“القدس مدينتي الأولى” في اليوم السابع

&

القدس:11-12-2014 – ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية الأسبوعية الدورية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس  كتاب “القدس مدينتي الأولى”للأديب الكبير محمود شقير الصادر عام 2014 عن منشورات الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل في رام الله، ويقع الكتاب الذي صمّمه شريف سمحان، والموجّه للفتيات والفتيان في 95 صفحة من الحجم المتوسط.

بدأ النقاش ابراهيم جوهر فقال:

لم يصرّح الكاتب النشط (محمود شقير) بأن القدس مدينته الأولى والأخيرة بل الوحيدة التي لها بثّ لها شوقه وانتماءه، لكنه بدأ من البداية فقال: الأولى. والقارئ سيستشف هذا الوله بالقدس لدى الكاتب الذي ما كانت حياته بهذه الكيفية إلا بسبب من تشويه وجه مدينته الأولى التي يحمل لها ذاكرة من براءة وجمال وبدايات تفتّح ومعرفة.فبسبب من عشقه لها أبعد عنها، وطورد، وابتعد، وامتهن العمل النضالي ليدفع عن وجهها ما يريد تشويهه.

السيرة كنوع أدبي تحمل تجربة كاتبها وتقدم لقارئها، بأسلوب قصصي فيه من التشويق واللغة وجمال الأسلوب، المعرفة والتاريخ وجغرافيا الأمكنة. إنها لون أدبي صادق وشيق يثري قارئه بالمعرفة ويضع يده على أسلوب تعبير ارتضاه الكاتب لعمله الذي هو مرآة حياته المقذوفة وراءه فيتوقف عند مفاصلها ليقول رأيه فيها وينقل تاريخ المرحلة فيتحقق بهذا فائدة التاريخ للقارئ، وتعريفه بشخصيات ذات أثر في سيرة الكاتب وفي العمل التنويري والثوري والتربوي.

اعتمد الكاتب هنا على المونتاج- التقطيع أسلوبا يقدّم به سيرته فلم يبدأ من نقطة البداية في علاقته مع الحياة والمدينة قبل النكبة الكبرى بل افتتح سيرته بنبأ السماح له بالعودة إلى مدينته التي أبعد عنها قسرا ثمانية عشر عاما، وكأنها ولادة أخرى له، ثم يعود بقارئه بأسلوب الاسترجاع الفني إلى كيفية تعرّفه على المدينة ويغرف من ذاكرته الحية ما يمتع القارئ ويرسم في ذهنه صورة للبلاد التي كانت .

الكاتب (محمود شقير) وهو يقدم سيرته لفئة الفتيات والفتيان إنما يقدّم خلاصة تجربة أدبية نضالية تستحق التوقف عندها واستخلاص العبر منها. وهو إضافة إلى

هذه الفائدة يخدم لغة القارئ حين يقدم سيرته بلغة حية رشيقة ذات معان وبيان

يروق لفئة قرائه وينهض بلغتهم عن طريق التعلّم بالقدوة، ويلمح إلى أن الغزاة الغرباء لن يقيموا في المدينة وأنهم سيمضون كما مضى من سبقهم لتبقى

المدينة لناسها الذين يؤمنون أنها أمهم الأولى.

وقال جميل السلحوت:

يجدر التنبيه أن هذا الكتاب ليس الوحيد لأديبنا الكبير محمود شقير عن القدس، فقد سبق له أن كتب الكثير عن المدينة المقدسة، ومن كتاباته هذه رائعته (ظل آخر للمدينة)التي صدرت عام 1998 عن دار القدس للنشر، وأثارت ردود فعل ايجابية واسعة، فقد عاد عام 1993 الى القدس التي عرفها منذ طفولته المبكرة، وكيف وجدها بعد غيابه القسري عنها لمدة ثمانية عشر عاما، وقد اعتبر النقاد هذا المؤلف خلطا لجوانب من سيرة الكاتب الشخصية، ومن سيرة مدينته التي تسكنه، وتجلت روعة هذا الكتاب بلغته الأدبية التي شملت سردا روائيا وقصصيا وتأريخيا بعاطفة صادقة، وتوالت ابداعاته عن القدس فكانت مجموعة (القدس وحدها هناك) فرغم عذابات المدينة المقدسة، ومعاناتها من بطش المحتل الذي يسرق تاريخها وثقافتها، مثلما سطا على جغرافيتها، إلا أن استحضار تاريخ المدينة، وما تعرضت له من غزوات، ينبئ بأن مصير هذا الاحتلال لن يختلف عن مصير سابقيه، فهو حتما الى زوال، والقدس باقية مكانها، عزيزة بشعبها  “ينشئ الكاتب نصوصه حجرا حجرا،فكأنه يبني مدينته، والجميل مراوحتها بين شكل اليوميات واستحضار التاريخ، ليوحي بأن الفرنجة مرّوا قديما بالمدينة، ولم يستطيعوا امتلاكها”.(1)  وهذه المجموعة يمكن قراءتها كقصص قصيرة جدا منفصلة، وكرواية أيضا، ثم جاء كتاب(قالت لنا القدس) وهو جانب من جوانب سيرة المدينة”سيرة مقدسية تناول بها ومعها من جيل الى جيل: هي في جوهرها سيرة المكان الفلسطيني كله، في سبيل الحرية والعدل والسلام”.(2) وفي هذا الكتاب خرج الكاتب عن أسلوب القصّ الى أسلوب يوميات عن المدينة، كانت لافتة خصوصا ما كتبه عن”شبابيك” بيوت المدينة القديمة، وبعدها جاء كتابه (مدينة الخسارات والرغبة) الذي يمكن قراءته كقصص قصيرة جدا وكرواية أيضا.

ولا يعتقدنّ أحد أن الأديب شقير لم يكتب عن القدس إلا بعد عودته الى أرض الوطن من المنفى في أيار 1993، فالقدس كانت حاضرة في قصصه منذ بداياته في القصّ، وفي مجموعته القصصية الأولى “خبز الآخرين” فقصة خبز الآخرين تدور أحداثها في القدس القديمة، وقصتاه”في الطريق الى البلدة القديمة” و”متى يعود اسماعيل” يرسم لنا أديبنا جانبا من مأساة وقوع المدينة تحت الاحتلال الاسرائيلي.

لكنه وبعد عودته من المنفى، وقد بلغت تجربته الأدبية ذروتها، أفزعه ما جرى على مدينته من تغييرات استلابية، في محاولة لطمس هويتها العربية، فخصّص لها شيئا من إبداعه السردي، وكأنه يطلق صرخة غير مباشرة لإنقاذ المدينة.

