتّى الآن لم تعركه الحياة، وقد فكّرت أن نبحث له عن عروس؛ لنفرح به قبل أن يأخذ الله وديعته منّي!
أمّ عزيز: ربنا يعطيك الصّحّة والعمر.
– الموت حقّ يا لبنى والعمر محدود، والحياة تمرّ كلمح البصر.
– الأعمار بيد الله.
– قلت لك يا بنت الحلال أنّ “موسم حصاد الزّرع قد حلّ”، ولا هروب من قضاء الله، ونريد أن نفرح بعزيز وعبير قبل أن يحصدنا الموت.
– فرحتنا بزفاف عزيز هي يوم المنى الذي أنتظره يا عمّ، لكن ما العمل؟
تنهّد أبو نعمان وقال بعد أن لفّ سيجارة وأشعلها:
يوم أمس كنت في ضيافة ابن خالي أبي سمير، ورأيت ابنته سلوى، وهي فتاة حسناء، فما رأيك أن تزوريهم في بيتهم، وتجسّي نبضها ونبض والدتها، وإن رأيت الوضع مناسبا سنطلب يدها لعزيز؟
- أعتقد أنّ بنت أبي سمير ما زالت صغيرة على الزّواج.
– ليست صغيرة، فقد سألتها بالأمس عن الصّفّ الذي وصلت إليه في المدرسة، وأجابتني بأنّها سنة أولى في الجامعة.
– هذا يعني أنّها تكبر عبير بعام.
– ممكن.
أمّ عزيز: ما دمت تراها مناسبة سأزورهم لأستطلع الأمر. و”ربنا يجيب اللي فيه الخير”. لكن علينا معرفة رأي عزيز أوّلا.
قال أبو نعمان بلهجة الواثق:
عزيز لا يزال فتى غرّا، وإذا ما سمع بالزّواج فإنّه سيطير فرحا بغضّ النّظر عمّن تكون العروس.
ردّت أمّ عزيز بلهجة فيها ملامة:
عزيز يا عمّ رجل مميّز وهذا العام سيكمل تعليمه الجامعيّ، ويعرف ما يريد، وكلّ الفتيات يتمنّينه.
ضحك أبو نعمان ضحكة ساخرة وقال:
خلّيها على الله! سبق ورأينا كيف كان يتوهّم أنّ وداد بنت جابر السّعيد تحبّه.
أمّ عزيز غاضبة:
وداد هذه فتاة -الله يستر على خلقه- لا أريد أن أستغيب بنات النّاس.
تساءل أبو نعمان قائلا:
ما لنا ولبنات النّاس “احنا بدنا عنب وللا نقاتل النّاطور”؟ أتمنّى عليك أن لا تنطقي ثانية بلازمتك “كلّ البنات يتمنّينه”، فكما يبدو أنّ الولد اقتنع بها، وصار يحسبها حقيقة، “وللي بعرف بعرف وللي ما بعرف بقول في الكفّ عدس.”
ردّت أمّ عزيز مستنكرة ما سمعته من حميها:
ليتني لم أسمع منكَ هذا الكلام يا عمّ.
أبو نعمان: يا بنت النّاس المثل يقول:”القرد في عين أمّه غزال”، فلا تعتقدي أنّ البنات يقطعن جدائلهنّ شوقا لعزيز. دعينا من هذا الكلام الفارغ، اذهبي لبيت أبي سمير، وتفحّصي ابنته سلوى؛ لننتهي من زواج عزيز.
ضحكت أمّ عزيز وقالت:
لا تهتمّ يا عمّ، يوم الجمعة القادم سأذهب إلى بيت أبي سمير، وسأرى عنبه إن كان ناضجا أم لا يزال حصرما.
– على بركة الله.
عندما اختلت لبنى”أمّ عزيز” بنفسها، عادت بها الذّاكرة إلى الأيّام الخوالي، إلى أيّام الصّبا قبل أن ينضج الجسد، وقبل أن تعرف موسم القطاف حين صار المرحوم زوجها نعمان يغازلها، حيث يقف على زاوية الطّريق الموصل إلى بيت والديها، يتمعّن جسدها من كلّ الاتّجاهات، لا يقول شيئا، يسيل لعابه كالجائع الذي يشتهي طعاما شهيّا ولا يستطيع الحصول عليه، إذا التقت عيناه بعينيها يغضّ بصره، لم تنتبه له وقتذاك، لكنّه هو من أخبرها هذا بعد أن “وقعت الفاس في الرّاس” وتزوّجا، أحاديثه تلك أشعرتها بأنوثتها، وعزّزت ثقتها بنفسها. لامت نفسها لأنّها لم تنتبه لجسدها في تلك المرحلة، حتّى أنّها كانت تهزأ ببعض أبناء جيلها الذي كان يطلق بعضهم سهام كلمات التّحرّش عليها وعلى زميلاتها، اللواتي كنّ يرافقنها بشكل روتينيّ من وإلى المدرسة.
عندما وصلت مرحلة البلوغ أصيبت برعب من الدّورة الشّهريّة، حاولت إخفاء ذلك الأمر الطّارئ الذي اجتاح بين فخذيها، أصيبت بصداع وبألم في أسفل بطنها، انتبهت لها والدتها، فسألتها:
ما بِكِ؟ هل أتتك الدّورة الشّهريّة؟
ردّت حائرة: أيّ دورة شهريّة؟
ضحكت الأمّ على جهل ابنتها وقالت:
أقصد مرحلة البلوغ عند الصّبايا؟
– وكيف تبلغ الصّبايا؟
الأمّ: عند بداية نضوج جسد الفتاة تنزف قطرات من الدّم.
لبنى: هل الصّبايا كلّهنّ يمررن بهذه المرحلة؟
الأمّ: نعم.
سألت لبنى عاتبة:
لِمَ لم تقولي لي ذلك من قبل؟
– ها أنا أقول ذلك.
– ليتك قلتِه من قبل، فمنذ يوم أمس أرهقني الخوف والألم لما جرى معي، ولم أجد تفسيرا له.
الأمّ: لا تخافي وافرحي، فأنت الآن عروس!
عادت بذاكرتها إلى تلك المرحلة التي أثمر فيها الرّمّان، وبدأت ثماره تنمو على صدرها وما يصاحبه من ألَمٍ ومن لذّة. شعرت برضا عن الذّات؛ لأنّها شرحت التّغيّرات التي تحصل لجسد الصّبايا لابنتها عبير عدّة مرّات قبل أن تصل سنّ البلوغ بأشهر. لكنّها شعرت بحسرة لوفاة زوجها المرحوم نعمان وابنها عزيز لا يزال طفلا، وتساءلت عمّن سيشرح له عن مرحلة بلوغ الأبناء الذّكور، ولم تكن تعلم أنّ حماها أبا نعمان قد شرح ذلك لحفيده عزيز. ولهذا فهي ترى أنّ ابنتها عبير حاذقة أكثر من شقيقها عزيز.
العروس
بعد صلاة عصر ذلك اليوم وبينما الجدّ أبو نعمان في قيلولته، وإذا جرس الباب يُقرع، ويصاحبه صوت رجل يقول:
يا ساتر.
نهض أبو نعمان من فراشه متثاقلا بفعل الشّيخوخة التي داهمته بحكم العمر، فقد تجاوز الثّمانين من عمره، سبقته كنّته أمّ عزيز؛ لتفتح باب سور البيت، بينما وقفت عبير باسمة أمام مدخل البيت، رحّبت أمّ عزيز بسفيان ووالدته الحاجّة زعرورة التي عانقتها وقالت:
أهلا بكما، لِمَ لم تدخلا دون قرع الجرس فأنتما من أهل البيت؟
ردّت عليها أمّ سفيان:
“يسلم البيت واصحابه”، لكنّ يجب مراعاة الأصول.
سأل سفيان وعيناه تنظران عبير:
هل الخال أبو نعمان موجود؟
ردّت أمّ عزيز: نعم موجود، وأهلا بكما في الأوقات كلّها بوجود أبي نعمان أو دون وجوده.
سمع أبو نعمان سؤال سفيان فقال بصوت مرتفع:
ادخل يا ابن زعرورة…فأنت منّا وفينا.
صافح سفيان عبير ضاغطا بإبهامه على ظاهر يدها اليمنى، ثمّ عانق أبا نعمان وحاول تقبيل يده، لكنّ أبا نعمان استجمع قواه وسحب يده إلى الخلف وهو يقول ضاحكا:
أستغفر الله….”بوس اليدين ضحك على اللحى”!
ردّ سفيان معاتبا:
احترامك واجب يا خال.
أبو نعمان: الله يرضى عليك…الاحترام ليس بتقبيل الأيادي.
احتضنت أمّ سفيان عبير، ضمّتها إلى صدرها وهي تعانقها وتقبّلها وتصلي على النّبيّ مندهشة بجمالها، جلست النّساء في البرندة أمام الصّالون بناء على طلب الحاجّة زعرورة، بينما جلس سفيان وخاله أبو نعمان في الصّالون.
قالت أمّ سفيان لأمّ عزيز وهي تشير إلى عبير:
ما شاء الله! عبير كبرت وصارت عروسا، يا عمّي البنات يكبرن بسرعة “مثل خبّيزة المزابل”!
ضحكت عبير قهقهة على هذا التّشبيه، فنظرت إليها والدتها تنهرها دون كلام، فهمت عبير نظرات أمّها واتّجهت إلى المطبخ تعدّ الشّاي.
قالت أمّ سفيان لأمّ عبير:
والله عبير كبرت، وسبحان من وهبها هذا الجمال، وجسمها ما شاء الله سيملأ حضن صاحب النّصيب!
مازحتها أمّ عزيز بصوت منخفض وهي تضحك وقالت:
وهل تملأين حضن أبي سفيان وحجمه ضعف حجمك؟
ضحكت أمّ سفيان وقالت:
زماننا ولّى وقد قضينا ما علينا، والحمد لله أنجبت منه ستّ بنات وأربعة أولاد، وأجهضت بحملين.
عندما قدّمت عبير الشّاي لسفيان ولجدّها قال سفيان وهو يحملق بعبير:
سلمت الأيادي، سأحتسي كوب الشّاي؛ لأنّه من يديك، مع أنّني لا أحتسي الشّاي إلا في حالات نادرة.
سألته عبير: هل أغلي القهوة الآن؟
ردّ جدّها: بعد قليل يا بنيّتي.
سأل أبو نعمان:
ما أخبار أبيك يا سفيان؟
– الحمد لله بخير، لكن للعمر أحكام، فالوالد الآن في نهاية الثّمانينات من عمره.
– الله يعطيه الصّحة والعمر فقد قضى ما عليه، ويا ربّ حسن الختام.
– أيّهما أكبر عمرا أنت أم هو يا خال.
– لم يكن في زمننا شهادات ميلاد، ولا تأريخ للمواليد الجدد، لكنّ أباك- والعلم عند الله يكبرني بعامين تقريبا.
رشف سفيان من كوب الشّاي رشفة وقال لأبي نعمان:
جئتكم يا خال طالبا يد عبير، وآمل أن يجد طلبي قبولا منكم.
ردّ عليه أبو نعمان وهو يلفّ سيجارته:
عدم المؤاخذة….كم عمر ابنك محمد؟
تنهّد سفيان وقال متجهّما ويتصنّع ابتسامة.
محمد لايزال صغيرا على الزّواج، عمره ثلاثة وعشرون عاما، أريد عبير زوجة لي!
انتفضت يدا أبي نعمان من المفاجأة، سقطت سيجارته من يده، تجهّم وجهه وسأل:
أنت متزوّج وزوجتك لا تزال شابّة وعندك عدد من الأبناء، قبل قليل قلت بأنّ عمر ابنك محمّد ثلاث وعشرون سنة، وقلت بأنّه لا يزال صغيرا على الزّواج، فهل تعرف عُمْرَ عبير؟ وهل تعلم أنّها أصغر من ابنك بأربع سنوات.
ردّ سفيان: البيوت أسرار يا خال، فزوجتي لم تعد تصلح كزوجة، وربّنا سبحانه وتعالى سمح للمسلم بالزّواج من أربع نساء، ويقول في كتابه العزيز:” وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا“. وأنا والحمد لله ميسور الحال، وأستطيع الإنفاق على أكثر من بيت.
حوقل أبو نعمان وقال:
اسمع يا سفيان، حسبتك رجلا عاقلا، وأحسب أنّ عبير مثل ابنتك، وليتني لم أسمع منك ما سمعته، ففي البداية ظننت أنّك تطلبها لابنك، فعبير لا تزال صغيرة.
ردّ سفيان مستغربا حديث أبي نعمان:
يا رجل الرّسول -صلوات الله عليه وسلامه- تزوّج أمّنا عائشة وهي في التّاسعة من عمرها، وكان في الرّابعة والخمسين من عمره.
غضب أبو نعمان من كلام سفيان وقال متسائلا:
ماذا جرى لعقلك يا ابن زعرورة؟ هل جننت؟ كيف تشبّه نفسك بسيّد الخلق-صلى الله عليه وسلّم-؟
صمت سفيان للحظات، رشف من كوب الشّاي، فتشردق وصار يسعل، وريالته تسيل على ذقنه، مسح فمه وذقنه وقال:
ما رأيك يا خال أن تسأل عبير، فهذا حقّها الشّرعيّ، فإن وافقت كان به وإن لم توافق فلا حول ولا قوّة إلا بالله.
ردّ عليه أبو نعمان بلهجة حازمة:
لا رأي لعبير في هذه القضيّة ما دمت حيّا، فأنا وليّ أمرها وأدرى بمصلحتها منها.
عاود سفيان يقول:
وماذا يعيبني أنا يا خال حتّى ترفضني؟
لا عيب فيك، لكنّ عمرك غير مناسب؛ لتكون زوجا لفتاة تصغر أبناءك عمرا، وزوجتك موجودة.
سفيان: قلت لك إذا وقع النّصيب سأفتح بيتا خاصّا لعبير، سأكتب شقّة لها باسمها، وسأشتري لها سيّارة.
أبو نعمان: “البنات مش للتّجارة، وعبير ليست للبيع”. والمثل يقول:” شابّ يبهدلني ولا ختيار يدلّلني.”
سفيان: ومن قال لك بأنّني “ختيار” يا رجل، فعمري ثمان وأربعون سنة ولا أزال في قمّة شبابي وقوّتي.
أبو نعمان: لا تجادل في الموضوع، لا نصيب لك عندنا.
غضب نعمان، وقف وخرج وهو يقول لوالدته:
هيّا بنا يا أمّي…ابن عمّك “لا يعجبه العجب ولا الصّيام في رجب.” ساعدها على الوقوف وخرجا من باب البيت وهو يقول لها:
ابن عمّك أبو نعمان مصاب بالخَرَف، لم يبق عليه إلّا أن يطردنا من بيته.
التفتت إليه وقالت تلومه:
عيب عليك….اخجل يا ولد.
استمعت لبنى وابنتها عبير وأمّ سفيان للحديث الذي دار بين سفيان وأبي نعمان، فصوتهما وصل إليهنّ بسهولة. في البداية غضبت عبير من ردود جدّها على سفيان، صكّت أسنانها قهرا عليه، بينما تفاجأت والدتها من طلب سفيان، عندما استمرّ الحوار بينهما، والجدّ أبو نعمان يطرح أسبابه لرفض الطّلب وعبير تسترق السّمع، “جاءت الفكره وذهبت السّكره”، فانتبهت للمرّة الأولى لذرائع جدّها، ووجدتها صائبة، حملت نفسها ودخلت غرفة نومها، ألقت نفسها على وجهها فوق السّرير، بكت بحرقة وندم، تحوّلت عاطفتها من الحبّ والحنين إلى الحقد على سفيان، رأت حياتها ليلا دامسا عندما استذكرت ذلك اليوم الذي أوقف سيّارته الفاخرة بجانبها وقال لها:
تفضّلي يا بنت الخال.
لم تتردّد في الجلوس بجانبه، طرحت عليه تحيّة الصباح باسمة، فسألها:
إلى أين؟
ردّت عليه بدلع الإناث:
إلى القدس.
– هل لك ما تعملينه في القدس؟
– أريد أن أبحث عن عمل.
ابتسم لها بخبث وسأل:
ماذا ستعملين؟
– أيّ عمل مكتبيّ….سكرتيرة مثلا.
– أنا أريد سكرتيرة لي في مكتبي، فما رأيك بالعمل معي.
– ممتاز….ما طبيعة العمل في مكتبك؟
– تردّين على الهاتف وترتّبين لي مواعيدي.
– متى يبدأ دوامكم ومتى ينتهي.
– يبدأ في الثّامنة صباحا وينتهي في الثالثة من بعد الظّهر، لكنّك ستكونين حرّة في دوامك فأنت “منّا وفينا”.
– إذن دعنا نبدأ من اليوم.
– هذا اليوم سأكون في يافا، ومكتبي في الشّيخ جرّاح، ما رأيك أن ترافقيني، واعتبري نفسك في العمل، سنتغدّى سمكا بحريّا، وسنعود.
– سأهاتف والدتي لأخبرها؛ كي لا تقلق عليّ.
– لا مانع…أخبريها أنّك قد عملت سكرتيرة لي فقط.
هاتفت والدتها وقالت لها:
صباح الخير ماما…سأعمل سكرتيرة في مكتب سفيان المحمود.
– من يكون سفيان المحمود هذا؟
– ابن زعرورة قريب أبي وجدّي.
– آه…على بركة الله.
ضحك سفيان بعد المحادثة وقال وهو يقود سيّارته باتّجاه يافا:
يعجبني ذكاؤك وطريقتك في الحديث.
بعد لحظة صمت سألها:
هل سبق لك وأن زرت يافا؟
عبير: نعم زرتها مرّتين في رحلات مدرسيّة، ولعبنا على الشّاطئ وسبحنا، قضينا في كلّ رحلة يوما كاملا.
سفيان: رائع….هل تجيدين السّباحة؟
– لا.
– ما رأيك أن أعلّمك السّباحة؟
– أخاف أن أغرق.
– يستحيل أن تغرقي وأنت في حضني.
ضحكت عبير بسذاجة، دون أن تنتبه لما يعنيه في كلامه، بينما هو اعتبر ضحكتها إعجابا وموافقة على ما يرمي إليه.
عندما وصلوا منطقة اللطرون عند منتصف الطّريق بين القدس ويافا، اتّجه يمينا إلى القرى الثّلاثة التي هدمت في حرب حزيران 1967- عمواس، يالو وبيت نوبا-، وحوّلتها دولة الاحتلال إلى متنزّه عامّ باسم ” متنزّه كندا” تخليدا للصّداقة الإسرائيليّة الكنديّة.” أوقف السّيّارة في وسط المتنزّه، سارا على الأقدام، قادها إلى الحرش الذي يقع إلى جهة الجنوب الشّرقيّ، مرّا برجل يحتضن امرأة في سيّارة ويقبّلها، لفت انتباه عبير لذلك، فألقت نظرتها الأولى بعفويّة، ثمّ لوت عنقها مشمئزّة. واصلا المسير وعبير منقادة خلفه ببلاهة، عند قمّة الجبل رأى رجلا يضاجع امرأة عند ساق شجرة حرجيّة، جلس على مرمى نظر منهما، وجلست عبير أمامه دون أن تنتبه للعاشقين، لفت انتباهها لهما، ذُعرت من المشهد، فقفزت بشكل عفويّ لتلتصق به وهي تقول خائفة: ماما.
طوّقها بيديه ضاحكا وهو يقول:
لا تخافي فالرّجال والنّساء كافّة يفعلون ذلك.
شرع يهدّئ روعها ويقبّلها، فاستسلمت وهي لا تدري ما حلّ بها، أجلسها بحضنه وفاخذها وهي حائرة في أمرها.
عادا إلى السّيّارة وهي تطأطئ رأسها مذهولة ممّا جرى فقال لها:
لا تخافي شيئا، فلم يرنا أحد، سأطلب يدك؛ لتكوني زوجة لي، وسأوفّر لك كلّ ما تحلمين به، شقّة…أفخر الملابس….سيّارة، وسنقضي شهر العسل في أوروبّا، وستكونين أسعد زوجة.
ردّت عليه بدلع وانكسار:
لكنّك متزوّج.
لا تهتمّي لذلك، فسأحيل زوجتي على التّقاعد؛ لتعيش مع أولادها.
ضحكت عبير مستغربة حديثه وسألت:
وهل تتقاعد الزّوجات؟
– نعم تتقاعد الزّوجة إذا كان زوجها ميسورا وكبر أولادها.
– لكنّ زوجتك لا تزال شابّة.
– قلت لك بأنّني ميسور الحال ومن حقّي أن أجدّد زوجتي كما أجدّد سيّارتي.
هل يعني هذا أنّك ستحيلني على التّقاعد المبكر إذا وقع النّصيب وتزوّجنا، لأنّك ميسور الحال؟
– أعرفك ذكيّة فعندما تصلين إلى عمر زوجتي حاليّا، سأكون قد تخطّيت السّبعين من عمري، وسأتقاعد أنا!
مطّت شفتها السّفلى إلى الأمام مستغربة وسألت:
هل يتقاعد الرّجال الأزواج؟
– ستفهمين ذلك لاحقا بعدما تجرّبين الزّواج!
تذكّرت عبير هذا كلّه، صفعت وجهها بكفّيها نادمة حائرة بين قناعتها بكلام جدّها، وبين ما جرى بينها وبين سفيان، والذي تكرّر مرّات لا تستطيع عدّها في مكتبه حيث تعمل، لكنّها لم تحسم قرارها.
بعد أن انصرف سفيان ووالدته قال الجدّ لعبير على مسمع والدتها:
اسمعي يا عبير، منذ هذه اللحظة لا تعودي للعمل مع هذا الهامل، فهو غير مؤتمن عليك. غير مناسب لك كزوج، وبإذن الله ستتزوّجين من شابّ قريب لك في العمر، وأفضل من سفيان ألف مرّة.
لم تتكلّم عبير شيئا والتزمت الصّمت بينما قالت والدتها:
ربنا يجيب ما فيه الخير.
ميسون
بقيت ميسون فؤاد الموسى تفكّر بعبير بعد احتفالات ذكرى ليلة الإسراء والمعراج في المسجد الأقصى، فجمالها لافت، جدّها أبو نعمان في أواخر الثّمانينات من عمره، وله بيت من أربع شقق، عدا عن الشقّتين التي بناهما والدها المرحوم نعمان، ويملك أراضي ثمينة، لا وريث له سوى حفيديه عزيز وعبير، هذه فرصة لا تعوّض.
عند المساء وبعد عودة زوجها وأبنائها من العمل، جلسوا أمام شاشة التّلفاز يشاهدون الأخبار، بعد سماع موجز الأنباء قالت معتدّة بنفسها:
لا جديد على السّاحة، المتطرّفون اليهود يقتحمون الأقصى تحت حراسة شرطة الاحتلال، المستوطنون يحرقون ويدمّرون المزروعات، يقطعون الأشجار المثمرة، يعتدون على المزارعين والأهالي تحت حماية الجيش، وهذه أمور صارت مألوفة من كثرة تكرارها. دعونا نتكلّم بأمورنا الخاصّة.
التفت إليها زوجها وسألها مستغربا:
ماذا حصل؟ هل من جديد يا ميسون؟
ابتسمت ابتسامة عريضة وقالت:
لا تخف يا أبا عدنان…لا يوجد إلّا الخير؟ كيف علاقتك مع الحاجّ أبي نعمان، وكنته لبنى وحفيده عزيز؟
– عاديّة…أبو نعمان رجل فاضل، أعتبره مثل أبي، وليرحم الله ابنه نعمان، فقد كان صديقي، وحزنت عليه عندما اختاره الله إلى جواره، لِمَ تسألين؟
سكتت هنيهة وكأنّها تستعد لأمر جلل، ثمّ قالت:
نعمان -رحمه الله- مات وهو في عزّ شبابه، وترك ابنا وبنتا، وهما الآن في عمر الشّباب، عزيز سينهي دراسته الجامعيّة هذا العام، وعبير أنهت الثّانويّة بتفوّق، وهي متفوّقة أيضا بجمالها. وأمّ عزيز سيّدة فاضلة حافظت على بيتها وابنيها ولا تتدخّل بشؤون الآخرين.
قاطعها زوجها قائلا:
ما شاء الله، نتمنّى لهما التّوفيق، فأبوهما كان من خيرة الشّباب وكذلك جدّهما.
وهنا تدّخل ابنهما الأصغر منير وقال:
فعلًا عبير جميلة وذكيّة جدّا، وشقيقها عزيز شابّ بحاله ” لا ينعى ولا يسكّت ابن النّعّاية”، ويبدو أنّ فقدان أبيه قد أثّر عليه.
ضحكت ميسون عندما سمعت كلام ابنها فسألته:
هل أنت معجب بجمال وذكاء عبير؟
ردّ عليها باستحياء:
كلّ من يرى عبير يُعجب بجمالها، لكن ما لنا ولها؟
وهنا قالت أمّه بلهجة حازمة:
عبير هي بيت القصيد! لقد جلست معها في ليلة إحياء ذكرى الإسراء والمعراج في المسجد الأقصى، بهرتني بجمالها وخفّة دمها، فكّرت بأمرها كثيرا، وسألت الله أن تكون من نصيبك يا ولدي.
صمتت قليلا ثمّ أضافت:
ففي ظلّ أزمة السّكن في قدسنا بسبب اجراءات الاحتلال في التّضييق علينا، لا تنسوا أنّ جدّها يملك بيتا من أربع شقق، والرّجل في أواخر عمره، ولا وريث له سوى عبير وشقيقها عزيز، عدا عن الأراضي التي يمتلكها، فمن سيتزوّج “عبير” “سيكسبها دين ودنيا”. وكذلك الأمر بالنّسبة لمن سيتزوّجها شقيقها عزيز.
التزم زوجها الصّمت وكأنّ الأمر لا يعنيه، بينما قال ابنها منير:
من لا يتزوّج من فعله لا يستحقّ الزّواج. وأنا لا أقبل أن أكون “زوج السّتّ”!
ردّت عليه والدته بحدّة قائلة:
من قال لك هذا؟ أنت شابّ تعمل ولا ينقصك شيء، والرّسول عليه الصّلاة والسّلم يقول:” تنكح المرأة لأربع مالها وجمالها وحسبها ودينها”. وعبير تتوفّر فيها الشّروط جميعها، سترث بيتا وأراضي، جمالها ساحر، بنت حسب ونسب، صاحبة دين وخلق، وقد رأيتها بأمّ عيني وهي تصلّي في المسجد الأقصى، وعمرها مناسب لك فأنت تكبرها بحوالي سنتين، فماذا تريد أكثر.
أصغى منير لحديث والدته عن عبير باهتمام زائد، لكنّه لم يعط جوابا شافيا، التزم الصّمت على أمل أن يسمع رأي أبيه، صحيح أنّ قلبه خفق لعبير، فقرّر أن لا يبدي رأيا قبل أن يُشبع والداه الموضوع بحثا بينهما، فإن اتّخذا قرارا بالموافقة على زواجه من عبير، فسيوافقهما، لكنّ والده اختار الصّمت وكأن الأمر لا يعنيه.
اغتاظت ميسون من عدم اهتمام زوجها بالموضوع، فأضمرت في نفسها أن تنفّذ خطّتها بهدوء، وعندها ستضعهم تحت الأمر الواقع.
في اليوم التّالي قالت لابنتها عفاف وهي صغرى بناتها والعزباء الوحيدة منهنّ:
جهّزي نفسك سنزور صديقة، ورفعت سمّاعة الهاتف واتّصلت:
مرحبا يا أمّ عزيز، كيفك.
– أهلا بك…عفوا من تتكلّم.
ضحكت ميسون وقالت:
أنا ميسون فؤاد الموسى أمّ عدنان.
– أهلا بك.
– سأمرّ عليك في السّاعة العاشرة؛ لنشرب القهوة بمعيّتك إن لم يكن عندك مانع، هل أنت مشغولة؟
– أهلا وسهلا بك….نتشرّف بك.
أغلقت الهاتف وقالت لابنتها عفاف، ارتدي أجمل ثيابك، وتزيّني وتعطّري بسرعة.
سألتها ابنتها عفاف باستغراب:
من هي أمّ عزيز؟ ما أسباب هذه الزّيارة؟ وما علاقتي بها فأنا لا أعرفها؟
نظرت إليها أمّها نظرة فيها عتاب وسألتها:
هل تعرفين عبير اليتيمة حفيدة أبي نعمان؟
– نعم أعرفها.
– أمّ عزيز والدتها.
– وما سبب الزّيارة؟
– ألا تثقين بي يا عفاف؟ ارتدي ملابسك وهيّا بنا.
لم تفصح ميسون لأحد عمّا يدور في عقلها، فهي تريد أن ترى أمّ عزيز ابنتها عفاف، على أمل أن تخطبها لابنها عزيز، وستبني علاقة مع أمّ عزيز وابنتها عبير على أمل أن تخطب البنت لابنها منير.
على الطّرف الآخر لم تفكّر أمّ عزيز كثيرا، لتخمّن سبب زيارة ميسون غير المعتادة لها، فقد تذكّرت سريعا عندما التصقت بعبير في المسجد الأقصى ليلة إحياء ذكرى معجزة الإسراء والمعراج، حيث أمضت وقتها تثرثر مع عبير، ويبدو أنّها كانت تختبرها. لم تترك أمّ عزيز هواجسها حول زيارة ميسون تذهب هدرا، فقالت لابنتها:
جهّزي نفسك يا عبير، فسيأتينا ضيوف في الدّقائق القليلة القادمة.
استغربت عبير كلام والدتها فسألت؟
ما شأني بهم؟ سيجلسون مع جدّي.
ردّت عليها والدتها:
ضيفتنا امرأة يا عبير….وأعتقد أن زيارتها لنا تتعلّق بك.
دُهشت عبير من جواب والدتها فقالت متسائلة:
بي أنا؟
– نعم بك أنت…وأعتقد أنّها ستأتي خاطبة لك.
– هل أعرفها؟
– نعم تعرفينها….هل تذكرين ميسون التي جلست بجانبك ليلة إحياء ذكرى معجزة الإسراء والمعراج، وأمضت وقتها تثرثر معك؟
مطّت عبير شفتها السّفلى متعجّبة وقالت:
نعم أذكرها.
فردّت والدتها: إنّها هي.
