صدرت رواية البلاد العجيبة لجميل السلحوت نهاية العام 2015 عن مكتبة كل شيء في حيفا، وتقع في 83 صفحة من الحجم المتوسط.
الروايات التي يجمح فيها الخيال بالارتباط بغير عالم الإنسان، ليست مقتصرة على أدب معين أو زمان، ففي رواية الأديب الإنجليزي كريستوفر مارلو، يبيع الدكتور فاوست نفسه للشيطان مقابل بضع سنوات، يتمتع فيها بالطواف بين العظماء والعظيمات والجميلات، غير أن عاقبته كانت وخيمة. أما روايتنا “البلاد العجيبة”، فإنها على العكس من ذلك، تجلب الثراء والسعادة لعائلة أبو محمود نوعا ما، حيث تحب بطلتنا سعاد الثانية الفتى محمود، الذي أراد الشيخ الطيب مكافأته، لِما رأى فيه من طيبة وخلق حسن، فأخذه في سياحة كونية إلى بلاد العجائب؛ وهناك تقرر البطلة أن تنجب طفلا مثله، بالزواج من أبيه بطريقة شرعية، مما يذكرني، والشيء بالشيء يذكر، بما قاله لي في الخمسينات، الزميل معين بشناق في السعودية، أنه كان في صيدلية في دمشق، حين دخلت سيدة جميلة معها طفلة لطيفة، أعجب بها وأخذ يداعبها، فقالت له الأم: “الله يطعمك بنتا مثلها”. رد عليها بأن ذلك غير ممكن، لأن التي تنجب مثلها، يجيب أن تكون أمها أو مثل أمها تماما. وهكذا بدأت العلاقة بينهما، وتطورت إلى الرغبة في الزواج لولا ظروف قاهرة.
الخيال مغفور له بل مطلوب، إذا كان يهدف لغاية تعليمية وتثقيفية، بأن تقدم لليافعين واليافعات أفكارا تقدمية، بمعنى أنها تهدف للتطور والتقدم، وليس كما يتهم البعض التقدمية بأنها يسارية،لا تتفق مع تراثنا ومبادئنا. والرواية فيها الكثير مما قد يتعلمه الطلاب، أوجز بعضا منها، فالمعلومات عن القدس عروس المدائن، عبر التاريخ منذ اليبوسيين، والملك العربي ملكي صادق، الذي بناها قبل ستة آلاف سنة، ومسيرتها التاريخية، والقدس القديمة المباركة، بما فيها من مسارات وأسوار وحارات وأسواق، وكنائس ومساجد، خاصة المسجد الأقصى بما فيه قبة الصخرة المشرفة، هي ضرورية لربط النشء الجديد والتمسك بالقدس، لأنها بوابة الدنيا وأقرب بقاع الأرض إلى السماء، كما تقول الرواية، التي تقدم للطلاب أفكارا جديدة، في وعاء قد يكون مألوفا لما قرأه البعض وشاهده. فالمركبة الزجاجية التي سافر بها محمود مع الشيخ الطيب على بساط الريح، ليست غريبة عن السفن الفضائية، التي تشاهد على شاشة التليفزيون، والمدينة العجيبة، تذكر الطلاب بما قرأه البعض عن أليس في بلاد العجايب، والتحليق من فضاء المسجد الأقصى ذات ليلة، شبيه بقصة المعراج.
مست الرواية من بعيد بعض الإشارات للثقافة الجنسية، التي يفتقدها الطلاب والطالبات في هذه المرحلة، الذين هم بحاجة إلى من يساعدهم، وهم يكتشفون هذا التغير الفسيولوجي في سن البلوغ. وقد لمست هذا النقص في ثقافتنا، في أوائل السبعينات لمساعدة أبنائي، فلم أجد ضالتي حيث تركتهم لتجاربهم، يتساورني القلق حتى انقشعت هذه الغمة. ففي حوار أم محمود مع زوجها، حول العِقد الذي أحضره محمود لابنتها، قالت إن زينب أصبحت بالغة قبل ثلاث سنوات، أي في سن الحادية عشرة، فظن أبو محمود أنها ربما تفكر، أن البنت أصبحت في سن الزواج، ولا مانع من أن تبدأ بتسويقها بين النساء كما يفعل البعض، أو بالتدليل عليها لتزويجها لواحد من أبناء صاحباتها. هذه إشارة لطيفة عن البلوغ عند الجنسين، والتحذير من زواج القاصرات، تبعتها مسألة عقد قران الجنية سعاد الثانية على أبو محمود، حيث أمضت ساعة في فراشه، شعر عبد المعطي بعدها براحة تامة، وخرج من غرفته سعيدا، مما يجعلني أخشى أن يتخيل اليافعون أن للأكمة ما وراءها، حتى يشعروا براحة تامة .
مع التقدم، يطلع القارئ على نمط جديد في العادات والسلوك، يُظهر الفرق بين وضع المرأة في كوكبينا، فالسيادة هناك للنساء والأطفال، تحكمهم ملكة،مثل ملكة بريطانيا، على عكس ما يحدث في عالمنا العربي والإسلامي، عالم الرجل و الذكورة، كما تختار المرأة الرجل المناسب زوجا لها برضاه، ولا يعرفون عن القتل للحفاظ على شرف العائلة، أو الإرغام على القبول بالشريك، الذي يختاره ولي الأمر، لأنه أدرى بالمصلحة مثلا. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، تدعم الرواية أفكار الوحدة، لأن الكوكب غير مقسم إلى دول، مع اختلاف الألوان والأعراق؛ وحرية الأديان مكفولة للجميع، في دولة غير دينية، مع تعددية الآراء، والناس يحتكمون للعقد الاجتماعي لحماية المحبة.
تبين الرواية أن الأرض تكفي من عليها، إذا أحسن استغلالها بالعلم والإدارة السليمة، فوفرة الإنتاج تتيح تقديم الأكل في المطاعم مجانا، كما تخيل كارل ماركس عندما تحدث عن الشيوعية، حيث يقدم الإنسان مجهوده حسب طاقته، ويأخد حسب حاجته؛ وهذا بقي في خيال الفقراء، لأن الاشتراكية التي من المفروض أن تسبق الشيوعية لم تدم طويلا.
وهكذا تعرض الرواية لقراء هذه المرحلة، ما يغذي خيالهم بأفكار جديدة، وتنقلهم من شوارع القدس العتيقة إلى وفرة في المساحة، حيث المحمية الطبيعية أكبر مساحة من العراق، لأن الجنة عرضها كعرض السماوات والأرض. وأخيرا يعود المسافر أبو محمود إلى بلده وإلى سعاد الأولى، وكما يقولون: من فات قديمه تاه؛ ومن ناحيتي لا استغرب من أبو محمود الإنسان التقليدي، الذي يتيح له الشرع الزواج بأربع، أن يقبل عرض سعاد الثانية المغري بالمال والجمال، ولكنني أستهجن فكرة ترك الزوجة الأصلية الأولى بعيدة عن الزفة، بمجرد إغرائها بالثروة والمال، مما يتعارض مع الأنماط الراقية من السلوك الإنساني، تجاه المرأة في الرواية.
أبارك لكم على هذه الرواية الهادفة والجريئة.