وبالتأكيد فان صدور كتاب “القدس مدينتي الأولى” في هذه الأيّام ليس عفويا، فالمدينة المقدسة تتعرض لأبشع الهجمات التهويدية، وما يصاحب ذلك من تدمير وطمس لهويتها وتاريخها وحضارتها التي تأبى أن لا تكون إلا عربية فلسطينية بامتياز.

وإذا كان كتاب”ظل آخر للمدينة” يشكل شيئا من يوميات وسيرة القدس الشريف، التي عايشها الكاتب، وكيف وجدها بعد ابعاده القسري عنها ما بين 1975-1993، وجاءت مجموعاته القصصية الأخرى لتتحدث عن المدينة وعبقها وجمالها وتاريخها ودور عبادتها، فان الكتاب الذي نحن بصدده” القدس مدينتي الأولى” يشكل ذكريات الكاتب منذ نعومة أظفاره مع المدينة، إنه شيء من السيرة الذاتية للكاتب مرتبط بمدينتة المقدسة، وإذا كان الكاتب قد جاب عددا من العواصم والمدن في العالم العربي، وبعض الدول الأوروبية إلا أن روحه وفكره بقيا متعلقين بمدينته التي ولد وترعرع وعاش فيها، فهي تسكنه كما يسكنها هو نفسه، ولا غرابة في ذلك فالقدس بالنسبة للانسان الفلسطيني هي بمثابة القلب في الجسد.

وفي تقديري أن الكاتب جاءنا بكتابه هذا الموجّه للفتيات والفتيان الفلسطينيين خصوصا والعرب بشكل عام، ليلفت انتباههم الى العاصمة السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية والعلمية والتاريخية للشعب الفلسطيني، خصوصا وأن جيل الفتيات والفتيان من الأراضي الفلسطينية المحتلة في حزيران 1967، وبقية أرجاء العالم العربي محرومون من دخول مدينتهم المقدسة التي يغلقها المحتلون في وجوههم، ويحاصرونها ويمنعونها من التواصل مع محيطها الفلسطيني وامتدادها العربي.

وأديبنا في كتابه هذا عاد الى طفولته المبكرة، ومرحلة تعليمه المدرسي، وبداية نشره لكتاباته القصصية في الأفق الجديد وغيرها، ومعاصرته لاحتلال المدينة بحرب شكلية عام 1967، ثمّ انخراطه في العمل السياسي المقاوم للمحتل، وتعرضه للاعتقال وما صاحبه من تعذيب جسديّ ونفسيّ، واضطراره الى الاختفاء وممارسة النضال السري، ليعتقل مرّة أخرى ويتم ابعاده الى لبنان، وتنقله للعيش في عمّان ثم براغ العاصمة التشكية، ثمّ عودته الى عمّان، حتى عودته الى القدس ضمن اتفاقات أوسلو التي أُعلن عنها وجرى توقيعها لاحقا في سبتمبر من نفس العام.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا ركّز الكاتب في كتابه هذا على شيء من ذكرياته وسيرته الذاتية في المدينة؟ وما هدفه من وراء ذلك؟ وطبعا فإن الاجابة عند الكاتب، وهو يملك الحرية كاملة في خياراته، لكنّني أعتقد جازما أنّ المدينة التي يجري تهويدها وطمس حضارتها وتاريخها تشكل الهمّ الأكبر للكاتب، وأنّه يرى أن الاعتداء على المدينة اعتداء شخصي عليه. فالمدينة لا تشكل للكاتب مدينته الأولى كما جاء اسم الكتاب، بل هي مدينته الأولى والأخيرة، فلا يمكن لمدينة أخرى أن تحتل مكانة القدس في ثقافة ووجدان كاتبنا.

الهوامش:

1- مي باسيل: عن القدس وحدها هناك-الحياة اللندنية-الاثنين:25 يناير 2010

2-     علي الخليلي: ما قالته لنا القدس-جريدة الأيام13-4-2010.

وقال عبد الله دعيس:

القدس مدينتي الأولى” كتاب يضم مقتطفات من السيرة الذاتية للكاتب محمود شقير موجهة للفتيان والفتيات.

إن كان الهدف من الأدب الموجه للأطفال والفتيان والفتيات هو بناء روح حب المعرفة لديهم، وتوجيههم نحو السلوك الحسن، والتأثير الإيجابي بهم، وتهيئتهم ليكونوا رجال ونساء المستقبل؛ يحملون هموم أمتهم وينافحون عن قضاياها، فالقدس هي العنوان الأوحد الذي يجمع ذلك كله. فقد أحسن الكاتب عندما اختار القدس لتكون مادة لكتابته وعنوانا لسيرته.

حبّ القدس مغروس في نفوسنا وأرواحنا، ومن حق أبنائنا علينا أن ننشئهم على عشقها وحبها، خاصة وأن الكثير من الأطفال في فلسطين وكذلك في العالم العربي محرومون من زيارتها ومشاهدتها، ومناهج التعليم لا تعطي لهذه المدينة العظيمة حقها. فمن واجبنا أن نربط قلوبهم وعقولهم بالقدس، وأن نجعلهم يعيشوا القدس بأسواقها وحواريها، وأن يشتمّوا عبق التاريخ فيها وأن يتخيلوها ويتعرفوا على شوارعها ومقدساتها وإن لم يستطيعوا زيارتها.

يحاول الكاتب المبدع محمود شقير أن يفعل كل هذا عن طريق كتابة سيرته الذاتية بطريقة مختصرة ومبسطة للفتيان والفتيات. وخلال سيرته يحكي تاريخ القدس، ويسرد الأحداث التي مرت بها منذ عهد الانتداب البريطاني إلى الآن. ولا يكتفي بسرد الأحداث التاريخية، بل يجعل القارئ يعيش الحياة الاجتماعية اليومية لأهل المدينة في الحقب الزمنية المختلفة في الرخاء وأثناء الملمات. وكذلك يتحدث عن الحياة الدراسية في مدارس القدس في الماضي.

استطاع الكاتب أن يوصل رسالة لأطفال القدس عن أهمية العمل الوطني والتضحية من أجل هذه المدينة الغالية، وكذلك أن يعرض أوجه المعاناة التي يقاسيها أبناؤها منذ عقود طويلة، ونقل صورة عن السجون ومراكز الاعتقال الإسرائيلية بطريقة موضوعية، دون أن يؤثر بصورة سلبية على نفسية الطفل وعلى سلوكه.