في هذه الأثناء قُرع جرس بوّابة البيت الخارجيّة، فالتفتت أمّ عزيز لابنتها وقالت وهي تخرج لفتح البوّابة:
لقد وصلت.
لم تستبدل عبير ثيابها فقد كانت ترتدي بدلة رياضة واكتفت بها.
عند بوّابة البيت استقبلت أمّ عزيز ضيفتيها ميسون وابنتها عفاف بالأحضان والقُبل كما هي عادة نساء بلادنا، وهذا ما حصل مع عبير عندما دخلتا البيت، حيث قالت ميسون وهي تحضنها وتقبّلها وتثني على جمالها:
سبحان من خلق فسوّى.
من صالون البيت سأل أبو نعمان بصوت مرتفع:
من هؤلاء يا بنات؟
فقالت ميسون: هذا صوت أبي نعمان، من الواجب أن نُسلّم عليه، اتّجهت إلى الصّالون وابنتها عفاف تتبعها دون استئذان، فاجأتا أبا نعمان وهو ممدّد على “صوفا” استجمع قواه ليجلس، لكنّ ميسون قالت له:
لا تزعج نفسك يا عمّ، ومدّت يدها لتصافحه، لكنّه لم يمدّ يده إليها إلا عندما استكمل جلسته، قبّلت يده دون إرادته، لكنّ ابنتها عفاف اكتفت بمصافحته، فنهرتها والدتها وهي تقول:
بوسي يد عمّك الحاجّ يا بنت، لكنّ عفاف لم تنصع لطلب والدتها.
طلب منهما الجلوس، لكنّ ميسون اعتذرت له قائلة:
نأسف على ازعاجنا لك يا عمّ، ولولا واجب السّلام عليك لما أزعجناك، سنجلس مع لبنى وابنتها عبير في الصّالة.
في صالة البيت قالت ميسون:
مشاكل الحياة كثيرة، وكلّ النّاس صاروا مشغولين بأعمالهم، وانعدم التّزاور بينهم، وسبحان الله ” جبل على جبل ما بلتقي، لكن بني آدم مع بني آدم يلتقي”، تصوّري يا أمّ عزيز أنّني لم أشاهد عبير إلا يوم الاحتفال بتخريج طلبة الثّانويّة، ولولا أنّهم ذكروا اسمها لما عرفتها، ولم ألتق بها وأحادثها إلا ليلة إحياء ذكرى معجزة الإسراء في المسجد الأقصى. فليتنا كنّا نتزاور وتعارفنا من قبل، ثمّ قالت وهي تشير لابنتها عفاف:
هذه بنتي عفاف…هل تعرفانها؟
ردّت عبير: نعم أنا أعرفها فقد كنّا في المدرسة نفسها.
أمّا أمّ عزيز فاكتفت بقولها:
أهلا بكما، ونتشرّف بزيارتكما لنا.
لم ترغب ميسون بالمقارنة بين ابنتها عفاف وبين عبير، فالمقارنة ليست لصالح ابنتها، هي تعلم ذلك جيّدا، لكنّها تهرب منه، تمنّت لو أنّ عفاف بجمال عبير، لكنّ الجمال لا يأتي بالأمنيّات، ركّزت نظراتها على عبير، فلم تجد شيئا غير لائق فيها، دعت الله في سرّها أن تكون ابنتها عفاف من نصيب عزيز، التفتت إلى أمّ عزيز وسألتها وهي تبتسم:
أين عزيز يا لبنى؟ هل أنهى تعليمه الجامعيّ؟
عزيز في الجامعة يا ميسون، وإن شاء الله سيتخرّج نهاية هذا العام الدّراسيّ.
– بالتّوفيق والنّجاح يا ربّ.
– العقبى لحبايبك.
– لِمَ لا تزوّجينه وتفرحين به وبأبنائه يا بنت الحلال، والله أنا -الحمد لله- بنتي البكر تزوّجت وخلّفت، وما ظلّ غير عفاف، وبعدها صغيرة، وأبنائي الاثنان الكبيران تزوّجا العام الماضي، وظلّ منير -الله يرضى عليه-، عمره عشرون عاما، وعندما نعرض عليه الزّواج يبتسم ويقول:
عندما أجد الفتاة التي تناسبني سأتزوّج.
قالت أمّ عزيز: سيتزوّج عزيز عندما يقع النّصيب.
أرادت عبير بذكائها الفطريّ أن تصرف ميسون عن أحاديث الزّواج فسألت عفاف:
لِمَ لَمْ تدرسي في الجامعة يا عفاف؟
ردّت عفاف بعد أن اكتسى وجهها بحمرة الحياء وقالت وهي تتصنّع ابتسامة:
سآخذ راحة هذا العام، وسألتحق بالجامعة في العام القادم.
في الحقيقة لم تجرؤ عفاف على قول الحقيقة، ولم تقل أنّها رسبت في امتحان الثّانويّة العامّة، وستعيده مرّة أخرى هذا العام، وغاب عن بالها أنّ عبير تدرس معها في الفصل الدّراسيّ نفسه، وتعرف من نجح ومن أخفق.
تنهّدت ميسون وتساءلت:
ماذا ستستفيد البنات من تعليمهنّ؟ لو أنّهن يسمعن منّي لاكتفين بالمرحلة الثّانويّة، وبعدها فلتنتظر كلّ منهنّ نصيبها في الزّواج. وأضافت:
لكنّ بنات هذه الأيّام يفكّرن بطريقة أخرى مختلفة عن أيّامنا يا أمّ عزيز، تصوّري أنّ عفاف أتاها خطّاب كثيرون، ولم توافق على أيّ منهم، وتقول دائما:
عندما يأتي صاحب النّصيب سأتزوّج.
أُحرجت عفاف من كلام أمّها، فهي تعرف أنّها تكذب، ولا تريد أن تسوّقها بابتذال، فسألت عبير:
ما رأيك أن نجلس في حديقة البيت؟
ردّت عبير عليها ببرود وهي تتّجه إلى المطبخ:
لا مانع…لكنّي سأعدّ الشّاي أوّلا.
تبعتها عفاف إلى المطبخ وقالت لها:
عجيب أمر الأمّهات فهنّ لا يتكلّمن إلا في الزّواج.
ردّت عليها عبير باسمة:
أمّي ليست كذلك، فهي ليست قلقة على زواجي أنا، لكنّها تسعى لزواج عزيز.
استغربت عفاف ذلك وقالت:
هذا غريب فالمثل يقول: “دَوِّر لبنتك قبل ابنك.”
ردّت عبير بثقة: أنا لست قلقة بالزّواج، وأؤمن أنّه “قسمة ونصيب”.
عفاف: أنت يا عبير حباكِ الله جمالا مميّزا، وسيتسابق الشّباب، ليحظى واحد منهم بك زوجة له.
قالت عبير تجامل عفاف:
وأنت جميلة يا عفاف، وسيأتيك نصيبك.
سألت عفاف متظاهرة بالعفويّة:
هل اختارت أمّك عروسا لعزيز؟
ضحكت عبير وقالت:
عزيز شابّ وعندما ينهي دراسته الجامعيّة سيختار عروسه بنفسه.
عفاف: الأمّهات يعرفن اختيار العروس المناسبة لأبنائهنّ.
التفتت إليها عبير وقالت باسمة:
“الزّواج قسمة ونصيب” و”كلّ فوله لها كيّال.”
حملت عبير صينيّة الشّاي، قدّمت كوبا لأمّ عدنان، وكوبا لوالدتها، وأبقت كوبين واحدا لعفاف والثّاني لها وقالت:
هيّا بنا إلى الحديقة نحتسي شاينا يا عفاف.
سلوى
بعد صلاة يوم الجمعة قرّرت أمّ عزيز أن تزور بيت أبي سمير ابن خال حميها أبي نعمان، لترى ابنته سلوى التي رشّحها الجدّ أبو نعمان؛ لتكون عروسا لحفيده عزيز، عرضت على ابنتها عبير أن ترافقها، لكنّها رفضت متسائلة:
وما دوري أنا في الموضوع؟
استغربت والدتها تساؤلها فردّت عليها:
دورك أنّك شقيقة عزيز، و”كلّ عين لها نظرتها”!
عادت عبير تتساءل وقالت:
لِمَ لا تأخذين “عزيز” معك فهو من سيتزوّج والقرار له وليس لي!
– هذه مجرد استطلاع وليست خطبة أو زواج، وإذا رأيناها مناسبة سنتدبّر الأمر مع والدتها، ليذهب جدّك وعزيز لطلبتها.
– مع ذلك لن أذهب.
ردّت عليها أمّها غاضبة:
لا ردّكِ الله.
في الواقع أنّ عبير استاءت من ميسون فؤاد الموسى عندما جاءت لزيارتهم، تصطحب معها ابنتها عفاف، في محاولة منها لجذب انتباه الأسرة لخطبتها لعزيز، فرأت عبير في ذلك ابتذالا غير لائق، فمن غير المعقول أن يتمّ عرضُ الفتيات للزّواج كما تعرض البضاعة للبيع! راودتها أفكار غريبة حول هذا الموضوع، فمن يضمن ألا تفكّر أسرة أبي سمير ابن خال جدّها مثلما فكّرت هي بخصوص عفاف؟ وهل يعقل أنّ الوالدة تريد اصطحابها معها؛ لتسوّقها لأحد أبناء أبي سمير؟ في المحصّلة اتّخذت قرارها بثقة وكما قال المثل” لا تنام بين القبور ولا تحلم أحلام مزعجه.”
عبير في قرارة نفسها تشعر بكبرياء لا غرور فيه، وعندما يأتي النّصيب سيأتيها حتّى بيتها، وكما قال المثل الذي يردّده جدّها دائما:” الحجر في مكانه قنطار.” لكنّ تفريطها بجسدها مع سفيان ابن زعرورة بقي لعنة تطاردها، تؤرّقها، تسلب النّعاس من عينيها، هي الآن تكرهه إلى درجة الحقد، تبذل جهودها لتغسل ذاكرتها منه ومن سيرته اللعينة مثله.
عندما همّت أمّ عزيز بزيارة بيت أبي سمير قرّرت أن تزورهم فجأة دون استئذان أو موعد منهم، فهي تريد أن ترى سلوى على طبيعتها دون “مكياج”، فأدوات الزّينة تجعل الفتاة وكأنّها فتاة أخرى، ضحكت وهي تستبدل ملابسها عندما تذكّرت ما يتداوله أبناء البلدة عن إحداهنّ عندما تزوّجت واستحمّت صباح اليوم التّالي لزفافها، فرآها العريس قبل أن تتزيّن فقال لها:
سبحان الله! لولا أنّي لم أغادر الغرفة، ولا ثالث لنا، لحسبت أنّك شقيقك محمود، فلا فرق بينك وبينه سوى شعرك الطّويل!
ضحكت ببلاهة عندما سمعت ما قال، لكنّها بعد أن تزيّنت وارتدت ملابسها، راودتها الظّنون، فاقتربت منه وسألته:
ماذا تقصد عندما قلت يا حبيبي بأنّك ظننتني شقيقي محمود؟
ابتسم وهو يردّ عليها قائلا في محاولة منه لصرفها عن الموضوع:
أنت تشبهين محمودا بشكل كبير.
فقالت بعفويّة تامّة:
أمر طبيعيّ أن يتشابه الأشقّاء.
عندما وصلت أمّ عزيز بيت أبي سمير دخلته بخيلاء وكبرياء، استقبلتها أمّ سمير بترحاب عانقتها وهي تقول:
زارتنا البركة.
أمّا سلوى فقد مدّت يدها تصافحها دون نيّة في تقبيلها، نظرت إليها أمّ عزيز وسألتها:
هل أنت سلوى؟
ابتسمت سلوى وقالت: نعم.
سحبتها أمّ عزيز إليها…احتضنتها وقبّلتها وهي تقول:
ما شاء الله! البنات يكبرن بسرعة، أذكر سلوى وهي طفلة صغيرة وها هي أصبحت عروسا.
كانت سلوى ترتدي منامة قطنيّة عاديّة، شعرها يتدلّى على طرفي وجهها الذي يخلو من المساحيق، شفتاها رقيقتان ورديّتان، صدرها ناهد، خصرها نحيل، متوسّطة القامة، أسنانها منتظمة بيضاء لامعة، تنتعل حذاء بيت اسفنجيّ بسيط.
تحدّثت أمّ سمير عن أيّام زمان، وكيف كان النّاس يتزاورون باستمرار بسبب ودون سبب، أبدت عدم ارتياحها من انشغال النّاس بحالهم، وتساءلت عن تغيّر العادات.
فقالت أمّ عزيز: اختلفت العادات ولم يعد عند النّاس وقت فـ “كلّ واحد زردته على قد رقبته.” لكن هذا ليس مبرّرا لقطع العلاقات الاجتماعيّة بين الأهل والأقارب.
طلبت أمّ سمير من ابنتها أن تعدّ عشاء لخالتها أمّ عزيز، إلا أنّ أمّ عزيز أقسمت أن لا تتناول شيئا في هذه الزّيارة غير الشّاي والقهوة. وبعد إصرار أمّ سمير وعناد أمّ عزيز قامت سلوى تعدّ الشّاي، إلا أنّ أمّ عزيز أمسكت بها وهي تقول:
سنتكلّم في موضوع هامّ بضع دقائق وبعدها سنشرب الشّاي.
أدركت أمّ سمير سبب زيارة أمّ عزيز، لكنّها تجاهلت الموضوع وقالت:
خيرا يا أمّ عزيز….تكلّمي ما تشائين.
تثاءبت أمّ عزيز، بسملت وحمدلت وقالت:
إن شاء الله الخير يدوم في بيتكم وعليكم، عزيز يريد أن يكمل نصف دينه، ووقع اختيارنا على ابنتكم سلوى، ونأمل موافقتها وموافقتكم على طلبنا.
احمرّ وجه سلوى حياء، زاد نبض قلبها، وضعت ساقا على ساق، اهتزّ ساقاها، لم تستطع مغادرة الجلسة لأنّ أمّ عزيز كانت تمسك يدها، بينما تظاهرت أمّ سمير بأنّها تفاجأت بالموضوع، استجمعت قواها وقالت:
لقد فاجأتِني بالموضوع يا أمّ عزيز، فهذا موضوع يبتّ فيه الرّجال.
ابتسمت أمّ عزيز وقالت:
كلامك صحيح، لكنّ العادة جرت أنّ النّساء يحبكن الموضوع، ويرتّبنه “وما بجيبها غير نسوانها”، إذا وافقت أنت وسلوى سيأتي دور أبي نعمان ودور عزيز في الطّلبة والإتّفاق على التّفاصيل. وعزيز شابّ -اسم الله عليه- سينهي تعليمه الجامعيّ هذه السّنة، وكلّ البنات يتمنّينه.
أمّ سمير: نتشرّف بمصاهرتكم لكن كما قلتُ لك، هذا أمر يخصّ الرّجال.
أمّ عزيز: هل أفهم من كلامك أنّك موافقة؟
أمّ سمير: نسأل الله التّوفيق.
التفتت أمّ عزيز إلى سلوى وسألت:
ما رأي عروستنا؟
التزمت سلوى الصّمت وقامت لإعداد الشّاي.
فقالت أمّ عزيز: “السّكوت علامة الرّضا”.
استراحت أمّ عزيز في جلستها، وضعت ساقا على ساق، وهي تسند ظهرها، فقد نجحت في مهمّتها، وبدأت تسرد مزايا وخصال ابنها عزيز، حتّى يُخيّل لمن يسمعها أنّه الرّجل الوحيد على الأرض.
عندما همّت أمّ عزيز بالمغادرة نادت أمّ سمير على ابنتها سلوى:
تعالي كي توصلي خالتك لبنى إلى بيتها.
تمنّعت أمّ عزيز وهي راغبة وقالت:
لا داعي لذلك فالبيت قريب وأنا أعرف الطّريق.
اقتربت منها سلوى ورزمة مفاتيح بيدها، تنتظر الإيعاز من أمّ عزيز، لكنّ أمّ عزيز استطابت الجلسة، ولم تقم إلا بعد حوالي نصف ساعة، وسلوى تنظر لوالدتها خلسة مستغربة.
نزلت معها سلوى ووالدتها، فتحت سلوى باب سيّارتها وقالت لأمّ عزيز:
تفضّلي يا خالة.
تفاجأت أمّ عزيز بأنّ لسلوى سيّارة تقودها بنفسها، سُرّت بذلك، وبقيت تحملق إعجابا بها حتّى وصلت بيتها، دعتها للنّزول معها، لكنّها رفضت.
عادت سلوى إلى بيتها، التقت مع والدها العائد من عمله في المرآب. نزل كلّ منهما من سيّارته، دخلا البيت معا، فاستقبلتهما أمّ سمير بابتسامة عريضة، وقالت له:
أمّ عزيز كانت في زيارتنا، وقبل دقائق أوصلتها سلوى إلى بيتها، ويبدو أنّ زيارة ابن عمّتك أبي نعمان قبل أيّام لم تكن عفويّة!
التفت إليها مستغربا وسأل:
ماذا تقصدين؟
أقصد أنّ الرّجل رأى سلوى فأعجبته، وكنّته لبنى زارتنا؛ لتطلب يدها لابنها عزيز.
– ماذا قلتِ لها؟
– قلتُ هذه أمور من اختصاص الرّجال. لكن ما رأيك أنت؟
– رأيي إذا طلبوا سلوى رسميّا سنرى رأي سلوى أوّلا.
أمّ سمير: زيارة لبنى طلبة مبدئيّة، ومن غير المعقول أنّها جاءت دون عِلم ابنها وحميها.
أبو سمير:” تنشوف الصّبي بنصلّي ع النّبي.” فلا تستعجلي الأمور، ولا تتحدّثي في الموضوع مع أيّ إنسان.”
– يا رجل عزيز شابّ خلوق، سينهي تعليمه الجامعيّ هذه السّنة، وسيترك جدّه له بيتا من أربع شقق، وعدّة قطع من الأراضي الثّمينة، وبالتّالي مستقبله مضمون، ووالده-رحمه الله- كان صديقك، وجدّه أبو نعمان من خيرة الرّجال.
نظر إليها نظرة عتاب وقال:
“عِزّ نفسك تلقاها”، اهدئي يا امرأة.
لكنّها لم تهدأ، رفعت صوتها تنادي ابنتها سلوى، وسألتها أمام أبيها:
هل تعرفين “عزيز”؟
أجابت سلوى دون اكتراث:
نعم أعرفه شكلا.
– ألا ترينه في الجامعة؟
– نعم أراه، فهو لا يختلط مع الطّلبة ويبدو كالمتوحّدين!
ضحك أبوها من كلامها، وقال:
عزيز شابّ مؤدّب، ويبدو أنّ وفاة أبيه وأشقائه في حادث طرق أمامه، قد تركت أثرها عليه، لكنّه ليس لعوبا كأبناء جيله.
تدخّلت أمّ سمير وقالت:
يكفي أنّه مؤدّب وخلوق، فهذا ما نريده. وإذا وقع النّصيب، فسيكون “كالخاتم في إصبعك”.
ضحك أبو سمير وقال:
“اتركوا الطّبخة على نار هادئة حتّى تستوي”.
سكتت أمّ سمير على مضض.
ميسون مرّة ثانية
عندما دخلت أمّ عزيز بيتها تفاجأت بوجود ميسون فؤاد الموسى أمامها، تصنّعت ابتسامة ورحّبت بها وهي تأخذها بالأحضان وتقول:
شرفتينا يا أمّ عدنان.
بل أنا من أتشرّف بكم.
رأت أمّ عزيز كأس شاي وفنجان قهوة فارغين أمام ميسون، فعرفت أنّ ابنتها عبير قد قامت بواجب الضّيافة.
ابتسمت ميسون وهي تقول لأمّ عزيز:
انتظرتك أكثر من ساعة، لكنّ عبير قالت لي أنّك كنت تراجعين المركز الصّحّيّ، فقلقت عليك، خيرا يا لبنى طمئنينا عنك.
ابتسمت أمّ عزيز لحذاقة ابنتها التي أخفت سبب غيابها عن ميسون وقالت كاذبة:
مسألة بسيطة شعرت بأوجاع في ركبتي اليمنى، فكتب لي الطّبيب صورة أشعّة، عملتها في مستشفى المقاصد، وقال لي الطبيب:
الحمد لله لا يوجد شيء، ربّما لطمت ركبتك بجسم صلب.
حمدت ميسون ربّها على سلامة أمّ عزيز وقالت:
جئتكم بموضوع أحبّ أن أطرحه أمام الحاجّ أبي نعمان، وأمام عزيز. فليتنا ننتقل للجلوس معهما في صالون البيت.
ضحكت أمّ عزيز ظنّا منها أنّ ميسون جاءت تطلب يد عبير لابنها وقالت:
على الرّحب والسّعة…هيّا بنا.
دخلت ميسون وأمّ عزيز الصّالون، بينما ذهبت عبير لغرفتها؛ لأنّها لم تعد قادرة على احتمال ميسون.
ما أن دخلت ميسون صالون البيت حتّى سألها أبو نعمان:
ما أخبار أبو عدنان يا ميسون؟
– الحمد لله بألف خير…ويهديك السّلام…وإن شاء الله سيزوركم قريبا عندما يتحقّق طلبنا منكم.
صمت أبو نعمان قليلا وقال:
لا أذكر أنّ لكم مطالب عندنا! وفي الأحوال كلّها حيّاكم الله.
ضحكت ميسون بملء فيها وقالت:
طلبنا غال مثلكم.
نظر إليها أبو نعمان نظرة مستغربا وسأل:
خير إن شاء الله؟
ابتسمت ميسون وقالت:
الخير في وجوهكم يا عمّ…منذ زيارتي السّابقة لكم، وأنا وأبو عدنان والأبناء في سيرتكم، وكلّما هممت بزيارتكم داهمني ما يشغلني، فنحن نريد القُرب منكم.
استند أبو نعمان في جلسته وقال:
حيّاكم الله.
ضحكت ميسون وهي تلتفت إلى عزيز ووالدته وقالت:
” قلب المؤمن دليله” والله أنا قلت أبو نعمان رجل طيّب ولن يخيّب ظنّنا.
حوقل أبو نعمان وسأل:
عنّ أيّ ظنون تتكلّمين يا امرأة؟ ما طلبك؟
فركت ميسون كفّيها وقالت وهي تغضّ بصرها:
سأعرض عليك يا عمّ أمرا أتمنى أن توافق عليه. وكما قال المثل “نيّال من أفاد واستفاد.” ثمّ سكتت.
لم يحتمل عزيز مماطلة ميسون، فقام ليغادر الجلسة، لكنّها طلبت منه أن يبقى في مكانه؛ فالأمر يخصّه. وأضافت:
في الواقع يا عمّ أنّ لكم مكانة خاصّة في قلوبنا، ونريد ” أن نزيد الملح ملاح”، فنحن نريد بنتكم عبير لابننا منير، وسنردّ لكم جزاءها ابنتنا عفاف لابنكم عزيز.
تفاجأوا بما سمعوه من ميسون، نظر كلّ منهم في وجه الأخر، وصمتوا. فعادت ميسون تقول:
“السّكوت من الشّيطان يا جماعة”.
اتّكأ أبو نعمان على كنبته وتساءل:
منذ متى صار الزّواج مقايضة يا أمّ عدنان؟
ردّت عليه ميسون حائرة:
لم أفهم ما قلته.
ضحكت أمّ عزيز وقالت:
يسألك إن كنت تعنين زواج البدل، يعني أن نبادلكم عبير لابنكم منير ببنتكم عفاف لعزيز.
ردّت ميسون: زواج البدل ليس عيبا ولا حراما.
قال أبو نعمان: أنا لم أقل أنّ زواج البدل حرام أو عيب، لكنني أقول أنّه “موضة” قديمة، ومشاكله كثيرة.
ميسون: المشاكل كانت بسبب الجهل والفقر وضيق العيش. والآن تغيّرت الأحوال وتعلّم الشّباب وصار كلّ من الزّوجين يعي ما له وما عليه.
قال أبو نعمان بلهجة حازمة:
أعرف حالات زواج بدل كثيرة، انتهت بطلاق الزّوجتين، مع أنّ إحداهما لم تكن خلافات بينها وبين زوجها، ولهذا فأنا لا أوافق عليه مطلقا حتّى لو لم توجد له بدائل، “فالعزوبيّه ولا الزيجه الرّديّه”.
لم تعرف ميسون ما تقول فاستأذنت بالإنصراف وهي تقول:” كلّ واحد بنام على الجانب اللي بريحه”.
بعد أن انصرفت ميسون قال أبو نعمان:
ما قلّة الحياء هذه؟ عجيب أن تجد أناسا في هذه الأيّام يفكّرون بهذه الطّريقة.
وهنا دخلت عبير ضاحكة، فقد استمعت لطلب ميسون دون أن يشعر بها أحد، فقال لها جدّها مازحا:
جاءتك تطلب يدك لإبنها منير بشروط، فما رأيك؟
ردّت عليه عبير وهي تبتسم:
سمعت طلبها و” شرّ البليّة ما يضحك”. طريقة طلبتها ذكّرتني بحكاية ” الجمل بدينارين والقطّ بمائتين”.
فسألها عزيز مازحا:
من القطّ ومن الجمل؟
فأجابته: أنت الجمل ومنير وشقيقته عفاف قِطّان بسعر جمل ذلك الأعرابيّ.
فسألتها جدّها: لو تنازلوا عن زواج البدل وجاؤوا يطلبون يدك لمنير، ما رأيك؟
ابتسمت وردّت بثقة:
لو أنّ منير يصلح للزّواج لما وافق مع أمّه على زواج البدل.
سألتها أمّها: ماذا تعنين بذلك؟
– أعني أنّ المكتوب يُقرأ من عنوانه”. ولهذا انسوا الموضوع وتحدّثوا بموضوع آخر.
عزيز وسلوى
قالت أمّ عزيز: اتركونا من سيرة ميسون وأبنائها. في الواقع وجدت سلوى بنت أبي سمير أفضل ممّا كنت أتوقّع، جمال وذوق وعقل، ووالدتها سيّدة فاضلة، والتفتت لعزيز وسألته:
هل تعرف سلوى؟
أجابها ببرود: أعرفها شكلا.
عادت والدته تسأله:
هل يعجبك جمالها؟ أقصد هل تقبل بها زوجة لك؟
قال وعيناه تحدّقان في سقف الغرفة:
الزّواج قسمة ونصيب.
وهنا تدخّلت عبير وقالت بحماس:
أنا أعرف سلوى شكلا ومضمونا، وإذا كنتَ محظوظا يا عزيز فستكون من نصيبك.
قال الجدّ أبو نعمان:
سلوى بنت أصل وفصل، والمثل يقول:” تزوّج بنت الأصل لو ان يدها بتسخّم الحيط.” و”اللي ما بِزَينوها خدودها بزينوها جدودها”.
ضحكت عبير من كلام جدّها وقالت:
سلوى مزيونة يا جدّي ويدها تُبيّض الحائط.
وهنا قالت أمّ عزيز: تفحّصت الفتاة ولم أجد ما يعيبها، فشعرها أسود فاحم ناعم، يتطاير على وجنتيها كموج البحر، خدودها كتفّاح الجولان، عيناها واسعتان كعيون المها، شفتاها كقصب السّكر، أسنانها كعقد اللؤّلؤ، عنقها كعنق الغزال، صدرها ناهد. طليقة اللسان قليلة الكلام، وجهها يشعّ نورا، ووجّهت كلامها لعزيز: وأسأل الله أن تكون من نصيبك.
تنحنح الجدّ أبو نعمان وقال لعزيز:
حان موسم الرّحيل يا ولدي، وأريد أن أفرح بك، فجهّز نفسك غدا مساء لأذهب وإيّاك؛ لنطلب يد سلوى لك.
ودون مقدّمات ردّ عزيز على جدّة:
كما تريد يا جدّي.
ضحكت عبير وقالت مازحة:
وأخيرا غرّد البلبل.
أمضت أمّ عزيز سهرتها وهي تتحدّث عن جمال سلوى وفطنتها هي وأمّها، وعبير بين الفينة والأخرى تطلق رشقة من المزاح تدفعهم فيها إلى الضّحك. قبل انصرافهم إلى النّوم، أمسكت عبير يد شقيقها عزيز وقالت:
عليك يا أخي الحبيب أن تخرج من القوقعة التي تحاصر نفسك فيها، فمن غير اللائق أن تبقى متكوّما منغلقا مثل “قفّة الهمّ”، وإلّا لن تقبل بك سلوى أو غيرها.
غضبت منها والدتها وقالت لها تلومها:
الله لا يقبلك….انصرفي لغرفتك ونامي!
ناكفتها عبير قائلة:
اذهبي أنت وابنك للنّوم أمّا أنا فأريد أن أسهر مع جدّي.
ابتسم الجدّ ولاذ بالصّمت.
*******
في اليوم التّالي قال الجدّ أبو نعمان لكنّته أمّ عزيز:
جهّزي نفسك أنت وابنك بعد صلاة العصر؛ لنذهب لطلبة سلوى، وكما قال المثل:” دُقّوا الحديد وهو حامي”، ولا داعي لإخبار أحد بالموضوع، “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”. وعندما تحصل الخطبة سيعلم الجميع.
وهنا سألت عبير من باب المناكفة:
وهل أجهّز أنا نفسي لمرافقتكم؟
ردّ عليها جدّها بلهجة صارمة:
نعم جهّزي نفسك.
وجدت عبير نفسها في ورطة لم تقصدها فقالت:
كنت أمزح يا جدّي، فحضوري أوعدمه لا يقدّم ولا يؤخّر.
فقال لها جدّها: أسرتنا كلّها “قردان وحارس”، وذهابنا مجتمعين أفضل لنا.
عادت عبير تمزح فقالت:
أخشى أن يفكّروا عندما يروني معكم أنّنا ذاهبون مثلما جاءت إلينا ميسون وابنتها.
قالت لها والدتها:
لا تكثري من الكلام واستعدّي سريعا.
غيّرت عبير ملابسها بسرعة وعادت تجلس مع جدّها، فطلب منها أن تتّصل ببيت أبي سمير، وتخبرهم أنّنا سنزورهم بعد صلاة العصر مباشرة.
من الجانب الآخر رفعت سلوى سمّاعة الهاتف وقالت:
هالو.
ميّزت عبير صوتها فقالت ضاحكة:
كيفك سوسو؟
ردّت عليها سلوى: أهلا حبيبتي عبير.
– هل عمّي أبو سمير موجود؟
– نعم موجود.
– أخبريه أنّ جدّي وأخي “عزيز” سيأتيان إليكم إن كان وقتكم يسمح بذلك.
ردّت سلوى: أهلا بهما وتعالي أنت والخالة أمّ عزيز معهما.
عبير: سأرافقهما بناء على دعوتك لي، لكن أخبري والدك إن كان لديه وقت.
طلبت سلوى من عبير أن تأذن لها قليلا لإخبار والدها، وعادت بعد أقلّ من دقيقة وقالت:
أبي يقول لكم: أهلا بكم في كلّ وقت والبيت بيتكم.
أغلقت عبير سمّاعة الهاتف وقالت:
الجماعة يرحّبون بنا، وإذا تأخّرتم قليلا ستأتي سلوى لطلبة يد عزيز!
عندما وصلوا بيت أبي سمير استقبلتهم الأسرة كاملة باستثناء سلوى عند باب البيت، حيث وقفت خلف ستارة النّافذة تراقب، بعد أن أوصتها أمّها أن لا تقف مع المستقبلين، وبعد الطلبة ستدخل إلى الصّالون وستصافح الجميع، لكنّ عبير قلبت الأمور رأسا على عقب، فلم تدخل صالون البيت مع الآخرين، ودخلت بااتّجاه غرف النّوم والمطبخ وهي ترفع صوتها تنادي سلوى، وعندما أطلّت سلوى من باب غرفة نومها ضاحكة، تعانقت هي وعبير التي ردّدت بصوت غنائيّ أغنية فيروز:
” عروستنا الحلوة
عروستنا الحلوه يا نيسانه حلوه
يا مشوار من دار لدار
يـــــــــــا حلوه”.
فردّت عليها سلوى:
أنت ستّ العرايس والعقبى لك.
أمسكت عبير يد سلوى وسارت بها إلى الصّالون، انقادت لها سلوى بعفويّة تامّة، بحيث نسيت وصيّة أمّها لها، عند بوّابة الصّالون قالت عبير بخفّة دمها المعهودة، وهي تشير إلى سلوى وإلى عزيز:
“هذا الجمل وهذا الجمّال”. وأجلستها بجانب عزيز. غير أنّ أمّ سمير قالت لابنتها، سلّمي على عمّك أبي نعمان، وعلى خالتك أمّ عزيز، وعلى عزيز وأحضري القهوة.
عندما أحضرت سلوى القهوة أمسك شقيقها سمير الصّينيّة منها عند الباب، وبدأ توزيعها من أبي نعمان، الذي وضع فنجانه على طاولة صغيرة أمامه، بينما ارتشف عزيز رشفة من فنجانه فور استلامه له، فبسمل أبو نعمان وقال:
يقول تعالى:” وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.”صدق الله العظيم.
ويقول صلّى الله عليه وسلّم:” تناكحوا تناسلوا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة“. ثمّ التفت إلى أبي سمير وقال: جئنا نطلب يد ابنتكم سلوى لابننا عزيز على سنّة الله وسنّة رسوله، ونأمل أن تستجيبوا لطلبنا.
ردّ أبو سمير عليه فورا:
نتشرّف بكم وبقربكم، وكما قال المثل:” كُون نسيب ولا تكون قرابة”. لكنّنا بمصاهرتكم أمسكنا المجد من طرفيه، ونوافق على زواج ابنكم عزيز من ابنتنا سلوى على سنّة الله وسنّة رسوله، فالعريس ابنكم يا خال، والعروس ابنتكم، ونبارك لكم بها، ولنقرأ الفاتحة على هذه النّيّة.
قال أبو نعمان والبسمة تعلو وجهه:
شكرا لكم، لقد غمرتمونا بلطفكم وكرمكم، رشف أبو نعمان قهوته وقال:
نحن جاهزون لطلباتكم، من مهر وكسوة وغيرها.
ردّ عليه أبو سمير:
لا طلبات لنا غير السّتر. وكما قلت لك يا خال البنت بنتكم والولد ابنكم.
انطلقت الزّغاريد من أمّ عزيز ومن أمّ سمير، فطلب أبو سمير من زوجته أن تذهب مع النّساء إلى الصّالة؛ كي يكمل حديثه مع أبي نعمان.
قال أبو نعمان: دعونا نتّفق على الخطبة وعلى الزّواج.
أبو سمير: ظروف بلدنا صعبة، ولا داعي للمظاهر التي لا داعي لها، أقترح أن تكون الخطبة في بيتنا بحضور العائلة فقط في اليوم الذي ترونه مناسبا لكم، أمّا بالنّسبة للزّواج، فحدّدوا اليوم الذي يناسبكم، وحسب ما يريحكم، فنحن لا شروط لنا.
شكره أبو نعمان وقال:
هذا الأسبوع سيشتري عزيز مصاغا لسلوى لا يقلّ عن مصاغ أيّ فتاة في البلدة، وأقترح أن تكون الخطبة مع عقد القران يوم الجمعة القادم في بيتكم، ومقتصرة على الأهل كما اقترحت يا أبا سمير. وسيكون الزّفاف في يوم الجمعة الذي يليه.
اعترضت أمّ عزيز وقالت:
أريد أن نفرح بعزيز، فقد غاب الفرح عن بيتنا كثيرا منذ الحادث الذي أودى بحياة الغاليين، قالتها وهي تمسح دموعها.
ردّ عليها أبو نعمان، بعد الخطبة غنّي كما تشائين في بيتك حتّى الّزفاف.
وهنا قالت أمّ سمير: ويوم الخطبة سنغنّي في بيتنا أيضا يا أمّ عزيز.
اتّفقوا على موعد الزّفاف في الثّامن من آذار-مارس-2003، فقالت عبير بعفويّة:
هذا اليوم يحتفل فيه العالم بيوم المرأة العالميّ، وهو يوم مناسب لتحتفل فيه سلوى بزفافها، ولتفرح والدتي بزفاف ابنها وأمّ سمير بزفاف ابنتها، ولأفرح أنا بزفاف شقيقي. استلطفوا ما قالته عبير فضحكوا، لكنّ “عزيز” قال:
كلّ أيّام السّنة للمرأة، سواء كانت أمّا أو زوجة أو شقيقة أو غير ذلك.
عندما استأذن أبو نعمان للإنصراف هو ومن معه، قال أبو سمير:
عشاؤكم جاهز.
استغربت عبير ما قاله أبو سمير فهمست لسلوى:
كيف يكون عشاؤنا جاهزا وكلّنا جالسون هنا، ولم يتحرّك أحد من مكانه؟
ردّت سلوى ضاحكة:
قبل أن تصلوا إلينا هاتف أبي مطعما؛ ليرسل لنا وجبة العشاء في الثّامنة مساء.
لكنّ أبا نعمان ردّ على أبي سمير:
لقد تفضّلتم علينا بما هو أغلى من كلّ الطّعام، بموافقتكم على زواج ابنتكم سلوى من ابننا عزيز.
أبو سمير: “سلامة تسلّمكم لا شيء من قدركم” يا خال، وأنتم عزيزون على قلوبنا بنسب ودون نسب.
التفت أبو نعمان لأبي سمير وقال:
بعد إذنكم، لو تسمحون للعروسين أن يجلسا منفردين؛ ليتّفقا على اليوم الذي سيذهبان لشراء مصاغ العروس وكسوتها.
وهنا قادتهما أمّ سمير؛ ليجلسا منفردين في صالة البيت.
جلسا صامتين للحظة “وكأنّ على رأسهما طير”، وكلّ منهما يطأطئ رأسه حياء، لكنّ عزيزا سرعان ما تجرّأ وقال:
ما أن رأيتك في الجامعة بداية العام الدّراسيّ حتّى انتبهت لك، لكنّني تجنّبت الحديث معك احتراما للتّقاليد.
ردّت عليه متسائلة:
وهل أعجبتك؟
– طبعا فأنت تتوفّر فيك كلّ المواصفات التي أحلم أن تتوفّر في شريكة حياتي.
شعرت سلوى بغرور الأنثى وقالت:
أتمنّى أن أكون عند حسن ظنّك. لكن قل لي:
هل أنت من اخترتني لأكون زوجتك، أم الجدّ أبو نعمان، أم والدتك، أم عبير؟
تلعثم قليلا وقال:
تباحثنا كلّنا وأجمعنا عليك.
ردّت عليه بخبث:
ونحن أجمعنا عليك أن تكون زوجا لي.
ابتسم عزيز وقال:
ما لنا وللآخرين؟ المهم أنّني أحبّك، ومنذ وقعت عيني عليك وطيفك يظلّلني في النّهار، ويحوم حولي في الليل، فصرت نجمتي التي أهتدي بها والهواء الذي أتنفّسه، حتّى امتلكتِ قلبي وعقلي.
شعرت سلوى بسعادة غامرة أسعدت قلبها، فخفق قلبها له، ولولا الخوف من أن يطلّ أحدهم عليهما فجأة لاحتضنته وارتوت من شفتيه. فكّرت قليلا وسألته:
هل ستسمح لي بتكميل تعليمي الجامعيّ بعد زواجنا؟
ردّ عليها بثقة:
تعليمك أمر مفروغ منه، ولا داعي للتّساؤل حوله.
فرحت سلوى بجوابه لكنّها عادت تسأل:
وإذا حملتُ؟
– الحمل لا يعيق الدّراسة، وهناك عدد من زميلاتنا متزوّجات وحاملات وبعضهنّ أمّهات.
– وإذا أنجبت؟
– أمّي ستعتني بالمولود أثناء دوامك في الجامعة.
صمتت قليلا وقالت:
عندي اقتراح.
– ما هو؟
– ما رأيك أن نؤجّل الحمل والإنجاب حتّى أنهي دراستي؟
– هذا غير ممكن، فكما تعرفين فإنّ جدّي في سنّ الشّيخوخة، وقد عانى كثيرا بفقدان والدي وشقيقيّ- رحمهم الله- وشقي كثيرا في تربيتي أنا وشقيقتي عبير، وأمنيته أن يرى أبناءنا قبل وفاته، فهل تقبلين ألّا نلبّي له أمنيته؟
شعرت سلوى بلحظة حزن وقالت:
“الأعمار بيد الله”، ونسأل الله أن يطيل عمر العمّ أبي نعمان حتّى تتحقّق أمنيته.
شكرها عزيز وسألها:
ما رأيك أن نشتري المصاغ والكسوة يوم الأحد القادم؟
ردّت عليه باسمة:
كما تراه مناسبا.
– هل سنذهب وحدنا أم سترافقنا أمّي وأمّكِ؟
– لا داعي أن يرافقنا أحد، لكن إن أرادتا ذلك فأهلا بهما.
ضحك عزيز وقال:
أنا سأقنع أمّي بعدم مرافقتنا.
ضحكت سلوى وقالت:
وأنا سأحاول إقناع أمّي، فإن اقتنعت كان به، وإن لم تقتنع فلا حول ولا قوّة إلا بالله.
وهنا أطلّت أمّ سمير وقالت:
العشاء جاهز.
تغلي عبير في الصّالون كما المرجل، فقد خشيت ألّا يستطيع شقيقها عزيز محاورة عروسه سلوى، همّت أكثر من مرّة أن تشاركهما الحديث، لكنّها ضبطت نفسها.
على طاولة الطّعام سألت عبير:
علامَ اتّفق العروسان؟
التفت عزيز إلى سلوى وقال:
تكلّمي يا سلوى.
ردّت عليه سلوى بابتسامة مصطنعة وقالت:
“الرّجال قوّامون على النّساء”.
قال عزيز: اتّفقنا أن نشتري المصاغ والكسوة يوم الأحد.
وهنا قال أبو سمير: تفضّلوا وتناولوا طعامكم “فإذا وقع الهرس بطل الدّرس”.
بعد أن تناولوا طعام العشاء استأذن أبو نعمان بالانصراف، فهو يعاني من الشّيخوخة التي سلبت قوّته، طوتها مع ما يقارب تسعة عقود عارك فيها الحياة، رسمت أخاديدها على جبينه، وعندما استعدّت أمّ عزيز لمرافقة حميها قالت أمّ سمير:
إذا نويتم على المغادرة فليبق عزيز مع خطيبته.
لكنّ عزيزا وقف في انتظار أن يسير جدّه أمامه، فاستدركت والدته الأمر وقالت:
ليبق عزيز إذا أراد ذلك، وغمزت لابنتها عبير كي تبقى معه.
وهنا قالت عبير بدعابة:
سأبقى إذا سمحت لي سلوى.
ردّت عليها سلوى: أهلا بك دائما وأبدا، لكن اسمحوا لي الآن كي أوصل عّمتي أمّ عزيز وعمّي أبا نعمان إلى بيتهم.
نظر أبو سمير لابنه وقال له:
أوصل الخال أبا نعمان وأمّ عزيز إلى بيتهما، واجلسي يا سلوى مع خطيبك.
طار النّعاس من عينيّ أمّ عزيز من شدّة فرحها، أخذت تعدّ عدتّها لتزيين البيت، ولدعوة من تعتقد من القريبات والجارات لمشاركتها الفرح والرّقص والغناء، لمدّة أسبوع كامل، تبدأ من مساء الجمعة القادم الذي ستتمّ فيه الخطوبة.
أمّا سلوى فقد دعت “عبير” للجلوس معها في الصّالة عندما قالت:
تعالي يا عبير لتشاركينا الجلسة أنا وعزيز.
ابتسمت عبير وقالت:
الجلسة لكما وحدكما، وأنا سأبقى مع خالتي أمّ سمير وخالي أبي سمير.
عندما انفرد عزيز وسلوى في جلستهما قالت سلوى:
من الآن فصاعدا سنذهب وسنعود أنا وأنت معا إلى الجامعة.
لم يجد ما يردّ به عزيز عليها، لكنّه بعد لحظة صمت قال:
إن شاء الله.
وفي هذه اللحظة لمعت في ذهنه تساؤلات حول حياة اليتم وما يعانيه اليتيم في مجتمعنا، وتمنّى لو أنّ والده بقي على قيد الحياة حتّى تكون له سيّارة خاصّة أفضل من سيّارة سلوى. ابتسم عندما عاد بذاكرته إلى ما كان والده يوفّر للأسرة من رغد العيش، فقد بنى البيت الذي يسكنوه الآن، وكان في حينه أفضل بيوت البلدة. انتبهت سلوى لشروده فسألته:
بِمَ تفكّر يا عزيز؟
أجابها وعلامات الحزن بادية على وجهه:
أفكّر بأبي وبشقيقيّ اللذين قضيا نحبهما معه، فلو بقوا على قيد الحياة؛ لكانت فرحتنا أكبر في مثل هذه المناسبة.
تعاطفت معه سلوى وقالت وهي تمسح بيدها اليمنى على خدّه:
رحمهم الله، كلّنا نهايتنا الموت، ولا داعي أن تبقى حزينا كلّ هذه السّنوات، فالزّمن يمحو الأحزان، وهذا جدّك لم يقصّر معكم، فقد قام بدور الأب والجدّ.
عندما لمست وجهه صار صدرها يعلو ويهبط من شدّة خفقان قلبها، حتّى أنّها سحبت شهيقا طويلا، وهي تتمنّى لو أنّه يبادر فيقبّلها.
أمضوا ساعتين وهما يتكلّمان عن الدّراسة في الجامعة، وعن الطلاب الذين تزوّجوا زميلات لهم. لكنّ عزيزا قطع حديثها قائلا:
نحن سنتزوّج لأنّنا أقارب من بلدة واحدة، وليس لأنّنا زميلان في جامعة واحدة.
فقالت له: “زيادة الخير خير”.
شعرت سلوى أنّ قلب عزيز خالٍ من النّساء، وبالتّالي فإنّها ستفوز بمكنونات هذا القلب، وما يحتويه من جواهر الحبّ الدّفين.
صباح يوم الأحد اتّصلت سلوى بعزيز وطلبت منه أن يجهّز نفسه للذّهاب لشراء المصاغ والكسوة، وقالت له عند السّاعة التّاسعة سأكون عند باب بيتكم في سيّارتي أنا ووالدتي.
ردّ عليها عزيز وقال: حاضر.
بعدها قال عزيز لوالدته:
ما رأيك أن ترافقينا هذا اليوم، فأمّ سمير ستأتي مع ابنتها.
أمّ عزيز: فلتذهب أمّ سمير مع ابنتها، ولن يؤثّر هذا عليك أو على سلوى.
عزيز: أنا لا أحبّ أحاديث النّساء.
سمعت عبير ما قاله شقيقها عزيز فمازحته:
كيف ستتزوّج ما دمت لا تحبّ الحديث مع النّساء.
في هذه اللحظة توقّفت سيارة سلوى أمام البيت، ومن نافذة السّيارة قالت أمّ سمير:
أينك يا عزيز؟
نزل عزيز إليهما وهو يضع يديه في جيبي بنطاله، طرح تحيّة الصّباح على سلوى وعلى أمّها، جلس في المقعد الخلفيّ وسأل:
إلى أين تقترحين أن نذهب يا خالة أمّ سمير؟ هل نذهب إلى رام الله أم إلى بيت لحم؟
ردّت أمّ سمير وهي تسند ظهرها:
إلى القدس، فالذّهب سعره ثابت في المدن كافّة.
ردّ عزيز: على بركة الله… كما تشائين.
*******
بعد عصر يوم الجمعة توجّهت أسرة أبي نعمان إلى بيت أبي سمير في راس العمود؛ لإتمام الخطبة بحضور العائلتين فقط كما اتّفقا سابقا، غير أنّ أمّ عزيز خرقت الإتّفاق عندما دعت أسرة جارهما أبي حسّان التي رافقتهم. عندما وصلوا مدخل بيت أبي سمير هاهت أمّ عزيز:
هاي افتحوا باب الدّار
هاي خلّوا المهنّي يهنّي
هاي وانا طلبت من الله
هاي ما خيّب الله ظنّي
وانطلقت زغرودتان من أمّ سمير ومن أمّ حسّان.
وعادت أمّ عزيز تهاهي:
هاي باب المدينه عالي
هاي واشرعه في ايديّه
هاي خلّي قلبي يفرح
هاي قد ما بكت عينيّ
وتبعتها الزّغاريد
عندما وصلت باب البيت انتحت جانبا ووجهها إلى الفضاء الخارجي وهاهت:
هاي يا ناس صلّوا على محمد
هاي وع فاطمة بنته
هاي والحمد لك يا ربّي
هاي وللي طلبته لعزيز نِلْتُهْ
وهنا هاهت أمّ سمير وقالت:
هاي يا مرحبا يا اعزازي
هاي ومية حمرا تزازي
هاي وللي ما فرحت لعزيز
هاي تنكسر كَسْر القزازي
سبقهم المأذون إلى بيت أبي سمير، أتمّوا عقد الزّواج، وشهد عليه أبو حسّان وسمير شقيق العروس، باركوا لعزيز، أذنوا له بتلبيس العروس خاتم الخطوبة، رافقه سمير حتّى أوصله إلى جانب عروسه، حضرت بعض الجارات دون دعوة، وشاركن في الرّقص والغناء، إحداهنّ همست لجارتها “بخت العِفْنات بالحَفْنات”. حملت عبير مصاغ العروس على صينيّة فضّيّة، رقصت قليلا وهي تضعها على رأسها، تقدّمت من شقيقها عزيز وهي تحمل الصّينيّة بين يديها، قدّمت “دبلة العروس” لعزيز؛ كي يضعها في البنصر الأيمن للعروس، وبعدها قدّمت دبلة العريس لسلوى؛ لتفعل الشّيء نفسه معه.
استمرّ الرّقص والغناء إلى ما قبل الغروب بحوالي نصف ساعة، عندما استأذن أبو نعمان بالإنصراف، هو ومن معه، فاستغلّت أمّ عزيز الفرصة ودعت النّساء إلى الذّهاب معها إلى بيتها لمواصلة السّهرة بالغناء والرّقص الشّعبيّ.
بعد صلاة المغرب مباشرة، بدأ الرّقص والغناء في بيت أمّ عزيز التي تجمّعت حولها أكثر من عشرين امرأة يشاركنها فرحتها بخطبة وحيدها عزيز، وإذا بقنابل الغاز الخانق والمسيل للدّموع تنهال على البيت، صليات رصاص سريع تنطلق، صراخ يملأ الحارة. بدأ السّعال والصّراخ في البيت، في حين خرج أهالي الحيّ يستطلعون الأمر، وإذا عشرات المستوطنين ممّن يستوطنون بيوتا في وادي حلوة مدجّجون بالسّلاح، ويحرسهم العشرات من رجالات حرس الحدود الإسرائيليّ، يقفون في حالة استنفار. المستوطنون يقذفون الحجارة على البيوت ويعربدون. اشتبكوا مع الأهالي الذين ارتفعت أصواتهم بالتّكبير، رجال حرس الحدود جزء منهم ينزلون الأعلام الفلسطينيّة التي ارتفعت على بيت أبي نعمان احتفالا بخطبة حفيده، والجزء الثّاني يطلق الرّصاص المطّاطيّ باتّجاه الشّباب، الغاز الخانق على بيوت الحيّ، توزّع شباب الحيّ في الزّقاق وشرعوا يرجمون المهاجمين بالحجارة، وبين كرّ وفرّ ووسط صراخ النّسوة تقدّم أحد شيوخ الحارة من ضابط حرس الحدود وصرخ في وجهه:
هل جننتم؟ لِمَ تهاجمون النّساء اللواتي يغنّين في حفل خطبة؟
ردّ عيه أحدهم بلسان لا عجمة فيه:
أوقفوا الغناء والأصوات العالية، فأنتم تستفزّون “السّكّان” اليهود في الجهة المقابلة، وتخترقون حرمة ليلة السّبت وتزعجونهم في صلواتهم.
ردّ عليه الشّيخ وهو يهزّ عصاه التي يتوكّأ عليها في وجهه:
نحن نغنّي في بيوتنا، والمستوطنون يزعجوننا بشكل دائم بأصواتهم وهم “يخيخمون”، وأنتم تحرسونهم وتشجّعونهم، فانصرفوا وإيّاهم من هنا.
في هذه الأثناء وصلت سيّارات الإسعاف التّابعة للهلال الأحمر الفلسطينيّ، إحداها حملت الحاجّ أبا نعمان جدّ العريس إلى مستشفى المقاصد، وأخرى حملت امرأة حاملا، وثالثة حملت رضيعين بعد أن أصيبوا جميعهم بضيق في التّنفّس وبحالات تقيّؤ. وبينما كان المسعفون يحملون المرأة الحامل إلى سيّارة الإسعاف أصيب أحدهم بثلاث رصاصات مطّاطيّة، إحداها تحت عينه اليمنى، واثنتان في صدره. ولولا فطنة أحد زملائه الذي التقط بسرعة الحمّالة عندما سقط زميله المصاب على الأرض، لسقطت المرأة الحامل على الأرض.
استمرّت الإشتباكات إلى منتصف الليل، بعد أن وصلت تعزيزات للشّرطة، تمّ اقتحام عدد من البيوت وتحطيم محتوياتها واعتقال أبنائها الشّباب بعد ضربهم ضربا وحشيّا.
لم تعد أمّ عزيز قادرة على الوقوف، ندبت حظّها العاثر وهي تقول:
“أجت الحزينة تفرح ما لقت لها مطرح.”
وعندما اقتحم الجنود بيتها، انهالوا على ابنها العريس ضربا، واقتادوه معهم، تصدّت لهم شقيقته عبير وصرخت فيهم باللغة العبريّة:
هذا العريس، لِمَ تعتقلونه؟ ماذا فعل بكم يا أوغاد؟ لن تخرجوا به من هنا إلا على جثّتي، وهنا زحفت أمّ عزيز حتى وقفت بين عبير وبين أحدهم، وصرخت بأحدهم باكية: ابني الوحيد، هذا الليلة خطبته، ألا تخافون ربّكم؟
في هذه الأثناء كانت عبير تتعارك مع أحدهم، وعندما لطمها على وجهها، بصقت على وجهه وردّت له الصّفعة بمثلها، وهي تمسك بحنجرته وتضغط عليها. وهنا تكلّم أحد الجنود مع زملائه بالعبريّة وقال:
ليس في صالحنا أن نعتقل عريسا، هناك صحفيّون في الخارج. اتركوهم…هيّا بنا، فاستجابوا له وانصرفوا من البيت وشتائم عبير تطاردهم.
بكت أمّ عزيز حظّها العاثر، وبدل الغناء والفرح، صارت تبكي وتنوح قائلة:
بختي ردي وفقّوستي مُرَّه
وللي جرى لي ما جرى لحرّه
انفضّت السّهرة على غير المتوقّع. لكنّ النّساء تجمّعن في السّاحة المقابلة لبيت أبي نعمان، وأخذن يطبّلن ويغنّين حتى آذان الفجر. بينما كان الجنود يراقبون عن بعد الحارة التي انسحبوا منها تحت وابل الحجارة التي لا تخطئ أهدافها.
في اليوم التّالي تحرّر الجدّ أبو نعمان من المستشفى، عاد إلى البيت منهكا، تمدّد على فراشه وغفا، جلست عبير بجانب سريره تمازحه كعادتها وتسأله بين الفينة والأخرى:
هل تريد شيئا كي أحضره لك يا جدّي.
ردّ عليها بصوت خافت:
سلامتك يا بنيّتي.
تنهض عبير وتأتيه بكأس من عصير الليمون أو البرتقال تارة، وتارة أخرى تقدّم له كأس شاي أو فنجان قهوة. بعد أن قدّمت له وجبة الغداء، كانت تسنده بأن تضع له عددا من الوسادات تحت رأسه وتحت كتفيه، تضحك معه وتشجّعه على تناول الطّعام والشّراب. وبعد أن غفا قليلا قالت له:
ما رأيك أن تستحمّ يا جدّي، وأن تستبدل ملابسك، فرائحة الغاز الخانق والمسيل للدّموع لا تزال عالقة بملابسك؟ لم تنتظر جوابا منه، فنادت على شقيقها عزيز وطلبت منه أن يساعد الجدّ في الاستحمام. وهنا نهض الجدّ من فراشه وقال:
لا أريد مساعدة أحد منكم يا أبنائي. فأنا قادر على خدمة نفسي. ثمّ التفت إلى عبير وطلب منها أن تأتيه بملابس نظيفة؛ ليستبدل بها ملابسه بعد الاستحمام. فردّت عليه عبير وهي تضحك:
ستجدها معلّقة على المشجب في الحمّام.
بعد الاستحمام دبّ النّشاط في جسد الجدّ أبي نعمان، جلس في صدر صالون البيت، لفّ سيجارة “هيشي”، ودلّة القهوة السّادة أمامه. حمدت أمّ عزيز الله على سلامته، وقد دعت له في صلواتها ووساوس شيطانيّة تهاجمها خوفا على حياة حميها، فلو عاجله الموت لوقعت الأسرة في كارثة أقلّها تأجيل زفاف ابنها عزيز. اقتربت منه وقالت حزينة:
سنوقف الغناء والسّهر خوفا من المستوطنين وشرطة الاحتلال الذين يهاجموننا كالكلاب المسعورة، ويلحقون الأذى بنا وبأحياء البلدة كافّة.
استند الجدّ أبو نعمان في جلسته وقال بلهجة حازمة:
اسمعي يا لبنى، لم تكن لي رغبة بهذه السّهرات، فما عاد في القلب متّسع للغناء وللطّرب، لكن بعدما جرى في الليلة الماضية من هؤلاء الوحوش، أريدكم أن تستأجروا سمّاعات -رغم أنّني لم أرغب بها يوما، ورغم إزعاجها للمواطنين-، وأن تنصبوا خيمة في السّاحة المقابلة، ودعوا الشّباب والصّبايا يغنّون ويرقصون حتّى منتصف الليل نكاية بالمستوطنين وكما قال المثل:”شريك الخرا اخسر وخَسْرُه”.
ردّت عليه أمّ عزيز ونبضات قلبها تتسارع خوفا:
أخشى أن يعودوا لمهاجمتنا، و”مش كل مرّه بتسلم الجرّه.”
قال الجدّ: “الدّار دار أبونا وأجوا الغُربيّة يطردونا”! دعوا من يستطيع الغناء يغنّي كما يشاء.
وهنا تدخّلت عبير وقالت:
كلام جدّي هو الصّحيح، وحبّذا لو أنّ الجميع يفكّرون مثله، و”اللي بطيح من السّما بتتلقّاه الأرض”.
وهذا ما حصل، فعند ساعات ساعات المساء تجمّع المئات من أبناء البلدة والبلدات المجاورة، وأقاموا حفلا صاخبا، وتكرّرت السّهرات حتّى يوم الزّفاف في يوم الجمعة.
*******
جرى حفل الزّفاف في قاعة “الفندق الوطنيّ” في شارع الزّهراء خارج أسوار المدينة المقدّسة. في الفندق تناول المدعوّون غداءهم، قدّموا “النّقوط” في مغلّفات وضعوها في الصّندوق المخصّص لذلك، وانصرفوا، لم يغنّ أحد، فالفندقّ يعجّ بالصّحفيّين الأجانب، عاد العروسان إلى شقّتهما التي خصّصها الجدّ لهما، فالوضع الأمنيّ لا يسمح لهما بأن يذهبا لقضاء شهر العسل في حيفا وطبريّا كما خطّطا سابقا.
عاد الجدّ أبو نعمان وكنّته لبنى وحفيدته عبير إلى شقّتهما المجاورة لشقّة العروسين.
في ساعة الصّباح وعند السّاعة الثّامنة جاءت أمّ سمير تحمل على رأسها “مصبحانيّة” العروسين، فتحت لها أمّ عزيز باب البيت، ورحّبت بها، طرقت أمّ عزيز باب شقّة العروسين، فوصلها صوت عزيز يسأل:
من الطّارق؟
وسمعت سلوى تردّ عليه وهي تركض باتّجاه الباب:
هذه أمّي.
تناولت سلوى الصّينيّة من أمّها، وضعتها جانبا، وعادت إلى حضن أمّها تصافحها، فباركت لها الأمّ وهمست بأذنها:
طمئنيني…كيف الوضع؟
ردّت سلوى ضاحكة: “مثل النّاس ولا باس”!
حمدت الأمّ ربّها، واتّجهت إلى عزيز تصافحه، قبّلته كما تقبّل ابنها وهي تبارك له.