كانت السيرة دوما مادة خصبة للكتابة الموجهة للأطفال والفتيان والفتيات. وقد استغلّ الكتّاب سير العظماء في التاريخ للكتابة، فجعلوهم قدوة يُحتذى بها، واستغلوا سيرهم لتنمية النزعة الإيجابية لدى الأطفال ورفع مستوى إيمانهم بحضارة أمتهم وثقافتها. أما ما فعله الكاتب محمود شقير فهو كتابة سيرته الذاتية للأطفال، فجعل نفسه محور القصة والأحداث التي مرت في حياته مادتها، وجعل قصته هي قصة المدينة التي عاش فيها، ومعاناته تعكس معاناة أبناء المدينة. وهذا يجعل الأطفال يشعرون أن بطل القصة شخصية حقيقية تعيش بينهم، وأحداثها واقعية وليست ضربا من ضروب الخيال، أو أمرا خارقا كان يحدث في الماضي ولا يمكن أن يتكرر.

حاول الكاتب أن ينمي قدرة الطفل على الإبداع، عن طريق التركيز على أهمية القراءة والمطالعة حتى في سن مبكرة من أجل أن يكون لدى الشاب الثقافة المطلوبة، وكذلك من أجل أن يكون لديه القدرة ليكون مبدعا في المستقبل.

وقد اختصر الكاتب سيرته الذاتية في صفحات قليلة، وبلغة بسيطة تتسم بالوضوح والسهولة حتى تكون مناسبة للفتيان والفتيات، لكن هذا الاختصار جعل السيرة وكأنها مقتطفات من هنا وهناك وأفقدها عنصر الترابط. وأفقدها الاختصار عنصر التشويق والمفاجأة والإثارة الضروري جدا للكتب الموجهة لهذه الفئة العمرية وذلك لدفعهم لمواصلة القراءة والوصول إلى الأهداف المرتجاة من الكتاب.

وقد أدى الاختصار أيضا إلى أن الكاتب لم يركز على الإنجازات الكبيرة التي حققها خلال حياته المليئة بالعطاء، فلم يوضح للقارئ طبيعة عمله السياسي وأهميته، واكتفى بإشارات سريعة تدل عليه، وكذلك لم يركز على نجاحه الباهر في مجال الأدب، وأشار فقط إلى أنه كان يكتب القصص القصيرة بين الحين والآخر، وبذلك لم يجعل الكاتب نفسه، ربما من باب التواضع، قدوة يحتذى بها.

وقد ذكر الكاتب أيضا كثيرا من الأحداث، مثل النكبة الفلسطينية وحرب عام 1967 وحرب الخليج، دون أن يوضحها، مفترضا معرفة القارئ المسبقة لها. وبما أنه يكتب هنا لفئة الفتيان، كان عليه أن يعطي معلومات شافية عن هذه الأحداث المهمة التي قد لا يكون الفتى ملما بها.

وعندما تحدث الكاتب عن تجربة الإبعاد، ذكر المعاناة بسبب فراق الوطن، لكنه لم يمعن في وصف مشاعر الألم والحسرة التي ألمّت به بسبب غيابه القسري عن وطنه، بل تحدث عن أسفاره خارج البلاد، فأظهر الإبعاد كأنه سفر وسياحة قد تستهوي الشباب بدل من أن تبين لهم عظم جريمة الإبعاد عن الوطن.

القدس نبع للابداع لا ينضب، ومصدر إلهام لا ينتهي، وقد أبدع الكاتب عندما جعل القدس محور كتابه ووجه أنظار الشباب إليها، فالقدس تَصنَعُ الرجال والرجال يُصنَعون من أجل القدس. والقدس عنوان للشهادة، والشهداء عنوانهم القدس.

وكتبت نسب أديب حسين:

محمود شقير والمدينة

من يُحرم من مكانٍ يعشقه يُصاب بعلة الشوق المزمن إليه، هذا الشوق الذي لا يشفي غليله العودة الى المكان والاطلالة عليه كل يوم، فيبقى المرء يسعى ويطوف في المكان غير مصدق حقيقة وجوده فيه، فهو يخشى لوعة فراق جديد قد يلوح مصادفة. هذا الشوق الذي أصاب الكاتب محمود شقير وهذه اللوعة بفراق القدس طيلة ثمانية عشرة عامًا بعد الحكم عليه بالنفي من قبل سلطات الاحتلال، يدفعانه للبحث عن المدينة والكتابة عنها أكثر فأكثر.

يطلّ علينا محمود شقير في إصداره الجديد “القدس مدينتي الأولى” ليحدثنا عن قصته مع المدينة، مقدمًا سيرته الذاتية موجها إياها الى فئة الفتيان والفتيات، بعد أن كتب سيرته أو قسما منها تحت عنوان “ظل آخر للمدينة” وصدرت عام 1998. هنا في هذا الاصدار نرى القدس تعود وتتربع على عرش كتابات محمود شقير الصادرة مؤخرا، فقد صدرت يومياته بعنوان “مرايا البلاد”، وكتاب “قالت لنا القدس”، “فرس العائلة” رواية، وجميعها تدور أحداثها أو تتحدث عن القدس. وها نحن نقف اليوم أمام كتاب السيرة لهذا الكاتب الفلسطيني الكبير صاحب السيرة الغنية، الصادرة عن منشورات الزيزفونة 2014.

نلحظ في هذه السيرة أنّ الكاتب منح مساحة كبيرة لطفولته ومرحلة شبابه وبداية تفتح مداركه ومعارفه الثقافية، فهو يحدثنا عن دراسته في المدرسة الرشيدية وبداية لقائه بالمدينة، وتعرفه على مراكزها الثقافية، يذكر السينما في فصل “أنا والسينما” ومتابعاته لأفلام كثيرة واهتمامه بها، وتحت فصل “أنا والكتب” يُطلعنا على الفترة التي بدأ فيها يهتم بالمطالعة، وهي في مرحلة الثانوية، ويحدثنا عن ادّخاره وشرائه للكتب، وكتابته للقصص الأولى، والنشر في مجلة الأفق الجديد، والنفس الطويل الذي تمتع به، والصبر حتى نشرت له المجلة القصة الأولى. والكاتب يرمي من خلال هذه الأحداث دفع القارئ الشاب للاهتمام بالأجواء الثقافية حوله، وتطوير مواهبه، وعدم الرضوخ أو اليأس، ونرى انّه بنى نفسه وتقدم باستحقاقه الذاتي دون مساعدة أحد.