والشّيء نفسه عملته أمّ عزيز مع العروسين، بعد أن أوصت ابنتها عبير بأن تجهزّ الشّاي والقهوة، عندما دخلت عبير بصينيّة الشّاي، قالت أمّ سمير وهي تقف:
ما رأيكم أن نذهب جميعنا للصّالون ونحتسي الشّاي بمعيّة الحاجّ أبي نعمان، مشت ومشوا خلفها وهي توصي ابنتها:
سلّمي على عمّك الحاجّ وبوسي يده.
عندما صافحت أمّ سمير أبا نعمان قالت له:
مبروكة عروستكم يا عمّ.
فردّ عليها: مبروك لنا ولكم، فالفرح بالبنت لا يقلّ عن الفرح بالولد. ثم التفت إلى العروسين وقال لهما:
أريد منكما أن تشدّا الهمّة؛ كي نرى ابنكما بعد تسعة أشهر.
ضحكوا جميعهم على كلام الجدّ أبي نعمان وقالت أمّ سلوى:
نسأل الله أن ييسّر الأمور.
بينما رفعت أمّ عزيز يديها تتضرّع إلى الله وقالت:
يا ربّ.
عبير ومهيب
بعد أسبوع من زفاف سلوى وعزيز زارا أهل سلوى كما هي العادة، فالعروسان يزوران بيت أهل العروس بعد زفافهما بأسبوع. في الزّيارة اختلت أمّ سمير بابنتها سلوى وقالت لها:
اسمعيني جيّدا، أريدك أن تكوني زوجة حاذقة، فالمرأة الذّكيّة تربّي زوجها كما تربّي طفلها، والمثل يقول:” ابنك على ما ربّيتيه وزوجك على ما عوّدتيه”، فاعرفي كيف تتعاملين مع عزيز، أريدك أن تستولي على قلبه، وأن تجعليه يتعلّق بك كما يتعلّق الرّضيع بصدر أمّه. استغلّي أنوثتك معه؛ كي لا يعصي لك أمرا. لا تأمني له طرفا قبل أن يخضع لك، وكما قال المثل:” اللي مْأمْنِه للرّجال مثل اللي مأمنه للميّه في الغربال”. ولا تنسي أنّ الأزواج الشّباب يقلّدون آباءهم في تعاملهم مع زوجاتهم، عزيز مات أبوه وهو طفل، وبالتّالي هو ورقة بيضاء، عجينة طريّة تستطيعين تشكيلها كما تريدين.
انتبهت سلوى لوالدتها وسألت:
كيف؟
ضحكت والدتها وقالت:
أنت تعرفين كيف أتعامل مع أبيك، فهو رجل ناجح في حياته، ويهابه كلّ من يعرفونه، لكنّه في البيت مثل القطّ الأليف لا يعصي لي أمرا مهما كان، والسّبب أنّني قطعت معه “راس البسّ” من ليلة الدّخلة، حتّى أنّه كان يعقّ والديه ليرضيني، وكما قال المثل” طبّ الجرّة على ثمها بتطلع البنت لأمّها”.
صمتت سلوى قليلا تفكّر بكلام والدتها، ثمّ سألت:
وماذا أيضا؟
ردّت عليها والدتها بثقة العالم ببواطن الأمور وقالت:
إيّاك واستعمال ما يعيق الحمل والولادة، فـ “الاولاد اوتاد”. وكلّما أنجبت المرأة كلّما تمسّك بها زوجها أكثر.
وفي هذه الأثناء دخلت عليهما دون استئذان علياء”أمّ مهيب “سلفة أمّ سمير وشقيقتها، وقالت بعد أن احتضنت سلوى وقبّلتها وهي تبارك لها بزفافها:
نريد مساعدتك يا سلوى!
ردّت عليها سلوى مستغربة:
خيرا يا خالتي؟ حيّاك الله بما أقدر عليه.
قالت الخالة بعد أن بلعت ريقها:
أنت تعرفين ابني “مهيب” فهو ابن خالتك وابن عمّك وجارك، شاب -اسم الله عليه-“ماشي في شغله في الكويت مثل الميّة السّايبه”، ونريد تزويجه.
ردّت سلوى عليها تجاملها:
بالتّوفيق إن شاء الله.
ثمّ تساءلت سلوى:
وما المساعدة التي تريدينها منّي؟
ضحكت أمّ مهيب وقالت:
أنت مثل ابنتي، و…فقاطعتها أمّ سمير وقالت:
“كان في الدّنيا خير” فلا فرق بين الأبناء وأبناء الأخت، ما الموضوع يا علياء؟
وعادت علياء “أمّ مهيب” تقول:
منذ أن رأيت عبير شقيقة عزيز وأنا أدعو الله أن تكون من نصيب مهيب، فأريدك أن تهيئي الأمر مع عبير ومع شقيقها زوجك، ومع والدتها، سيعود مهيب في إجازته السّنويّة بعد شهر، وعندها سنطلب له عبير.
ردّت سلوى دون اكتراث:
حاضر يا خالتي.
وقالت أمّ سمير تجامل شقيقتها علياء:
مهيب شابّ وسيم ومؤدّب، وعبير فيها كلّ المواصفات الحسنة، ولن تجد أفضل منه إن أرادت السّتر.
بعد أن انصرفت أمّ مهيب ضحكت سلوى وقالت لأمّها:
سبحان الله، “القرد في عين امّه غزال”، وخالتي علياء ترى ابنها غزالا، مع أنّه يعاني من عقد نفسيّة كثيرة، وأخشى أن لا تقبل به فتاة تعرفه أو يعرفه أهلها.
التفتت أمّ سمير لابنتها سلوى وتساءلت مستنكرة:
ماذا تقولين يا بنت؟ لا أريد أن أسمع هذا الكلام منك مرّة ثانية، فمهيب ابن خالتك وابن عمّك وهو مثل أخيك، وإيّاك أن تتلفّظي بهذا الكلام مرّة أخرى.
ضحكت سلوى وقالت:
“الشّمس ما بتتغطّى بغربال” فكلّ أهل البلدة يعرفون مهيبا، ويعلمون أنّه عصبيّ حادّ المزاج، وبعضهم يقول بأنّه مجنون!
ردّت الأمّ بعصبيّة على ابنتها:
استحي يا بنت! كيف يكون مجنونا وهو يعمل محاسبا في شركة كويتيّة منذ سنوات، فلو كان مجنونا كما تقولين لفصلوه من عمله.
قالت سلوى: أنا لم أقل عن مهيب شيئا، أنا سمعت منك ومن أبي ومن أخي سمير ومن عميّ أبي مهيب، ومن خالتي أكثر من مرّة وأنتم تقولون عندما تأتون على سيرة مهيب:” الله يعينه على عقله”!
ردّت عليها أمّها تسأل:
هل ستنفّذين ما قلته لك؟
سألت سلوى: ماذا قلتِ لي:
– قلت لك حول الطّريقة التي ستتعاملين بها مع زوجك، وأريد أن أختبر قدرتك في السّيطرة عليه من خلال إقناعه وإقناع والدته وشقيقته وجدّه بالقبول بزواج مهيب من عبير.
لم تقل سلوى شيئا، لكنّها شرعت تفكّر بنصيحة أمّها لها؛ كي تكسب قلب عزيز، لتسيطر عليه؛ ولتسيّره كما تريد، وقد وجدتها فرصتها التي جاءت في وقتها المناسب، لكنّها لم تتقبّل ما طلبته منها خالتها وأمّها بخصوص زواج عبير من مهيب، فعبير أذكى بنات البلدة وأكثرهنّ جمالا، والشّباب يتسابقون ليفوز أحدهم بها، ضحكت عندما تذكّرت أنّ مهيبا وسيم أيضا، لكنّ حماقته تطغى على وسامته. التفتت إلى أمّها وسألتها:
ألا ترين يا أمّي أنّه إذا خدعتُ “عبير” بمهيب، وأقنعتُ عزيزا بذلك أن “ينقلب السّحر على السّاحر” بعد أن تتعرّف عبير على مهيب وحماقاته، وأكون أنا الضّحيّة قبل عبير.
ضحكت أمّ سمير وقالت لسلوى:
أنت في بداية الطّريق بعلاقتك الزّوجيّة مع عزيز، وقلت لك أنّ الرّجل أمام المرأة كالطّفل، يريد حبّا وحنانا في غرفة النّوم، وعندما تتسامرين معه وهو في حضنك على السّرير، اطرحي الفكرة عليه من باب حرصك على عبير! وإذا وقع النّصيب، فسبحان علّام الغيب، وما يدريك فلعلّهما يتّفقان؟ وعبير ذكيّة تستطيع تدجينه، وإن لم يتّفقا فلا حول ولا قوّة إلا بالله.
ردّت سلوى وتكشيرة تعلو وجهها:
لكنّ عبير ليست طبيبة نفسيّة.
نظرت إليها أمّها وقالت غاضبة:
ومهيب ليس مجنونا، لكنّه عصبيّ حادّ المزاج، وإذا وجد زوجة عاقلة سيهدأ.
عندما عاد عزيز وسلوى إلى بيتهما، دخلا إلى شقّتهما مباشرة، تمدّدا في مخدعهما، وجها لوجه وكلّ منهما يحتضن الآخر، طبعت سلوى قبلة على شفتي نعمان، وسألته:
هل تعرف مهيبا ابن عمّي؟
ردّ عزيز بعفويّة:
أعرفه شكلا، لِمَ تسألين؟
ردّت سلوى دون اكتراث:
قالت خالتي علياء والدته أنّه سيعود خلال شهر ليتزوّج، ومرّ في خاطري أن ألفت انتباهها لعبير، لكنّي قلت بأنّه من غير اللائق أن أفعل ذلك قبل أن أستشيرك!
– أنا شخصيّا لا أرفض شخصا تقبل به عبير، فالرّأي لها، وأعتقد أنّها ستوافق عليه، فهو شاب وسيم أنيق!
قالت سلوى بخبث:
حمدت الله أنّنا تزوّجنا قبل عودته، فعمّي وزوجته خالتي كانا يخطّطان لزواجه منّي، لكنّني قلت لوالدتي بأنّني لا أحبّذ زواج الأقارب من الدّرجة الأولى، لما لزواجهم من تأثيرات غير محمودة على الأبناء، وهذه قضيّة معروفة منذ القدم، فعمرو بن كلثوم شيخ قبيلة تغلب وفارسها وقائدها أوصى أبناءه في الجاهليّة:” لا تتزوّجوا من حيّكم فإنّه أقرب إلى كُرْه البغض”. والرّسول عليه الصّلاة والسّلام يقول:”غرّبوا النّكاح.”
ردّ عليها عزيز وقال:
ما رأيك أن تحاولي إقناع عبير بالموضوع إذا كنت واثقة من كلام خالتك؟
– لِمَ لا تتحدّث معها أنت؟
– من غير اللائق أنّ أتحدّث معها مادام الموضوع كلام نساء حتّى الآن؟
ضحكت سلوى فرحة بكلامه وقالت:
بما أنّك موافق وبناء على كلامِك، سأخبر خالتي بأن تأتي هي وزوجها عمّي أبو مهيب، لطلبتها، وسأحاول أن أحضر صورة لمهيب من خالتي؛ لتشاهدها عبير إن لم تكن على معرفة به، فأنا أحبّ الخير لعبير فهي مثل شقيقتي.
ردّ عليها نعمان باسما:
ممتاز…لقد أتيت بمخرج يشكّل حلّا مقبولا.
على الفور قفزت سلوى من السّرير، هاتفت خالتها وقالت بعد أن طرحت تحيّة المساء: اسمعيني يا خالة، بناء على حديثك عن رغبتكم بتزويج مهيب عندما سيعود من عبير، فبإمكانك أن تأتي أنت وعميّ لطلبتها يوم غد، وأحضري لي صورة لمهيب معك.
تفاجأت أمّ مهيب بالخبر فازداد خفقان قلبها، تنهّدت وسألت:
هل رتّبتِ الموضوع مع عزيز؟
ردّت سلوى باقتضاب وقالت:
لا داعي لكثرة الكلام، وإن شاء الله ستكون الأمور كما تريدين… إلى اللقاء.
أخبرت أمّ مهيب زوجها وهي تحمدل عن فحوى مكالمة سلوى لها، وأضافت:
إذا وقع النّصيب فإنّ مهيبا سيكون محظوظا، وسنرتاح من قلقنا عليه.
صمت أبو مهيب هنيهة و”كأنّ على رأسه الطّير”، سألته زوجته:
ما بك…..لِمَ لا تتكلّم؟
تنهّد وقال: مهيب همّي الذي يؤرّقني، أخشى إن تزوّج أن يوقعنا بمشاكل مع النّاس نحن في غنى عنها، وإذا تزوّج “عبير” فمن يضمن أن لا يوقعنا في مشاكل مع جدّها الخال أبي نعمان، وربّما سيوقع سلوى هي الأخرى بمشاكل مع زوجها، فدعيها لا تتدخّل في الموضوع.
ضحكت زوجته وقالت:
أبو نعمان “رِجل في القبر ورِجل خارجه” “مَيْتُه بتغلي”، إن عاش هذا العام فلن يعيش العام القادم، وأمّ عزيز امرأة مسكينة لا تستطيع عمل أيّ شيء، وعبير فتاة في بداية حياتها، ذكيّة وطموحة، وعزيز تحت سطوة سلوى. ولا أفهم مخاوفك، فما يدريك إن وقع النّصيب وتزوّج مهيب من عبير أن يهدأ وتصلح أحواله؟ ولِمَ تضع الأسوأ دائما؟ “تفاءلوا بالخير تنالوه”.
قال أبو مهيب: سأستشير أخي أبا سمير في الموضوع.
هبّت بوجهه وتساءلت وهي تلوي وجهها ذات اليمين وذات اليسار:
هل استشارك عندما قبل بتزويج ابنته سلوى لعزيز حتّى تستشيره؟
– لا لم يستشرني، فسلوى وعزيز شابّان عاقلان، أمّا مهيب فلا، ويبقى أبو سمير أخي، وسلوى ابنته يعني مثل بنتي، وأخشى أن تصبح بديلة لعبير إن استمرّ ابنك بجنونه.
– هل تعيّرني بعصبيّة مهيب؟ أليس هو ابنك كما هو ابني؟
– دعيني أفكّر بالموضوع.
أدارت ظهرها له تتصنّع الغضب، وتظاهرت بأنّها ستنام.
بعد عدّة أيّام قال أبو مهيب لزوجته:
اسمعي يا علياء، لكلّ شيء أصول، اذهبي لبيت الخال أبي نعمان، وباركي للعروسين عزيز وسلوى، واطرحي قضيّة زواج مهيب من عبير، فإن ظهرت لك بوادر أمل سنطلبها بشكل رسميّ.
لم تخلف علياء الظّنّ، فقد جهّزت نفسها لتصطاد عصفورين بحجر واحد، ستبارك لسلوى بنت أختها، وستطلب “عبير” لابنها مهيب. بعد صلاة العصر استحمّت وصلّت ركعتي استخارة، مدّت يديها إلى السّماء تدعو الله وهي تبكي أن ييسّر زواج مهيب من عبير، سمعها زوجها فقال على مسمعها:” يبدو انّك مثل العتّال الذي لا يذكر الله إلا عندما يكون حمله ثقيلا.”
حوقلت وقالت: همّ مهيب حمل ثقيل، ونسأل الله أن يهديه وأن تكون عبير من نصيبه، فما يدريك، فلعلّ الله يصلح أمره بنيّة عبير التي امتحنها الله بوالدها وإخوتها.
*******
عندما قرعت علياء جرس بوّابة بيت أبي نعمان الخارجيّة، هرولت إليها سلوى راكضة، فتحت لها الباب، عانقتها وحملت عنها أغراضها، فقالت لها خالتها:
هذه هديّة زفافك أنت والغالي عزيز.
اتّجهت سلوى إلى شقّتها لكنّ خالتها صاحت بها:
إلى أين يا سلوى؟ ألا تعرفين الأصول؟ يجب أن لا يدخل هذا البيت شيء قبل أن يمرّ على الجدّ أبي نعمان وأمّ عزيز.
شعرت سلوى بالكسوف، عادت تطأطئ رأسها وهي تقول:
حاضر يا خالتي.
وضعت سلوى هديّة خالتها في صالة الشّقة حيث يسكن الجدّ وأمّ عزيز وعبير، أدارت وجهها تريد الانصراف، لكنّ خالتها عادت تقول لها بصوت مرتفع:
اجلسي لتأخذي هديّتك.
فتحت أمّ مهيب هديّتها، أخرجت كوفيّة فلسطينيّة ومسبحة وقالت:
هذه لرأس العائلة الجدّ أبي نعمان، فأفضاله كثيرة على الجميع، ولا شيء من قيمته.
وهذا قميص مع زجاجة عطر لأختي أمّ عزيز. وهذه بدلة و”سشوار” وزجاجة عطر لحبيبة قلبي عبير. وما تبقّى لك ولزوجك يا سلوى، خذيه إلى بيتك وعودي إلينا كي أشاهدك.
قال الجدّ أبو نعمان بأن لا داعي لهذه الهدايا، عندما قدّمت له الكوفيّة والمسبحة لم يكترث بها، ولم يلمسها، اكتفي بقوله وهو يشير إلى طاولة صغيرة في زاوية الصّالون: ضعيها هناك.
بعد أن احتست كوب شاي تعوّذت علياء بالله من الشّيطان الرّجيم، وبسملت وقالت:
ابني مهيب -الله يرضى عليه- سيعود قريبا في إجازة من عمله في الكويت، ليكمل نصف دينه.
ردّت عليها أمّ عزيز وقالت:
بالسّلامة يا ربّ، وبالتّوفيق.
بينما سأل أبو نعمان:
كم عمر مهيب؟
أمّ مهيب: عمره سبعة وعشرون عاما.
عاد أبو نعمان يسأل:
لِمَ تأخّر عن الزّواج لهذا العمر؟
– كلّه قسمه ونصيب، فقد رفض الزّواج قبل أن يبني نفسه.
قال أبو نعمان ساخرا وهو يلفّ سيجارة” هيشي”:
وإن شاء الله بنى حاله؟
– الحمد لله.
أمّ مهيب: مهيب إجازته قصيرة، وقرّرنا أن نخطب له بنت أصل وفصل، وسنجهّز كلّ متطلّبات الزّفاف، حتى يتزوّج ويصطحب عروسه معه إلى الكويت حيث يعمل.
سألت أمّ عزيز ببراءة:
وهل وجدتم له عروسا تعرفه ويعرفها؟
ضحكت أمّ مهيب وقالت:
والله قلنا أنا وأبوه”جحا أبدى بلحم ثوره” وما لقينا أفضل من نسبكم، ولا من بنتكم عبير، ومهيب يعرفها ومعجب بجمالها وبأخلاقها.
صمتوا جميعهم، فكسرت أمّ مهيب حاجز الصّمت وقالت:
هل أفهم من صمتكم أنّكم موافقون؟ وإذا كان حدسي صحيحا سيأتي أبو مهيب وأبو سمير لطلبتها منكم. ثمّ التفتت إلى عزيز وسألته:
ما رأيك يا عزيز أعتقد أنّك تعرف مهيبا.
ردّ عزيز على استحياء كما هي عادته:
مهيب أكثر أبناء بلدتنا وسامة، وأيّ فتاة تراه ستعشقه.
همست سلوى لعبير التي تجلس بجانبها:
هل تعرفين مهيبا؟
ردّت عبير: لا أعرفه.
وهنا سألت سلوى خالتها أمّ مهيب:
هل توجد صورة معك لمهيب يا خالتي؟
مدّت علياء يدها في حقيبة يدها وأخرجت صورة لمهيب، قبّلتها وهي تعطيها لسلوى وقالت:
صورة مهيب لا تفارقني، وكلّما اشتقته أخرجها وأقبّلها.
عرضت سلوى صورة مهيب أوّلا على أمّ عزيز، ثمّ على أبي نعمان فعزيز، وأخيرا عادت تجلس بجانب عبير ومدّت إليها الصّورة وهي تقول: بسم الله ما شاء الله! نظرت عبير إلى الصّورة نظرة عابرة وقالت:
رأيت صاحب هذه الصّورة قبل عامين يتشاجر مع مجموعة من الشّباب أمام المسجد، وكانوا يتغامزون ويتضاحكون عليه.
امتعضت أمّ مهيب من كلام عبير، فتحت فمها لتقول شيئا، لكنّ أمّ عزيز سبقتها ونهرت ابنتها مزمجرة وقالت:
ما كان يجب أن يصدر منك هكذا كلام يا عبير، فشباب اليوم يتمازحون ويضحكون في الطّرقات، ثمّ التفتت إلى أمّ مهيب واعتذرت لها وهي تقول:
كلام عبير مجرّد مزاح مع سلوى.
وهنا تدخّل أبو نعمان وقال:
مصاهرتكم شرف لنا يا أمّ مهيب، لكن اتركينا يومين لنتشاور، وسيكون الرّد منّا إليكم.
لكن أمّ مهيب تظاهرت بالغضب بسبب كلام عبير، فطوت طرف خرقتها على فمها وسكتت بعد أن قالت:”الملافظ سعْد”.
انتبهت لها أمّ عزيز فهمست لها:
لا تهتمّي يا أمّ مهيب، فبنات هذا الزّمن يحببن الدّلال والمزاح، وعبير أحبّت أن تتدلّل عليك، وإن شاء الله ستكون من نصيب مهيب.
ارتاحت أمّ مهيب من كلام أمّ عزيز، لكنّها صمّمت على تسجيل موقف، ولم تتراجع عن تظاهرها بالغضب، فاستأذنت للإنصراف، لكنّ الحاجّ أبا نعمان أصرّ بأنّه لن يسمح لها أن تغادرهم قبل أن تحتسي فنجان قهوة.
بعد أن غادرت أمّ مهيب بيت أبي نعمان، تباحثت الأسرة بشأن طلبتها لعبير، فقال أبو نعمان:
مهيب من جيل أحفادي، لا أعرف عنه سوى أنّه يعمل في الكويت، ثمّ التفت إلى حفيده عزيز وقال له:
مهيب شابّ مثلك يا عزيز، فما رأيك به؟
ابتسم عزيز وقال:
مهيب يكبرني بحوالي خمس سنوات، ولم أختلط به، لكنّه شابّ أنهى تعليمه الجامعيّ، وعمل في الكويت، رأيته أكثر من مرّة، وهو شابّ أنيق وسيم طويل القامة، عيناه زرقاوتان، شعره أشقر أملس ناعم، وسيم.
ولمّا سأل الجدّ أبو نعمان سلوى عن رأيها بمهيب ضحكت وقالت:
مهيب ابن عمّي وابن خالتي، وشهادتي فيه مجروحة كما قال المثل:”مين بشهد للعروس؟ قال: امّها وخالتها وعشرة من حارتها”، وفي الواقع أنّني لم أخالطه، فعندما سافر للعمل في الكويت كنت طفلة في الصّفّ الأوّل الابتدائيّ.
أمّا أمّ عزيز فقد قالت:
لو كان بمهيب ما يعيبه، لما استطاع أن يعمل كلّ هذه السّنوات في الكويت، ولما تحمّل حياة الغربة، ووسامته تزيده بهاء وجمالا.
ضحك الجدّ أبو نعمان وقال:
أراكم تركّزون على وسامته، فالزّوج ليس مرآة للمرأة ترى نفسها فيه.
ابتسمت عبير وقالت مازحة:
“ليس كلّ ما يلمع ذهبًا.”
أجابتها أمّها: لا تزالين صغيرة يا عبير، فوسامة الرّجل وأناقته لها أهمّيتها بالنّسبة لزوجته، تماما مثلما هو جمال المرأة مهمّ لزوجها. ومهيب وسيم أنيق، ما رأيته إلا وهو يرتدي بدلة مع ربطة عنق، وله ذقن مشذّبة ولافتة تزيده وسامة.
ضحكت سلوى وقالت لحماتها مازحة:
أراك تعودين لشبابك وتتغزّلين بمهيب يا خالة!
ضحكوا ممّا قالته سلوى، لكنّ أمّ عزيز التفتت إليها وقالت:
استحي يا فتاة…كيف أتغزّل به وهو مثل ابني؟
وهنا قال الجدّ أبو نعمان:
مهيب ليس غريبا عنّا، فهو قريبنا، ووالده وعمّه رجلان فاضلان، ومصاهرتهما تشرّفنا، ولهذا كان لنا الشّرف بزواج عزيز من سلوى بنت أبي سمير. وأدار وجهه إلى عبير وسألها:
ما رأيك يا عبير فالأمر أوّلا وأخيرا يتعلّق بك.
تورّد وجه عبير بحمرة الحياء وقالت:
الرّأي لك يا جدّي، وأنا لن أخرج عن طاعتكم.
التفتت سلوى إلى عزيز باسمة ووجهها ينطق سعادة، ولم تقل شيئا.
في شقّتهما ارتدت سلوى قميص نوم شفيف، وجلست أمام عزيز تستعرض أنوثتها، تمعّن بها سريعا، وإذا بها تنقضّ عليه تحضنه وتقبّله، ثمّ سألته:
كيف تقيّم موقف والدتك وجدّك بخصوص زواج عبير من مهيب؟
ردّ عليها وهما في عناق طويل:
جدّي يحترم عائلتكم كثيرا، والوالدة معنيّة بستر عبير كيفما تيسّر، وما يهمّني أنا هو موافقة عبير.
ضحكت سلوى وقالت بدلال:
“عبير لسانها طول شبر”، فعندما رأت صورة مهيب سال لعابها شوقا وغراما!
سأل عزيز: ماذا تقصدين؟
سلوى: أقصد أنّها موافقة باندفاع! فنحن النّساء نفهم بعضنا أكثر ممّا يفهمنا الرّجال!
قادها عزيز إلى السّرير، فقالت له بغنج ودلال:
هيّا بنا… لكن سأتّصل بخالتي علياء؛ لأطمئنها بأنّكم موافقون على خطبة عبير لمهيب.
مدّت يدها إلى هاتف البيت واتّصلت بخالتها:
مساء الخير.
– مساء الفلّ للغالية بنت الغالية.
سلوى: مبروك….فليأت العمّ أبو مهيب والوالد أبو سمير لطلبتها، ولا تنسي أن تكوني أنت والوالدة بصحبتهما.
أمّ مهيب: الله يبشرك بالخير.
سلوى: تصبحين على خير فأنا الآن مشغولة.
بعد ثلاثة أيّام وصل أبو سمير وزوجته وشقيقه أبو مهيب وزوجته بيت أبي نعمان، جلسوا في صالون البيت بوجود الجدّ أبي نعمان وكنّته أمّ عزيز، وعزيز وزوجته سلوى، وعندما أحضرت عبير قهوة الترّحاب، التقط منها عزيز الصّينيّة، وقدّم فنجانا لكلّ شخص، وضع أبو سمير وأبو مهيب فنجانيهما أمامهما، وقال أبو سمير موجّها حديثه لأبي نعمان:
لنا عندكم طلب يا خال.
ردّ أبو نعمان: حيّاكم الله.
أبو سمير: نريد ابنتكم عبير لمهيب ابن أخي محمد على سنّة الله وسنّة رسوله.
أبو نعمان: هي لكم “هديّة ما من وراها جزيّة” ” فأنتم أصحاب الأوّلِه وصاحب الأوّلِه ما بلتحق.” ونحن أهل ولا فرق بين أبنائكم وأبنائنا.
أبو سمير: نحن جاهزون لجميع طلباتكم.
أبو نعمان: طلبنا هو السّتر ولا شيء غيره.
أبو سمير: الله يستر على جميع خلقه…وسنشتري مصاغا وكسوة لعبير مثلما اشتريتم لسلوى وزيادة.
أبو نعمان: فلنقرأ الفاتحة على هذه النّيّة…فتح يديه أمام وجهه وقال بصوت مرتفع: يا حيّ يا قيّوم……………….وقرأوا الفاتحة.
لم تنتبه أمّ مهيب لقراءة الفاتحة بل أطلقت عددا من الزّغاريد.
واصل أبو سمير حديثه: سيعود مهيب في إجازة بعد ثلاثة أسابيع، وسنشتري -لو سمحتم لنا- مصاغا لعبير، وسنؤثّث لعبير ومهيب شقّة يسكنونها؛ كي نزّفّهما أثناء إجازة مهيب، وبعدها سيسافران معا إلى الكويت، حيث يعمل مهيب، وحتّى يفرجها الله علينا وعليهما سيعودان للعيش في البلاد.
أبو نعمان: على بركة الله
********
اتّفقت أمّ مهيب مع أمّ عزيز أن تذهب في اليوم التّالي بصحبة عبير؛ لتشتري لها مصاغ الذّهب.
ردّت عليها أمّ عزيز ببراءة:
على بركة الله..لكن لِمَ هذه العجلة؟
ردّت أمّ مهيب ضاحكة:
“خير البرّ عاجله” و”لا تؤجّل عمل اليوم إلى الغد”.
في الواقع أنّ أمّ مهيب تريد استعجال الأمور، وإيقاع عبير في شباكها قبل أن يأتي مهيب، فهي غير واثقة من موقف ابنها الذي تعرفه جيّدا، فقد لا يسيطر على أعصابه قبل الزّواج، وربّما يعبّر عن ضيقه بشتيمة ما قد تكون سببا كافيا لعبير؛ كي لا تكمل زواجها منه! لذا فهي تسعى أن تضع عبير أمام أمرٍ واقعٍ لا خلاص منه قبل أن يعود مهيب. وقد أشعرت “عبير” بحنان أمومة وبدلال زائد. فشعارها “تمسكنوا حتى تتمكنّوا”.