حاول الكاتب من خلال هذه المرحلة وذكر مشاكساته أيضا التقرب من نفسية الناشئ، وأخذه الى جانبه وهذا توجه مهم وذكي من قبله.

لكن بتوجيه محمود شقير سيرته الى فئة معينة اختصر الكثير، ورأينا قفزات مهمة ما بين مرحلة وأخرى، فأمر زواجه وأطفاله لم نعرفه الا صدفة بعد نفيه من فلسطين.. كذلك نشهد قفزة زمنية عند مرحلة النفي بذكر مشاركته في مؤتمر في هلسنكي ص 72، ليترك 18 عاما من المنفى معلقة ضبابية في ذاكرة القارئ… يعود محمود الى فلسطين الى القدس.. يصرّ على اصطحاب القارئ واستعادة ذاكرته في المكان برفقته من خلال جولة في المدينة. ويعود ليبعث بعض النور على مرحلة المنفى والتي تشكل ربع عمره تقريبا عبر الذكريات، وتعاوده ذكريات أخرى ما قبل النفي.

الفصل الذي جعلني أقف مستغربة جدا أمام شخصية محمود شقير التي أعرفها منذ سنوات عديدة، هو فصل “أختي أمينة” ص28، فقد رأيتُ شخصيته في الفصل تختلف كثيرا عن شخصية محمود شقير التي أعرف. تفاجأت من رفضه بأن تتلقى شقيقته الدراسة الثانوية، خاصة أنّه هو الشاب الذي توسعت آفاقه ومداركه، ولم يعد عالمه محصور بعالم قريته أو قبيلته، فها هو يطالع روايات عربية وعالمية، ويشاهد السينما، ويستمع للمذياع ويختلط بالمجتمع المدني، إلا أنّه ورغم ذلك جاء رافضا لاستكمال شقيقته الدراسة واستعد جيدا ليخيب أمل مدرساتها.

في الواقع كانت ردة فعلي على هذا الفصل كتابة علامة تعجب على صفحته. إذ حتى لو كان رأي الكاتب بهذا الشكل آنذاك إلا أنّه يوجه سيرته لفئة معينة، وهذه الرواية يقف من خلفها هدف تربوي، ولم يحاول الكاتب في هذا الفصل أن يقدم تبريرا لسبب رفضه لدراسة شقيقته، على الأقل لأجل القارئ الناشئ، ولكي لا يدفعه لتبني هذا الرأي، بل ختمه بعبارة جافة “قلنا لها: تكفيك مدرسة القرية الابتدائية”. ربما وبسبب تأنيب الضمير الذي داخل محمود بعد سنوات حين وافت شقيقته المنية بعد الإنجاب، أراد ان يذكر حقيقة ما جرى دون تغيير أو تبرير ما، ربما سيرضى بغضب القارئ عليه واستغرابه كجزء من التأنيب الذاتي، وربما لم يصل الى مصالحة داخلية بعد، فاختار أن يذكر الحقيقة دون اضافات.

أثار انتباهي أيضا محاولة الكاتب عدم التشديد أو الذكر التام لوسائل التعذيب، وما لاقاه في السجن من معاناة، حماية لنفسية الناشئ. باستثناء فصل “أختي أمينة” أرى أنّ هذا الكتاب يحمل هدفا تربويا ويلائم الفئة التي وُجه اليها.

لغة السيرة قوية وسلسة ومفهومة للفئة الموجهة اليها، تمَ تقسيمها الى فصول، وجاء هذا التقسيم صائبا في الانتقال ما بين المراحل والمشاهد.

أخيرا استمتعتُ كثيرا بقراءة سيرة هذا الكاتب الفلسطيني الكبير، صاحب القلب الكبير الطيب والذي لا يمكن لمن يعرفه إلا أن يشعر اتجاهه بالحب والاحترام الشديدين، سيرته التي سمعتُ بعض أجزائها منه، خلال لقاءات وأمسيات جمعتنا، جعلتني بعد قراءتها أشعر بقرب أكبر من عالمه، ولكنني أنتظر أن أراها مقدمة الى القارئ بتفاصيل أغنى موجهة الى الفئة العمرية البالغة، لننهل أكثر من تجربة محمود شقير الغنية.

وكتبت رفيقة عثمان:

حضور، ودلالات المكان في سيرة الأديب، أم السيرة الذاتيَّة في حضرة المكان

علاقة المكان بشخصيَّة الأديب محمود شقير

تقديم: رفيقة عثمان أبوغوش

صدر عام 2014 كتاب “القدس مدينتي الأولى” للأديب الكبير محمود شقير، عن منشورات الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل في رام الله، ويقع الكتاب الذي صمّمه شريف سمحان، والموجّه للفتيات والفتيان في 95 صفحة من الحجم المتوسط.

في هذه القراءَة اخترت ان اقدِّم تحليلا أدبيًّا، حول انعكاس شخصيَّة الأديب، من خلال تناوله أسماء للاماكن بأبعادها المختلفة، ضمن مراحل العمر المتسلسلة، وعلاقتها الوثيقة بسيرة حياة الاديب شقير.

ليس غريبًا علينا ان نجد إيليا أقدس الأماكن، وأجملها متربِّعةً في قلب، وعقل أديبنا المقدسي، محمود شقير، كيف لا وهي مسقط رأسه؟

جعل الأديب شقير من مدينة القدس، مكانًا فسيحًا للتعبير عن معاناته التي لاقاها في ظل الظلام، وفي منفاه خارج وطنه، تلك المدينة الزاخرة بالأسرار، والذكريات التاريخيَّة، ألهمت، وحرَّكت ذكريات، ومشاعر أديبنا، المرتبطة في الواقع الذي عايشه، وما زال يعيشه حتَّى الآن، ما بين ماضٍ، ورؤية شموليّة نحو المستقبل.

تسطِّر القدس اليوم صفحات جديدة لسيرة ذاتيَّة، لشخصيَّة من اعلامها البارزة، وفتحت مصراعيها؛ لتستقبل فارسًا غاب عنها سنين طويلة قسرًا. كما ذكر صفحة 4 “ها أنا ذا عائد إلى مدينتي الأولى بعد غياب قسري دام ثمانية عشر عاماً”.