لم تنتبه عبير للفخّ الذي نُصب لها، فكلّ ما يهمّها هو أن تكون عروسا، صورة مهيب تسيطر على مخيّلتها، فقامته الباسقة لافتة، عيناه الزّرقاوتان جذّابتان كما يجذب البحر سبّاحا ماهرا يقف على شاطئه، ذقنه المشذّبة توحي برجولة مشتهاة. قارنت في دواخلها بين منظر مهيب ومنظر شقيقها عزيز، فلم تكن المقارنة لصالح شقيقها، لذا رأت نفسها محظوظة بمهيب أكثر من حظوة سلوى بعزيز. ضحكت قهقهة عندما سمعت جدّها يقول:” ليس كلّ ما يلمع ذهبا”، فكثيرون يكونون “من برّا رخام ومن جوّا سخام.” صارت تعدّ الأيّام وهي تحترق شوقا للسّاعة التي سيصل فيها مهيب عائدا من الكويت، تساءلت كثيرا حول الطّريقة التي ستصافحه بها، فهل ستحتضنه وستقبّله بعد أن أشهروا خطبتها عليه، فهي الآن بحكم زوجته؟ فاستقرّ رأيها أن تترك الأمر له، فإن احتضنها وقبّلها فهذا ما تتمنّاه، وإن لم يفعلها فهذا شأنه، والأيّام القادمة ستعوّضها عن قبلة عابرة على وجنتين حان قطافهما. مضت الأيّام سريعا وإن كانت ثقيلة طويلة على عبير، فجاءت أمّ مهيب؛ لتخبر “عبير” وأسرتها بأنّ مهيبا سيأتي في اليوم التّالي، وأنّها ستقيم له حفلا ساهرا سيكون بمثابة حفل خطوبته على عبير، كما أنّ المأذون سيكون حاضرا ليعقد قرانهما. وهذا طبعا بعد موافقة الجدّ أبي نعمان على ذلك.
وافق الجدّ أبو نعمان على طلب والدة مهيب، وعند ضحى اليوم الثّاني ذهب هو وكنّته أمّ عزيز وحفيدته عبير وحفيده عزيز وزوجته سلوى إلى بيت أبي مهيب؛ ليكونوا في استقبال مهيب.
عندما وصلوا مدخل بيت أبي مهيب، وقبل دخولهم، شاءت الصّدفة أن يصل مهيب في نفس اللحظة، لكنّ أمّ مهيب سبقتهم إلى السّيّارة التي أقلّت مهيبا من الجسر إلى البيت، احتضنته فور ترجّله من السّيّارة، وقادته لتعرّفه على خطيبته عبير قبل أن ينزلوا حقائبه، عانقه أبو نعمان وعزيز، وعانقته أمّ عزيز، مدّ يده ليصافح عبير ووالدته تقول له:
هذه عبير خطيبتك.
نظر إلى عبير بطريقة عاديّة وقال لها وهو يمدّ يده ليصافحها:
أهلا.
فقالت والدته: مهيب مرهق من السّفر، يبدو أنّه لم ينتبه عندما عرّفته على عبير، فأمسكت يده وعادت تقول وهي تشير إلى عبير:
قلت لك هذه عبير خطيبتك.
فردّ عليها ببلاهة: سمعتك وسلّمت عليها.
التفتت إليه والدته وقالت:
لا تستحِ…امسك يد خطيبتك وامش بجانبها وادخلا البيت معا.
حضر عدد قليل من الأقارب للسّلام على مهيب، وفور وصوله اتّصل والده بالمأذون بناء على اتّفاق مسبق؛ ليعقد قران مهيب على عبير.
عندما وصل المأذون غادرت النّساء “صالون البيت” إلى مخدع النّساء، فمن غير اللائق أن يتواجدن في حضرة المأذون.
بعد أن استمع المأذون لموافقة العروسين، عقد قران مهيب على عبير، وأصرّ والد مهيب أن يكتب لعبير في عقد الزّواج مهرا مؤجّلا بمبلغ عشرة آلاف دينار أردنيّ، مع أنّ جدّها أبا نعمان عارض ذلك وهو يردّد “البنات مش تجارة”. وما يهمّنا هو السّتر ولا شيء آخر، لم يسكت الجّدّ إلا عندما قال أبو مهيب:
رحم الله صديقنا نعمان والد عبير، فقد كان عزيزا عليّ، ومن حقّه علينا أن نميّز ابنته عن بقية نساء البلدة بمن فيهنّ بناتنا.
في مخدع النّساء تفاجأت عبير بأنّ أمّ مهيب قد جهزّت شقّة للعروسين على مزاجها الخاصّ، فقد اشترت غرفة النّوم، و”كنبات الصّالون”، الثّلاجة، الغاز وأواني المطبخ، ولم تستشرها، ومهيب كان خارج البلاد، عندما قادت أمّ مهيب “عبير” لتريها الشّقّة، كظمت عبير غيظها ولم تبدِ أيّ اعتراض، بينما يغلي في داخلها بركان غضب، عزّت نفسها بأنّها سترافق “عزيز” بعد الزّواج عندما يعود إلى عمله، وخطّطت أن تفرش بيتها في الكويت كيفما تشاء دون تأثير من أحد.
قبل أن يعود أبو نعمان إلى بيته، اتّفقوا معه أن يكون حفل زفاف مهيب وعبير يوم الجمعة بعد أسبوع.
بعد أن عادوا إلى بيتهم سألت أمّ عزيز حماها أبا نعمان:
كيف رأيتَ مهيبا يا عمّ؟
التفت إليها ولم يقل شيئا، وعندما كرّرت سؤالها قال:
“يا شايف الزّول يا خايب الرّجا”.
فعادت تقول: لم أفهم عليك شيئا! ماذا تعني؟
فردّ دون اكتراث:
“من برّا رخام ومن جِوّا سخام”.
وضعت أمّ عزيز يدها على خدّها وسألت:
هل تعني أنّه لا يصلح زوجا لعبير؟
تنهّد أبو نعمان وقال:
هذا كلام سابق لأوانه، والآن بعد عقد الزّواج “دَبْها أبو الحصيني وعشّرت”. وإيّاك أن تقولي هذا الكلام لعبير.
بعد يومين من عودة مهيب وصل ووالدته بيت أبي نعمان في التّاسعة من صباح ذلك اليوم، فقالت أمّ مهيب:
نريد أن نسستأذنكم لتسمحوا لعبير بمرافقة عريسها؛ كي يشتري لها الملابس التي تريدها.
فقال الجدّ أبو نعمان:
عبير الآن بعد عقد قرانها صارت زوجة لمهيب، وبإمكانه أن يصطحبها معه متى يشاء.
اصطحب مهيب “عبير” معه في سيّارة أبيه إلى القدس، دار بها يمينا عندما وصل طريق القدس-أريحا بين باب الرّحمة وكنيسة “الجثمانية”، مرّ براس العمود، وواصل طريقه إلى أن وصل منطقة “كُبْسَه” عند مفترق الطرق بين أبو ديس والعيزريّة قبل أن يغلقه الاحتلال بجداره التّوسّعيّ، وهناك استدار يسارا وصعد بها إلى جبل الزّيتون، عندما وصل أمام فندق الإنتركونتيننتال، أوقف السّيّارة ونزلا منها؛ لينظرا مدينة القدس، رأيا المسجد الأقصى بساحاته وباحاته، ورأيا جموع المصلّين يتوافدون للصّلاة في هذا المسجد العظيم الذي يضفي مهابة على المدينة المقدّسة، وهناك التفت مهيب إلى عبير وقال لها:
اعتبارا من هذا اليوم عليك أن تضعي الحجاب، فمن غير اللائق أن يرى النّاس شعرك الحريريّ الفاحم يتطاير أمامهم، بل هذا حرام دينيّا، كما عليك أن ترتدي ملابس ساترة، وعلينا أن نبدأ حياتنا الزّوجيّة بما يرضي الله.
ردّت عليه وهي تبتسم فرحا معتقدة في داخلها بأنّه يغار عليها:
حاضر…هل لك طلبات أخرى؟
التفت إليها وقال:
نعم…اعتبارا من هذا اليوم ممنوع أن تتكلّمي مع أيّ رجل تعرفينه باستثناء المحرّمين.
فأجابته: طلباتك أوامر سأنفّذها اعتبارا من اليوم.
وأضافت متسائلة: ماذا أيضا.
– سنشتري لك اليوم القليل من الملابس، وعندما نسافر سأشتري لك الملابس الفاخرة التي تنتقينها من عمّان ومن الكويت.
فقالت له: كما تريد.
غادرا المكان قاصدين مدينة القدس، ركنا السّيّارة قريبا من شارع “بور سعيد” الذي غيّر المحتلّون اسمه إلى “شارع الزّهراء”! مشى أمامها بعد أن اقتربت منه محاولة الإمساك بيده، لكنّه نهرها غاضبا:
ماذا جرى لكِ؟ هل جُننت؟ ألا ترين أنّنا في الشّارع أمام النّاس؟
شعرت بخيبة أمل وقالت بانكسار:
لكنّني خطيبتك ونحن الآن بعد عقد قراننا زوجان.
قال لها بلهجة غاضبة:
أنا لا أحبّ الميوعة! فللطّرق حرماتها وآدابها.
وهنا ومن الرّصيف الآخر نادت ثلاث صبايا ضاحكات بصوت واحد وهنّ يقطعن الشّارع:
عبير!
ضحكت لهنّ عبير وانتظرتهنّ، فعانقنها مهنّئات مباركات خطبتها، فقد كنّ زميلاتها في المدرسة، أشارت عبير إلى مهيب وقالت:
هذا هو خطيبي.
فقالت إحداهنّ:
الجميلات للجميلين…أنت جميلة وخطيبك وسيم أنيق.
بينما قالت أخرى:
خطيبك فيه من جمال نبيّ الله يوسف، وأنت جميلة وعندما تنجبان بنيّة ستكون ملكة جمال الكون.
شعرت عبير بكبرياء أثارت شبق أنوثتها عندما سمعت كلام زميلاتها، فقالت لهنّ:
العقبى لكنّ.
فقالت إحداهنّ وهي تشير إلى مهيب:
وأين سنجد شبابا بهذه الوسامة وهذه الأناقة؟
وهنا قال مهيب لعبير مع أنّه لم يسمع ما قالته صديقاتها:
هيّا بنا يا عبير، فلم يعد لدينا وقت.
عندما لحقت به قال لها:
لقلّة الحياء حدود! فكيف تسمحين لنفسك بالوقوف مع صبايا يتمايلن ويضحكن في الشّوارع أمام النّاس، وتتركيني واقفا كعامود الكهرباء؟
ردّت عليه بهدوء: هؤلاء كنت وإيّاهنّ في المدرسة في صفّ واحد.
علت تكشيرة وجهه وهو يقول لها متسائلا:
وهل هذا يعطيك رخصة للوقوف وللضّحك في الشّوارع؟
سكتت عبير على مضض، ولم تعد قادرة على التّمييز إن كان مهيب مختلّا أم أنّه يغار عليها حتّى من النّساء؟
اقتربت منه وهمست:
مهيب إلى أين أنت سائر بنا؟
ردّ عليها حانقا:
هل نسيت أنّنا جئنا لنشتري لك كسوة بسيطة قبل الزّفاف؟ فماذا تريدين أن تشتري؟
ردّت عليه عبير:
لديّ ملابس تكفيني، فلا داعي لذلك! سنشتري ما نريد من الكويت.
التفت إليها وسألها:
هل لديك ملابس شرعيّة؟
أجابته: نعم.
وهنا اتّصلت أمّ عزيز بابنتها عبير، وعندما رنّ الهاتف المحمول، اقترب مهيب من عبير وقال لها:
هيّا ردّي على المكالمة.
أخرجت عبير هاتفها النّقّال من حقيبة يدها وقالت قبل أن ترد:
هذه والدتي.
قالت لها والدتها: لا تتأخّري أنت ومهيب، فقد جهّزنا الغداء، وسنتناول طعامنا أنا وأمّ مهيب بصحبتكما.
عندما انتهت المكالمة قالت عبير:
ما رأيك يا مهيب أن نعتذر عن الغداء في البيت، وأن نتناول طعامنا في أحد المطاعم؛ لنتعرّف على بعضنا بشكل جيّد؟
نظر إليها نظرات مريبة وقال:
النّساء المحترمات لا يأكلن في المطاعم…هيّا بنا لنعود إلى البيت.
لم تتكلّم عبير شيئا، لكنّ”الفار لعب في عبّها”، وتساءلت بينها وبين نفسها حول مهيب فهل هو بخيل أم مجنون؟ ومع ذلك عزّت نفسها بأنّه يغار عليها، وهذا يسعدها.
عندما وصلا بيت الجدّ أبي نعمان، قالت أمّ مهيب التي بقيت تنتظره:
مبارك ما اشتريتم.
ابتسمت عبير ولم تقل شيئا، لكنّ مهيبا قال:
عبير رفضت شراء أيّ شيء، وقالت بأنّها ستشتري ما تشاء من أسواق الكويت.
فقالت أمّ عزيز: على بركة الله، فعبير لديها ملابس كثيرة.
قالت أمّ مهيب إنّ أبا مهيب قد حجز قاعة في بيت لحم لحفل الزّفاف يوم الجمعة القادم.
وهنا قال مهيب: سنتزوّج يوم الجمعة وسنسافر يوم الأحد.
فسألته والدته: لِمَ هذه العجلة يا ولدي؟
فردّ عليها: إجازتي شهر، سأمضي هنا ثلثه، وسنعود إلى الكويت كي نوضّب بيتنا ونؤثّثه كما تريد عبير. وكي تتعرّف عبير أثناء إجازتي على الحيّ الذي نسكنه وعلى بعض معالم الكويت.
قالت الأمّ: الله يرضى عليكما، ونسأل الله التّوفيق.
********
دعت عبير معلّماتها وزميلاتها لحضور حفل زفافها، لم تتّسع الدّنيا لفرحتها وهي تسمع المدعوّات يتهامسن حول وسامة مهيب وأناقته، خصوصا وأنه لا يظهر أمام النّاس إلّا وهو يرتدي بدلة، ويضع ربطة عنق. خفق قلبها عندما اقتربت إحدى معلّماتها، وهي شابّة عزباء جميلة أنيقة وهمست لها:
نيّالك يا عبير، فأنت جميلة وحباك الله زوجا أنيقا وسيما تتمنّى مثله الفتيات كلّهن، وهكذا “رجال يؤكلون بقشورهم.”
ابتسمت عبير ورأسها يطاول السّماء اعتزازا وفخرا وسألت:
هل الرّجال يؤكلون؟
ردت عليها المعلمة ضاحكة:
في ليلة الدّخلة هذه ستتعلّمين كيف تأكلين زوجك وكيف سيأكلك؟
رأت عبيرُ مهيبا مائدة شهيّة ستشبع أنوثتها منه، استعجلت انتهاء الحفل؛ لتقبض بشفتيها على شفتي عريسها، ولتمرّغ وجهها على ذقنه، وتمنّت أن ترى شعرا كثيفا على صدره وعلى ساعديه.
ابتسمت عندما تذكّرت أنّها أزالت جميع الشّعر عن جسدها الغضّ، بحيث بقيت حلساء ملساء ناعمة، وانطلقت منها عبارة “سبحان الله”! بشكل عفويّ.
التفتت إليها والدتها وسألتها:
ماذا قلتِ؟
فردّت على استحياء:
لم أقل شيئا.
لكنّها ضحكت عندما قارنت بين النّساء والرّجال، وكيف يتكاملان بالشّيء ونقيضه، فالنّساء يعشقن الرّجل الشّعور، بينما الرّجال يكرهون النّساء الشّعورات. فصار الرّجال يفاخرون بشواربهم، وتفاخر النّساء بأجسادهن التي تخلو من الشّعَر.
*******
في حفل الزّفاف المختلط وعندما وصل مهيب باب القاعة واضعا يده بيد عروسه، قادما بها من صالون التّجميل، وسلوى بنت خالته ترفع ذيل فستان زفاف العروس، ارتبك عندما شرعت النّساء يغنّين للعروسين، وممّا قالته أمّ مهيب:
هاي يا مهيب يا ذهبتي وعرّيها
هاي سبع قلايد وعلى صدري ودلّيها
هاي يا ريت من بغضتك تعدم أهاليها
هاي تعيش وتموت ما تلقى حدا يداويها
وانطلقت بعدها عشرات الزّغاريد في تلك اللحظة التي تعثّرت فيها قدم مهيب، فسقط على الأرض ساحبا “عبير” معه، لكنّها اتّكأت على كتف إحدى النّساء التي مرّت من جانبها، فغضب وأرغى وأزبد وهي يطلق شتائم خادشة للحياء، ابتسمت عبير لا إراديّا لسقوط مهيب أرضا، لكنّها تمالكت نفسها ومدّت يدها هي وسلوى ابنة خالته؛ لتساعدانه على الوقوف، بينما انطلقت ضحكات بعض النّساء اللواتي شاهدن الحادثة، في حين بسملت والدته عليه وهي تحتضنه وتسنده إلى صدرها وهي تقول:
“عين الحسود فيها عود”. “حوطتك بالله من عيني ومن عيون خلْق الله”
تغامز بعض الشّباب عندما وقع مهيب أرضا، أحدهم قال لمن يجلس بجواره:
يبدو أنّ النّوبة قد جاءته.
سمعته أمّ سمير خالة العريس فالتفتت إليه بنظرات حادّة دون كلام، شعر بحرج شديد وهمس لزميله:
“كلمة السّوء مسموعة” يبدو أنّ هذه المرأة من أقارب مهيب.
جابت عبير بعينيها الواسعتين وبابتسامتها اللافتة القاعة تتفقّد صويحباتها، شعرت بكبرياء غير مسبوق في هذا اليوم، فهي ملكة الحفل، همست لمهيب كي يبتسم للحضور لكنّه تجاهلها. عندما جلس العروسان على المنصّة جلست والدة عبير بجانبها، بينما جلس والدا مهيب بجانبه. أقيمت حلقة دبكة شعبيّة وسط القاعة، شارك فيها رجال ونساء، حاول بعض الشّباب أن يجرّ مهيبا للمشاركة في الدّبكة، لكنّه رفض بلهجة غاضبة. تجمّع عدد من النّساء وهنّ من أقارب العروسين، وطلبن من العروسين أن ينزلا للرّقص لالتقاط الصّور التّذكاريّة، همست عبير لمهيب أن يلبّيا طلب النّساء، لكنّه طلب منها السّكوت، فأمسكت والدته وخالته أمّ سمير كلّ واحدة منهما بيد من يديه، وسحبتاه وهنّ يتضاحكن، حاول التّمترس على أريكته التي يجلس عليها، عندها همست له والدته:
قم فهذه هي العادة، ولا تفضحنا أمام النّاس.
قام مهيب بتثاقل رجل عجوز أو تثاقل امرأة حامل في أواخر شهرها التّاسع. طلبت منه والدته أن يمسك بيد عروسه معه. اصطفّت النّساء في حلقة دائرية يسحّجن ويزغردن، وإحداهنّ تضرب على الطبلة، في حين شغّلت إحداهن “الدّي. جي.” على أغنية رومانسية تليق بالمناسبة، وقفت عبير أمام عريسها باسمة وأخذت ترقص مادّة ذراعيها وكأنّها تحتضنه، فأخذ يصفّق بيديه ببلاهة دون أن يحرّك ساقيه، فتقدّمت والدته إليه وأمسكت بيده اليمنى بعد أن شبكت يده اليسرى بيد عبير اليمنى وأوصتها بأن لا تفلتها، لكنّه تمنّع عن الحركة وهو يقول:
أنا لا أعرف الدّبكة ولا أعرف الرّقص.
عندها نزلت سلوى تقود عزيزا زوجها إلى حلقة الرّقص، رقصت مع عبير، فعلت ضحكات وتصفيق وصفير الشّابّات والشّباب عندما وضعت مسؤولة “الدّي جي” أغنية “ادّلع يا عريس وعروستك نايلون”. تساءل البعض من الصّبايا بنوايا غير سليمة: من منهما العريس ومن العروس؟ عندما مدّت سلوى يدها لترقص مع عزيز زوجها، على أمل أن يشترك معهما مهيب وعبير، داس مهيب على إحدى قدميها، فمالت على زوجها للتتّكئ عليه فداس هو الآخر على قدمها الأخرى، فانطلقت منها “آخخخخخخخخخ” طويلة حاولت كبحها دون فائدة. فهرعت إليها والدتها تمسك بيدها وتعينها على الوقوف، قادتها لتجلس على أقرب كرسيّ. بينما مدّ كثير من المدعوّين أعناقهم يستطلعون ما حدث.
انتبه الجدّ أبو نعمان وهو يجالس أبا مهيب وأبا سمير فقال بعفويّة:
يا ساتر….ماذا جرى؟
انتبه أبو مهيب لزوجته وهي تقود سلوى، فقفز من مكانه واتّجه إليهما مسرعا لمعرفة ما حصل، لكن زوجته التقته، وهمست في أذنه أنّ مهيب داس على قدم سلوى وهي تحاول الرّقص معه، فهمس لها:
“الله يسوّد وجهك يا مهيب” والله إنّني خائف أن لا تمرّ هذه الليلة بخير، عاد وأخذ العصا من أبي نعمان، ونزل في حلبة الرّقص وهو يقول “دبكه يا شباب”، مدّ عصاه إلى الأمام يلوّح بها تارة بشكل دائريّ، وتارة أخرى كان يضعها على رأسه وهو يهزّ جسده، هرع عدد من الشّباب وشاركوه الدّبكة على أنغام شِبّابة سمير ابن أخيه. فعَلَتِ الزّغاريد والتّصفيق، وقال البعض” الدّهن في العتاقي”.
تجلس عبير بجانب مهيب على المنصّة، وفي ذهنها تساؤلات كثيرة حول عريسها، همست لوالدتها التي تجلس بجانبها:
يبدو أنّ عقل مهيب غير سويّ.
نهرتها أمّها قائلة بصوت منخفض:
إيّاك أن تعودي لهكذا كلام، “اضحكي في عبّك”، فمهيب ما شاء الله عليه! لكنّه شابّ حييّ عفيف لا علاقة سابقة له مع النّساء، لهذا فهو يتحلّى بحياء العذارى. بعد أن سمعت عبير كلام والدتها امتلأت كبرياء وفخرا بعريسها مهيب المهيب، فأن يحافظ على عفّته وهو بهذه الوسامة اللافتة للنّساء، فهذا يعني أنّها اصطادت نسرا يجوب الفضاء تيها! مالت على مهيب وهمست له:
حبيبي مهيب قم وشارك مع أبيك في دبكة فرحنا.
التفت إليها بوجه عابس وقال بلهجة آمرة.
اسكتي.
شعرت عبير بخيبة أمل لامت نفسها عليها؛ لأنّها هي من جلبتها لنفسها.
عند السّاعة العاشرة مساء انتهت حفلة الزّفاف، وانفضّ المدعوّون، فقالت أمّ مهيب لابنها العريس:
أمسك بيد عروسك وهيّا بنا، فشقّتكم جاهزة.
عاد الجدّ أبو نعمان وكنّته وحفيده عزيز إلى بيتهم في سيّارة سلوى. فتنهّد وقال:
” ما بِقَع في القفص غير العصفور الحِدِق”.
فسألته سلوى بخبث: ماذا تقصد بذلك يا عمّ؟
فردّ عليها ساخرا: أقصد يا سلوى أنّ “مهيب صيده ثمينه اصطدناها لعبير!”
شعرت سلوى أنّ الجدّ أبا نعمان قد اكتشف حماقات مهيب، وأخذ يلوم نفسه. فالتفتت إلى زوجها تريد أن تغيّر مسار حديث الجدّ بشكل معاكس وسألته:
هل رأيت يا عزيز الوسامة والجمال والأناقة التي وهبها الله لمهيب؟ نسأل الله أن يوفّقهما، فعبير هي الأخرى فائقة الجمال والذّكاء.
سبق الجدّ أبو نعمان حفيده في الجواب على سؤال عبير فقال:
“الرّجال محاضر مش مناظر.”
ضحكت أمّ عزيز وقالت موجّهة كلامها لأبي نعمان:
والله مهيب ما شاء الله عليه وجهه مثل القمر البدر، والنّساء يحببن الرّجل الوسيم، كما يحبّ الرّجال النّساء الجميلات، وعبير فتاة جميلة بشكل لافت.
فقالت سلوى ضاحكة:
الجميلات للجميلين….”وافق شَنٌّ طبقه”. ثم التفتت إلى زوجها وسألته مازحة:
أم لك رأي آخر يا عزيز.
فردّ عليها مازحا: صدقتِ يا طبقه!
فانفرطوا ضاحكين.
ليلة العمر
تقدّمت أمّ مهيب العروسين، فتحت لهما باب الشّقّة المخصّصة لهما، قادت “عبير” إلى المطبخ، أشارت إلى الغاز وأدوات القهوة والشّاي وقالت:
إذا أردتما احتساء القهوة والشّاي فبإمكانك إعدادها هنا.
تأكّدت من أنّ سواتر النّوافذ مغلقة، جابت الشّقّة كاملة، همست لعبير:
عندما تنتهيان افتحي الباب؛ كي أطمئنّ عليكما!
نظرت عبير إليها باستغراب ولم تقل شيئا. خرجت أمّ مهيب وهي تقول:
تصبحان على خير. أتمنى لكما ليلة سعيدة.
أغلقت عبير باب الشّقّة من الدّاخل، قلبها يخفق من هيبة ليلة حلمت بها كثيرا، مشت إلى غرفة النّوم فوجدت مهيبا ممدّدا على السّرير بملابسه، حتّى أنّه لم يخلع نعليه، ثانيا يده اليمنى على وجهه فتغطّي عينيه، تقدّمت منه وخلعت حذاءه من قدميه، فسألها:
ماذا تفعلين.
صعقها سؤاله فأجابته وهي تتظاهر بالرّضا والسّعادة:
خلعت نعليك من قدميك؛ كي تستريح.
جلست على جانب السّرير لأكثر من خمس دقائق وهي بفستان زفافها الأبيض دون أن ينتبه إليها، قامت واستبدلت فستان الزّفاف بقميص نوم شفّاف، بعد أن خلعت ملابسها الدّاخليّة، تمدّدت على طرف السّرير بجانبه، استغربت ما يجري دون أن تقوى على تفسير أسبابه، تساءلت في سرّها إن كان مهيب قد أُجبر من والديه على الزّواج منها! أدارت جسدها باتّجاهه ووضعت ساقها على ساقه وسألته:
حبيبي مهيب…هل أنت مريض أو متعب؟
لكنّه بقي على صمته، فرفعت يده عن عينيه وعادت تسأل وهي تمسّد بيدها على ذقنه:
هل تشكو من شيء؟
فقال دون أن ينظر إليها:
لا.
نهضت من السّرير وذهبت إلى المطبخ …غلت فنجاني قهوة، وضعت فنجان قهوة له بجانب سريره، جلست مرّة أخرى بجانبه على حافّة السّرير، أمسكت بيده وقالت:
حبيبي مهيب…قم نشرب القهوة معا.
جلس على السّرير بتثاقل، فسألته:
هل تريد ارتداء منامتك؛ لتأخذ راحتك؟
نظر إليها….تفحّص جسدها بعينيه…جلس بجانبها على حافّة السّرير دون أن يقول شيئا، وضعت فنجانها تحت شفته السّفلى وقالت ضاحكة:
منك رشفة ومنّي رشفة.
أزاح يدها بهدوء….تناول فنجانه وهو يقول:
كلّ منّا يحتسي فنجانه.
احتسى قهوته وقام، أطفأ ضوء الغرفة، أبقى على ضوء “النّوّاسة” الأحمر الخافت، وقف أمام الخزانة…شرع يخلع ملابسه قطعة قطعة ويعلّقها على مشجب في الخزانة، عبير تسترق النّظر وتحرص ألا يرى نظراتها، أبقى على سرواله الدّاخليّ، وعاد إلى عبير أمسك بيدها وقال لها:
هيّا بنا.
سألته على استحياء بدلال وغنج بائن:
إلى أين؟
فأجابها إلى الفراش. وما أن وقفت أمامه حتّى ضمّها إلى صدره، التقط شفتيها بشفتيه، وتمدّدا على السّرير. استمرّ في محاولاته معها حتّى الرّابعه صباحا، وهو يلهث ويستحمّ بعَرَقِه، وهي ممدّدة على ظهرها لا تلوي على شيء، قالت في سرّها:” يا شايف الزّول يا خايب الرّجا”.
عند الرّابعة صباحا استطاع معاشرتها. فانفرجت أساريره وانطلق لسانه، وحمدت هي ربّها لقناعتها الصّائبة بأنّ هذه الليلة هي المرّة الأولى في حياته التي يرى فيها جسد امرأة.
صباح اليوم الثّاني للزّفاف اطمأنّت والدة مهيب على فحولته، بينما اطمأنّت أمّ عزيز على عذريّة ابنتها، بعد أن تناول العروسان وجبة الصّباح التي أحضرتها أمّ عزيز ذهبا إلى القدس لشراء بعض الحلويّات؛ ليأخذها مهيب هديّة لبعض زملائه في الكويت. في شارع صلاح الدّين دخل مهيب أوّل صيدليّة مرّ بها وعبير بجانبه، طلب من الصّيدليّ “منشّط جنسيّ”!
التفت إليه الصّيدليّ وسأله مستغربا:
لمن تريده؟
أجاب مهيب: لي.
– هل أنت جادّ بطلبك؟
– طبعا.
هل تريد حبّة واحدة أم أكثر.
أريد علبة!
أخذ علبة “الفياجرا” وخرجا من الصّيدليّة، فسألته عبير:
لِمَ تحتاج المنشّط الجنسيّ؟
ردّ عليها متسائلا:
ألم تشاهديني في الليلة الماضية.
– شاهدتك، لكنّني أعتقد أنّ سبب ذلك الحياء كونك غير معتاد.
– أنا أعرف نفسي أكثر ممّا تعرفينني.
كظمت عبير صدمتها ولوعتها وتمتمت قائلة:
“أجت الحزينه تفرح ما لقيت لها مطرح” و”رضينا بالهمّ والهمّ ما رضي فينا”.
فسألها: ماذا تقولين.
ردّت عليه: لا شيء.
مشت عبير بجانبه غير مصدّقة لما ترى وتسمع، فكّرت بضعفه القريب من العجز، ولم تجد تفسيرا لذلك، نظرت إلى ما يتحلّى به من وسامة وجمال، فقالت بسرّها:
” الجمال لا يكتمل”.
عندما عادا إلى البيت أخرج من الخزانة علبة دواء، ابتلع منها حبّة، فتغاضت هي عن ذلك ظنّا منها أنّه “المنشّط” الذي اشتراه من الصّيدليّة، وما لبث أن نام قبل أن يتناول طعام غدائه، عندها فتحت الخزانة ورأت الدّواء، قرأت ورقة التّعليمات المرفقة به، ومن التحذيرات المكتوبة فيها: هذا الدّواء مهدّئ للأعصاب ويؤدّي إلى الخمول والكسل، كما يؤثّر على قدرات الرّجال الجنسيّة.