لا بدَّ من ذكر أهميَّة المكان في النوع الادبي، تبعًا للمصادر حول اهميَّة المكان في الأدب ” للمكان ملامحه النفسيَّة التي يجسِّدها لنا تاريخه، وطبيعة ما تعتريه من أحداث وتغيُّرات، وعلاقة مع الآخر تشير دلالة المكان إلى المكانة الاجتماعيَّة، والنفسيَّة للشخصيَّة التي يتحلَّى بها الكاتب، أو الأديب، حيث يصوِّر مشاعره، وحالات الشخصيَّة، المكان يمنح الشخصيَّة هويّتها، ويتحكم في سلوك ونفسيَّة الشخصيَّة. “. (عزام، 2010: 222) ،

الناقد محمد الصفراني، يعرِّف أهميَّة المكان في الرواية: “الفضاء الروائي يضم المكان والزمان، وهما قطباه، ولا يتصور عمل روائي من غيرهما، والرواية هي فن توصيف الزمكان الذي هو في وجه من وجوهه مكان الراوي وزمانه وفي وجوهه الأخرى يحمل ملامح الشخصيات”. ( خلود الفلاح، 2012).

لم يبخل علينا أديبنا، في ذكر اسماء، وتفاصيل للمعالم الهامَّة في مدينة الزهراء، بكل ما فيها من أمكنتها، وأزقَّتها، وشوارعها، وحاراتها، وأحيائها، ووصفها كجزءِ من كيانه: كما ذكر صفحة 95: “رحت أبحث عن مكان هادئ، في مدينتي الأولى التي تفتَّحت عليها عيناي، فبقيت مشدودًا، إليها كأنها أمي التي ولدتني”.

اختار أديبنا شقير، عنوانًا لكتاب سيرته الذاتيَّة، وصورة القدس على غلاف الكتاب: “القدس مدينتي الأولى”، ان هذا الاختيار لم يكن اختيارًا عبثيًّا، فاختار الفضاء الفسيح، كحيِّز واسع، وخطَّ سيرته الذاتيَّة، زمنيًّا ومكانيَّا، (زمكنة)، والجدير بالذكر بان هنالك أدباء، وكتَّاب اطلقوا عناوين على إبداعاتهم، لأسماء الأماكن مثل: قصر الشوق – وبين القصرين، والسكَّريَّة، زقاق المدق، القاهرة الجديدة، ثرثرة فوق النيل، خان الخليلي، للكاتب نجيب محفوظ، وايضًا ثلاثيّة غرناطة، للكاتبة رضوى عاشور، وغير ذلك.

اتخذ الأديب شقير من مدينة القدس مسرحًا فسيحًا، للتعبير عن مشاعره الجيَّاشة، وللتعبير عن ذكرياته، وأشجانه، وحنينه للوطن بعد غياب طويل، كما ذكر صفحة 51: من وحي المكان، الذي تعمَّق فيها اديبنا بوصف المكان، ونسج ذكرياته الغنيَّة، والمرتبطة بالمكان، وتفاعله مع الشخصيَّات، والزمن؛ باستخدام اسلوب المونولج- الحوار الذاتي، كما ذكر: “الآن أجلس في هذا المقهى الواقع في أول عقبة السرايا، استشعر وقع سنوات خلت، وأناس كُثر مرُّوا من هنا، ثم ما لبثوا أن مضوا”.

تُعتبر الأماكن المذكورة والمهندسة، والبيئات التي يعيشها الإنسان، دلالة على شخصيّة الأديب، أو الكاتب، أو الشاعر، فالأماكن المفتوحة، مثل البيت، والساحة، والمقهى، والشارع، كلها اماكن تعبِّرعن الانطلاق والحريَّة، والاستقرار التي استطاع اديبنا أن يصف مشاعره، وخلفيَّة الأحداث من خلالها، وفق حالته النفسيَّة في ذلك المكان والزمان.

اهم ما ذكر من اماكن مفتوحة في سيرة أديبنا شقير: في صفحات الكتاب، من معالم، وشوارع القدس مثل: قصر المندوب السامي- شارع الخليل- بركة السلطان سليمان- المسجد الأقصى-ابو طور- بئر أيوب- فندق الملك داود- الصخرة والحرم- جبل المكبِّر-جبل ابي مغيرة- الشياح- وادي الديماس- وادي ذياب- باب الساهرة- المدرسة الرشيديَّة- حي المصرارة – باب العامود – باب خان الزيت- سينما النزهة- سينما الحمراء- سينما القدس- شارع بور سعيد- باب خان الزيت- عقبة السرايا- – طريق الواد – سوق الدبَّاغة –سوق العطَّارين – كنيسة القيامة – باب السلسلة – سوق القطانين –المسجد الأقصى وقبَّة الصخرة – حي الشيخ جرَّاح – مدرسة خليل السكاكيني – شارع نابلس – الشيخ سعد – ابو عبيدة الجرَّاح – المسرح الوطني الفلسطيني- شارع صلاح الدين- سينما الحمراء.

على خلاف ذلك تطرَّق الأديب شقير ايضًا للأماكن المغلقة أيضًا، كالسجن، والمنفى، والإبعاد خارج الوطن، والتي عبَّر من خلالها عن حالته النفسيَّة المتألِّمة، والتي تعرَّض لها الأديب اثناء منفاه، واعتقاله، وكذلك ما تعرَّض له شعبه من نكبات، ومعاناة في مراحل زمنيّة مختلفة، كما ظهر في صفحات الكتاب من امكنة مغلقة مثل: السجن: سجن صرفند- المسكوبيَّة – سجن الدامون – سجن الرملة – المنفى : صفحة: 86 “كان غيابًا طويلا، وكان عليَّ أن أعيش المنفى بكل تفاصيله المؤلمة والسارَّة”.

حضور الأماكن في نصوص سيرة الأديب شقير، كان لها دور هام جدَّا في استثارة الحنين، ونبش الذاكرة الفلسطينيَّة، واستخدام اسلوب – النوستالجيا – العودة بالذاكرة الى الوراء، واستعراض الاحداث التاريخيَّة من خلال وصف المكان الموحى له بالأحداث؛ كما ذكر: ” تعود بي الذاكرة إلى الوراء، وأتذكّر أننا لم نعد قادرين على الذهاب إلى القدس من جهة قصر المندوب”.

تميَّزت سيرة أديبنا شقير بذكر الأماكن بشكل حراك دائم بين بلدان عِدَّة: ما بين القدس وعمان، والجزائر، وتشيكوسلوفاكيا (براغ)؛ وغيرها، حيث نجح أديبنا في تصوير مشاعره، وارتباطه بالأشياء، والأغراض المتعلِّقة في تلك الأماكن، وخاصّة في المنفى، لِما لها من دلالة على عدم الاستقرار، والحيرة، والشعور بفقدان الراحة، وهدوء البال، وفقدان الاغراض الثمينة والغالية التي اقتناها أثناء وجوده بالمنفى. كما ذكر: ” اين أذهب بهذه الأشياء الحميمة التي يراكمها الزمن في البيت، البيت المتحرِّك على الدوام، لأنه قائم في المنفى، هش، غير مستقر على حال”.