خرجت إلى صالون البيت، أغلقت باب الشّقّة، وبكت حظّها العاثر وهي تقول:
“راحت الفكره وأجت السّكره”. وتساءلت: هل مهيب مجنون؟
طرقت أمّ مهيب باب الشّقّة لكنّ عبير لم تفتح لها الباب، بينما مهيب غاطس في بحر النّوم، مرّت بها شقيقتها أمّ سمير وسألتها:
لِمَ تطرقين باب العروسين؟
ردّت عليها أمّ مهيب:
لقد دخلا قبل دقائق قليلة وأريد أن أُدخل إليهما طعام الغداء، لكنّهما لم يفتحا الباب.
ضحكت أمّ سمير وقالت تلومها:
ابتعدي عنهما…أليسا عروسين؟ عندما يجوعان سيفتحان الباب.
سمعت عبير كلامهما ولم تقل شيئا، لكن عندما ابتعدتا عن باب الشّقّة سمعت أمّ مهيب تهمس لشقيقتها أمّ سمير كلاما لم تتبيّن منه إلا قولها:”حبيب قلبي مهيب”.
حبيب أمّه أمضى يومه وليلته نائما أو مخدّرا أو غير ذلك، عند المساء خرجت عبير من مخدعها، همست لحماتها:
مهيب لم يستيقظ منذ عدنا.
التفتت إليها حماتها وسألتها:
أيّ ساعة نمتما؟
عبير دون اكتراث: لا أذكر.
نهضت أمّ مهيب من جلستها بعد أن أوصت “عبير” ألا تلحق بها، اتّجهت إلى سرير مهيب، وضعت يدها على جبينه، أمسكت بإصبعيها السّبّابة والإبهام أنفه وفركته وهي تقول:
حبيبي مهيب، استيقظ يا عمري.
كان مهيب غاطسا في نوم عميق، هزّته بعنف، عندما فتح عينيه سألته بصوت منخفض:
كم حبّة مهدّئ أعصاب ابتلعت؟
أمسكت بيده وقادته إلى مغسلة الحمام، وطلبت منه أن يغسل وجهه.
عندما جاءت أمّ عزيز اختلت بابنتها جانبا، فقالت لها عبير:
يبدو أنّ مهيبا مجنون! وأخشى مرافقته إلى الكويت.
ردّت عليها والدتها:
لا أريد أن أسمع هكذا كلام منك مرّة ثانية “فالغول أكل جميع النّاس وما أكل زوجته.”
نزلت عبرات من عيني عبير وهي تقول:
ما رأيك أن تخبري جدّي؛ كي يضغط عليهم؟ ليبقى مهيب هنا مدّة أسبوع على الأقلّ؛ لنتعرّف عليه.
أمّ عزيز: الزّوجة العاقلة ترافق زوجها أينما حلّ وأينما ارتحل دون شروط.
في صالة البيت سأل الجدّ أبو نعمان مهيبا الذي يجلس متثائبا مطأطئا رأسه:
لِمَ هذه العجلة يا مهيب؟ أليس بالإمكان تمديد إقامتك لمدّة أسبوع على الأقلّ؟
لم يجب مهيب على السّؤال، وحتّى لم يكترث به.
فعاد الجدّ يسأل مرّة أخرى ولم يحصل على جواب، لكنّ عبير السّعيدة بسؤال جدّها لفتت انتباه عريسها؛ ليردّ على السّؤال، فأجاب بصوت غاضب مرتفع:
سمعت السّؤال…
فقطع أبوه كلامه وقال له:
إهدأ يا مهيب، وأجب على سؤال عمّك أبي نعمان، والتفت الأب إلى أبي نعمان وقال:
يبدو أنّ مهيب مرهق بسبب سهره الطّويل الليلة الماضية مع عروسه.
لكنّ مهيبا لم يواصل سكوته، بل التفت إلى أبي نعمان وإلى والده وقال بعصبيّة:
هل تريدانني أن أخسر عملي بسبب زواجي من عبير؟ وأضاف: سأعود غدا إلى الكويت، كي نشتري أثاثا للبيت؛ ولتتعرّف عبير على الحيّ الذي نسكنه.
قدحت عينا والد مهيب شررا من شدّة الغضب، وهو ينظر إلى مهيب ليهدأ، وقال في محاولة منه لتهدئة ابنه ولترقيع الوضع أمام العروس وأهلها:
مهيب يا أبا نعمان يحسب وقته بدقّة، دائما ينظر إلى عواقب الأمور، فهو يريد باستعجاله السّفر أن يكسب وقتا لصالح عبير، كي تتعرّف على الكويت خلال إجازته.
نظر مهيب إلى والده وإلى أبي نعمان وقال:
إذا كنتما تحبّان عبير حقّا فاتركاها عندكما.
صعق الحضور من كلامه، ارتجفت يدا أبي نعمان من شدّة الغضب، في حين غادرت عبير الجلسة غاضبة باكية، بينما قال له أبوه بعد أن اعتذر من أبي نعمان:
إذهب إلى شقّتك وواصل نومك حتّى ترتاح.
استند الجدّ أبو نعمان في جلسته أوقف عصاه بشكل عمودي أمامه، أحاط رأسها بيديه، ألقى ذقنه عليهما وقال لأبي مهيب:
“المكتوب بنقرا من عنوانه”…اسمع يا خال” المخبّا بندوق” و”الشّمس ما بتتغطّى بغربال” ابنك مجنون وبحاجة لعلاج، وعبير ستبقى عندنا حتّى يشفى.”
قام أبو مهيب وأخذ يقبّل رأس أبي نعمان وهو يقول:
مهيب ليس مجنونا يا خال، لكنّه لم ينم في الليلة الماضية، حقّك علينا، والآن سألحق بمهيب وسآتيك به؛ ليقبّل يديك ورأسك، مهيب شابّ طيّب لم يقصد ما قاله، وهو يريد العودة لعمله بصحبة عروسه عبير التي يموت حبّا بها.
لحق أبو مهيب بابنه، وجد أمّه عنده تهدّئه، فقال له باستياء شديد:
هل أخذت دواءك يا حبيب أمّك؟ متى أخذت آخر حبّة؟ وأمر أمّه أن تعطيه حبّة دواء أخرى ليهدأ، وبعدها قاده ليعتذر لأبي نعمان.
رفع أبو نعمان رأسه وقال لأبي مهيب:
” أوّله أهونه” كلام ابنك يعني أنّه لن يستر البنت، “وبنتنا مش زيادة البيّاع.”
قال أبو مهيب يستجدي أبا نعمان:
صلّ على النّبيّ يا خال، مهيب شاب يعجبك، لكنّه مضغوط بسبب ضيق وقته، “فالتمس له عذرا.”
ردّ أبو نعمان: أقسمت إن سافر غدا فلن ترافقه عبير.
أبو مهيب متوسّلا: كيفما تريد…لن يسافر غدا.
بقي مهيب صامتا…وما لبث أن غادر الصّالون إلى غرفة نومه. وهنا غادر الجدّ أبو نعمان المكان رغم إصرار أبي مهيب عليه للبقاء، وعندما مرّ بعبير قال لها أن لا ترافقه إن سافر يوم غد.
بكت عبير حظّها العاثر، لم تصدّق ما يجري حولها، حاولت تبرير تصرّفات مهيب في محاولة منها لخداع نفسها، فالحياة كلّها خداع في خداع، سرحت بخيالها إلى البعيد، حلّقت روحها بعيدا لتحطّ رحالها على شواطئ الكويت، فتبني هناك عشّها الدّافئ بعيدا عن عيون الشّامتين والشّامتات، فهل سيتحقّق حلمها؟ لم تنم ليلتها تلك، أو بالأحرى لم يشاركها مهيب النّوم على سريرهما، فقد أمضى ليلته ممدّدا على “صوفا” في الصّالة، واضعا رأسه في حضن أمّه كطفل، وكلّما نظرت عبير لحماتها، كانت الحماة تقول:
هذا حسد يا بنيّتي! لكنّها شدّة لا تلبث أن تزول.
استغلّ أبو مهيب الوقت بعد خروج أبي نعمان، فذهب إلى الطّبيب الذي يعالج “مهيب” ورجاه أن يأتي معه لمعاينة مهيب، بعد أن أوصاه أن لا يقول شيئا عن الحالة أمام العروس.
جسّ الطّبيب نبض مهيب، ثمّ أعطاه حقنة في الوريد، غفا مهيب بعدها ساعتين كاملتين، واستيقظ هادئا كأنّ شيئا لم يكن.
قادته والدته إلى السّرير، تركته برعاية عبير وخرجت، اقتربت منه عبير، حاولت مواساته ومداعبته، لكنّه لم يستجب لها.
صباح يوم الأحد استيقظ مهيب هادئا نشيطا، قاده أبوه إلى بيت الجدّ أبي نعمان في محاولة منه لتبديد شكوك الجدّ حول الوضع الصّحّيّ لمهيب.
قال أبو مهيب لأبي نعمان: يا خال مهيب أجّل سفره اليوم بناء على طلبك، وها هو جاء ليعتذر لك عمّا بدر منه يوم أمس، فقد كان قلقا ومرهقا.
التفت أبو نعمان إلى مهيب وسأل:
كيف حالك يا مهيب؟
ردّ مهيب وهو مكسور الجناح:
أطلب رضاك يا خال!
فقال أبو نعمان: ربنا يرضى على الجميع. وسأل: متى ستعود إلى عملك في الكويت يا مهيب؟
ردّ مهيب: أنا لا أحبّ الغربة يا خال، لكن كما قال المثل:” شو دفعك ع المّرّ؟ قال: الأمرّ منه”. ولو وجدت عملا هنا لما غادرت وطني وأهلي.
أبو نعمان: لكنّك لم تقل لي متى ستسافر؟
– عندما تأذنون لي يا خال.
وهنا تدخّل أبو مهيب وقال:
مهيب لن يسافر قبل أن يزور هو وعروسه بيتكم العامر يا خال، أي بعد أسبوع.
احتار أبو نعمان فيما يرى وفيما يسمع، فمهيب اليوم يختلف عن يوم أمس، دعا الله أن يهدي مهيبا؛ كي يعيش حياة هانئة مع عبير.
لم تلحق عبير بعريسها وحميها إلى بيت أهلها، فمن غير اللائق -حسب العادات- أن تزور العروس بيت أهلها قبل مرور أسبوع على زفافها، والزّيارة تكون برفقة العريس، وإن فعلتها وزارت بيت أهلها قبل مرور أسبوع على زفافها فإن الأقاويل ستطاردها، وقد تّتّهم بشرفها، التزمت عبير بالعادات رغم عدم قناعتها بها، بل إنّها لعنتها ولعنت من ابتدع هكذا عادات.
خرجت أمّ عزيز من بيتها عند أذان الفجر، واتّجهت إلى “العين التّحتا”، توضّأت من مائها، وصلّت الفجر في مسجد عمر الذي يعلو مدخل العين، دعت الله أن يفرّج الكرب وأن يشفي مهيبا من الأمراض ومن العيون الحاسدة، كانت على قناعة بأنّ الله سيستجيب لدعائها خصوصا وأنّها توضّأت بماء العين الذي تعتقد بقدسيّته. أمّا عبير فقد عرضت على حماتها أن ترافقها إلى المسجد الأقصى لآداء صلاة الظّهر، ولتدعوا الله من أقرب نقطة في الأرض إلى السّماء، لكنّ الحماة أوضحت لعبير أنّه من غير اللائق أن تذهبا إلى المسجد في هذه الأيّام؛ لأنّ هناك من يأتين مباركات بالزّفاف، ولا يجوز أن لا يجدن العروس في بيتها!
عاد مهيب من بيت أبي نعمان إلى بيته وهو يشعر بالرّضا عن نفسه، أغلق باب شقّته واختلى بعروسه التي حمدت ربّها وهي تقول:”غمّه وزالت”، طمأنها مهيب بأنّ حياتهما ستكون على ما يرام في الكويت، فهناك لن يجدا من يراقب حركاتهما أوّلا بأوّل كما يجري هنا.
سعادة أمّ مهيب كبيرة فهي على قناعة تامّة بأنّ الله قد استجاب لدعواتها في مسجد “العين المباركة”! ولامت نفسها لأنّها لم تنتبه من قبل لقدسيّة المكان.
********
بعد أسبوع من زفاف مهيب وعبير زار العروسان بيت أهل العروس، ومهيب في منتهى اللياقة واللباقة ممّا أدخل الفرح إلى قلب الجدّ أبي نعمان، الذي راقب كلّ حركة من حركات مهيب، فحمد الله كثيرا وهو يلعن الشّيطان ويقول:”شدّة وزالت”.
عند عصر ذلك اليوم قال مهيب موجّها حديثه لأبي نعمان وأمّ عزيز:
سنسافر غدا يا خال إذا أذنتما لنا، وإذا أمرتماني بترك عملي في الكويت فأمركما مطاع.
ردّ عليه أبو نعمان باسما:
الرّجال كما الصّقور يحلّقون في السّماء ويحطّون على أرزاقهم في الأرض، “وحلّق وطوف غير رزقك ما بتشوف”، ولست بحاجة كي أوصيك بعبير “فالنّساء وديعة الأجاويد.”
فردّ عليه مهيب ضاحكا:
عبير في عينيّ وفي قلبي يا خال…ومن لي في الكويت غير عبير؟
انتقلوا إلى بيت أبي مهيب في ساعات المساء لتوديع العروسين، كانت سهرة ماتعة جعلت عبير تحلّق في سماء جنّة السّعادة التي حلمت بها كثيرا. خفق قلب عبير فرحا عندما سألتها سلوى زوجة أخيها عزيز:
من الأفضل الحياة قبل الزّواج أم بعده؟
فردّت عليها ضاحكة: طبعا بعد الزّواج.
عند ساعات الوداع بكت عبير عندما قبّل جدّها وجنتيها وسالت دموعه على خدّيها، وازداد بكاؤها وهي ترى والدتها تبكي هي الأخرى، أمّا مهيب فقد اعتاد على السّفر ولم يبكِ. استقلّا السّيارة وعبير تلتفت خلفها وكأنّها تودّع المكان. عندما عبرا الجسر شرقا والتفتت خلفها علا شهيق بكائها، التفت إليها مهيب وسألها:
لِمَ تبكين؟ هل أنت صغيرة؟
فردّت عليه: وهل من يغادر وطنا وأهلا لا يبكي؟
حجزا للسّفر بالطّائرة من مطار الملكة علياء في عمّان، فالطّريق البرّيّ لم يعد آمنا بعد احتلال العراق وهدم دولته.
عندما حلّقت الطّائرة في الجوّ رأت عبير نفسها طائرا يحلّق في الفضاء وهي تنظر الأرض من نافذة الطّائرة. ما أن هبطت الطّائرة في مطار الكويت الدّوليّ حتّى انفرجت أساريرها، لم تخبر مهيبا أنّ مخاوف راودتها عندما دخلت الطّائرة، فهذه هي المرّة الأولى التي تستقلّ فيها طائرة، لكنّ مهيبا تبرّع بطمأنتها عندما قال بأنّ السّفر جوّا أكثر أمْنا وأمَانا من البرّ والبحر.
في مطار الكويت وجدا مصطفى صديق مهيب في انتظاره، فقد هاتفه مهيب من عمّان وأبلغه برقم الرّحلة الجوّيّة ووقت إقلاعها وهبوطها. عرّف مهيب زميله مصطفى على عروسه عبير، فقال مصطفى وهو يصافحها:
أهلا أختي عبير.
أوقف مصطفى سيّارته أمام بناية من عدّة طوابق، في الشّقّة الواقعة في الطّابق الخامس حطّوا رحالهم. جلسوا في صالة البيت، وما لبث مصطفى أن اتّجه إلى المطبخ لإعداد القهوة، احتسوا القهوة، واتّجه مصطفى إلى غرفة بعد أن استأذن، همست عبير لمهيب:
كيف يدخل هذا الرّجل غرفة في البيت بهذه الطّريقة؟
ردّ عليها مهيب وهو يطأطئ رأسه:
أجرة البيوت هنا مرتفعة، لذا استأجرت وزميلي مصطفى هذه الشّقة لنتقاسم أجرتها، ومصطفى هذا شابّ أردنيّ مؤدّب حييّ، وكما ترين فقد وضعنا حاجزا خشبيّا يفصل بيننا وبينه.
كتمت عبير غيظها مستغربة ما سمعت، فضاع الكلام منها.
انتبه مهيب لذهول عبير فقال:
لا تنزعجي لذلك، فلغرفة مصطفى حِمّام خاصّ بها، ولن يتسبّب لنا بأيّ ازعاج.
حمل مهيب الحقائب ودخل إلى غرفة النّوم وطلب من عبير أن تتبعه. عندما دخلت عبير الغرفة جلست على حافّة السّرير مصدومة، فصدر منه صوت صرير وكأنّه لوح “زينكو” تتطايره الرّياح. تمدّد مهيب على السّرير فازداد الصّرير.
التفتت عبير إلى مهيب وسألت:
كيف سنعيش في هكذا بيت مع رجل غريب، وأثاث متهالك صرير سريره يتجاوز حدود الشّقّة.
ردّ عليها مهيب بهدوء:
حبيبتي عبير…هذه مرحلة مؤقّتة من حياتنا، فوجودنا في الكويت لعدّة سنوات، سنجمع فيها ما نستطيع من مال وسنعود إلى بلادنا…نبني بيتا جديدا، نؤثّثه كما نريد، ونعيش حياتنا كما نشاء!
لم تقل عبير شيئا فقد باتت مصدومة ممّا ترى وتسمع، وما عادت لديها خيارات بعد أن وجدت نفسها حبيسة في مكان لا تعرفه ولا يعرفها، نزلت دموعها وهي ترتّب الملابس في الدّولاب، رآها مهيب تبكي فسألها:
لِمَ تبكين يا عبير؟
التفتت إليه مغتاظة وقالت ساخرة:
أبكي فرحا لوجودي في هذا المكان الجميل المريح!
لم يفهم مهيب مرادها فقال:
نعم هكذا أريدك سعيدة دائما.
صدمها كلامه، فبكت حظّها العاثر وهي تتذكّر ما كانت تردّده والدتها ” أجت الحزينة تفرح ما لقت لحالها مطرح”، فكّرت قليلا ووجدت لأمّها عذرا بهذه المقولة بعد أن نُكبت بزوجها وأبنائها في ذلك الحادث المريع، وتساءلت في داخلها إذا كانت التّعاسة والأحزان وراثيّة!
قطع مهيب حبل أفكار التّيه التي تخيّم عليها فقال:
حبيتي عبير…إذا لم يعجبك السّكن في هذا المكان، فغدا سنبحث عن بيت نستأجره في “السّالميّة”، حيث سكن المرحوم والدك وعشتم معه فيه.
التفتت عبير إليه بابتسامة عفوّية وهي تتذكّر طفولتها في ذلك المكان الذي ما عادت تعرفه، وسألت:
هل تعرف حقيقة المكان الذي كانت تسكنه أسرتنا؟ وكيف؟
ردّ عليها بثقة: نعم أعرفه، وقد دلّني أبي عليه عندما زارني قبل عامين، وقال بأنّه زار أباك -رحمه الله- فيه.
فرحت عبير وقالت وهي تنظر إليه:
ليتك تأخذني إلى ذلك المكان، فما زالت ذكرياته في مخيّلتي.
سألها: ما رأيك أن نخرج الآن لنتناول طعام عشائنا في مطعم قريب، وغدا سنتجوّل في المدينة وسنشتري بعض الأشياء لبيتنا؟
ردّت عليه: أنا مرهقة وأريد أن أرتاح قليلا.
فقال لها: خذي راحتك كيفما تشائين سأذهب وحدي. لا تخافي شيئا، فمصطفى رجل خلوق مستقيم، ولن يزعجك.
سألت محتارة: من مصطفى هذا؟
ردّ عليها بهدوء: شريكنا في الشّقّة.
تمدّدت عبير على طرف سريرها دون حراك بعد أن أغلقت باب الغرفة عليها، لم تجرؤ على الحركة مهما كانت بسيطة خوفا من صرير مفاصل السّرير المزعج. أرهقها القلق والتّفكير حول مصيرها في بلاد لا تعرف فيها أحدا، ولا يعرفها أحد فيها، فرغم عشقها للكويت ولشعبها الطّيّب حيث عاشت في كنف والديها طفولتها المبكّرة، إلا أنّها باتت تخشى على نفسها، ولو أنّها تذكّرت الحادث المروّع الذي جرى لوالديها ولإخوانها وهم في طريقهم إلى الكويت لما عادت إلى هذه البلاد ثانية، “فالمتعوس متعوس لو ضويت له ألف فانوس”.
لم تزد غيبة مهيب خارج البيت أكثر من نصف ساعة، عاد يحمل في يديه بعض المعلّبات، بعض الخضار، دجاجة مشويّة على الكهرباء، وبضعة أرغفة من الخبز، عندما فتح باب الشّقّة ارتجفت عبير خوفا، لكنّه عندما تنحنح وهو يدخل المطبخ ليضع مشترياته، شعرت بنوع من الطّمأنينة بعد أن عرفته من صوته، وبقيت متسمّرة مكانها. وضع الدّجاجة المشويّة والخبز على طبق واتّجه إلى غرفة النّوم، عند الباب طلب منها أن تفتح الباب ففتحته وعادت إلى السّرير، طلب منها أن تنهض لتشاركه طعام العشاء، لكنّها ردّت عليه بأن لا رغبة لها في طعام ولا شراب، شرع يأكل طعامه، فاستغلّت وجوده وقامت تستحمّ؛ لتتخلّص من وعثاء السّفر.
العنود وراشد
نامت عبير ليلتها وهي تحلم بحيّ السّالمية، فهو المكان الأوّل الذي تفتّحت عيناها فيه على الحياة، فقد عاشت فيه ثماني سنوات طفولتها الأولى، عادت بذاكرتها إلى أطفال الحيّ الذين كانت تشاركهم اللعب والمرح، تذكّرت جمانة، عبدالله، رباب، جابر وعفراء، وتذكّرت زميلاتها في الصّفوف الإبتدائية الثلاث الأولى. ضحكت عندما عادت إلى وعيها ووجدت أنّ صديقاتها وأصدقاءها الأطفال قد صاروا في عمر العشرين عاما الآن، وبعضهم ربّما أصبحوا أزواجا، وربّما البعض منهنّ صرن أمّهات. لكنّ حنينها انصبّ على العنود صاحبة العقار الذي استأجره المرحوم والدها من زوجها، والتي تسكن بجوارهم في “فيللا” فاخرة. فالعنود تصغر لبنى والدة عبير بحوالي أربع سنوات، امرأة ذات حسب ونسب، تتحلّى بجمال وعادات بنات العرب الأقحاح، هيفاء سمراء البشرة، نحيلة الخصر، عيناها حوراوتان واسعتان، رموشها سوداء طويلة، شفتاها رقيقتان يصطفّ خلفهما أسنان بيضاء كحبّات اللؤلؤ الطّبيعيّ، شعرها ناعم فاحم كسواد الليل، خفيفة الظّلّ لا تفارق البسمة شفتيها، وهي أمّ لثلاثة صبيان، أصغرهم يكبر “عبير” بعامين. كانت بمثابة الأمّ الثّانية لعبير، فقد كانت تداعبها وتلاعبها وكأنّها الأمّ التي أنجبتها، كانت تكثر من الدّعاء لله أن يرزقها بنتا مثل عبير. حتّى أنّ عبير كانت تخاطبها بماما تماما مثلما تخاطب أمّها، والعنود أيضا كانت تخاطب “عبير” بماما أيضا. لعنت عبير ذلك اليوم الذي تعرّضت فيها أسرتها لذلك الحادث المريع الذي أودى بحياة والدها وشقيقيها، ومنذ ذلك اليوم وحتّى الآن انقطعت الأخبار بين الأسرتين.
عندما وصلت عبير وزوجها مهيب الحارة التي كانت تسكنها وأسرتها، لم تعرفها للمرّة الأولى، فقد تغيّرت كثيرا، فهناك أبنية من عدّة طوابق قد أقيمت، وأقيمت أسواق جديدة، أمام البيت الذي كانت تعيش عبير وأسرتها فيه أوقف مهيب سيّارته، وفجأة رأت عبير العنود فقفزت من السّيّارة كالسّهم، قبّلت يد العنود واحتضنها وقبّلت وجنتيها، وهي تقول وسط ذهول العنود: ماما حبيبتي! نظرت إليها العنود وقالت بعد أن نظرت متمعنّة وجه عبير:
عبير…بنتي حبيبتي! ما شاء الله! وعادت تحتضنها من جديد وسط دموع كلتيهما.
سألت العنود: طمئنيني عن أمّك؟ سمعنا بالحادث المريع الذي جرى لأسرتكم، ووصلتنا الأخبار بأنّ نعمان وأسرته قد قضوا نحبهم في ذلك الحادث!
ردّت عليها عبير وهي تبكي:
نجوت أنا وأمّي وشقيقي عزيز بعد أن أصبنا بكسور تعافينا منها. وها أنا أعود إليك -وهي تشير إلى مهيب-عروسا بعد أن تزوّجت قبل عشرة أيّام من ذاك الشابّ الذي يعمل محاسبا في شركة كويتيّة.
العنود وهي تتّجه إلى سيّارة مهيب:
شرّفتما الكويت بحضوركما.
صافحت العنود مهيبا وطلبت منه أن ينزل من السّيّارة، وأن يدخل هو وعبير إلى البيت. في صالة البيت قالت العنود لمهيب:
عبير ابنتي وأنت منذ الآن مثل ابني.
شكرتها عبير وقالت:
جئنا نبحث عن بيت للإيجار قريبا منكم.
قالت العنود والسّعادة بائنة على وجهها:
بيتنا بيتكم…ثمّ أمسكت بسمّاعة الهاتف واتّصلت بزوجها:
يعطيك العافية راشد.
– أهلا.
– هل تعلم من عندنا في البيت الآن؟
– من؟
– حاول أن تعرف؟
– لا أعلم بالغيب….من؟
– هل تذكر عبير بنت نعمان ولبنى؟
– طبعا أذكرها.
– هي وزوجها عندي في البيت.
– زارنا السّعد…يا إلهي هل كبرت عبير وصارت زوجة؟ لا تسمحي لهما بالخروج…أنا الآن عائد إلى البيت….نصف ساعة وسأكون عندكم.
أعدّت العنود القهوة، ونظرت بإعجاب إلى مهيب وقالت له:
إسمع يا ولدي…عروسك من خيرة النّساء وهي مثل ابنتي، والدتها لبنى في القدس الشّريف الآن، ومنذ اليوم أنا والدتها، وهذا ما كنته في طفولتها.
عندما وصل راشد “أبو سالم” عانق مهيبا وقبّل جبين عبير وهو يقول:
أهلا بك وبزوجك يا ابنتي. وما أن جلس أبو سالم حتّى عادت العنود تسأل:
طمئنينا عن والدتك وشقيقك عزيز يا عبير؟
والدتي -الحمد لله بخير-، وعزيز سينهي هذا العام دراسته الجامعيّة، وقد تزوّج، أمّا جدّي لأبي فيتمتّع بصحّة جيّدة رغم شيخوخته، وحزنه الشّديد على جدّتي التي اختطفها الموت قبل حوالي خمس سنوات. لقد شقي كثيرا من أجلنا خصوصا بعد وفاة ابنه الوحيد المرحوم أبي.
ضربت العنود كفّا على كفّ وقالت:
رحمة الله عليك يا أمّ نعمان، فقد كانت إنسانة رائعة، تعرّفنا على جدّيك يا عبير عندما زارا والديك هنا…وقتها أنت كنت طفلة صغيرة…هل تذكرين تلك الزّيارة؟
عبير: لا أذكر فقد كنت في السّنة الثّانية من عمري كما قالت لي أمّي…وأضافت عبير: عندما غادرنا ديارنا في القدس في طريقنا إلى الكويت، أوصاني جدّي وأمّي أن أحرص على زيارتكما وأن أبلّغكما سلامهما، وأوصتني أمّي بأن ألجأ إليكما إذا مررت بضائقة، ومرّات عديدة حدّثتني عن ذكرياتها مع أسرتكم الكريمة.
وهنا قال أبو سالم: نتمنى لكم إقامة سعيدة في بلادنا، فالكويت بلدكما الثّاني، وعندما تستقرّان هنا نتمنّى أن يأتي جدّك وشقيقك ووالدتك لزيارتكما؛ كي ننعم برؤيتهم والحديث معهم.
ضحكت العنود وقالت:
نسأل الله أن تتحرّر فلسطين قريبا، عندها سنزوركم في القدس، وسنصلي في المسجد الأقصى.
ردّت عليها عبير وهي ترفع يديها إلى السّماء:
يا ربّ….وسنتشرّف بكم بيننا في جنّة السّماوات والأرض.
بعد حوالي ربع ساعة من وصول أبي سالم، غمز مهيب بطرف عينه لعبير، واستأذن للمغادرة، فردّ عليه أبو سالم:
إسمع يا ولدي،:”الخروج من الحمّام مش مثل دخوله”، والدا عبير مثل إخوتنا، ولن تخرجا من هذا البيت قبل أن تأخذا واجب الضّيافة، و” حقّ الضّيف ثلاثة أيّام وثلث اليوم”، أعتقد أنّكما تعرفان ذلك، أمّا عبير فهي مثل ابنتنا، تربّت بيننا، وأنت زوجها مثل ابننا أيضا، بعد قليل سنذهب لمطعم قريب؛ لنتناول طعام الغداء بمعيّتكما، وستعودان معنا إلى بيتنا، وغدا طعام الغداء ستعدّه أمّ سالم في البيت، وهنا قالت العنود لزوجها:
عبير وزوجها يبحثان عن بيت في حيّنا ليستأجراه.
ردّ أبو سالم ضاحكا:
يا لمحاسن الصّدف، أسرة المهندس المصري الذي يستأجر الشّقّة الأرضيّة التي عاش فيها المرحوم نعمان -والد عبير-وأسرته، أخبرني اليوم بأنّه سيعود وأسرته إلى بلاده بعد أسبوع، فقد أنهى عمله وقبض حقوقه بسبب شيخوخته، وستكون الشّقّة جاهزة لعبير وزوجها، وحتّى يحين وقت مغادرتهما فعبير وزوجها سيسكنان في جناح الضّيوف عندنا، والتفت إلى عبير وسألها:
هل تذكرين جناح الضّيوف يا عبير؟
أجابت عبير باسمة:
نعم أذكره لكنّي لا أعرف تفاصيلة، فقد كنت طفلة يا عمّ.
أبو سالم: جناح الضّيوف منفصل عن شقّتنا هذه، رغم أنّه يلاصقها، له مدخل منفصل، فيه غرفة نوم ومطبخ، صالة واسعة للضّيوف وحمّامان، أثاثه فاخر يليق بكما، ستقيمان فيه حتى يخلي المهندس المصريّ الشّقّة. وستجدان كلّ متطلّبات الحياة فيه.
ذهل مهيب ممّا يسمع، فقال:
شكرا لك يا عمّ فلنا شقّتنا المستأجرة من قبل.
أبو سالم: متى عدتما إلى الكويت، فقد سمعت منكما أنّكما وصلتما يوم أمس؟ فكيف استأجرتما شقّة بهذه السّرعة؟
مهيب: استأجرتها أنا وزميل أردني قبل أربع سنوات.
سألت العنود مذهولة:
وهل نمتما في الشّقّة نفسها التي تتشارك السّكن فيها مع زميلك الأردنيّ؟
سبقت عبير زوجها بالكلام فقالت:
زميل مهيب يسكن في غرفة شبه منفصلة، لا يرانا ولا نراه، ومع ذلك جئنا إليكم
نبحث عن شقّة أخرى؛ لنستأجرها.
شعر مهيب بأنّه تورّط في أمور لم يحسب لها حسابا فقال:
لا نريد أن نثقل عليكم يا أهل الخير، سننام في شقّتنا حتّى تكون الشّقّة التي تتكلّمون عنها جاهزة.
ردّ عليه أبو سالم بلهجة حازمة:
ماذا تقول يا رجل؟ قلت لكما بأنّكم مثل أبنائنا، وعبير ابنتنا منذ ولادتها، وأنت أصبحت مثل ابننا بعد زواجك منها، ولن نسمح لكما بالمغادرة.
راودت مهيبا أفكارٌ أوقعته في حيرة، فقد رأى وسمع جدّيّة مضيفيهما فيما يقولان، ووجد نفسه في ورطة يصعب عليه الخلاص منها فحوقل وقال:
سأتّصل بزميلي صافي لأخبره بأنّنا لن نعود إلى الشّقّة، فالتفتت إليه عبير وقالت:
بعد الغداء ستذهب بسيّارتك لإحضار ملابسنا وأغراضنا، وستخبر زميلك وجها لوجه.
مهيب: لا بأس وسأدفع له حصّتي من أجرة البيت لمدّة شهر حتّى يتدبّر أمره.
أبو سالم: شقّتنا يا أستاذ مهيب مقدّمة لكما دون أجرة لمدّة سنة كاملة، وهذا أقلّ ما يمكن تقديمه كهديّة لابنتنا عبير التي غادرتنا طفلة وعادت إلينا عروسا، ولا تنسيا أنّكما من فلسطين الحبيبة التي نفتديها بأرواحنا.
وهنا تدخّلت أمّ سالم وقالت:
هديّة عبير بمناسبة زواجها أكبر من أجرة البيت، وستأتيها يوم غد.
ضحك أبو سالم وقال:
ليتك ما قلتِ ذلك يا العنود، فقد فكّرت بذلك واحتفظت به لنفسي، كي يكون مفاجأة لعبير.
قالت عبير على استحياء للعنود:
لا داعي لذلك يا ماما، والتفتت إلى أبي سالم وقالت: يا عمّ.
اتّصل أبو سالم بولده غانم وقال له:
في ضيافتنا عروسان عزيزان، أحضر معك كلّ المتطلّبات من خضار وفواكه، لحوم وأسماك، عصائر، مشروبات غازيّة، ماء ومعلبات وضعها في جناح الضّيوف.
غانم: من العروسان اللذان تتكلّم عنهما يا أبي؟ هل أعرفهما؟
ابتسم أبو سالم وهو يقول:
نعم أنت تعرف العروس وستتعرّف على العريس عندما تصل البيت. هل تذكر عبير بنت الفلسطينيين نعمان ولبني؟
غانم: نعم أذكرها ولعبت معها في طفولتنا، لكنّي سمعت أنّ نعمان وأسرته قد ماتوا جميعهم بحادث طرق مريع.
أبو سالم: هذا ما سمعناه وقتذاك، لكن تبيّن أنّ لبنى وابنتها “عبير” وابنها “عزيز” قد أصيبوا بكسور تعافيا منها، وها هي تعود إلينا عروسا مع عريسها الذي يعمل في بلادنا هو الآخر.
في جناح الضّيوف
اصطحبت العنود “عبير” إلى جناح الضّيوف، عندما دخلتا الجناح، دهشت عبير من أثاث الصّالون وغرفة النّوم وأواني المطبخ الفاخرة، لكنّها لم تقل شيئا، جلستا في الصّالون، وهنا قالت العنود:
زوجك شابّ وسيم يا عبير، ووسامته تليق بجمالك السّاحر، لكنّني أستغرب صمته غير المبرّر، فهل هو واقع تحت وطأة الغربة أم “وراء الأكمة ما وراءها”؟
تجاهلت عبير السّؤال ولم تقل شيئا.
بقيتا في الجناح حتّى عاد غانم الرّاشد إلى البيت محمّلا بالأغراض التي تحتاجها كلّ أسرة، أوقف سيّارته أمام البيت وشرع ينقل الأغراض، عندما دخل سأل والدته:
أين عبير؟
وقفت عبير باسمة ومدّت يدها تصافح “غانم” وقالت:
أهلا أخي غانم.
نظر إليها غانم متمعّنا وقال متعجّبا:
يا إلهي كيف تمرّ الأيّام والسّنون بسرعة! ظننتك لا تزالين طفلة يا عبير، ولو صادفتِني في الشّارع لما عرفتك.
ضحكت عبير وهي تقول:
وأنا أيضا ظننت أنّك لا تزال طفلا، ولولا الخالة والدتك قالت وهي تشير إليك: هذا غانم قد عاد، لما عرفتك.
قالت العنود لعبير وغانم بعد أن أنهت هي وعبير ترتيب الأغراض في الثّلاجة، وفي خزانة المطبخ:
هيّا بنا نعود إلى البيت حتّى يعود مهيب.
سأل غانم: من مهيب هذا؟
ردّت عبير: مهيب زوجي.
في البيت قالت العنود لابنها:
نحن تناولنا طعامنا فهيّا إلى الصّالة فرافقتها عبير لتساعدها في أعمال المطبخ، إلا أنّ العنود أقسمت على عبير أن لا تدخل المطبخ للعمل، وأضافت بأنّ الخادمة ستنهي إجازتها وستعود إلى عملها قبل غروب اليوم.
هاتفت عبير مهيبا تسأله عن مكان وجوده ولِمَ تأخّر؟
ردّ عليها بكلمات حرصت ألّا يسمعها مضيفوها، فهو متخوّف من الإقامة في بيت أبي سالم. وقالت له:
دعك من هذه الوساوس وتعال، وإذا رأيت – وهذا مستحيل-ما لا يعجبك سنغادر!
قال مهيب بصوت خافت يصاحبه أنين:
سأبقى مع مصطفى حتّى المساء، وعندما أعود دعينا نذهب إلى المكان الذي خصّصوه لنا؛ لنرتاح، فأنا مرهق.
عبير: كما تريد لكن لا تتأخّر.
قبل الغروب بقليل استأذنت عبير من مضيفيها؛ كي تذهب لجناح الضّيوف الذي خصّصوه لها ولزوجها، بعد أن ادّعت كاذبة بأنّها مرهقة وتريد أن ترتاح، لكنّها أضمرت أن تنتظر مهيبا حتّى يعود، فهي تعرف أنّه لا يطيق مخالطة البشر.
جلست على كرسيّ بجانب نافذة الصّالون في جناح الضّيوف؛ كي تنتظر مهيبا، فقد باتت تخشى تصرّفاته أمام الآخرين، أطفأت الأضواء كي لا يراها أحد، حاورت القمر والنّجوم؛ كي تتغلّب على وحدتها.
عندما ترجّل مهيب من سيّارته أمام البيت قفزت من مكانها، ركضت إليه وطلبت منه أن يرافقها إلى جناح الضيوف. عندما دخل الجناح بُهت ممّا شاهده، فهذا أثاث فاخر لم يحلم برؤيته مدى حياته، قادته عبير في أرجاء الجناح؛ ليرى المكان وليتعرّف عليه، في المطبخ فتحت أمامه الثّلاجة والخزائن، وقالت له:
انظر ما أحضروه لنا….هذه الأسرة الكريمة يا مهيب قلّ مثيلها، أنا أذكرهم في طفولتي الأولى، وقد شاهدتَ بعينيك كيف استقبلونا. وأضافت: هل أنت جائع كي أجهّز لك طعاما؟
ردّ عليها بتكاسل:
كيف سأجوع بعد كلّ ما أكلناه في المطعم؟
فردّت عليه: هل تريد أن تشرب شيئا؟
– أريد ماء فقط.
تناولت عبير زجاجة ماء وقدّمتها مع كأس لمهيب وهي تقول:
تفضّل يا حبيبي…هل تريد أن نجلس في الصّالون أم في غرفة النّوم؟
أجابها: دعينا نذهب إلى فراشنا.
كما تريد.
اتّجه مهيب إلى غرفة النّوم…خلع حذاءه وتمدّد على طرف السّرير، لحقت به عبير…فتحت حقيبتي الملابس، قدّمت لمهيب منامته؛ ليستبدل بدلته، بينما هي أخذت ترتّب الملابس في الخزانة.
لم يتحرّك مهيب من مكانه، لم تحتج عبير لوقت لترتيب الملابس، فسرعان ما انتهت منها، خلعت ملابسها…لم ترتدِ قميص نومها، بقيت بملابسها الدّاخليّة، تمدّدت بجانب مهيب من جهته اليمنى، ثنت ساقها على ساقه؟ مدّت يدها تمسّد ذقنه، فركت جبينه، قبّلت شفتيه، لكنّه لم يحرّك ساكنا، قالت له:
حبيبي مهيب انهض…ما رأيك أن تستحمّ؟ أمسكت يده بيدها وسحبته قليلا وهي تردّد:
قم واستبدل ملابسك.
كان يحملق في سقف الغرفة ولا يقول شيئا. فكّرت قليلا وهي تبكي حظّها العاثر، فسألته في محاولة منها لجرّه إلى الحديث:
ما أخبار زميلك مصطفى؟ هل تقبّل رحيلنا؟ ماذا قال عندما أخبرته عن رحيلنا؟
لكنّ مهيبا اكتفى بقوله: أريد أن أنام.
هزّته عبير وسألته:
هل تناولت دواءك؟
فأجابها متكاسلا: لا.
نهضت واتّجهت إلى الخزانة حيث وضعت الدّواء، نظرت إلى علبة دواء مكتوب عليها: “حبّة صباحا وحبّة مساء قبل الأكل”. أخذت حبّة وكوب ماء، أسندت رأس مهيب على ذراعها، وضعت الحبّة في فمه وأتبعتها بكوب الماء…بعد دقائق صار يستجيب لحديثها.
شغّلت أسلحتها الأنثويّة؛ كي تستفزّ فحولته، ففشلت، عندها اقتربت منه أكثر فأكثر، لكنّها ما لبثت أن تراجعت إلى حافّة السّرير الأخرى بعد أن قال لها:
ألا تفهمين؟ أنا مرهق ولا أقوى على شيء اتركيني وحدي.
انزوت في الفراش وشرعت تبكي حظّها العاثر، تذكّرت ما قاله جدّها ذات يوم من عام مضى: “العزوبيّه ولا الزيجه الرّديّه”، تمنّت لو أنّها بقيت عزباء، ذهبت إلى الصّالون، وصل بكاؤها درجة النّحيب. عندما توقّفت عيناها عن نزف الدّموع شعرت بوحدة قاتلة، لكنّها تدرك تماما أنّه لم يبق أمامها سوى التّأقلم مع الواقع الجديد، صحيح أنّ العنود ودودة معها بأمومة صادقة، لكن لا بديل لحنان الأمّ، تساءلت في سرّها إذا ما كانت العنود تشفق عليها بسبب الحادث الذي أودى بحياة والدها وشقيقيها، وكونها فلسطينيّة صاحبة قضيّة. لم تحتج عبير إلى كثير من الوقت لتتذكّر طيبة العنود، وكيف عاملتها في طفولتها كأمّ رؤوم حانية على أطفالها، كما أنّها وزوجها يعتبران القضيّة الفلسطينيّة قضيّة العرب الأولى، وهذا شأن الشّعب الكويتيّ والشّعوب العربيّة الأخرى.
خاب ظنّ عبير بمهيب، فقد خيّب أملها بأن تعيش شبابها سعيدة كبقيّة الصّبايا اللواتي يتزوّجن، ومع ذلك بقيت تحلم بأن تكون أمّا، ابتسمت وهي تتذكّر الصّبايا اللواتي كنّ يغبطنها على زواجها من مهيب الشّاب الوسيم، ولم يخطر ببال أيّ منهن أنّ “ليس كلّ ما يلمع ذهبا”، “فالرّجال مَحاضر مش مناظر”.
احتارت عبير في الثّبات على رأي واحد في صخبها الفكريّ عن المكان الأفضل لعيشها مع مهيب، هل هو الكويت، أم مسقط رأسها في القدس الشّريف حيث تسمع الأذان ينطلق من المسجد الأقصى وهي جالسة في بيتها، صحيح أنّها طمعت في مرافقته إلى الكويت حيث يعمل، فقد تتخلّص من رؤية المحتلين ومستوطنيهم أثناء إقامتها مع زوجها في الكويت، خصوصا عندما يقتحمون المسجد الأقصى، أو يقتحمون بيوت الحيّ الذي تسكنه مع أهلها في طرف حيّ البستان بين “عين سلوان الفوقا” وبئر أيّوب. بعد تفكير حلّقت في سماء الوطن، وفي مرابع طفولتها في الكويت، لكن رفقتها لمهيب ستكون وبالا عليها سواء بقيت في الوطن أو سافرت معه في الكويت، فالرّجل تفضحه حماقاته ووجومه وسرحانه الفكريّ دون مقدّمات، كما أنّه يفتقد إلى الفحولة. فهل هو واقع تحت تأثير الأدوية المخدّرة التي يتعاطاها، أم يعاني من مرض عابر سيمرّ مرّ السّحاب، أو يعاني من مرض مزمن؟ غطّت في نومها وهي حريصة ألّا تنكشف حالته النّفسيّة أمام العنود وزوجها وأبنائها.
في ساعات الصّباح الأولى استيقظ مهيب مرتاحا هادئا، التفت إلى عبير، جذبته أنوثتها الطّاغية، اقترب منها، ضمّها إلى صدره، قبّلها، أمضيا صباحهما يتناجيان، دعت عبير الله أن يبقى مهيب هادئا ودودا.
في الصّباح وعند السّاعة الثّامنة رنّ الهاتف في جناح الضّيوف، أمسك مهيب سمّاعة الهاتف، وقال:
هالو.
جاءه صوت العنود حانيا:
صباح الخير… أنا العنود…كيف أصبحتما؟
مهيب: صباح الخيرات…الحمد لله….نحن بخير.
العنود: أعددت طعام الفطور…فهل تأتيان لنأكل معا.
مهيب وقد تغيّرت ملامح وجهه ونبرة صوته:
لا داعي أن تشغلي نفسك بنا يا خالة.
العنود: أيّ شغل يا رجل…وجودكم بيننا يجلب السّعادة لنا ولكم؟
التقطت عبير سمّاعة الهاتف من مهيب وقالت:
صباح الخير ماما….سنكون عندكم بعد حوالي نصف ساعة.
– أهلا وسهلا.
أغلقت عبير سمّاعة الهاتف وقالت لمهيب:
هيّا بنا نستحمّ ونرتدي ملابسنا بسرعة، ونذهب لتناول الفطور مع الخالة العنود.
صرخ بها مهيب وقال متسائلا:
ماذا تريد منّا هذه المرأة؟ هل تعتقد أنّنا متسوّلون؟
– اخفض صوتك…لا تفضحنا…تريد أن تكرمنا يا حبيبي…ثمّ قادته إلى الحمّام ووقفا معا تحت “الدّش” وعبير تمازح “مهيب” وهي تلامس أعضاءه الحسّاسة في محاولة منها لتهدئته رغم تمنّعه.
على طاولة الطّعام قال مهيب في محاولة منه لاختصار الجلسة والهروب بعيدا عن هذا البيت:
هيّا بنا يا عبير لنتجوّل في شوارع الكويت؛ لتتعرّفي على ملامح هذه المدينة الجميلة.
ركلته عبير بساقها من تحت الطّاولة؛ كي لا يواصل حديثه وقالت:
لا يزال الوقت مبكرا على الخروج.
ابتسمت العنود وقالت لمهيب:
ما رأيك أن أصطحب عبير معي؛ لنتجوّل ونتسوّق من المدينة، وأنت اذهب إلى حيث تريد إذا كان لا يروق لك أن تكون برفقتنا؟
أجابتها عبير بسرعة؛ لتدفع الحرج عن مهيب:
اقتراحك مقبول يا خالة، فمهيب لديه أشغال مع زميله مصطفى!
لم يقل مهيب شيئا، استأذن ليخرج بسرعة، رافضا إلحاح العنود عليه باحتساء فنجان قهوة، بحجّة أنّه لا يريد أن يتأخّر على زميله مصطفى.
استقلّ سيّارته واتّجه إلى الشّقّة حيث يسكن مصطفى، فتح الباب مع معرفته المسبقة بأنّ مصطفى في تلك اللحظة يكون على رأس عمله، أخذ يدور في الغرفة كثور السّاقية، وما لبث أن تمدّد على السّرير يحملق بسقف الغرفة، مبديا ندمه على زواجه، فهو لا يريد أن يرتبط مع زوجة أو مع أيّ كائن آخر، ففي ذلك تقييد لحريّته ويلزمه بأشياء هو في غنى عنها…راودته أفكار سوداويّة حول ضرورة خلاصه من عبير، وكيفيّة إعادتها إلى البلاد؛ لتقيم عند أهله أو أهلها فالأمر بالنّسبة إليه سيّان، غفا حوالي ساعة وقفز من السّرير مذعورا بعد أحلام مزعجة…استيقظ لاهثا متعبا ككلب هرم، لكنّه لم يغادر سريره، فهو حائر لا هدف له سوى أن يبقى وحيدا، وفجأة أخذ يلوم نفسه لأنّه اصطحب عبير إلى المكان الذي ولدت وعاشت طفولتها المبكرة فيه، حيث كان يستأجر والدها تلك الشّقّة، ووجد لنفسه عذرا كونه لا يعرف مدى طيبة العنود وزوجها وأبنائها، وكيف يتعاملون مع عبير وكأنّها ابنتهم.
عند السّاعة الثّانية من ظهر ذلك اليوم اتّصلت عبير بمهيب:
مرحبا حبيبي…أين أنت؟ ما رأيك أن نلتقي في مطعم “الوردة الحمراء” لنتناول طعام الغداء سويّا نحن والخالة العنود؟
أجابها مهيب غاضبا:
تناولتُ غدائي أنا ومصطفى قبل دقائق…وأغلق الهاتف.
تظاهرت عبير بالفرح أمام العنود وقالت:
مهيب تناول غداءه مع زميله مصطفى.
عند ساعات المساء تظاهرت عبير بالتّعب واستأذنت من العنود؛ لتذهب إلى حيث تقيم في جناح الضّيوف طلبا للرّاحة. وهناك اتّصلت بمهيب، وطلبت منه أن يعود بعد أن طمأنته بأنّها تنتظره وحدها، فقال لها بلهجة حادّة:
ماذا تريدين منّي؟ بإمكانك أن تنامي إذا أنت متعبة، فأنا مشغول مع مصطفى.
ردّت عليه عبير بلهجة عتاب حزينة:
لا تنس يا مهيب أنّنا عروسان، وأنا غريبة في هذه البلاد لا أعرف فيها أحدا غيرك أنت وهذه الأسرة الطّيّبة التي تستضيفنا.
أجابها بحدّة: أنا لم أجبرك على السّفر معي إلى هذه البلاد، وسافرت بإرادتك.
ومن بعيد سمعت مصطفى يصرخ بمهيب قائلا:
اسكت يا مهيب، ما هذا الهراء الذي تقوله لعروسك؟
وبعدها قُطعت المكالمة.
وبّخ مصطفى مهيبا وأعطاه نصائح في كيفيّة تعامله مع عروسه، أقنعه أن يعود إليها، وأن يعتذر لها عن الكلام النّابي الذي صدر منه.
عاد مهيب إلى عبير تحت إلحاح زميله مصطفى، عندما دخل البيت وجدها تبكي، لم يطرح التّحيّة، بل قال لها:
لِمَ تبكين كالأطفال؟ إذا اشتقتِ لوالدتك بإمكانك أن تعودي إليها.
نظرت إليه غاضبة وقالت:
إذا كنت لا تريدني زوجة لك فلِمَ تزوّجتني؟
لم يجبها وانصرف إلى غرفة النّوم، استبدل ملابسه وتمدّد على السّرير بعد أن أطفأ الضّوء، بينما هي الأخرى تمدّدت على كنبة في الصّالون تبكي حظّها العاثر. لم يغف لها جفن إلا عندما سمعت أذان الفجر.
غير المتوقّع
لم يغادر المهندس المصريّ وأسرته الشّقّة المستأجرة في الموعد المحدّد كما وعد، فقد مدّدت الشّركة التي يعمل معها عمله لثلاثة أشهر أخرى وضمن إغراءات ماليّة لم يحلم بها. قبل الموعد بيومين جاء إلى أبي سالم وزوجته العنود ليخبرهما بذلك، بوجود عبير ومهيب الذي جاء صدفة. حوقل أبو سالم ولم يقل شيئا، في حين احتجّت العنود على ذلك، وتساءلت عن مخرج للورطة التي وقعوا فيها، بعد أن أوضحت بأنّهم قاموا بتأجير الشّقّة لهؤلاء العروسين الفلسطينيّين وهي تشير لمهيب وعبير.
وهنا وجد مهيب فرصته ليقول:
هذا أمر بسيط! سنعود أنا وعبير إلى الشّقّة التي كنت أسكنها وأنا أعزب.
لكنّ أبا سالم حسم الأمر عندما قال لمهيب بلهجة لا ينقصها الحزم:
اسمع يا عمّ، عبير ولدت هنا، وعاشت معنا طفولتها المبكرة، وهي بمثابة ابنتنا، ووالداها كانا شقيقين لنا، وعندما عادت إلينا عروسا متزوّجة منك فأنت مثل ابننا أيضا، وأنتما تسكنان في جناح الضّيوف خاصّتنا، وكما رأيتماه فهو شقّة فاخرة، ولن تخرجا منها إلّا إلى الشّقّة التي وعدتكما بها بعد أن يغادرها المهندس المحترم الذي يسكنها وأسرته.
صمت مهيب لحظة وسأل بغباء:
إذا جاءكم ضيوف..أين ستستقبلونهم ما دمنا نشغل الجناح المخصّص للضّيوف؟
ردّ عليه أبو سالم ساخرا:
إذا لم يتّسع لهم “صالون” بيتنا هذا سأستضيفهم في فندق!
وهنا قال المهندس المصريّ:
لا داعي لكلّ هذا النّقاش، إذا كان وجودنا ثلاثة أشهر أخرى في الشّقّة سيخلق مشكلة، فسأدع زوجتي وأبنائي يعودون إلى الوطن، وسأسكن أنا في فندق أو مع أحد الزّملاء العازبين.
ردّ عليه أبو سالم: من قال لك يا باش مهندس أنّ هناك مشكلة؟ وجودك وأسرتك بقربنا يشرّفنا، فنحن لسنا ممّن “يخونون العيش والملح.” ولن تخرجوا من هذه الشّقّة إلا إلى بيتكم في مصر.
لم يجد مهيب ما يقوله فالتزم الصّمت، بينما ضمّت العنود “عبير إليها وسألتها مازحة:
ما رأي عروستنا الغالية؟
أجابتها عبير بوجه بشوش وثغر باسم:
الرّأي ما تقولانه أنت والعم أبو سالم، ولا تنسيا رأي مهيب فهو زوجي.
وهنا حسم أبو سالم المسألة بقوله:
هذه قضيّة غير قابلة للنّقاش، عبير وزوجها سيبقيان معزّزين مكرّمين في جناح الضّيوف، حتّى تخلو الشّقّة ويسكناها.
وجد مهيب نفسه محشورا في زاوية لا يقوى على الخروج منها، رأى نفسه أرنبا في جحر يترصّده فهد جائع أمام جحره، فخرج من الجلسة دون أن يبدي أيّ معارضة، استقلّ سيّارته وغادر عائدا إلى الشّقّة حيث زميله مصطفى. شعرت عبير بالإهانة لخروج زوجها مهيب بهذه الطّريقة، بينما همست لها العنود:
إلى أين ذهب مهيب؟
ردّت عليها عبير تتصنّع عذرا له:
ذهب ليشتري لنا بعض الأغراض.
عندما عادت عبير إلى جناح الضّيوف حيث تسكن هاتفت مهيبا وسألته:
لِمَ خرجت بهذه الطّريقة يا مهيب؟ هل أغضبك أحد؟
ردّ عليها غاضبا:
أنا لا أقبل العيش تحت صدقة الآخرين. وأنا لست بحاجة أحد مهما كان، عندما ترغبين باللحاق بي، اتّصلي بي، وسآتي إليك فورا لآخذك معي. ثمّ قطع المكالمة.
لم تجد عبير ما تعزّي نفسها به سوى البكاء، بكت حتّى جفّت عيناها من الدّموع، لم تعد لديها خيارات سوى الصّبر، قالت لنفسها”رضينا بالهمّ والهمّ ما رضي فينا”، و”غُلُبْ بستيره ولا غُلُب بفضيحه.”
مفاجأة حلوة
استيقظت عبير ذات صباح بعد غياب مهيب لمدّة أسبوعين متعبة تشعر بأوجاع في معدتها، تقيّأت أكثر من مرّة، لم تتناول طعام الفطور، هاتفتها العنود فردّت عليها لاهثة متعبة وقالت:
أنا مريضة ومتعبة يا خالة.
شهقت العنود خوفا على عبير وقالت:
لا تخافي يا بنيّتي سأكون عندك فورا.
أغلقت العنود الهاتف وخرجت تطمئنّ على عبير، عندما رأتها تتقيّأ ركضت إليها باسمة وقالت وهي تضع يدها على كتفها:
ألف مبروك يا بنيّتي هذا بوادر الوحام، ولا بدّ من مراجعة الطّبيب للتّأكد من ذلك، هيّا استبدلي ملابسك لأصطحبك إلى الطّبيب. غلت لها كأس “مريميّة” وقدّمته لها.
هيمن على عبير شعور طاغ من السّعادة، فقد تحقّق حلمها أن تكون أمّا، لكنّ معدتها كانت قلقة وتريد أن تقذف ما فيها إلى الخارج.
أكّد الطّبيب أنّ “عبير” حامل، عادت إلى البيت وفوضى الجسد الذي يستغرب القادم الجديد، في عراك مع غريزة الأمومة التي تفتّحت شهيّتها لها، منّت نفسها أن يكون هذا الجنين فاتحة خير لمهيب؛ ليعود إليه رشده، ويغيّر علاقته معها نحو الأفضل.
أخبرت عبير العنودَ أنّه لم تعد لها شهيّة للطّعام، بل إنّ رائحة ملابس مهيب تدعوها للتّقيّؤ، طمأنتها العنود بأنّ هذا أمر طبيعيّ تمرّ به نساء كثيرات في فترات الحمل الأولى.
عندما غادرتها العنود قليلا من الوقت، اتّصلت بمهيب تبشّره بالقادم الجديد، فقالت:
حبيبي مهيب تبيّن اليوم أنّي حامل، سأصبح أمّا وستصبح أبا.
ردّ عليها بفتور:
ما الجديد في هذا، فكلّ إناث عالم الحيوان يحملن ويلدن؟
كتمت غيظها من كلامه فقالت له:
“الملافظ سعد” أهذا ما هداك الله على قوله؟ وأنهت المكالمة.
عاد مهيب إلى البيت قبل منتصف الليل بقليل بعد إلحاح من زميله مصطفى عليه، قرع جرس الباب فقامت عبير منهكة؛ لتفتح له، لم يطرح التّحيّة عليها واكتفى بنظرة عابرة، أمّا هي فعادت تتقيّأ من جديد، فقد شعرت أنّ رائحته كريهة ومنفّرة. تحاملت على نفسها حتّى وصلت طرف سرير النّوم وتمدّدت لاهثة، أدارت له ظهرها كي لا تراه ولا تشمّ أنفاسه، شعرت بكراهيّة غير مسبوقة له، مرّت دقائق قليله وإذا بشخيره يعلو مزعجا، لم تعد قادرة على احتمال سماعه، حملت “شرشفا” وذهبت تجلس في الصّالون، غفت جالسة على كنبة.
عند ساعات الفجر استيقظ بحالة عصبيّة، وقف أمامها وسألها:
ألا يعجبك النّوم على سرير فاخر حتّى تنامي على كنبة؟
ردّت عليه بصوت يشبه الأنين:
أنا في فترة وحام يا مهيب، وهي حالة مرضيّة تمرّ بها غالبيّة النّساء في بدايات حملهنّ، تناول فطورك في المطبخ بعيدا عنّي؛ لأنّي لا أطيق رائحة أيّ طعام.
لم يقل شيئا، لكنّه ذهب واستحمّ، استبدل ملابسه وخرج دون أن يقول لها وداعا.
عندما غادر مهيب جاءت العنود إلى عبير، دخلت إليها بوجه ضاحك وهي تقول:
أكيد أنّ “مهيب” قد أقلق راحتك هذه الليلة من شدّة الفرح عندما علم أنّك حامل.
ردّت عليها عبير على استحياء:
خالتي أمّ سالم، أنت بمقام والدتي ولن أخفي عليك شيئا، ما أنّ دخل مهيب الباب حتّى شممت له رائحة تشبه رائحة تيس الماعز في فترة السّفاد، كما لا أستطيع رؤية أو شمّ رائحة الطّعام.