مهما تعدّدت الأمكنة في المنافي، ظلَّت القدس حاضرة امام ناظريه دائمًا، حيث خصّص لها أديبنا مكانة هامة في كتاب سيرته، وترتيبها في نهاية الكتاب، لما لها دلالة على استقرار الأديب اخيرًا بعد العودة في مدينة القدس، السيرة بعنوان: “جولة في المدينة”. ما زالت المدينة الساحرة تُبهر ناظري أديبنا، وتشدُّه لاستعادة ذكريات المكان، والزمان المفقودين بين حجارة، وأسوار مدينة القدس؛ كما ذكر صفحة 95: “واصلت هبوط الدرجات المؤديَّة إلى باب العامود، اجتزت البوابة التي ما زالت تحتفظ في بهائها، رغم ما شاب حجارتها من شحوب، وقفْت لحظة تحت قوس البوابة، ورحت استذكر من مرُّوا من هنا عبر تاريخ المدينة الطويل”.

كما لاحظنا آنفًا، بأنَّ الأمكنة والأشياء التي وصفها أديبنا، أعطت انطباعًا عن الفضاء الفكري، والاجتماعي، والسياسي الذي تحلَّى بها الاديب، وعن نشوء علاقة حميمة ما بين شخصيَّة الأديب المقدسي شقير، وبين الأماكن، والأزمنة، طوال فترة حياته، كما عبَّر عن مشاعره، ومناجاته، ومعاناته، بل استذكر التاريخ المتسلسل لسيرته الذاتيّة من خلال وصفه للأمكنة، وخاصَّة مدينة القدس التي حظيت بحصّة الأسد من مكانة عالية، وحيِز كبيرين.

لا بد أن السرد الاستذكاري لسيرة أدينا شقير، حافلة في سيرته الذاتيَّة، وتمَّ انعكاسها من خلال الامكنة المذكورة أعلاه،

وتُعتبر تلك السيرة قدوةً حسنة تُحتذى بها الأجيال القادمة، وتأريخًا لحياة اجتماعيَّة وسياسيَّة واقتصاديَّة، للقدس وساكنيها، واماكنها، التي تستحق الأرشفة ضمن الذاكرة الفلسطينيّة. أطال الله في عمر الأديب شقير، وجعله من الذين يصونون القدس بكلماتهم الراقية.

خلاصة القول، من القراءة والتحليل للسيرة الذاتيَّة، وجدنا بأنَّ هنالك علاقة تبادليَّة ما بين دلالات المكان، وشخصيَّة الاديب، وما بين شخصيَّة الاديب والمكان.

1. عزَّام فؤاد، 2010، المجمع، كليّة القاسمي: 222-224

2. عودة، علي، الزمان والمكان في الرواية الفلسطينية”1952 -1982 “.

3. بحراوي، حسن، بنية الشكل الروائي: الفضاء – الزمن – الشخصية، المركز الثقافي العربي, الدار البيضاء، 1990 )، ط1.

4. الفلاح خلود، 2012، جريدة الزمان الدولية العدد 4296 .

وقالت سوسن عابدين الحشيم:

كما هو واضح من قراءة الكتاب ان القدس تعيش في قلب الكاتب ووجدانه، فقد  نشأ في شوارعها وأزقتها وحواريها، وتعلم في مدارسها، فكانت نشأته مقدسية الأصول لا يمكن لأي شيء أن ينتزعه منها، غرس طفولته وشبابه في جذورها، فأنبتت فيه روح التشبث والعشق لها. كان صادقا في حبه وعشقه لمدينة القدس، وقد أسماها “مدينتي الأولى، يصف هذه المدينة المقدسة بكل شارع وزقاق، أو مكان يمرّ به، يراجع ذكرياته الطفولية والشبابية بها ويجعل القارئ يتخيل هذه الأمكنة التاريخية العريقة بأسمائها الأصلية، فيرسخها في ذهن الفتيات والفتية الذين يجهلون معالمها الأثرية، نرى الكاتب يتنقل  في شوارع وحواري القدس حاملا حقيبته المدرسية كطالب تارة، وتارة اخرى كأستاذ، فهو يسلسل الأحداث التي عاشها في القدس بطريقة شيقة وسهلة، مستخدما لغة السرد القصصي؛ ليوجه رسالة  الى القارئ يبين فيها مدى تأثره وولعه بمدينته، والتى أبعده المحتل الغاصب عنها، وكان نفيه حقبة زمنية صعبة من حياة الكاتب، والتي حاول أن لا يذكر تفاصيل هذه المدة في كتابه، فقد أبعد عن القدس بمساجدها وكنائسها وآثارها وسيناماتها ومقاهيها وشوارعها وناسها، كانت الصدمة قاسية عليه في قرار الابعاد المجحف في حقه لمدة ١٨ عاما؛ ليقضي هذه السنين بعيدا عن مدينته، فقد ترك روحه فيها ويعود ليرى القدس مرة ثانية وتعود له الحياة، حياة تختلف عن الحياة الأولى المليئة بالحركة والنشاط، والتي كانت قبل النكسة وقبل الابعاد، الحياة الجديدة  حياة كلها استسلام للواقع المرير، كلها حزن يخيم على البشر والأمكنة، كما ختم الكاتب سيرته بتجواله عند سور باب العامود، يستذكر كل من مرّ من هناك من غزاة وقادة وجيوش وعلماء ومفكرين وأناس عاديين، فيدرك انه في مكان هادئ حزين بلا حركة، في ساعات المساء يجلس في المقهى وحيد….يلخص الكاتب سيرته بتوضيح علاقته بالقدس…فعلاقة الكاتب بالقدس كعلاقة الابن بأمه التي ولدته حيث يقول في آخر صفحة … مشيت رحت أبحث عن مكان هادئ في مدينتي الأولى التي تفتحت عيناي فيها، فبقيت مشدودا اليها كأنها أمّي التي ولدتني.