ردّت عليها العنود ردّ الخبيرة المجرّبة وهي تضحك:
هذا وضع طبيعيّ يا بنيّتي، وهي من عوارض الوحام عند بعض النّساء الحوامل، سأعدّ لكما الطّعام فلا تقلقي، وعلى مهيب أن يستوعب هذا الفترة، وأن لا يثقل عليك، فاشرحي له الحالة، وضحكت وهي تقول: فليعتبر نفسه عازبا هذه المرحلة.
التفتت إليها عبير ولم تقل شيئا، فقد غلب الحياء عليها أن تكشف سرّا بينها وبين عريسها الذي يعاني من ضعف بفحولته.
قامت العنود بدور الأمّ الحاضنة والنّاصحة والممرّضة والرّاعية لعبير، حتّى أنّها قامت بتنظيف البيت وإعداد الطّعام دون الاستعانة بخادمتها.
حمدت عبير ربّها لقربها من العنود، فقد رأت فيها الأمّ والأب والجدّ والأخ الذين لا يبخلون على ابنتهم بشيء.
عاد مهيب إلى عمله بعد انتهاء إجازته، وكان سعيدا بذلك، فدوامه في العمل سبب كاف لتبرير غيابه عن البيت، ووجد سعادته في “وحام”عبير”، لأنّها تبتعد عنه وتريحه من عبء علاقة لا يقوى عليها.
دون موعد:
في البلاد زادت هموم الجدّ أبي نعمان على حفيدته عبير بعد سفرها مع زوجها مهيب، فتصرّفات مهيب غير مطمئنة، لم يبح بقلقه لأحد. حمّل نفسه مسؤوليّة هذا الزّواج، ولم يرد أن يشاركه أحد في همومه هذه. عندما سمع كنّته لبنى والدة عبير تفاخر أمام نساء البلدة بأنّ ابنتها قد تزوّجت من مهيب أكثر أبناء البلدة وسامة، ازدادت همومه وهو يستذكر الحكمة القائلة:” اللي بدري بدري، وللي ما بدري بقول في الكفّ عدس.” وعندما قالت والدة عبير ذات يوم تفاخر أمامه:
عبير فتاة حباها الله جمالا لافتا، ووقع نصيبها مع مهيب الأكثر وسامة، فهنيئا لهما.
ردّ عليها وهو ينفث دخان غليونه:
” يا ماخذ القرد ع ماله، بروح المال وبظل القرد ع حاله.”
لم تفهم عليه أمّ عبير قصده، لكنّ كنّتها سلوى زوجة عزيز سألت ضاحكة:
من القرد يا عمّ؟ عبير أم مهيب؟
التفت إليها الجدّ أبو نعمان وقال:
القرد يا سلوى من يأتي “بقرد ينعف طحينه.”
صدم قوله سلوى، فقد فهمت منه أنّه يقصدها، لكنّها تجاهلت الموضوع ولم تقل شيئا.
في بيت أبي مهيب كانت أمّ مهيب في غاية السّعادة، فقد ضمنت زواج مهيب، وفرحتها كبيرة بعبير، فعدا عن جمالها هي ذكيّة بشكل لافت، وستستطيع ترويض مهيب، خصوصا وأنّهما في غربة بعيدا عن تدخّل الأهل والأقارب ممّا يجبرها على التّعايش معه. لكنّ أبا مهيب على عكسها تماما، فهو يعرف ابنه، وخوفه دائم عليه، لذا بقي دائم التّفكير به، ويخشى أن لا تستمرّ عبير في حياتها الزّوجيّة معه. فقرّرّ بعد شهرين من زواجهما أن يلحق بهما إلى الكويت ليطمئنّ على حالهما. من عمّان اتّصل بابنه مهيب وأعطاه ساعة هبوط طائرته في مطار الكويت؛ ليكون في استقباله.
عندما سمع مهيب بقدوم والده إليه أثناء دوامه، فرح كما الأطفال الذين يفرحون بعودة آبائهم من العمل يحملون لهم السّكاكر، فاتّصل بعبير يخبرها بأنّه سينتظر وصول والده في المطار عند السّاعة السّادسة مساء اليوم، فاكتفت عبير بقولها: أهلا وسهلا. والتفتت إلى العنود التي تجلس بجانبها وأخبرتها ذلك.
قالت العنود بأنّها ستحضّر عشاء يليق بأبي مهيب، وستتركه في المطبخ عند عبير لتقدّمه لحميها. اعترضت عبير على كلام العنود وقالت:
لا داعي لذلك يا خاله، فمهيب سيتناول عشاءه مع والده في أحد المطاعم.
ردّت عليها العنود: الواجب واجب يا ابنتي، وما دام حموك سيحلّ ضيفا عليك فمن حقّه عليك أن تجهزّي طعاما له. فاتّصلي بزوجك الآن وأخبريه بأنّك ستطبخين عشاء له ولوالده.
وصل مهيب وأبوه بعد صلاة العشاء بقليل، استقبلتهم عبير بحفاوة، نظر إليها الأب وقال:
أراك نحيفة متعبة، ماذا جرى لك؟
ردّت عبير عليه بهدوء:
أنا أتوحّم يا عمّ، وما عاد عندي رغبة بالطّعام وأتقيّأ كثيرا.
ضحك أبو مهيب وحمدل وقال:
ألف مبروك يا ابنتي، سأصبح أنا جدّا، وأنت أمّا ومهيب أبا…وأضاف: إذا كان ابنا ماذا ستسمّيانه، أو بنتا ماذا ستسمّيانها؟
قال مهيب ببرود: سنترك الأمر لك أنت يا أبي، فاختر الاسم الذي يحلو لك.
وهنا قالت عبير باسمة:
على رأي جحا عندما سألوه:” شو أمور دينك يا جحا؟ فردّ عليهم: مثل أهل بلدي”. وقد جرت العادة في بلادنا أن يكون بكر الابن البكر على اسم جدّه لأبيه، وإذا جاء بنتا فعلى اسم جدّته لأبيه أيضا.
ابتسم أبو مهيب وقال:
الله يرضى عليك يا عبير، فذكاؤك حديث بنات وأبناء البلد، وهذا الذّكاء ورثتِه عن أبيك -رحمه الله-.
بعد أن تناولوا عشاءهم قال أبو مهيب:
أنا مرهق وأريد أن أنام.
التفتت عبير إلى مهيب بما يوحي بسؤالها عن المكان الذي سينام فيه أبوه، لم يقل مهيب شيئا فتدارك الأب وقال:
لا داعي للحيرة، سأنام على كنبة، وغدا يا مهيب اشترِ فرشة بسيطة، لأنام عليها.
رفعت عبير سمّاعة الهاتف وسألت العنود:
هل لديكم يا خالة فرشة زائدة عن استعمالكم؛ لينام عليها عمّي أبو مهيب.
فجاءها الجواب بالإيجاب، فقالت عبير سيأتي إليكم مهيب الآن ليحضرها.
عندما أحضر مهيب الفرشة دخل بها إلى غرفة النّوم وفرشها بجانب السّرير وسط استغراب عبير، وقال لوالده فراشك جاهز يا أبي…وهنا سأله أبوه:
لِمَ لم تضع الفرشة في طرف الصّالون فمن غير اللائق أن أنام معكما في غرفة نومكما.
ردّ عليه مهيب:
وما غير اللائق بذلك فأنا ابنك وعبير زوجتي مثل ابنتك؟
لم تقل عبير شيئا مع حيرتها واستغرابها، وقالت في سرّها:” الكلب خلّف جرو” ويستحيل أن يخلّف شبلا، و” من شابه أباه ما ظُلم”..
بعد أن لحق مهيب بأبيه لينام هو الآخر، بقيت عبير وحدها حزينة في الصّالون حتّى غلبها النّعاس، فمشت حافية القدمين على رؤوس أصابعها؛ كي لا توقظ النّائمين، حملت بدلتها الرّياضيّة، واستبدلت ملابسها في الحمّام وعادت لتنام على طرف السّرير.
استيقظ أبو مهيب في ساعات الفجر الأولى، توجّه إلى صالون البيت يضرط ويسعل، شعرت عبير بغثيان في معدتها من رائحة دخان سجائره، فقامت تتقيّأ وتلهث متعبة فقال لها:
يبدو أنّ وحامك ثقيل يا عبير.
ردّت عليه بانكسار:
رائحة الدّخان يا عمّ تؤذيني ولا أستطيع احتمالها.
عقّب على كلامها غير مبالٍ:
لا علاقة للسّجائر بحالتك، وستعتادين عليها…ما رأيك أن تغلي لنا فنجان قهوة؟
تحاملت عبير على نفسها وذهبت إلى المطبخ، عندما عصفت رائحة البنّ بأنفها عادت تتقيّأ من جديد، في هذه الأثناء استيقظ مهيب من نومه، وجلس بجانب والده في الصّالون، سمعت ضحكهما، حملت “ركوة” القهوة بيد وصينيّة عليها فنجانان، وضعتهما أمامهما وهي تغطّي أنفها وفمها بمنديل لتحميهما من رائحة البنّ، وعادت تتمدّد على السّرير وتردّد: رحمتك يا ربّ.
عند ساعات الظّهيرة غادر أبو مهيب البيت، بعد أن قال لعبير بأنّه سيلحق بمهيب في مكان عمله، تجوّل في شوارع المدينة، ثمّ جلس في مقهى، هاتف مهيبا وأخبره أنّه ينتظره في “مقهى الشّباب”. بعد انتهاء دوامه في العمل اصطحب مهيب أباه ليتناولا طعام الغداء في مطعم شعبيّ يديره باكستانيّ. ثمّ اتّجها إلى الشّقة التي يسكنها مصطفى، تحدّثا بشؤون عائليّة، واستفسر الأب كثيرا عن علاقة ابنه بزوجته عبير، لم يكترث مهيب بأسئلة أبيه. اقترح الأب على مهيب أن يسكن مع مصطفى في هذه الزّيارة، لكنّ مهيبا استنكر هذا الإقتراح وتساءل:
كيف تسكن مع مصطفى بعيدا عنّي؟
ردّ الأب: سأتركك وزوجتك يا ولدي، فأنتما لا تزالان عروسين.
مهيب: وهل أنت غريب عنّا حتّى تبتعد عنّا؟ ومن سيخدمك إذا سكنت مع مصطفى؟
ضحك أبو مهيب وقال: لا بأس يا ولدي تعود أنت إلى زوجتك في ساعات المساء، وسأمضي أنا بعدك ساعتين مع مصطفى وبعدها يعيدني إلى مكان سكنكما.
مهيب: ما الدّاعي لبقائك ساعتين مع مصطفى؟
الأب: لتقضي هاتين السّاعتين مع زوجتك.
ردّ مهيب غاضبا: أنا أكره النّساء يا أبي، وألعن اليوم الذي تزوّجت عبير فيه.
ذهل الأب من كلام ابنه وقال:
عبير فتاة جميلة وذكيّة يا ولدي، وأنت محظوظ بزواجك منها.
مهيب: لا أريد عبير ولا غيرها. سأعيش حياتي وحيدا كما أريد؟
ازدادت دهشة الأب من كلام ابنه فسأله:
هل تغضبك عبير؟ هل تتمنّع عليك؟
مهيب: لا…بالعكس فهي تشعرني بأنّها تحبّني…لكنّي أحبّ الوحدة.
كتم الأب غيظه وحيرته، وأصرّ بأنّه سيلحق بمهيب بعد ساعتين…وبدأ يفكّر بطريقة ليعيد ابنه إلى رشده. بعد أن غادر مهيب عائدا إلى عبير، سأل الأب مصطفى:
كيف ترى تصرّفات مهيب يا مصطفى؟
أجاب مصطفى متردّدا:
مهيب يعاني مشاكل نفسيّة، أعتقد أنّك تعرف ذلك يا عمّ، وأقترح أن تأخذه إلى طبيب نفسيّ.
صمت أبو مهيب قليلا ثم قال لمصطفى:
مهيب يحبّك يا مصطفى، ويسمع كلامك أكثر منّي، فأرجوك يا ولدي أن تعرضه على طبيب نفسيّ.
مصطفى: سأحاول أن آخذه غدا إلى طبيب.
وهنا هاتف الأب ابنه وأخبره بأنّه سيقضي ليلته عند مصطفى؛ لأنّهما يتحدّثان بأمور مختلفة وهامّة.
في اليوم التّالي احتال مصطفى على مهيب بذكاء حتّى أوصله عند طبيب نفسيّ معروف، كان يتردّد مهيب عليه خلال السّنتين الماضيتين، وهناك قال الطّبيب بأنّ مهيبا يعاني من حالة ” واكتئاب” وازدادت حالته سوءا بعد زواجه، لأنّه يعاني من ضعف جنسيّ وراثيّ. وكتب له وصفة طبّية فيها دواءان واحد لعلاج حالة الاكتئآب والثّاني لتنشيط الفحولة عنده.
بعد مرور شهر على زيارة الأب للكويت، وفي محاولة منه للحفاظ على حياة ابنه مهيب الزّوجيّة، وحفاظا على جنين عبير اقترح أن تعود عبير إلى البلاد، حتّى تنجب، وقد حظي اقتراحه بالقبول من مهيب ومن عبير أيضا دون أن يفصح أيّ منهما عن أسبابه.
*********
عادت عبير إلى الوطن وحدها في حين بقي حموها لمتابعة علاج ابنه، انتظرتها حماتها بناء على مكالمة من زوجها حدّد فيها موعد وصول الطائرة لمطار الملكة علياء، استقّلّتا سيّارة من المطار إلى الجسر مباشرة، عندما هبطت السّيّارة من منطقة ناعور إلى الأغوار، اكتحلت عينا عبير برؤية بلادها فحمدلت وسبّحت بحمد ربّها. لم تأخذ إجراءات التّفتيش على الجسر وقتا طويلا، عندما خرجت السّيّارة من النّفق المحفور تحت جبل المشارف نظرت عبير القدس القديمة، فخفق قلبها فرحا برؤية المسجد الأقصى، رأت الأضواء تنعكس على قبّة الصّخرة المشرّفة، وكأنّها تطير إلى السّماء؛ لتنشر عبق الإيمان على الكرة الأرضيّة.
أثناء مرور السّيّارة بجانب عين سلوان التّحتا والفوقا تمنّت لو أنّها تستطيع الاستحمام في مياه هذه العين؛ لتتطهّر من رجس الغربة.
وصلت الشّقّة التي سكنتها ومهيب في أسبوع زفافهما الأوّل، صافحت من وجدتهم ينتظرونها من أسرة زوجها، استأذنت من حماتها كي تنام؛ لتستريح من وعثاء السّفر، نامت ليلها الطّويل، استيقظت فرحة سعيدة، وقد تحرّرت من فترة الوحام. سألت حماتها إذا ما كان جدّها ووالدتها وشقيقها عزيز يعلمون بقدومها، وعندما نفت الحماة ذلك، ضحكت عبير وقالت:
إذن من واجبهم عليّ أن أذهب إليهم لأصافحهم.
ردّت حماتها أمّ مهيب عليها تتظاهر بالطّيبة:
هذا واجب يا ابنتي، وسأكون برفقتك.
عندما قرعت عبير جرس بوّابة بيت أهلها، أطلّت والدتها لترى من الطّارق، ولتفتح له البوّابة، وما أن وقعت عيناها على عبير حتّى شهقت من هول المفاجأة، وركضت وهي تقول بصوت مرتفع: عبير.
أطلّ الجدّ أبو نعمان بعد سماع صوت كنّته أمّ عزيز، وعندما وصلته عبير احتضنها بكلتا يديه، وضع وجهه على رأسها يقبّله ويشمّ رائحتها، نزلت دموعه على أمّ رأسها ولم يستطع الكلام.
جلسوا في صالون البيت والجدّ لم يتوقّف عن البكاء، كسرت عبير حاجز الصّمت عندما قالت:
عدت إلى البلاد لأنّني حامل، أنا بخير ومهيب وعمّي والده بخير ويهديانكم السّلام. وكذلك العمّ أبو سالم وزوجته العنود وأبناؤه يهدونكم السّلام أيضا. سألت جدّها إن كان يذكرهم أثناء زياراته للمرحوم والدها أثناء عمله في الكويت. سردت عليهم كيفيّة استقبالهم لها ولمهيب، وكيف اهتموا بهما، وأسكنوهما في جناح الضّيوف الخاصّ بهم، حتى تخلو الشّقّة التي كان يسكنها المرحوم والدها والأسرة.
وهنا قال الجدّ: أبو سالم وزوجته نموذج للأصالة العربيّة، ومن يعاشرهما لا ينساهما لطيبتهما الزّائدة.
قالت عبير: لم أشعر بالغربة عندهما، فقد تعاملا معي كأنّهما أبي وأمّي.
في هذه اللحظة عاد عزيز وزوجته سلوى من الجامعة، ازدادت دقّات قلب سلوى عندما رأت عبير، احتضنت عبير شقيقها “عزيز”، قبّلت وجنتيه، وبعده احتضنتها سلوى وقالت وهي تقبّلها:
يا ساتر يا ربّ! ما هذه العودة السّريعة؟
ردّت عليها عبير بهدوء:
أنا حامل وعانيت من “وحام” قاس، وعدت كي ألد هنا باقتراح من عمّي أبو مهيب، وبموافقة مهيب طبعا.
وضعت سلوى يدها على صدرها وهي تقول:
الحمد لله، فقد خفت أنّك قد اختلفت مع مهيب.
قالت عبير ساخرة: مهيب شابّ متعلّم عاقل هادئ تتمنّاه كلّ الفتيات كما قلتِ لي عندما طلبني والداه له!
عادت أمّ مهيب إلى بيتها، وبقيت عبير عند أهلها، قالت لحماتها:
سأبقى عند أهلي عدّة أيّام، وبعدها سأعود إلى بيتي.
أمّا الجدّ أبو نعمان فقد قال:
ما دام زوجك غائبا، بإمكانك أن تبقي عندنا أو في بيتك، فنحن وأسرة زوجك عائلة واحدة.
عندما اختلت أمّ عزيز بابنتها عبير قالت لها:
طمئنيني….كيف كانت علاقتك مع زوجك؟ وهل عودتك إلى البلاد عاديّة، أم هناك ما تخفينه؟
قالت عبير حزينة:
مهيب يا أمّي مريض نفسيّا، وكل ساعة بعقل، له تصرّفات غريبة وغير مبرّرة، ولا يصلح أن يكون زوجا، ويعاني من ضعف ذكوريّ كبير.
قالت الأمّ بلهجة توبيخيّة:
اسمعي يا عبير، إيّاك أن يسمع منك أحد هذا الكلام، فالزّوجة المستورة لا تفضح أسرار بيتها، وتتحمّل عيوب زوجها.
عبير: أنا أقول لك الصّدق يا أمّي، ولم ولن يسمع أحد غيرك ما قلته.
الأمّ: يا لعارنا! كيف تقولين أنّه يعاني من ضعف في ذكورته، وعدت إلينا حاملا؟ فمن يصدّق هذا الكلام؟
استغربت عبير موقف أمّها فسألتها على استحياء:
حسب معرفتك يا أمّي كم مرّة يعاشر الرّجل زوجته في الأسبوع؟
ردّت عليها أمّها غاضبة:
أغلقي فمك يا بنت، فأنا لست مراقبة على الرّجال وزوجاتهم.
قالت عبير باستياء: لم أطلب منك أن تراقبي أحدا، لكنّي أقول لك، أنّ مهيبا يتعاطى منذ ليلة زفافنا الحبوب المقويّة، ومع ذلك لم ينجح بمعاشرتي خلال ثلاثة الأشهر الماضية سوى أربع مرات، وشاء النّصيب أن أحمل.
الأمّ: هذا نصيبك، وعليك بالصّبر، فالشّباب مشغولون بأعمالهم وهمومهم وغير متفرّغين لزوجاتهم.
*********
أمضت عبير فترة حملها تتنقّل بين شقّتها عند أسرة زوجها، وبين بيت أهلها، وجميعهم يرحّبون بها، استقبلت العديد من زميلاتها ومجايلاتها، اللواتي يغبطنها على زواجها من مهيب! وعلى حملها حيث ستصبح أمّا.
القادم الجديد
بعد منتصف الليل بقليل عندما داهم المخاض عبير كانت نائمة مع والدتها في غرفة واحدة، فقفزت الوالدة تتحسّس ابنتها لتتأكّد أنّها في مخاض، وسرعان ما طرقت باب ابنها عزيز وزوجته سلوى، حملوها في سيّارة سلوى إلى مستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني للولادة، الواقع في حيّ الصّوّانة على السّفوح الغربيّة لجبل الزّيتون، وهناك أنجبت سريعا، رفعت القابلة المولود ووضعته على صدر والدته وهي تقول:
ألف مبروك….ولد يا عبير. ابتسمت عبير فرحا رغم آلام المخاض القاسية. لم تجرؤ أن تمدّ يدها؛ لتتحسّس مولودها خوفا من أن تؤذيه، أسمت وليدها محمّدا على اسم جدّه لأبيه. مكثت في المستشفى يوما كاملا، ووالدتها تجلس بجانب سريرها. زارتها حماتها ومكثت معها بضع ساعات، خرجت من المستشفى إلى بيت أهلها وبموافقة حماتها، بعد أن قالت والدتها:
عبير ستبقى عندي لأعتني بها وبطفلها حتّى يشتدّ عودها.
وافقت أمّ مهيب على ذلك دون نقاش بعد أن قالت:
حسبما تريدين يا أمّ عزيز، مع أنّ عبير لوعادت إلى بيتها سأعتني بها مثلك، فهي مثل ابنتي، ووالدة أوّل حفيد لي، و”ما أغلى من الولد إلا ولد الولد.”
تمنّت عبير لو أنّ مهيبا بصحبتها؛ ليشاهد ابنه البكر، فلعلّ الله يهديه، ويعيده إلى رشده.
عاد مهيب ووالده من الكويت بعد ولادة عبير بشهرين، أحضروا معهما ملابس للطّفل، وسوارا ذهبيّا اشتراه أبو مهيب وسلّمه لابنه مهيب؛ كي يقدّمه لعبير.
بعد وصول مهيب بأسبوعين، لم يحتمل صراخ طفله، فبدأ يصرخ هو الآخر بعبير كي تُسكت طفلها، هرعت والدته على صراخه، حملت الطّفل من حضن والدته، فما كان من مهيب إلا أن هجم على عبير ككلب مسعور، أمسك شعرها وأطاح بها باتّجاه باب الغرفة، أمسكت بحلق الباب لتحمي نفسها، فأغلق الباب على يدها بقوّة قبل أن تصل إليه أمّه لتبعده عنها، صرخت عبير بصوت مرتفع من شدّة الألم، ويدها اليمنى تتدلّى أمامها مكسورة، نقلوها إلى مستشفى المقاصد، حيث قام طبيب بتجبير يدها، حضرت الشّرطة للتّحقيق، اعتقلوا مهيبا لمدة أسبوع، خرج بعدها بكفالة أبيه حتى يوم المحكمة، في اليوم التّالي أوكل محاميا؛ لينوب عنه في طلاق عبير، وغادر الجسر عائدا إلى عمله.
– جميل حسين ابراهيم السلحوت.
– مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
– حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربيّة.
– عمل مدرّسا للغة العربيّة في المدرسة الرشيدية الثّانويّة في القدس من 1-9-1977 وحتّى 28-2-1990.
– اعتقل من 19-3-1969 وحتى 20-4-1970وخضع بعدها للأقامة الجبريّة لمدّة ستّة أشهر.
– عمل محرّرا في الصّحافة من عام 1974-1998في صحف ومجلات الفجر، الكاتب، الشّراع، العودة، ورئيس تحرير لصحيفة الصّدى الأسبوعيّة. ورئيس تحرير لمجلة”مع النّاس”
– عضو مؤسّس لاتّحاد الكتّاب الفلسطينيّين، وعضو هيئته الإدارية المنتخب لأكثر من دورة.
– عضو مؤسّس لاتّحاد الصّحفيين الفلسطينيين، وعضو هيئته الإداريّة المنتخب لأكثر من دورة.
– عمل مديرا للعلاقات العامّة في محافظة القدس في السّلطة الفلسطينية من شباط 1998 وحتى بداية حزيران 2009.
– عضو مجلس أمناء لأكثر من مؤسّسة ثقافيّة منها: المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ.
– فاز عام 2018 بجائزة القدس للثّقافة والإبداع.
– منحته وزارة الثّقافة الفلسطينيّة لقب”شخصيّة القدس الثّقافيّة للعام 2012″.
– جرى تكريمه من عشرات المؤسّسات منها: وزارة الثّقافة، محافظة القدس، جامعة القدس، اتحاد الكتاب الفلسطينيين، بلديّة طولكرم ومكتبتها، المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ، ندوة اليوم السّابع، جمعيّة الصّداقة والأخوّة الفلسطينيّة الجزائريّة، نادي جبل المكبر، دار الجندي للنّشر والتّوزيع، مبادرة الشباب في جبل المكبر، ملتقى المثقفين المقدسي، جمعية يوم القدس-عمّان، جامعة عبد القادر الجزائريّ، في مدينة قسنطينة الجزائريّة، المجلس الملّي الأرثوذكسي في حيفا.
شارك في عدّة مؤتمرات ولقاءات منها:
– مؤتمر “مخاطر هجرة اليهود السّوفييت إلى فلسطين”- حزيران 1990 – عمّان.
– أسبوع فلسطين الثّقافي في احتفاليّة “الرياض عاصمة الثقافة العربية للعام 2009.”
– أسبوع الثّقافة الفلسطينيّ في احتفاليّة الجزائر “قسنطينة عاصمة الثّقافة العربيّة للعام 2015”.
– ملتقى الرّواية العربيّة، رام الله-فلسطين، أيّار-مايو-2017، وعام 2020.
-حصلت رولا غانم على رسالة الدكتوراة من جامعة طنطا عام 2019 برسالة”القدس في روايات جميل السلحوت.”
اصدارات جميل السلحوت
– ظلام النّهار-رواية، دار الجندي للطباعة والنشر- القدس –ايلول 2010.
– جنّة الجحيم-رواية – دار الجندي للطباعة والنشر- القدس-حزيران 2011.
-هوان النّعيم. رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-كانون ثاني-يناير-2012.
– برد الصّيف-رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس- آذار-مارس- 2013.
– العسف-رواية-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014
– أميرة- رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2014.
– زمن وضحة- رواية- مكتبة كل شيء- حيفا 2015.
– رولا-رواية- دار الجندي للنّشر والتّوزيع- القدس 2016.
– عذارى في وجه العاصفة-رواية- مكتبة كل شيء-حيفا 2017
– نسيم الشّوق-رواية-مكتبة كل شيء، حيفا 2018.
– عند بوابّة السّماء- مكتبة كل شيء-حيفا 2019.
– الخاصرة الرّخوة-مكتبة كل شيء-حيفا 2020.
– المطلقة- رواية-مكتبة كل شيء حيفا 2020.
روايات اليافعين
– عشّ الدّبابير-رواية للفتيات والفتيان-منشورات دار الهدى-كفر قرع، تمّوز-يوليو- ٢٠٠٧.
– الحصاد-رواية لليافعين، منشورات الزيزفونة لثقافة الطفل، ٢٠١٤، ببيتونيا-فلسطين.
– البلاد العجيبة- رواية لليافعين- مكتبة كل شيء- حيفا 2014.
– لنّوش”-رواية لليافعين. دار الجندي للنّشر والتوزيع،القدس،2016.
قصص للأطفال
– المخاض، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيّين- القدس،1989.
– الغول، قصّة للأطفال، منشورات ثقافة الطفل الفلسطيني-رام الله 2007.
– كلب البراري، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات غدير،القدس2009.
– الأحفاد الطّيّبون، قصّة للأطفال، منشورات الزّيزفونة لثقافة الطفل، بيتونيا-فلسطين 2016.
– باسل يتعلم الكتابة، قصّة للأطفال، منشورات الزّيزفونة لتنمية ثقافة الطفل، بيتونيا، فلسطين، 2017.
– ميرا تحبّ الطيور-منشورات دار الياحور-القدس 2019.
– النّمل والبقرة- منشورات دار إلياحور-القدس 2019.
أدب السّيرة:
أبحاث في التّراث.
– شيء من الصّراع الطبقي في الحكاية الفلسطينيّة .منشورات صلاح الدّين – القدس 1978.
– صور من الأدب الشّعبي الفلسطينيّ – مشترك مع د. محمد شحادة .منشورات الرّواد- القدس 1982.
– مضامين اجتماعيّة في الحكاية الفلسطينيّة .منشورات دار الكاتب – القدس-1983.
– القضاء العشائري. منشورات دار الاسوار – عكا 1988.
بحث:
– معاناة الأطفال المقدسيّيين تحت الاحتلال، مشترك مع ايمان مصاروة. منشورات مركز القدس للحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة، القدس 2002
أدب ساخر:
– حمار الشيخ.منشورات اتّحاد الشّباب الفلسطيني -رام الله2000.
– أنا وحماري .منشورات دار التّنوير للنّشر والتّرجمة والتّوزيع – القدس2003.
أدب الرّحلات
– كنت هناك، من أدب الرّحلات، منشورات وزارة الثّقافة، رام الله-فلسطين، تشرين أوّل-اكتوبر-2012.
– في بلاد العمّ سام، من أدب الرّحلات، منشورات مكتبة كل شيء-حيفا2016.
يوميّات
– يوميّات الحزن الدّامي، يوميات،منشورات مكتبة كل شيء الحيفاويّة-حيفا-2016.
أعدّ وحرّر الكتب التّسجيليّة لندوة اليوم السّابع في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ – الحكواتي سابقا – في القدس وهي :
– يبوس. منشورات المسرح الوطني الفلشسطيني – القدس 1997.
– ايلياء. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 1998.
– قراءات لنماذج من أدب الأطفال. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس كانون اول 2004.
– في أدب الأطفال .منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 2006.
– الحصاد الماتع لندوة اليوم السابع. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس كانون ثاني-يناير- 2012.
– أدب السجون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-شباط-فبراير-2012.
– نصف الحاضر وكلّ المستقبل.دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-آذار-مارس-2012.
– أبو الفنون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس نيسان 2012.
– حارسة نارنا المقدسة- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس. أيار 2012
– بيارق الكلام لمدينة السلام- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس- ايار 2012.
-نور الغسق- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2013.
– من نوافذ الابداع- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2013.
– مدينة الوديان-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014.