وقال راتب حمد:

سأبدأ من هناك منتصف الكتاب رغم ما جاء به من ملاحظات سابقة من أحداث في حياة محمود شقير، وكأني أريد أن أبدا الكتابة بصورة أعتز بها بحيث يأخذني أستاذي القدير للغة العربية في المعهد العربي الأردني في أبو ديس؛ لأكتب وأرسم صورة أدخل بها الى باب الذكريات، عندما كان أستاذي محمود شقير يعلمني في ذلك الزمن  الجميل، أحضر حصة صفية أكثر ما فيها نشر الوعي والتركيز على ما يدور حولنا، من خلال ربط ما نتعلم بالواقع، وكأن المعلم اليوم خلق ليعطي من خلال صفحات الكتاب بهذا المنهاج العقيم، وأقول إن اكثر ما يستذكر الطلاب بمعلميهم قدرتهم على التعامل الجيد وفتح الآفاق لهم، لا ما يعلمونهم من صفحات الكتاب، فالاستاذ محمود كان يعلمنا من قلبه وحبه الكبير للوطن، وإلا لكان شأنه اليوم شأن الكثير من المعلمين الذين لا يخرجون عن النصّ، أو عن سطور الكتاب بشيء، ويكون مصيرهم الهجر والنسيان، ويحل عليهم ضرورة التغيير كما المنهاج، نعم قد أعدتني أستاذي لأيام رائعة، وأسماء كثيرة لطالما أجهدنا أنفسنا باستذكارها سواء للمكان، وهنا أقصد القدس بأحيائها وحواريها وأزقتها ورسمت أجمل اللوحات وسجلت ذلك في سجل الشرف للمدينة الخالدة الأبية.

نعم فالقدس ومع ما تصنعه اليوم و تضحي بالغالي والنفيس من أبنائها الأبطال تسير نحو طريق النور الذي طالما سارت فيه كل حركات التحرر العالمية؛ لنيل حقها بالاستقلال والحرية، والأستاذ محمود خير من سار هذا الطريق؛ ليسهل المهمة والمهمات على من يأتي بعده، بلغةٍ بسيطة سهلة جزلة وإن كانت في بعض الأحيان بعيدة عن التشويق، وهذا شأن أي كتابة عن السيرة الذاتية.

وكتبت رشا السرميطي:

يعود بنا الأديب محمود شقير في كتابه ” القدس مدينتي الأولى ” إلى حيث الأحلام العزيزة. العودة التي ندم عليها الكثيرون وفرح بها القلَّة، الذين ما إن لبثوا واعتاشوا مع الواقع الصَّعب حتَّى غادروا من جديد، أو ربَّما باغتهم القضاء ورحلوا للأبد.

في سيرته الموجَّهة للفئة الشبابيَّة، يركِّز الكاتب على بساطة اللغة وأصالة المعنى، متماشيًا مع النَّهج الفكري الرَّائج عند تلك الفئة القارئة، ويتحدَّث عن التفاصيل التي يتداولها هؤلاء الشباب فيما بينهم، الأماكن، توصيفها، الزَّمن وقصر البوح. ويحكي عن دخوله القدس قبل النَّكبة وبعد ابعاده عنها سنوات طوال، ويروي للقارئ، صورة مشاهدته للقدس، عندما كان طفلا، وبعدما شبّ، ووعى القضية، قضية الوطن المكبل بجراح زمان قاس، ربما ستبرأ آلامه يومًا.

جبل المكبر الذي كان حاضرًا في وقت الشتات وتشتّت العائلة في كتابات ” محمود شقير” ووصفه للبيوت وخرابها، حياته عندما كان طفلا، وعلاقته بنظَّارته، المدرسة الرَّشيديَّة، المذياع، زياراته للسينما ووالده الذي حضر في غالبيَّة نصوصه، ” تلك الأمكنة ” كما كتب في صفحة (21)، وكلّ تلك الآلام التي عاشها، قام الكاتب بتجسيدها من خلال نصوص جميلة، قصيرة وبسيطة في معانيها، لكنها تحمل رسالة عميقة.

بدايات الكاتب في القراءة وتصفحه لكتب بلا أغلفه، وكأنَّ الطريق المجهول يأخذ الكاتب دومًا نحو خوض غمار المعرفة وحب الكشف عمَّا هو غير واضح للعلن، أسماء كبيرة بدأ بها محمود شقير، حتى وصل لاكتشاف ذاته الكبيرة، وتعلقه بالكتاب والقلم، بعدما بدأ عمله في قرية قرب رام الله، ومجلة ” الأفق الجديد ” برئاسة – أمين شنّار، كانت أول بدايات ” شقير ” للنشر، فقد كانت نصوصه قصصية، لكنَّه سرعان ما تلقى الرَّفض بعدم قبولها للنشر، لكنَّ الكاتب أشاد بدعم رئيس التحرير، إذ شجعه على الاستمرار وتطوير هذه القصص؛ لتكون منشورة يوما ما. وهنا الجلد الذي يقدمه ” محمود شقير ” لتلاميذه، فلا يوجد كاتب يولد بين ليلة وضحاها، وإن وجد هلاميًا مزيَّفا سرعان ما يزول ويفنى..

هزيمة حزيران 1967، وما تبعها من هزيمة للواقع في المدينة، ودخول السجن تجربة أغنت الكاتب، وأضافت على حياته الكثير، يتطرّق في سيرته للفتيان والفتيات على ذكرها بتفاصيل قصيرة جدًا، ربما لملائمة ذوق هذا الجيل قصير البال على القراءة. وما بعد السجن وكوابيس الواقع، تفاصيل المشهد، أسواق المدينة باب خان الزيت والأقواس، طرقات عابرة وذكريات منتظرة للتدوين، قهوة وتأمل عاثر، شكل حربًا داخلية لدى الكاتب في معايشة هذا الواقع، بعد اقتحام منزله من قبل الشرطة، وما كان بذلك الموقف من مهانة وإذلال، انتهى بالكاتب لما أورده لاحقًا- المنفى. المنفى الذي تحدَّث عنه شقير، بعد مكاني، لكنه خلود روحي رجع بالكاتب بعد سجنه من معتقل للآخر، حتى وصل أوروبا مبعدًا عن وطنه، وما بعد الابعاد كانت العودة. وتبقى القدس حاضرة في خاصرة الوجع الفلسطيني وآلام القلم.

وكتب فراس عمر:

القدس في نظر الكاتب الفلسطيني محمود شقير مدينة أبدية تسكن في وجدان الكاتب وخياله وأفكاره.

يواصل الكاتب الفلسطيني محمود شقير الكتابة للفتيان والفتيات من خلال تعاون وطيد وعميق مع جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل برام الله، والتي أخرجت للنور العديد من إبداعات شقير القصصية والروائية لطلاب المدارس من فتيات وفتيان أو أطفال دون سن العاشرة، وها هو يكتب شيئا من “سيرة” ذاتية، في “القدس مدينتي الأولى” التي عاش بعض تفاصيلها في المدينة المقدسة، مدينته الأولى، القدس.

“القدس مدينتي الأولى”، الصادرة عن “منشورات الزيزفونة”، برام الله، هكذا يعنون شقير هذه السيرة، فهل كان يقصد شقير بالأولى تلك المدينة العريقة من وجه القدس الذي عرفه قبل الاحتلال؟ ربما أراد أن ينفي تعلقه الوجداني بأيّة مدينة أخرى، فأصرّ على إضافة المدينة إلى الذات لتصبح “مدينتي”، يا الله! ألهذا الحد يستولي الحنين على الأشخاص ليذوبوا في المكان ويتّحدوا معه؟

سيرة ذاتية

يتناول شقير في هذه السيرة، عبر 95 صفحة من القطع الصغير، جوانب من حياته التي عاشها في المدينة المقدسة؛ طفولته وشبابه وكهولته بعد أن تركها مجبرا على الرحيل عنها، ويسجل فيها بعض ظواهر المدينة في الأربعينات من القرن العشرين وحتى إبعاده عنها، والعودة إليها مرة أخرى لتكتمل الدائرة في القدس، فيتحدّث شقير عن تعلمه في مدارس المدينة، وعمله معلما في بعض مدارسها، وتجواله في شوارعها، وتأمله لبناياتها وملامحها، ليعيش واقعها الحالي بصورتها القديمة المختزنة في الذاكرة!

كما يتحدث شقير عن اشتغاله بالسياسة، وتفرغه لها تفرغا كاملا، ليصبح ناشطا سياسيا، يعرّضه ذلك للملاحقة والاعتقال الإداري، ويضطرّ أحيانا للتخفي بعيدا عن عيون الاحتلال، حتى يقع أخيرا بين أيديهم ليتمّ إبعاده!

الحنين إلى المدن

لا يطيل شقير في الحديث عن المنفى والمدن التي عاش فيها، على الرغم من أنه عاش 18 سنة في المنافي، وجرّب مدنا كثيرة من بيروت إلى عمان وهلنسكي وحتى براغ، إلا أنه لم يتحدّث عن تلك المدن بالتفصيل غير ما قدّمه من ملحوظات عامة حول الوضع النفسي الذي عاشه منفيا يعاني من عدم الاستقرار، حتى يسمح له بالعودة عام 1993 مع مجموعة من العائدين بعد اتفاق أوسلو الموقع بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، ليعود إلى مدينته الأولى.

يعاود الحنين شقير من جديد، فيسير في شوارع المدينة، وكأن وجهها الحالي لم يعجبه، فسرعان ما تقفز صورة المدينة الأولى إلى الذاكرة، تلك المدينة التي تغص بالذكريات والجمال والوطن، إذ لم يصب هذا الوجه بالتشوه، فلم يبرح ذاكرته، وكأنه يريد أن يثبت وجه المدينة الأصيل الذي عرفه، قبل أن تغيّر دولة المحتلين الملامح والأبنية والوجه والطابع!

ذاكرة وأحداث

توظف السيرة اللغة البسيطة البعيدة عن تقنيات التعقيد اللغوي، فيسرد الكاتب ببساطة أحداثا وقعت له، تتناسب وأعمار هؤلاء، وتحبّب إليهم المدينة.

والقاطن فيها لم يبرحها ولم تبرحه، وتعيد إلى الأذهان حقيقة البعد الحضاري والثقافي والسياسي للمدينة.

تظهر هذه السيرة المقتضبة أن ذاكرة شقير مكتنزة بالأحداث العميقة، التي تؤهله لكتابة سيرة موسعة، يتحدث فيها بالتفصيل عن بعض ما سكت عنه أو لم يشأ أن يستفيض فيه، فهل سيكتفي شقير بهذه المقتضبات، فتضيع كثير من الأحداث التي مرّ بها ومرّت بها القضية الفلسطينية، والعمل السياسي الحزبي في فلسطين؟

عدا التوسع في بيان حقيقة الوضع الاجتماعي بشكل عام للمدينة، الذي بدا باهت الحضور في هذه السيرة بحكم أنها محددة الهدف في التعريف بالرابط الوجداني بين المكان والكاتب، وموجهة لفئة من القرّاء، لا يعنيها من الأحداث أو الأفكار أكثر مما طرح في “القدس مدينتي الأولى”، مع العلم أن هناك كتبا للمؤلف قد تناول فيها جانبا من سيرته الذاتية ككتابه “مرايا الغياب”، أو كتابه “ظل آخر للمدينة”، إذ يتناول فيه الحديث عن مدينة القدس كذلك. وأخيرا، ما الذي تضيفه هذه السيرة لأدب الأطفال؟

إن “سيرة” الكاتب شقير هذه، تعدّ سبقا في أدب الأطفال، إذ أنها تناولت سيرة الكاتب نفسه، بعد أن كنا نقرأ لكتّاب كثيرين سيرا غيرية لأبطال تاريخيين وسياسيين، تأتي هذه السيرة بفتح جديد في التعريف بالكاتب نفسه بلغته هو، مع شيء من الارتباط بالمكان والأحداث الكبرى، فربما كان محمود شقير هو صاحب الريادة في كتابة سيرة ذاتية للأطفال، وهو بذلك يضيف بعدا جديدا لأدب الأطفال في الأدب العربي بشكل عام، وفي فلسطين بشكل خاص.

يذكر أن محمود شقير، من مواليد جبل المكبر في القدس سنة 1941. حاصل على ليسانس فلسفة واجتماع من جامعة دمشق (1965)، ونائب رئيس رابطة الكتاب الأردنيين وعضو الهيئة الإدارية للرابطة لمدة عشر سنوات 1977 – 1987. وهو عضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين 1987 – 2004. نشر العديد من القصص والمقالات الأدبية والسياسية في صحف فلسطينية وأردنية وعربية.

نال عديد التكريمات من بيت الشعر الفلسطيني بالبيرة في رام الله، فلسطين (2007)، ورابطة الكتاب الأردنيين في ملتقى السرد الأول بعمان (2008) وجامعة فيلادلفيا بالأردن (2008) ودار الأسوار في مؤتمر أدب الأطفال الثالث بعكا (2008).

صدر لشقير العشرات من الأعمال الموجهة إلى الأطفال منها “الحاجز” و”الجندي واللعبة” و”أغنية الحمار” و”مهنة الديك” و”قالت مريم – قال الفتى” و”أنا وجمانة” و”طيور على النافذة” و”الولد الذي يكسر الزجاج” و”تجربة قاسية”.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات