استيقظت مايا في الخامسة صباحًا تضحكُ قهقهةً، فرحت والدتُها لِفَرحِ ابنتها، تراجعتِ الأمُّ بهدوء إلى غرفة نومِها وهمستْ لزوجها قيس باسمةً:
تعالَ انظرْ واستمعْ لقهقهة مايا، يبدو أنّها حلمتْ حلمًا جميلًا.
سار قيس ومروة باتّجاه غرفة ابنتهما مايا، استمعا لقهقهة مايا من صالة البيت، وقفا عند باب غرفة مايا بهدوء مُستمتعيْن بخرير قهقة مايا الذي يشبه زقزقةَ طائرِ الكنّار، فتحتْ مايا عينيها النّاعستين فرأتْ والديها، سألها أبوها:
لِمَ تضحكين يا مايا؟
تمطّت مايا رافعةً يديها على الوسادة فوق رأسِها وقالت:
أنا سعيدةٌ جدّا؛ لأنّني أمضيتُ أيّامًا في حضن جدّتي حليمة وجدّي جميل.
ضحك قيس ومروة وقالا بصوتٍ واحدٍ مُندهشَيْن:
مع جدّيْك مرّةً واحدةً؟ كيف حصل هذا وأنت تعيشين في شيكاغو وجدّاك يعيشان في فلسطين؟
عادت مايا تضحكُ من جديدٍ وقالت:
يبدو أنّكما لا تصدّقان ما أقولُه لكما! لكنْ هذه هي الحقيقة، وقد أمضيتُ معهما العطلةَ الصّيفيّةَ كاملة، في المرّة القادمةِ سأصطحبُ معي شقيقتيّ لينا وميرا، فجدّاي سألاني عنهما كثيرًا.
سألتْها والدتُها مروة وهي تضحك:
ألمْ يسألُكِ جدّاك عنّي وعن ابنهما قيس؟
نعم سألاني كثيرًا، فجدتّي وجدّي يحبّوننا جميعَنا، وكانت سعادتي كبيرةً في العيش معهما.
ضحك قيس وسألها:
فلِمَ لَمْ تبقَيْ مع جدّيْكِ ما دمتِ سعيدةً بصحبتِهما؟
وقفت مايا وقالتْ وهي تضحكُ:
قبل أن أستأذنَكما كي أذهبَ إلى الحمّام، لأغسلَ وجهي، سأخبرُكما أنّني عدتُ إليكما، كي أحصلَ على ورقةِ انتقالٍ من مدرستي هنا؛ لألتحقَ بمدرسةٍ قريبةٍ من بيت جدّتي وجدّي.
سألتْ مروةُ ابنتَها مايا:
وهل ستستغنين عنّا وستنتقلين من شيكاغو للعيشِ مع جدّيك في القدس؟
ردّت مايا بثقةٍ تامّة:
لا أحدَ يستغني عن والديه، لكنَّ جدّتي وجدّي يحبّانَني كثيرًا كثيرًا؟
عادتْ مروةُ تسأل:
هل تعتقدين أنّ جدّيك يحبّانَكِ أكثر منّا؟
ضحكتْ مايا وقالتْ:
نعم هذا ما أشعرُ به!
وهنا تدخّلَ قيس وسأل مايا:
كيف عرفتِ أنّ جدّيك يُحبّانَك أكثرَ منّا؟
جلستْ مايا على كرسيٍّ ووضعت ساقًا على أخرى وأجابت:
ألَمْ أقلْ لكما قبلَ قليلٍ أنّني أمضيتُ عطلتي الصّيفيّةَ عند جدّتي وجدّي، هل نسيتُما ذلك؟
ضحكتْ مروة وقيس الذي عاد يسألُ مايا:
لم ننسَ، لكنّنا لم نكن معك؛ لنرى كيف أحبّكِ جدّاك؟
ابتسمتْ مايا وقالت:
صحيحٌ أنّكما لم تكونا معنا أنا وجدّاي، لكنّكما شاهدتمونا ونحن نهاتفُكم بالصّوتِ والصّورةِ عبرَ برنامج” سكايب”.
سألت مروةُ مايا من جديد:
لِمَ لَمْ تأخذينا معكِ عندما سافرتِ إلى فلسطين؟
نظرتْ مايا إلى والديها…سكتتْ قليلًا ثمّ سألتْهُما:
ألا تذكران عندما كنّا نتكلّمُ مع جدّي جميل وجدّتي حليمة عبر برنامج سكايب، كيف كانا يتكلّمان معنا بشوقٍ كبير؟ وكيف كانا يسألانَنا متى ستزوروننا؟ وقلتُ لكما مرّاتٍ كثيرةً بأنّكما إن لم تستعجلا السّفرَ إلى فلسطين؛ لنعيشَ مع جدّينا في القدس، فإنّني سأسافرُ إليهما وحدي، ولمّا يئستُ من طولِ الانتظارِ قرّرتُ السّفرَ وحدي بعد أن عرضتُ على شقيقتيّ لينا وميرا أن ترافقاني، لكنّهما رفضتا وقالتا بأنّهما لن تسافرا إلّا مع الوالدين، أي معكما.
سألها قيس مستغربًا:
وهل سافرتِ وحدكِ؟
مايا: نعم سافرتُ وحدي.
قيس: كيف حصل ذلك؟
قالت مايا: هذه قصّةٌ طويلةٌ سأرويها لكما لاحقا، فأنا اليوم منشغلة.
سألتْها والدتها مروة:
ما هي أشغالُكِ اليوم؟
ردّت مايا بهدوء:
بعد أن أتناولَ طعامَ الفطورِ سأذهبُ لزيارة جدّتي لأمّي هالة.
ضحك قيس وهو يسألها:
هل تستطيعين الوصولَ إلى جدّتِكِ هالة وحدَكِ؟
مايا: سأهاتفُ خالتي صفاء، وسأطلبُ منها أن تأتيَ لتصطحِبَني إلى بيتهم، فأنا مشتاقةٌ لجدّتي هالة.
مازحها قيس قائلًا:
لكنّ جدّتَكِ هالة غيرُ مشتاقةٍ لك، وخالتكُ صفاء منشغلة.
ضحكتْ مايا وقالت:
جدّتي هالة تحبُّني أكثرَ ممّا تحبُّني أنتَ، واليومُ الأحدُ عطلةُ نهايةِ الأسبوع وخالتي صفاء لا تعمل.
********
عندما رأت مايا جدّتَها هالة فتحتْ بابَ سيّارةِ خالتِها بعد أنْ توقّفتْ ونزلتْ تركضُ إلى جدّتها، احتضنتْها الجدّةُ وضمّتها إلى صدرِها، قبّلتْ وجنتيها وكلتاهما تضحكان، بعدها صافحتْ مايا العمَّ أحمد الذي قبّلَ وجنتيها هو الآخر، جلست مايا بجانبِ خالتِها صفاء قُبالةَ جدّتِها هالة، قال العمُّ أحمد لمايا:
أراك سعيدةً هذا اليوم يا مايا.
ضحكتْ مايا وقالت:
نعم أنا سعيدةٌ لأنّني أمضيتُ العطلةَ الصّيفيّةَ في فلسطين مع جدّتي حليمة وجدّي جميل.
استغربَتِ الجدّةُ هالة والعمُّ أحمد ما سمعاه، نظر كلٌّ منهما للآخر، لكنّ الخالةَ صفاء التفتتْ إلى مايا وسألتها:
عن أيّ عطلةٍ صيفيّةٍ تتحدّثين يا مايا؟
ردّتْ مايا بهدوءٍ دونَ اكتراث:
عن هذه العطلةِ التي ستنتهي بعد أسبوع.
ازدادت حيرةُ العمِّ أحمد والجدّةِ هالة ممّا قالته مايا، لكنّ الخالةَ صفاء بدّدتِ الحَيرةَ عندما قالتْ باسمة:
آه….تذكّرتُ الآنَ أنّ مروةَ قالت ضاحكةً لمايا وأنا أصطحبُها إلى السّيّارة:
حدِّثي خالتَكِ صفاء عن رحلتِكِ إلى فلسطين، فلم أفهمْ من قولها هذا شيئًا، وحسبتُها تمزحُ خصوصًا وأنّ مايا وشقيقتيها لينا وميرا يسألنَ دائما عن فلسطين، ولينا تتكلّمُ دائما عن زيارتها لفلسطين قبلَ ثلاثِ سنوات، وكيف صلّت في المسجد الأقصى.
وهنا وقفتْ مايا وهي تحتضنُ دُميتَها وقالت موجّهةً حديثَها لخالتِها صفاء:
وأنا صلّيتُ أيضًا في المسجدِ الأقصى وزرتُ كنيسةَ القيامةِ في القدسِ وكنيسةَ المهدِ في بيت لحم.
وهنا تدخّل العمُّ أحمد وسأل مايا:
متى صلّيتِ آخر مرّةٍ في المسجد الأقصى يا مايا؟
أجابتْ مايا وهي تُخرِجُ من حقيبتها صورةً لقبّةِ الصّخرةِ وصورةً أخرى للمسجدِ القبليِّ وقالتْ:
بالأمسِ صلّيتُ وجدّتي حليمة في قبّةِ الصّخرة هذه وكانت تشيرُ إلى الصّورةِ، بينما صلّى جدّي جميل في المسجد القبليّ هذا وهي تشيرُ إلى الصّورةِ أيضًا.
ذُهِلَ العمُّ أحمد والجدّةُ هالة والخالةُ صفاء ممّا سمعوه من مايا، نزلتْ دمعتان من عينيّ العمِّ أحمد، وقال:
نحن الفلسطينيّين تسكنُنا القدسُ ومقدّساتُها حتّى وإن كنّا بعيدين عنها.
التفتتِ الجدّةُ هالة إلى زوجِها أحمد وقالت:
القدس تسكنُ قلبَ وعقلَ كلِّ عربيٍّ ومسلمٍ، ولن يهدأ ضميرُ الأمّةِ ما دامتِ القدسُ محتلّة.
سألتِ الخالةُ صفاء مايا:
أيّهما أجملُ يا مايا شيكاغو أمّ القدس؟
ردّتْ عليها مايا وهي تضحكُ بدلَعٍ طفوليّ:
شيكاغو جميلةٌ لكنّ القدسَ أكثرُ جمالا من مدنِ العالمِ كافّة.
تدخّلتْ هنا الجدّةُ هالة وسألتْ مايا وهي تضحك:
هل تذكرين مدينةَ قرطاج التي زرناها في السّنةِ الماضية؟
نعم أذكرُها وأذكرُ بنزرت والعاصمةَ تونس.
وهنا قالت الجدّةُ هالة:
قرطاج مدينةٌ قديمةٌ مثل القدس، وفيها أسواقٌ تشبهُ أسواقَ مدينةِ القدس، أليس هذا صحيحًا يا مايا؟
نظرتْ مايا إلى جدّتها هالة باستغراب، وضعت دميتَها بجانبِها وقالت:
كلُّ المدنِ فيها أسواقٌ قد تتشابهُ أو تختلف، لكنّ في القدس أشياءَ لا توجدُ في غيرها من مدن العالم، تمامًا مثلما لا توجدُ مدينةٌ تشبهُ القدس، ومن يعيشُ في القدسِ يعيشُ سعيدًا، لذا سأتركُ شيكاغو وسأذهب للعيش مع جدّتي حليمة وجدّي جميل.
عادت الجدّةُ هالة تسألُ مايا:
ما الأشياءُ التي توجدُ في القدسِ ولا توجدُ في مكانٍ آخر؟
أجابت مايا جدّتَها هالة متسائلةً:
هل يوجدُ مسجدٌ كالمسجدٍ الأقصى المبارك وكنيسةٌ عظيمةٌ ككنيسة القيامة، وسورٌ عظيم كسور القدس في أيّ مدينةٍ في العالم؟
ضحكتِ الجدّةُ هالة والعمُّ أحمد والخالةُ صفاء من حذاقةِ مايا، لكنّ الخالةَ صفاء أرادت استكشافَ مدى تعلّقِ مايا بمدينة القدس، فاستفزّتْها عندما قالت:
في كلّ مدنِ العالمِ توجدُ مساجد وكنائس، وليس في القدس فقط.
نظرتْ مايا إلى خالتِها صفاء نظرةً فيها غضبٌ وسألتها:
وهل مساجدُ وكنائسُ العالمِ مُقَدّسةٌ مثلُ مساجدِ وكنائسِ القدس؟
ضحكَ العمُّ أحمد إعجابًا بحبِّ مايا للقدس وتعلّقِها بها، فسألها:
كيفَ عرفتِ عن قداسة مساجد وكنائس القدس؟
أجابته مايا ضاحكة:
جدّي جميل وجدّتي حليمة حدّثاني كثيرا عن القدس ومقدّساتها، وزرتُ وإيّاهم القدسَ مرّاتٍ ومرّات، صلينا في مسجدها الأقصى، وزرنا كنيسةَ القيامة، وشعرتُ بسعادة كبيرةٍ وأنا أتجوّلُ في القدس.
استطابتْ صفاءُ خيالَ مايا ابنة شقيقتِها مروة فسألتها:
من رأيتِ في القدس يا مايا؟
ابتسمت مايا وأخذتْ تعدُّ على أصابع يدها اليمنى مبتدئة من الخنصر، وقالت عدّي معي:
جدّتي حليمة، جدّي جميل، عمّتي أمّونة وأبناءها: كنان، وبنان، وسنان، وزوجها عصام، عمّتي لمى وأبناءها باسل، كريم وأمير، وزوجها معتصم، وتعرّفتُ إلى أفرادِ سائر عائلتِنا الكبيرةِ التي تسكن في جبل المكبّر بجوار بيت جدّتي حليمة وجدّي جميل.
*******
عندما غادرت مايا البيتَ مع خالتِها صفاء لزيارةِ جدّتِها لأمّها، تداول قيس وزوجتُه مروة الحديثَ حول رؤيا ابنتهما مايا، اتّفقا بأنّهما ارتكبا خطأً عندما سمحا لها أن تسافرَ مع جدّتها لأمّها وزوجها العمّ أحمد وابنتها صفاء إلى تونس قبل ثلاثِ سنوات، بينما سافرا هما وابنتاهما لينا وميرا إلى فلسطين، فمنذُ ذلك التّاريخ ولينا وميرا تتحدّثان معها باستمرار عن فلسطين بشكلٍ عامٍّ وعن القدس بشكلٍ خاصٍّ، حيثُ يعيشُ جدّاها لأبيها جميل وحليمة، ولا يزالُ صُراخُ لينا عندما قرّروا التّوجّه إلى مطار اللّدّ عائدين إلى أمريكا يرنُّ في آذانهما، فقد لجأت لينا إلى حضنِ جدّها تحتمي به، وتصرخُ بأنّها تريدُ أن تبقى في فلسطين، وقتها بكت وأبكت بواكيا، ومنذ ذلك الوقت ولينا وميرا تتحدّثان مع شقيقتهما مايا، ومع زميلاتهنّ في المدرسة عن القدس وفلسطين. بقيتْ مايا تُلحُّ على والديها بأنّها تريدُ أن تسافرَ إلى فلسطين، لتلتقي بجدّيها لأبيها، ولتصلّيَ في المسجدِ الأقصى، ولتزورَ كنيسةَ القيامةِ في القدس وكنيسة المهد في بيت لحم.
في الواقع سُحِرتْ لينا وميرا بكنيسة المهد وغيرها من الكنائس من خلالِ ماليسّا وجبرا ابني الجار التّلحميّ داود عيسى وزوجته عبير، فهم أيضًا زاروا بلادهم فلسطين، وسكنوا في بيت الأسرة الكائن في شارع الكركفة في بيت لحم، والطّفلان ميلسّا وجبرا يتحدّثان أيضًا باستمرار عن جدّيهما عيسى وفريدة، وعن بيت لحم والقدس والنّاصرة وعن المساجد والكنائس والأديرة.
وكما شعرَ قيس وزوجته مروة بخطئهما لأنّهما لم يصطحبا ابنتهما مايا معهما إلى فلسطين، وتركاها ترافق أسرة جدّتها مايا في زيارتهم لبلدها تونس، فإنّ مايا شعرت بندمٍ لا يزول منذ ذلك التّاريخ، بعد أن سمعت من شقيقتيها لينا وميرا، ومن الجارين ميلسّا وجبرا عن مشاهداتهم في القدس وبيت لحم، وعندما حاولتْ مروةُ امتصاصَ نَدَمِ ابنتها مايا لأنّها لم ترافقهم في زيارتهم لوطنهم فلسطين، قارنت بين القدس وقرطاج، فالتفتت إليها لينا وميرا وقالتا بصوتٍ واحدٍ:
القدسُ مدينة ساحرة، ومن يدخلُها سيرى الجنّةَ الحقيقيّة.
ذات يومٍ انفردت الجدّة هالة بابنتها مروة وقالت لها:
لقد صرعتني لينا وميرا من كثرة حديثهما عن القدس، وجنّنتني شقيقتُهما مايا وهي تتحدّث عن القدس وبيت لحم، كما سمعت من شقيقتيها وابني جاركم التّلحميّ، فهل القدسُ ساحرةٌ وجميلةٌ كما تتحدّثُ هؤلاء الطّفلات؟ وهل يوجد وجهُ شَبَهٍ بين القدس وقرطاج؟
ردّت مروةُ على أسئلة والدتِها قائلةً:
فلسطينُ ساحرةٌ يا أمّي فهي عبارةٌ عن متحفٍ كبير، أرضُها خصبةٌ يزرعونها بمختلف أنواع الخضار والفواكه، فتبدو جنّةَ الحياةِ الدّنيا، وجوهرتُها القدسُ تحوي أقدسَ مقدّسات المسلمين والمسيحيّين. من يشربُ من ماء القدس سيحنُّ إليها دائمٌا، فما بالكِ إذا كانت مسقطَ رأسِ زوجي قيس، ومسقطَ رأسِ آبائه وأجداده. ومدينةُ بيت لحم مسقطُ رأسِ جارينا داود وزوجتِه عبير؟
قالتِ الجدّةُ هالة:
بعد زوال الاحتلال سنزورُ القدسَ وسنصلّي في مسجدِها الأقصى. سنزورُ كنائسَها وسنتجوّلُ في أسواقها.
***********
في أوّل شهر سبتمبر بداية العام الدّراسيّ عادت مايا إلى مدرستها في شيكاغو، حيث ترفّعت إلى الصّفّ الابتدائيّ الخامس، الجوّ معتدلٌ صافٍ من الغيوم، الأعشابُ الخضراءُ على أرصفة الشّوارعِ تبدو منسّقةً بشكل لافت، فالبلديّة لا تسمحُ لأحد بأن يُخلّ بمنظر الطّبيعة، كلّ إنسانٍ مسؤول عن النّظافة وعن قصّ الأعشاب المحاذية لبيته، والعناية بحديقة منزلِهِ، أمّا الأماكنُ العامّةُ فالبلديّةُ مسؤولةٌ عن نظافتها، وعن قصّ الأعشابِ وتقليمِ الأشجارِ التي تُزيّنُ الشّوارع. تبعدُ المدرسةُ حوالي ثلاثة كيلومترات عن بيت والدي مايا وشقيقتيها، يوصلُ قيس بناتِهِ إلى المدرسة في حوالي السّابعةِ والنّصف صباحًا، ويواصلُ طريقَهُ إلى عملِهِ، وعند انتهاء الدّوامِ المدرسيِّ اليوميِّ تعيدُهما والدتُهما مروة إلى البيت، فمكانُ عملِها قريبٌ من المدرسة.
دخلتْ مايا مدرستَها على غيرِ رغبةٍ منها، فالأطفالُ عادةً لا يُحبّون انتهاءَ عطلتهما الصّيفيّة، التقتْ بزميلتِها الأردنيّة عنود العدوان، تعانقتا وهما تضحكان فرحًا بهذا اللقاء الذي جاءَ بعد حوالي ثلاثةِ أشهر، جابَتا جانبَ ساحةِ المدرسةِ الغربيّ ذهابّا وإيّابًا تتحدّثان عن كيفيّة قضائهما للعطلةِ المدرسيّة، قالت عنودُ العدوان إنّها وأسرتَها زاروا وطنَهم الأردنّ، وقضوا في بيت الأسرةِ في العاصمةِ عمّان شهرين كاملين، زاروا خلالها بعضَ المناطقِ الأثريّةِ كمدينةِ جرش والبتراء، وزاروا مدنًا جميلةً مثل السّلط، وعجلون، وإربد، والعقبة، ومنطقة الأغوار، والبحر الميّت.
ضحكتْ مايا وهي تُخرجُ من حقيبتها صورًا لمدينة القدسِ وبعضِ الأماكنِ المقدّسة فيها كالمسجد الأقصى، بما فيه قبّةُ الصّخرة والمسجدُ القبليّ، وأبواب المدينة العتيقة، وكنيسة القيامة وكنيسة الجثمانيّة وقالت للعنود:
ونحن زرنا وطنَنا فلسطين، ومكثنا في بيت الأسرةِ في جبل المكبر مع جدّتي حليمة وجدّي جميل، زرنا هذه الأماكن أكثرَ من مرّة، صلّينا في المسجد الأقصى وزرنا كنيسة القيامة، وعشرات المساجد والكنائس، تجوّلنا في أسواق وحارات المدينة، كما زُرْنا مدنًا أخرى كبيت لحم، وتجوّلنا في كنيسة المهد. زُرْنا عكا وحيفا ويافا والنّاصرة وطبريّا، لكنّ القدسَ تتميّزُ عن المدن كافّة، ولا يوجدُ مدينةٌ تشبهها.
نظرتِ العنودُ إلى صورِ مدينة القدس وقالت حزينة:
حدّثني أبي وجدّي كثيرًا عن فلسطين، وعن القدس، بكى جدّي وهو يروي لنا بفخر عن استشهاد ابنه البكر عمّى أحمد، الذي استشهد على أسوار القدس في الحرب، وأنّه دُفِنَ في مقبرةِ باب الرّحمة دون أن يراه والداه جدّي وجدّتي.
وعندما زُرنا بلدةَ الكرامةِ في الغور حيثُ يسكنُ عددٌ من أبناء عائلتنا، أشارَ جدّي إلى مدينة أريحا وقال:
تلك مدينةُ أريحا، لولا الاحتلالُ لصلّينا صلاةَ الظّهرَ في المسجد الأقصى، فهو لا يبعد عنّا أكثر من نصف ساعةٍ في السّيّارة.
التفتتْ إليها مايا وقالت:
عندما زُرْنا أريحا قال لنا جدّي جميل وهو يشيرُ إلى الضّفّة الشّرقيّة، ويذكر لنا أسماء بعض البلدات التي كانت قبالتنا:
تقعُ عمّان على قمّة تلك المرتفعات، ولولا الاحتلال لاستطعنا الوصول إليها خلال نصف ساعة.
وضعتِ العنودُ يدَها على خدِّها وقالت:
هذا المساءُ سأسألُ أبي وأمّي عن هذا الاحتلال الذي يمنعنُا من زيارة فلسطين، ويمنعُكم من زيارة الأردنّ.
ردّتْ عليها مايا بعفويّةٍ تامّة:
هذا احتلالٌ وحشيٌّ يُسيطرُ على وطننا بقوّةِ السّلاح، يقتلُ ويدمّرُ ويعتقلُ، لقد رأيتُهم بعيني وهم يدخلون المسجدَ الأقصى المبارك ويعتدون بالضّرب على المصلّين، كما رأيتُهم وهم يعتدون بالضّربِ على المارّةِ عند باب العمود.
عندما قُرِعَ الجرسُ معلنًا بَدْءَ الحصّةِ الأولى، أسرعتْ مايا والعنود إلى صفّهما وفي يد مايا صورٌ للأماكن المقدّسةِ في القدس وبيت لحم، وضعتْ مايا الصّورَ أمامَها على مقعدِها، قُبَةُ الصّخرةِ المشرّفة تعلو الصُّوِر، مرّتْ بجانبها المعلّمة، فانتبهتْ للصُّوَرِ، أمعنتِ المعلّمةُ النّظرَ في صورةِ مسجدِ قبّةِ الصّخرة، وقالت لميرا:
هذه صورةٌ جميلةٌ لجبل الهيكل.
ردّت عليها مايا مستغربة:
عن أيّ صورة تتحدّثين؟
مدّتِ المعلّمةُ إصبعَها تشيرُ إلى صورة قبّة الصّخرة المشرّفة وقالت:
هذه صورةٌ لجبل الهيكل.
ضحكتْ ميرا من جهلِ معلّمتِها وقالتْ لها:
هذه صورةُ مسجد قبّة الصّخرة، وما هو الهيكلُ الذي ذكرتِهِ؟
ردّتِ المعلّمةُ على مايا بهدوء:
الهيكلُ معبدٌ يهوديٌّ قديم، بنى المسلمون هذا المسجدَ على أنقاضه.
غضبتْ مايا من كلام معلّمتها وقالت:
هذا مسجدٌ إسلاميٌّ مقدّسٌ وقد صلّيتُ فيه أنا وجدّتي حليمة قبل أسبوع.
لم تُردِ المعلّمةُ أن تدخلَ في نقاشٍ مع مايا حول ذلك، فقالت:
دعينا من هذا الكلام، فلدينا حصّةُ رياضيّاتٍ الآن.
وهنا قالت العنود:
نعم هذا مسجدٌ إسلاميّ عظيم.
التفتت المعلّمةُ إلى العنودِ وسألت ساخرةً:
هل صلّيت أنت أيضًا فيه؟
أجابت العنود بهدوء:
حدّثني جدّي لأبي أنّه صلّى فيه قبل أن يحتلَّه الإسرائيليّون.
وجدتِ المعلّمةُ نفسها في ورطةٍ لا داعيَ لإثارتها مع تلاميذها الأطفال، فانسحبت من المحادثة؛ لتشرحَ درسًا جديدًا، في حين حملقَ بقيّةُ التّلاميذِ في صورة مسجد الصّخرة المشرّفة التي رفعتها بعفويّةٍ مايا أمامهم، وصورة المسجد القبليّ التي رفعتها العنودُ دون تنسيقٍ بينهما.
لم تُرِدُ المعلّمةُ أن تدخل في صدامٍ مع مايا والعنود حولَ صورةِ مسجدٍ لم ترهُ في حياتِها، بعد أن رأتهما متحمّستين في الدّفاع عن إسلاميّة المسجد، فتركتهما وكأنّها لا تراهما، ومايا واصلتْ رَفْعَ صورة الصّخرةِ المشرّفة، في حين واصلتِ العنودُ رَفْعَ صورةِ المسجدِ القبليّ. لكنّ التّلميذَ “محمّد خان” الذي ينحدرُ من أصولٍ باكستانيّةٍ كان في غايةِ السّعادةِ، وشرحَ لزميلِهِ الأمريكيِّ الذي يجلس بجوارِهِ عن أهمّيّةِ هذا المسجدِ كجزءٍ من عقيدةِ المسلمين.
****************
عند انتهاءِ الدّوامِ المدرسيِّ في ذلك اليوم، وما أن دخلتْ مايا وشقيقتاها سيّارةَ والدتِهما مروة التي حضرت لإعادتِهنّ إلى البيت، حتّى سألت مايا والدتَها:
ما هو الهيكلُ يا أمّي؟
ردّت مروةُ على ابنتها مايا مستغربةً متسائلةً:
عن أيِّ هيكلٍ تسألين، فأنا لم أفهمْ عمَّ تسألين؟
أجابتْ مايا وهي تُخرجُ صورةَ قُبّةِ الصّخرةِ المشرّفة من حقيبتها:
عندما رأتْ معلّمتي صورةَ مسجدِ الصّخرةِ المشرّفةِ هذه قالت:
هذا المكان اسمهُ جبلُ الهيكل، والمسلمون بنَوْا هذا المسجدِ على أنقاض هيكلِ اليهود.
ردّت مروةُ على ابنتها مايا قائلةً:
لا تكترثي بما قالتْهُ معلمتُكِ فهو غيرُ صحيح، وقبّةُ الصّخرةِ مسجدٌ قائمٌ في باحةِ المسجدِ الأقصى وجزءٌ منه. ولا داعي لإثارةِ هكذا أمورٍ في المدرسة. وأضافتْ مروةُ تسألُ ابنتَها مايا:
من سمحَ لك أن تحملي هذه الصّورَ الرّائعةَ في حقيبتكِ؟
نظرت مايا لوالدتها مستغربةً سؤالَها، وأجابتْ على سؤالها بسؤالٍ أخر:
هل تقصدين أنّني أخطأتُ بوضعِ صُوَرِ المسجدِ الأقصى في حقيبتي؟
أجابتْ مروةُ ابنتَها:
نعم لقد أخطأتِ يا مايا، فهذه صُورٌ لأماكنَ مقدّسةٍ أحضرناها معنا عندما زُرْنا القدس، ويجبُ الحفاظُ عليها في مكانٍ آمنٍ في البيت.
لم تقتنعْ مايا بكلام والدتِها فقالت:
وأنا أحافظُ عليها أيضًا، وحقيبتي مكانٌ آمنٌ أيضًا.
ضحكت مروةُ عندما سمعتْ جوابَ ابنتِها وقالت:
هذهُ الصّورُ يجب أن تبقى في البيت، لأتمكّنَ أنا وأبوك وشقيقتاك من رؤيتِها أيضًا.
ضحكتْ مايا وقالت:
بإمكانكم أن تروا صورًا عديدةً للمسجدِ الأقصى وكنيسةٍ القيامة وكنيسة المهدِ، ولأبواب القدس وغيرها من الأماكن في القدس على الصّحونِ المعلّقة على جدران البيت، والتي أحضرها جدّي جميل وجدّتي حليمة عندما اشترينا بيتَنا قبلَ خمسِ سنوات.
وهنا تدخّلتْ لينا وقالت لشقيقتِها مايا:
لا داعي لكثرةِ الكلام، ضعي الصّورَ في مكانها على رفِّ المكتبةِ في بيتِنا.
سكتتْ مايا على مَضَضٍ، وفي ذهنِها أن تلقتطَ مجموعةَ صُوَرٍ لها ولجدّيها حليمة وجميل عندما تزورُ بصحبة والديها وشقيقتيها موطنَها الأصليَّ فلسطين؛ لتحتفظ بها لنفسها دون غيرها.
في البيت احتضنتْ مايا صُورَ القدس ومقدّساتِها في حضنِها، عندما طلبت منها شقيقتُها لينا أن ترى صورةَ بابِ العمودِ، بعد أن سمعتْ في الأخبارِ أنّ شرطةَ الاحتلالِ قتلتْ طفلا فلسطينيّا عند الباب، أشارتْ مايا دون كلامٍ إلى صورةٍ للباب موجودةٍ على صحنٍ معلّقٍ على جدار صالونِ البيت، وهذا أمرٌ أغضبَ لينا، فحاولتْ أن تأخذَ حقيبةَ مايا بالقوّةِ؛ لِتُخرجَ منها الصّورة، إلّا أنّ مايا تمسّكتْ بحقيبتها وهي تصرخُ مستنجدةً بوالدتِها، التي وفّرتْ لها الحمايةَ.
عندما عاد قيس إلى بيتِه من عملِه، تسابقت بناتُه الثّلاثةُ لاستقبالِه عند الباب، كما اعتدنَ ذلك كلّ يوم. احتضن قيس كلّ واحدةٍ من بناتِه وقبّلَها على وجنتيها، أمسكتْ مايا بيدِه اليسرى، ومشت بجانبه، بينما ركضتْ لينا وميرا أمامَه.
جلسوا جميعُهم على مائدةِ الطّعام، الذي أعدّتْهُ ربّةُ البيتِ مروة، شرعوا يتناولون طعامَهم باستثناء مايا، التي احتضنتْ حقيبتَها، وطأطأتْ رأسها غاضبةً، انتبه لها أبوها قيس وسألها:
لِمَ لا تأكلين يا مايا؟ هل أغضبَكِ أحدٌ؟
نظرتْ إليه ولم تُجِبْهُ على سؤاله، بينما قالتْ والدتُها مروة وهي تضحك:
مايا غاضبةٌ لأنّها تريدُ أن تزورَ بلادَها فلسطين، لتلتقيَ بجدّيها حليمة وجميل، وتريدُ أن تتجوّلَ في البلاد المقدّسة وأن تصلّي في المسجدِ الأقصى.
ابتسمَ لها والدُها وقالَ لها:
أعدُكِ يا مايا أن نقضيَ العطلةَ الصّيفيّةَ القادمةَ في بلادِنا فلسطين، تناولي طعامَكِ.
ضحكتْ مايا وسألت أباها:
هل أعتبرُ كلامكَ وعدًا؟
ضحك قيسُ وقال:
طبعًا يا مايا، فأنا مشتاقٌ لوالديّ ولعائلتي ولمسقط رأسي.
شرعتْ مايا تتناولُ طعامَها فرحةً بوعدِ والدِها، وقالت:
في بيتِ الأسرةِ في جبل المكبّرِ سأنام في حضنيْ جدّتي وجدّي، فأنا مشتاقةٌ لهما.
مازحتها والدتُها مروة وقالت:
جدُّكِ وجدّتُكِ لن يقبلا أن تنامي في حضنيهما.
وقفتْ مايا ورفعت يدَها اليسرى وهي تحمل شوكةَ الطّعامِ وقالتْ بثقةٍ:
جدّتي وجدّي يحبّانني أكثرَ منكم، وسترون كيف سيحتضناني بحبٍّ، وسأصلّي مع جدّتي في قبّة الصّخرة في المسجد الأقصى، وسنزورُ كنيسةَ القيامةٍ، وسنتجوّلُ في أسواق المدينة.
أراد قيس أن يختبرَ معلومات بناتِه عن القدس التي زرْنَها أكثر من مرّة، فقال مُوجّهًا حديثَه لابنته مايا:
تقع كنيسةُ القيامةِ في بيت لحم، فكيفَ ستصلّين في الأقصى وتزورين كنيسة القيامة؟
ردّت عليه بناتُه بصوتٍ واحدٍ:
تقعُ كنيسةُ القيامةِ في القدس، أمّا كنيسةُ بيت لحم الأولى فهي كنيسةُ المهدِ التي وُلدَ فيها السّيّدُ المسيح-عليه السّلام-.
عاد قيس يسألُ:
ما اسمُ الكنيسةِ المشهورةِ التي زرناها في النّاصرة؟
ردّت لينا بسرعة:
اسمُها كنيسةُ العذراء.
وسألتْ مروةُ: ما اسمُ الجامعِ الشّهيرِ الذي زرناه في عكّا:
فأجابت ميرا فورَا:
اسمُه مسجدُ الجزّار.
مروة: ما اسمُ مسجدِ يافا الشّهير؟
لينا: جامع حسن بيك.
عندما انتهوا من طعامهم طلبتْ مايا من أبيها أن يتّصلَ بوالديه، ليخبروهم بأنّهم سيزورونهم في العطلة الصّيفيّة القادمة.
اتّصلَ قيس على والديه من خلال تقنيّة “سكايب”، ليكون الاتّصالُ صوتًا وصورة، وما أن ردّت أمُّ قيس على المكالمة، حتّى خطفت مايا الجهازَ من والدها وقالت لجدّتِها ضاحكة:
اتّفقنا أن نزورَكم في العطلة الصّيفيّة القادمة.
الجدّة: أهلا حبيبتي مايا، نحن في انتظاركم، ونتمنّى أن تكونوا معنا دائمًا.
قالت مايا وهي تضحكُ قهقهةً:
أنا أريدُ أيضًا أن أبقى عندكم.
الجدّة: هذا يوم المُنى يا حبيبتي.
اقتربتْ مايا من والدتِها وقالت لها على مسمعِ والدِها وشقيقتيها:
اسمعي يا ماما ماذا سأسألُ جدّتي! وسألتْ جدّتها:
هل ستسمحين لي بالنّوم في حضنِك يا جدّتي عندما نزوركم؟
ضحكتْ جدّتُها وقالت:
ستنامين في عينيّ يا حبيبتي.
فرحتْ مايا عندما سمعتْ جوابَ جدّتِها وقالت لوالديها وشقيقتيها:
هل سمعتم ما قالتْهُ جدّتي؟
ضحكوا من سؤالها بينما هي قالتْ لجدّتها:
عيناك لا تتّسعان لي، سأنام في حضنك أنت وجدّي جميل.
ردّت عليها جدّتُها حليمة:
ستنامين أين ومتى وكيفما تشائين يا حبيبتي.
قهقهتْ مايا فرحةً بكلام جدّتِها وقالت:
أعرف ذلك يا جدّتي، لكنّي أردتُ أن تسمع أمّي هذا الكلام، لأنّها قالت إنّك وجدّي لن تسمحا لي بالنّوم في حضنيكما.
قالتِ الجدّةُ حليمة:
لا تخافي يا حبيبتي فوالدتُك تمزحُ معك.
ضحكتْ مايا بملءِ فيها وقالت:
أنا لا أحبُّ المزاحَ في هكذا أمور، وأضافتْ تسألُ جدّتَها:
أين جدّي جميل؟
الجدّة حليمة: ماذا تريدين منه؟
مايا: أريدُ أن أراه وأن أُخبرَهُ بأّنّنا سنزورُكم في العطلةِ الصّيفيّة القادمة، وأنّني سأبقى عندكم.
الجدّةُ حليمة: جدّك نائمٌ وأنا سسأخبرُه بذلك، وسيفرحُ كثيرًا عندما يسمعُ ذلك.
استغربتْ مايا أنّ جدَّها نائمٌ في مثل هذا الوقت فسألتْ جدّتَها:
كمِ السّاعةُ عندكم الآن؟
الجدّة حليمة: الساعةُ الآن الحادية عشرة ليلًا.
مايا: السّاعةُ عندنا الآن الثّالثة بعد الظهر، أنا آسفة فلم أنتبهْ لفارق الوقت بيننا.
الجدّة حليمة: لا داعي للأسف فأنا سعيدةٌ برؤيتِكم وسماعِ صوتكم، وأضافتْ تسأل:
أين أبوك وأمّك وشقيقتاك يا مايا؟
إنّهم بجانبي ويسمعون صوتَك، لكن قبل أن تتكلّمي معهم أخبري جدّي جميل بأنّني سأهاتِفُه يوم الأحد القادم في ساعات بعد الظّهر عندكم.
قالتِ الجدّةُ حليمة:
حاضر يا مايا.
أعطت مايا الهاتفَ النّقّالَ “الآيفون” لوالدِها وقالت له:
بابا تكلّمْ مع أمِّك.
أخذ قيس الهاتفَ من مايا وهو يسألُها:
من هي أمّي؟
ردّت عليه مايا مستغربةً سؤالَه:
أمُّك حليمة هل نسيتَها؟
ضحك قيس وقال:
لم أنسَها لكن يبدو أنّك أنتِ قد نسيتِ أنّها جدَّتُكِ.
قالت مايا: لم أنْسَ أنّها جدّتي وسأنام في حضنها عندما نزورُهم، وسأبقى عندهم.
في المدرسةِ أخبرتْ مايا زميلتَها العنود، وجارتَها ماليسّا أنّها ستزورُ وطنَها فلسطين، ستنامُ في حضنِ جدّيها، ستتجوّل في بلادها فلسطين؛ لتتعرّفَ عليها جيّدا، وستصلّي في المسجد الأقصى.
قالت العنودُ لمايا وماليسّا:
أنتما محظوظتان لأنّكما فلسطينيّتان، وأجدادكما يعيشون في البلاد المقدّسة، وتزورونهم، وتصلّون في مساجد وكنائس القدس وبيت لحم.
قالت ماليسّا: فلسطين أجملُ بلدان الكرةِ الأرضيّة، وأكثرُها قداسة.
ردّت عليها العنود: أعلمُ أنّ المسجدَ الأقصى ثاني المسجدين وثالث الحرمين، ومعراج خاتم النّبيّين -صلّى الله عليه وسلّم-، وأحد المساجدِ الثّلاثة التي تُشدّ إليها الرّحال، وهو جزءٌ من العقيدة الإسلاميّة، وأعلم أنّ كنيسةَ المهد في بيت لحم من أقدس مقدّساتِ العالمِ المسيحيّ، ففيها وُلِدَ نبيُّ اللهِ عيسى بن مريم عليهما الصّلاةُ والسّلام، وأعلم أنّ كنيسةَ القيامة في القدسِ لا تقلّ قداسةً عن كنيسة المهد، ففيها قبرُ السّيّد المسيحِ حسب معتقدات إخوتنا المسيحيّين.
عقّبت مايا على كلام العنود قائلةً:
ما دمتِ تعرفين أنّ المسجدّ الأقصى أحدُ المساجدِ التي تُشدُّ إليها الرّحالُ، فلِمَ لا تزورينه أنت ووالداك، فأنتم تحملون الجنسيّة الأمريكيّة؟
ردّت عليها العنود حزينة:
اقترحتُ ذلك على أبي وأمّي، فقال لي بأنّه لن يزورَ القدسَ وبيت لحم سائحًا!
التفتتْ إليها مايا وماليسّا وسألتاها:
كيف سيزورُ والدُكِ القدسَ وبيت لحم ما دام يرفضُ زيارتَهما سائحًا؟
ردّت عليهما العنود بثقة:
هذا السّؤالُ وجّهتُه لأبي، فقال بأنّه يرفضُ زيارتَها وهي محتلّة، وسيزورُها بعد تحريرها من رجس الاحتلال.
وافقت مايا وماليسّا على ما قالتْهُ العنودُ نقلًا عن أبيها، وقالت ماليسّا بعد أن تنهّدت تنهيدةً عميقة:
أبوك محقٌّ يا عنود، فمن يرى ممارسات المحتلّين يشعرُ بالغثيان، وتطيرُ فرحةُ لقاء الأهل والوطن من قلبه.
وهنا قالتْ مايا:
قبّح اللهُ الاحتلالَ، فمن يرى جنودَ الاحتلال وهم يقفون عند باب العمود في القدس، ويعتدون على الشّباب، يصابُ بغصّةٍ، تمامًا مثلما يراهم وهو ينتهكون حرماتِ المسجدِ الأقصى.
في الصّفِّ المدرسيّ سألتْ ماليسّا زميلتَها لينا شقيقةَ مايا الكبرى:
هل حقّا ما تقولُه شقيقتُكِ مايا؟
ردّت لينا باستغراب:
ماذا تقولُ شقيقتي مايا؟
ماليسّا: تقولُ مايا أنّكم ستزورون فلسطين في العطلة الصّيفيّةِ القادمة.
لينا: نعم ما قالتْهُ مايا صحيحٌ، ولا غرابةَ في ذلك، سنزورُ وطنَنا فلسطين كلّ عامٍ؛ لنلتقيَ بجدّينا حليمة وجميل، ومايا تريدُ أن تبقى هناكَ في أرضِ الوطن، أمّا نحن فسنعودُ إلى الوطنِ بشكلٍ دائمٍ، بعدَ سنوات قليلةٍ، عندما يبني لنا والدُنا مشروعًا نعتاشُ منه.
صمتتْ ماليسّا قليلًا وهي تضعُ يدَها على خدِّها وقالت:
يبدو أنّ مايا تفهمُ ما تريدُ جيّدًا، وهي على حقّ، فالعيشُ مع الأجدادِ سعادةٌ كبرى، ووطنُنا فلسطين أجملُ بلدان العالم وأكثرها قداسة.
أمضتْ ماليسّا يومَها تفكّرُ بالعيشِ مع جدّيها في بيت لحم، تمامًا مثلما تفكّرُ مايا بالعيشِ مع جدّيها في القدس. وأخذت تعودُ بذاكرتِها إلى حنانِ جدّيها الجارفِ وحبِّهما لها، كما استعادتْ بذاكرتها كنيسةَ المهدِ والكنائسَ والمساجدَ والأديرةَ والأبنيةَ التّاريخيّة في بيت لحم، وكنيسةَ القيامةِ والمسجدَ الأقصى وسورَ مدينةِ القدس.
حلّقت ماليسّا في سماء بلادِها فلسطين عندما زارتْ وأسرتُها قبلَ عامٍ دير مار سابا، في برّيّة العبيديّةِ القريبةِ لبيت لحم من الجّهة الشّرقيّة، ابتسمتْ سعيدةً وهي تستذكرُ بيوت الشّعَرِ التي يسكنُها مربّو الماشيةِ قريبًا من الدّير، استعادتْ منظرَ البغالِ والحميرِ التي يقتنيها مربّو الماشية، ضحكتْ فرحةً عندما استعادتْ منظرَ كلابِ الرّعاةِ التي اقتربتْ منهم تنبحُ عليهم وهم في السّيّارة.
انتبهتْ لها معلّمتُها وهي تضحكُ فسألتْها:
علامَ تضحكين يا ماليسّا؟
فأجابتْها ماليسّا وهي تضحكُ قهقهةً:
أضحكُ على جمالِ ذكرياتي في البلادِ المقدّسة.
استغربتْ معلّمتُها جوابَها وتساءلت:
أين نحن من البلاد المقدّسة؟
ردّت عليها ماليسّا:
إذا كنتِ أنتِ بعيدةً عن البلاد المقدّسة، فأنا قريبةٌ منها، فهي تسكنُني، كونها بلادي وبلاد آبائي وأجدادي.
استغربتِ المعلّمةُ كلامَ ماليسّا، وفتحت فاها مندهشة معتقدةً أنّها تعيشُ في أسرةٍ متديّنة، وأنّها متأثرةٌ بقصّة ميلاد السّيّد المسيح. انتبهتْ لينا لدهشةِ معلّمتها فقالت لها:
لا تستغربي كلام ماليسّا يا “مس” فوالدُها وجميعُ عائلتها وُلدوا في مدينتهم بيت لحم، ولا يزال أجدادُها لأبيها ولأمِّها يعيشون في بيت لحم، وهي تزورُهم كلَّ عام.
دُهشتِ المعلّمةُ من كلام لينا فسألتْ ماليسّا:
ألستِ أمريكيّةً يا ماليسّا:
أجابت ماليسّا معلّمتَها وهي تضحك:
أنا فلسطينيّةٌ من بيت لحم أحملُ الجنسيّةَ الأمريكيّة.
عادتِ المعلّمةُ تسأل ماليسّا:
هل أنتِ مسلمةٌ يا ماليسّا؟
أجابتْ ماليسّا بكبرياء:
بل أنا فلسطينيّةٌ عربيّةٌ مسيحيّةٌ، وفي وطننا فلسطين لا فرق بين مسلمٍ ومسيحيّ.
بينما قالت لينا: وأنا مثلُها عربيّةٌ فلسطينيّةٌ مسلمةٌ من القدس وأحملُ الجنسيّةَ الأمريكيّة.
تشتّتتِ المعلّمةُ بين ما قالته ماليسّا وما قالته لينا، فابتعدتْ عن الموضوعِ وقالت:
ما لنا ولهذا الكلام دعونا نعود إلى حصّتِنا.
*******
عادتْ ماليسّا إلى البيت، وما أن رأت والديها حتّى قالت على عجلٍ، وكأنّها تحملُ وديعةً تُريدُ أن تسلّمَها لأصحابها:
جيرانُنا قيس ومروة وبناتُهما يريدون زيارةَ البلاد في العطلةِ الصّيفيّةِ القادمة.
قالت والدتُها: رافقتهم السّلامةُ.
بينما سأل أبوها داود:
كيف عرفتِ ذلك؟
أجابت ماليسّا بهدوء:
مايا أخبرتْني بذلك، ولينا وميرا أكّدتا صحّةَ كلامِ مايا.
قالَ الأبُ داودُ لابنته ماليسّا:
ونحن سنزورُ الوطنَ والأهلَ في العطلةِ الصّيفيّة.
أخذت ماليسّا تحسبُ على أصابعها بصمت، فسألتْها والدتُها:
ما الذي تحسبينه يا ماليسّا؟
واصلتْ ماليسّا حساباتِها لبضعِ ثوانٍ وأجابت والدتَها بهدوء:
بقيَ للعطلةِ الصّيفيّةِ ثمانيةُ أشهر، وهذا وقتٌ طويل، لا يمكننا احتماله بعيدين عن الوطنِ والأهل.
قالت لها والدتُها:
لا يمكنُنا القيام بهذه الزّيارة قبل ذلك يا ماليسّا؛ لأنّك وشقيقَكِ في المدرسة.
ضحكتْ ماليسّا وهي تقول:
لديّ فكرةٌ يمكننا تنفيذها دون التّغيّبِ عن دوامِنا المدرسيّ.
التفتَ الوالدُ داودُ إلى ابنته ماليسّا وسألها وهو يبتسم:
ما هي فكرتُكِ يا مفكّرة؟
دارت ماليسّا بضع خطوات ووقفت وراء أبيها، وضعتْ مرفقيها على كتفيه، وقالت بدلالٍ طفوليّ:
فِكْرَتي بسيطةٌ جدّا، وهي أن نزورَ البلادَ والأهلَ في عطلةِ عيد الميلادِ المجيدِ ورأس السّنة الميلاديّة، أي بعد ثلاثة أشهر.
أمسكَ داودُ يدي ابنته، ثنى ظهرَهُ قليلًا إلى الأمام؛ ليرفعَها عن الأرض، وهي تُقهقُه فرحةً، وضعتْ رأسَها على كتفِ أبيها الأيمن، التفتَ إليها وقبّلَ خدَّها وهو يقول:
فكرَتُكِ رائعةٌ يا ماليسّا مع أنّ عطلةَ الميلادِ ورأسِ السّنة الميلاديّة حوالي عشرة أيّامٍ فقط، وهي غيرُ كافيّة.
قالت ماليسّا وهي تتمايلُ على ظهر أبيها بدلال:
نعم هي عشرةُ أيّامٍ لا تكفي، وشهران في العطلةِ الصّيفيّة لا تكفي أيضًا، لكنّنا سنرى جدّينا، وسنصلّي في كنيسةِ المهد في الأعياد، وفي محاولةٍ منها لاستفزاز والديها أضافت: أم أنّكما لا تريدان رؤيةَ والديكما؟ لكنّني أنا مشتاقةٌ للبلاد وللأجداد وللأقارب.
ضحك الوالدانِ وقال الأبُ:
بناءً على فكرتكِ الرّائعةِ يا ماليسّا، والتي اقتنعتُ بها، فإنّنا سنزورُ البلادَ والأهلَ في أعياد الميلاد المجيدة ورأس السّنةِ الميلاديّة.
قفزت ماليسّا في الهواء فرحةً ودارتْ أمام أبيها، حوّطتْ عنقَه بيديها وقبّلتْ خدَّهُ شاكرةً له موافقتَه على فكرتِها، ثمّ ركضتْ باتّجاه والدتها، فاحتضنتها وهي ترقصُ وتقول لهما بأنّهما رائعان.
*********
بينما كانت لينا وميرا ومايا تلعبان في حديقةِ البيتِ الخلفيّة، ما لبثتْ أن انفردتْ مايا باللعب على الأرجوحة وحدها وتغنّي:
Twinkle twinkle little star.
How I wonder what you are.
Up above the world so high.
Like a diamond in the sky.
Twinkle twinkle little star.
.How I wonder what you are
جلس قيس وزوجتُه مروة خارجَ بابِ البيتِ المفضي إلى الحديقةِ يراقبان بناتهما وهنّ يلعبن، قالتْ مروةُ:
يا إلهي ما مدى تعلّقُ مايا بفلسطين وبجدّيها حليمة وجميل!
نظرَ قيس إلى مروة وقال:
لا غرابةَ في ذلك، ففلسطين وطنُها الأمُّ، وتعلُقُها بجدّيها أمرٌ طبيعيٌّ فهي تبادلُهما حبًّا بحبّ.
مروة: كلُّ الأجداد يحبّون أحفادَهم، لكنّي لم أشاهدْ طفلًا متعلّقًا بجدّيه مثلَما تفعلُ مايا.
قيس: مايا ذكيّةٌ جدّا، وقد لمستْ حبَّ جدّيها لها في أثناء زياراتنا للوطن، وهي تعاني من مرارةِ البُعدِ والفِراق، فجدّاها بعيدان عنها، وهما يعانيان أيضًا من مرارةِ البعدِ عنّا.
مروة: هل يُعقلُ أنّ الأجدادَ يحبّون أحفادَهم أكثرَ من أبنائهم؟
قيس: طبعًا فهذا أمرٌ معروفٌ عبرَ الأجيالِ المتعاقبةِ فالمثلُ العربيّ يقول:” ما أغلى من الولدِ إلّا ولدُ الولدِ”، والمثلُ الإغريقيُّ يقولُ:” ابنُك ولدتَهُ مرّةً وحفيدُكَ ولدتَه مرّتين”، ألا تلاحظينَ كيف تحبُّ والدتُكِ بناتَنا مثلَنا وزيادة؟
صمتتْ مروةُ ولم تقلْ شيئًا فسألها قيس:
بِمَ تفكّرين يا مروة؟
أجابتْ مروةُ وعلاماتُ الأسى بادية على وجهها:
عدتُ بذاكرتي إلى الأشهرِ الأولى من عُمْرِ مايا، فما أن بلغتِ الشّهرَ الرّابعَ من عمرِها حتّى صارتْ تنتبهُ لجدّيها عندما كنّا نهاتفُهم عبرَ تقنيّةِ “سكايب”، فصارت تنظرُ إليهما وتبتسمُ لهما، وهما يتحدّثان معها، وكأنّها تفهمُ ما يقولانه لها.
قال قيس: الأطفالُ يسمعون ويفهمون، وإنْ كنّا نحن الكبار لا ندركُ أنّهم يفهمون، وهم يعرفون جيّدًا من يُحبّونهم، ويتجاوبون معهم، وفي الواقع أنا حزينٌ من أجل والديّ، فكلّما تحدّثوا مع بناتنا، فإنّني أشعرُ بمدى شوقِهم لنا ولبناتنا، فتُبًّا للغُربةِ التي تُبعدُنا عنهما.
في هذه الأثناء جاءت ماليسّا تركض، طرحت التّحيّةَ على قيس ومروة، وركضت لتلعبَ مع الشّقيقات الثّلاثة “لينا، ميرا ومايا”، رحبّن بها بصوت عالٍ، لعبت ماليسّا لعبةَ القفزِ على الحبل مع لينا وميرا، اثنتان تمسكان بطرف الحبل، ويُدِرنَه على شكل دائرة، بينما الثّالثة تقفز عن الحبل عندما يقترب من ملامسة سطح الأرض.
ومن تلتطمُ بالحبل فإنّها تعطي الدّورَ لغيرها، بينما هي تذهب مكانَها لتُمسكَه وتدور به مع زميلتها على الطّرف الآخر، تقافزنَ وأصواتُهنّ تعلو فرحًا بحركاتِهنّ، بينما بقيتْ مايا تتأرجحُ وتغنّي وحدها قريبًا منهنّ. أخبرتْ ماليسّا لينا وميرا أنّ أباها وأمّها وافقا على زيارة الأسرة والوطن فلسطين في فرصةِ أعيادِ الميلاد المجيدة ورأس السّنة الميلاديّة، أيّ بعد أقلِّ من ثلاثةِ أشهر، سمعتْها مايا فتركتْ أرجوحتَها وركضتْ تسألُ ماليسّا:
ماذا قلتِ حول زيارتِكم لفلسطين؟
أجابتْها ماليسّا بهدوء:
سنزورُ الوطنَ والأهلَ في فرصة أعياد الميلادِ المجيدةِ ورأسِ السّنة الميلاديّة.
سألتْها مايا باهتمامٍ شديد:
متى ستحلُّ أعيادُ الميلادِ المجيدةِ ورأس السّنةِ الميلاديّة؟
أجابتْ ماليسّا وهي تلعبُ مع لينا وميرا:
بعدَ أقلّ من ثلاثة أشهر بينما ستنتظرون أنتم حتّى العطلةِ الصّيفيّةِ القادمة.
عادت مايا تسألُ ماليسّا:
وماذا ستفعلون في العطلة الصّيفيّة القادمة؟
ضحكت ماليسّا وقالت:
سنزور وطنَنا وأهلَنا مرّة أخرى.
شعرتْ مايا بغيرةٍ شديدة، أخذت تفكّر بطريقةٍ تُقنِعُ والديها بزيارة البلادِ المقدّسةِ في فرصةِ أعياد الميلادِ المجيدةِ ورأس السّنةِ الميلاديّة، مشتْ باتّجاه والديها، عندما اقتربتْ منهما احتضنتْ والدَها، قبّلت وجنتيه وجلستْ في حضنه، تحسّستْ بيدها ذقنَ أبيها الذي لم يحلقْه منذ يومين، قالتْ له بأنَّ شَعْرَ ذقنِه كالمسامير، سألته عن أسبابِ عدم حلاقة ذقنه كلّ يوم، ضحك قيس ومروة من سؤال مايا، وسألها:
هل يُزعجكُ ذقني؟
ردّت عليه بعفويّة تامّة:
نعم ذقنُكَ عندما يطولُ شَعْرُهُ يُزعِجُني.
عاد قيس ومروة يضحكان من كلام مايا، لكنّها قطعتْ ضِحكَتَهُما عندما سألت أباها:
هل سمعتَ ما قالتْهُ ماليسّا؟
قيس: ماذا قالتْ؟
ردّت مايا باهتمام شديد:
قالتْ أنّهم سيزورون البلادَ في فرصةِ أعيادِ الميلادِ المجيدة ورأس السّنةِ الميلاديّة.
نظر قيس إلى مايا وقال:
وما شأنُنا بهم؟ فليزوروا أهلهم في الوطن متى يشاؤون، ونحن سنزورُ الوطنَ والأهلَ في العطلة الصّيفيّة القادمة.
استغربتْ مايا جوابَ والدِها وقالت:
وهم أيضًا سيزورون الأهلَ مرّةً أخرى في العطلة الصّيفيّةِ القادمة.
التفتتْ مروةُ إلى قيس وسألتْ مايا:
ماذا تريدين قولَهُ دونَ لفٍّ ودوران؟
أجابت مايا بهدوء وعدم اكتراث:
أريدُ أن نزورَ الأهلَ والبلادَ مثلهم في في عطلة أعيادِ الميلادِ المجيدة، ورأس السّنة الميلاديّة.
وهنا قالت مروةُ لمايا في محاولةٍ منها لتصرفَها عن الموضوع:
ماليسّا وأسرتُها مسيحيّون يحتفلون بأعياد الميلاد المجيدة ورأس السّنة الجديدة، وهذا شأنٌ يتعلّقُ بالدّيانة المسيحيّة، وهم يريدون أن يُصلّوا كمسيحيّين بهذه المناسبة في كنيسةِ المهد التي وُلد فيها السّيّد المسيحُ عليه السّلام، ونحن مسلمون لا علاقةَ لنا بهذه الأعياد.
ردّت مايا على والدتِها وهي تنظرُ إلى والدها؛ ليؤيّدَ كلامَها وقالت:
المسيحيّون يصلّون في كنيسة المهد، ونحن نصلّي في المسجد الأقصى، وأنا أريد أن أزورَ جدّتي حليمة وجدّي جميل.
ضحك قيس من لباقة ابنتِه مايا وقال لها:
تأمرين يا مايا، سأحاولُ ترتيب أموري؛ لنزور البلاد والأهلَ في عطلّة أعياد الميلاد المجيدةِ ورأس السّنة الميلاديّة، وإنْ لم أستطعْ ذلك، سنرسُلكِ أنتِ ومن تشاءُ من شقيقتيك مع جيراننا أهلِ ماليسّا.
قفزتْ مايا فرحًا وركضتْ إلى ماليسّا تخبرُها بأنّ والدَها وافقَ أن يزوروا البلادَ في أعياد الميلادِ المجيدة ورأس السّنة الميلاديّة.
ردّت عليها ماليسّا بأنّ هذا خبرٌ يُسعدُها، بينما ركضتْ لينا وميرا إلى والديهما تسألان عن صحّة ما قالتْه مايا، فهل هما وافقا فعلًا أم مجرّد كلامٍ لإرضاء مايا.
ردّ قيس ومروة بصوتٍ واحد:
مايا صادقةٌ ولا تعرفُ الكذب، نعم سنزورُ الوطنَ والأهلَ في عطلة أعياد الميلادِ المجيدة ورأس السّنة الجديدة.
*********
اطمأنّت مايا أنّ رغبتَها بزيارة وطنها فلسطين، ولقاء جدّيْها حليمة وجميل وعائلتِها الممتدّة باتت مضمونة، وهذا جعلَها تشعرُ بسعادةٍ غامرة، فقرّرتْ أن تُكرّسَ جهودَها في تحصيلِها المدرسيّ. مايا مجتهدةٌ بطبيعتِها، تنتبهُ لكلِّ كلمةٍ تقولُها معلّماتُها في الصّفّ، تواظبُ على حلّ واجباتِها المنزليّة باستمرارٍ، وبوازعٍ ذاتيٍّ دونَ مساعدةٍ من والديها أو من شقيقتيها لينا وميرا اللتين تكبرانها عُمْرًا، وعندما تتفقّدُ والدتُها حقيبةَ مايا؛ لتتأكّدَ أنّها أنجزت واجباتِها بطريقةٍ صحيحة، تضحكُ الأمُّ فرحةً بابنتِها، بينما تضحكُ مايا سعيدةً؛ لأنّها لا تحتاجُ مساعدةً من أيِّ إنسان، ولا تكتفي بذلك، بل تطالعُ قصّةً خارجيّة، لم تعُد تُعجبُها كتبُ الأطفالِ النّاطقةِ، فهي الآن قادرةٌ على قراءةِ القصصِ والأناشيدِ المخصّصةِ لعمرها. تشاهدُ مايا بعضَ المسلسلات المخصّصةِ للأطفال، وتتأثّرُ بها.
شكرتْ مايا والديها لأنّهما وجّهاها لحضور برامجِ الأطفال التي تبُثُّها باللغة العربيّة بعضُ الفضائيّات العربيّة، فقد شعرتْ أنّ هكذا برامج تقوّي لغتَها العربيّة.
ذات يومٍ سمعت أغنيّةَ فيروز “شمس الأطفال” وأعجبت بها، أرشدها والدُها عندما تحدّثتْ معه عن الأغنيّة على سماعها من خلال “الإنترنت”، فسمعتها أكثر من عشر مرّات، وحفظتها عن ظهر قلب، أخبرتْ والدَها بذلك، ففرحَ بها وطلبَ منها أنْ تلقيَ على مسمعه كلمات الأغنيّة، فقالتْ وهي بمنتهى السّعادة:
هذه الأغنيّةُ من كلمات وتلحين الأخوين رحباني، وأضافت:
شمس الأطفال
زوري زوري بيوتنا يا شمس الأطفال
وأضيئي بيوتنا يا شمس الأطفال
لهم حبّ الدّنيا لهم لعب الدنيا
وهم فرح البال يا شمس الأطفال
يا يدها يا حرير هزي هزي السرير
فينام ويحلو لي ويغلو و إلى غده يطير
ضحكوا ضحك العمر
وانتشرت أظلال يا شمس الأطفال
من قمر وسماء ملأوا البيت هناء
عتبات الدارة أعياد والأيام صفاء
في الدرب الموصود في الأيام السود
رفقا بالأطفال يا شمس الأطفال
صفّقَ قيس والدُ مايا لابنته، وأثنى عليها قائلًا:
أنت رائعةٌ يا مايا. لكنّه لم يُخبرها أنّه لا يحفظ الأغنيّة.
قالت مايا لأبيها صوتُ الفنّانة فيروز جميل وساحر، هل لها أغانيّ أخرى؟
بحث قيس على الإنترنت وعثر على أغنيّة
طلعت يا مـــــحلا نورها شــمس الشموســه
يلا بنـــا نمـــــلا ونحلب لبـــن الجاموســــه
قــاعد ع الســـاقية خِللى اســــــمر وحليــوة
عـوج الطــــــاقية وقاللى غنّى لى غنيــــــوة
قلتلـــو يامحــمد حبـــــك .. شقلــبـلى عــقلى
ميتا النـار تبرد واعرف .. راسى من رجــلى
طلعت يا مـــــحلا نورها
جاية من الترعة ســـمعوا رنـــة خلخـــــالى
لحقـــونى ســبع جدعــان طالبيـــن وصــالى
نظرونى يا خويا وراحوا واقعين فى جمـالى
قدمــــوا لأبويا مهــــرى ميتــين خيـــــــالى
طلعت يا مـــــحلا نورها
طبع قيس الأغنيّة على ورقة، وبحث عنها في الإنترنت، ووجدها بصوت فيروز، أعطاها لابنته مايا كي تسمعها، ففرحت بها كثيرا.
التفتَ قيس إلى زوجته وقال لها:
في مرحلة طفولتي كنت وأبناءُ جيلي نغنّي:
شمّستْ اشميسه*** على عروق عيشه
عيشه في المغاره*** نقرتها صراره
شمسي يا اشميسه *** ع عُروق عيشة
عيشة بنت البابا *** بتلعب على الشِّبابه
يا قمرنا يا جدع *** يا اللي مشنشل بالودع
بناتك ستّه سبعه *** بلعبن على القبعه
ضحكت مروة عندما سمعت أغنيةَ قيس، بينما التّفتْ بناتُها لينا، ميرا ومايا حولها وحول والدهما، وطالبن والدَهنّ بأن يغنّي معهنّ أغنيتَهُ، فاستجاب قيس لطلبهنّ.
في حديقة البيت الخلفيّة كانت ماليسّا ولينا وميرا يلعبن ويرقصن، ماليسّا تغنّي أغنية فيروز”تك تك تك يامّ سليمان” ولينا وميرا يردّدن خلفها:
تك تك تك يا ام سليمان
تك تك تك جوزك وين كان؟
تك تك تك كان بالحقلة
عم يقطف خوخ ورمّان
يا ستّي يا ستّ بدور
شوفي القمر كيف بيدور
والناطورة بدّا شمس
والشّمس بعقد المرجان
عمّي يا عمّي الحطّاب
خلّينا نلعب عالباب
والجارة بدّا قمحه
والقمحه عند الطحّان
يا جدّي يا جدّ التلج
لحيتك غطّت عالمرج
تفاجأ قيس وهو في صالة البيت بالبنات وهنّ يغنّين ويرقصن، استمع إليهنّ بانتباهٍ شديد، لم يشأْ أنْ يقطعَ عليهنّ فرحَتهنّ بالأغنية، فلم يظهر لهنّ، لكنّ مايا عندما سمعتهنّ خرجتْ إليهنّ راكضة، فشكّلتْ مع شقيقتيها لينا وميرا دائرةً حول ماليسّا، وردّدت معهما خلف ماليسّا التي وقفتْ في منتصف الدّائرة ترقص وتغنّي.
في اجتماع عفويّ التقتِ الشّقيقاتُ الثّلاثُ لينا، ميرا ومايا في حديقةِ البيتِ الخلفيّة؛ ليلعبن -كما يفعلن كلَّ يوم-، انشغلتْ لينا بمراقبة سنجابٍ يركضُ بحرّيّةٍ على جذوع شجرةٍ معمّرةٍ، ينزلُ أحيانًا من على الشّجرة، يقفُ على قدميهِ الخلفيّتين، ذيلُهُ المكسوُّ بالشّعْرِ الكثيفِ مرفوعٌ خلفَهُ على شكل قوسٍ، يحملُ في يديه الأماميّتين ثمرةً يقضمُها وهو يتلفّتُ إلى الجهاتِ جميعها، يراقبُ أيَّ حركةٍ تقتربُ منه، وكأنّه في حالةِ طوارئ، ثمّ لا يلبثُ أنْ يركضَ مسرعًا؛ ليتسلّقَ شجرةً أخرى، وسرعانَ ما يمشي على سلكٍ كهربائيّ بسرعةٍ خاطفة، أحضرتْ لينا حفنةَ فستقٍ ووقفْت قريبًا من السّلكِ الكهربائيّ، الذي يعلوها بخمسة أمتار، والسّنجابُ واقفٌ يحدّقُ بها، مدّت يدَها وهي تفتحُ كفّها على الفستقِ، نقرتْ بلسانها تدعو السّنجابَ، ليأكلَ الفستقَ من يدها كما عوّدتْه، نزلَ السّنجابُ مسرعا عن الشّجرةِ، والتقط حبّةَ فستقٍ بفمه، ولينا تضحكُ له فرحةً به، وهو فرحٌ بها أيضًا، وكلّما قضمَ حبّةَ فستقٍ وابتلعها، يعود ويلتقطُ حبّة أخرى، وإذا بشقيقتها مايا التي تجلسُ على كرسيٍّ يبعدُ عنها بحوالي خمسة أمتار تصرخ مرعوبةً وتقولُ:
أفعى….أفعى
خرجَ قيس وزوجتُه مروةُ على صراخِ مايا، لكنّ ميرا سبقتْهما إلى الأفعى خضراء اللون، والبالغ طولها حوالي سبعين سنتيمترًا، فالتقطتِ الأفعى بيديها وهي تضحكُ وتقولُ:
لا تخافي يا مايا هذه أفعى حدائق غير سامّة.
صرختْ بها مايا قائلةً:
ابتعدي عنّي.
ضحكتْ مروة وقيس من الموقف، لكنّ مروة التي كانت خائفةً مع علمها المسبقِ بأنّ الأفعى غيرُ سامّةٍ، تظاهرتْ بالشّجاعةِ وقالتْ لميرا:
أطلقي الأفعى وابتعدي عنها، وسألتها:
كيف عرفتِ أنّ هذه الأفعى غيرُ سامّة؟
ردّت ميرا وهي تقتربُ من والدتها ضاحكة والأفعى بين يديها:
أبي أمسكَ أفعى تشبهُها وقال لي بأنّ هذه الأفاعي أفاعي حدائق غيرُ سامّةٍ، وهي موجودةٌ بكثرةٍ في هذه المنطقة.
التفتتْ مروة إلى زوجها قيس بنظرةِ عتابٍ وقالت له:
أنت مخطئٌ عندما تُعلّمُ أطفالنا بأنّ الأفاعيَ غير سامّة.
ردّ عليها قيس بلا مبالاة:
هذه الأفاعي غيرُ سامّةٍ فعلًا.
قالت مروةُ تحتجُّ على جواب قيس:
لقد حدّثنا والداك بأنّ الأفعى الفلسطينيّة من أخطر أنواع الأفاعي السّامة في العالم، وعندما نزورُ فلسطين، فمن الذي سيمنعُ ميرا إذا ما رأتْ أفعى في فلسطين أن تلتقطَها على اعتبارِ أنّها هي الأخرى غيرُ سامّة؟
أجابها قيس وهو يضحكُ:
لا تخافي… فالأفاعي السّامّةُ في فلسطين لا تتواجدُ في المناطقِ التي سنكونُ فيها، كما أنّ ميرا تعلمُ جيّدًا أنّ هذه الأفاعي دون غيرها غيرُ سامّة.
لم تتحرّك لينا من مكانها، وبقيت مع سنجابها تطعمُه الفستقَ رغم أنّه هربَ وتسلّقَ شجرةً مجاورةً، عندما حدثتِ الضّجّةُ حول الأفعى، فهي أيضا تعلمُ أنّ أفاعي تلك البلادِ غيرُ سامّةٍ، عندما هدأ الضّجيجُ حول الأفعى عادَ السّنجابُ ليتناولَ الفستقَ من يد لينا.
عندما نادت ميرا شقيقتَها لينا بصوتٍ مرتفعٍ، تطلبُ منها مشاهدةَ الأفعى التي تمسكها بيدها، ردّت لينا بهدوء دون أن تلتفتَ إلى شقيقتها ميرا:
رأيتُها عندما مرّت من جانبي، ولم أكترثْ بها؛ لأنّها غيرُ سامّةٍ، ولأنّني سعيدةٌ بهذا السّنجاب الجميل الذي يلتهمُ الفستقَ من يدي.
عندما سمعتْ مروةُ ما قالته ابنتُها لينا التفتتْ إلى زوجها قيس وهي تضحكُ من باب “شرُّ البليّةِ ما يضحكُ” وسألتْه:
هل تُعجبُكَ هذه الألفةُ بين ابْنتَيْكَ لينا وميرا وبين الأفاعي؟
ضحِكَ قيس من سؤالِ زوجتِه مروة وقال:
نعم أنا سعيدٌ بلينا وميرا لأنّهما لا تخافان الأفاعي غير السّامّة.
غضبتْ مروةُ من جواب قيس، أمسكتْ يدَ ابنتها مايا التي كانت تحتمي بها خوفًا من الأفعى، ودخلتْ إلى صالةِ البيت، في حركةِ احتجاجٍ تشي بالغضب.
لحقَ قيس بزوجته مروة التي جلست على أريكةٍ تحتضنُ ابنته مايا، جلس قبالتهما وقال:
لِمَ كلُّ هذا الخوف من أفعى غير سامّة، وقد شهدتما ميرا وهي تلفّها على يدها وتداعبُها.
ردّتْ عليه ابنتُهُ مايا وهي في حضن أمّها وسألتْهُ:
هل تذكرُ يا أبي عندما كنّا في فلسطين قبل عامين، ما قالَهُ جدّي جميل عن الأفاعي؟
أجابَها قيس بهدوء:
ذكّريني بما قاله.
أجابتْ مايا: عندما كتبتِ الصّحفُ عن أفعى فلسطينيّة سُمُّها قاتلٌ لدغتْ لاعب كرةِ قدم، ومن حُسنِ حظّهِ أنّهم نقلوه إلى مستشفى قريبٍ، وُجدتْ فيه الحقنةُ المضادّة لذاك السُّمّ وهي غاليةُ الثّمن، ولولاها لمات خلال أقلِّ من ساعة. فعقّبَ جدّي الذي قرأ لنا الخبر بأنّه يخافُ من الأفاعي حتّى لو كانت ميّتة.
ضحكَ قيس وقال:
أنا أعلمُ جيّدًا أنّ هناك من يخافون من الأفاعي حتّى لو كانت غير سامّةٍ أو ميّتة، وأستوعبُ ذلك، لكن هل تذكرين عندما حدّثنا جدُّك جميل الذي يخاف من الأفاعي، كيف أكل لحمَ ثعلبٍ ولحمَ ضبع؟
اشمأزّتْ مروةُ من ذلك، علتْ وجهَها تكشيرةٌ وسألت:
وهل لحمُ الضّباعِ والثّعالبِ يؤكلُ يا قيس؟ وهل أكلُه حلالٌ أم حرام؟
ابتسمَ قيس وقال:
كانَ أبي طفلا عندما أكل لحمَ ثعلبٍ اصطادَهُ جدُّهُ لأمّه، وكانت العادة عندهم أنّه إذا وُجدتْ شعرةٌ بيضاء في ذَيلِ الثّعلبِ فهذا “ويوي” ولحمُهُ حلالٌ، وإذا لم يجدوا شعرةً بيضاء في ذيلِه، فهو “واوي” ولحمُه حرامٌ، لكنّي لم أسمعْ أنّ أيّا من أبناء ذلك الجيل قد اصطاد ثعلبًا واعتبره “واويا”.
استغربتْ مروة ما سمعته فعقّبت على ذلك بقولِها:
لكنّ الثعالبَ من فصيلةِ الكلاب، ولحمُ الكلاب حرامٌ لأنّها ذات ناب.
ضحكَ قيس وقال:
الجائعُ “يأكلُ الضّب اللي سلّم على الرّب” كما يقول المثل. وأضاف أنّ أبي أكلَ في طفولته لحم ضبعٍ اصطاده رعاةُ أغنام، عندما أرسله جدّي لإيصال مؤونة لراعٍ يرعى أغنام جدّي في البراري، وكانوا يعتقدون أنّ الجانبَ الأيمنَ من الضّبع حلالٌ، بينما الجانب الأيسرُ حرام ويلقون به إلى كلابهم، فقال لهم أبي، وكان في الثّالثة عشرة من عُمره إذا كان الجانبُ الأيمنُ حلالا فالجانبُ الأيسر حلال أيضا، وقطع قطعةً من الجانب الأيسر ووضعها في الموقد لشوائها.
اقشعرّ جسدُ مروة وهي لا تكادُ تصدّقُ ما تسمعُه، وقالت:
كما نسمعُ فإنّ الضّباعَ تفترسُ بعضَ البشر، لكنّ العجيب الغريب أن نجدَ بشرًا يفترسون الضّباع.
وفي هذا الأثناء دخلتْ ميرا صالةَ البيتِ وهي تحمل الأفعى التي التوتْ على ساعدها الأيمن، جلستْ على الأرضِ وسطَ الصّالة ووالدتُها مروة غيرُ منتبهةٍ للأفعى إلا بعد أن أطلقتْ ميرا الأفعى على سجّادةٍ في الصّالون، عندما رأتْ والدتُها الأفعى أطلقتْ صرخةَ خوفٍ مفزعة، وهربتْ هي ومايا من المكان وهي تتوعّدُ ميرا بالعقاب، سمعَ الجيرانُ صرخةَ مروة فطنّوا أنّها تتعرّضُ لكارثة، فاتّصلوا بالشّرطةِ التي وصلت إلى البيتِ خلال ثلاث دقائق، قرَعَ شرطيٌّ الجرسَ وهو يركلُ بابَ البيتِ بقوّة، ويصرخُ بأن يفتحوا الباب بسرعة، فتحَ قيس الباب وقال للشّرطة:
نعم ماذا تريدون؟
دفعَهُ شرطيٌّ بقوّة، دخلوا البيتَ عنوة،
ردّ عليه شرطيٌّ بلهجة حازمة:
أين زوجتُك؟ لِمَ كانت تصرخ؟ ماذا فعلتَ بها؟
ظهرتْ مروةُ أمام الشّرطة، تصنّعت ابتسامةً وقالت بهدوء:
أنا زوجتُهُ ماذا تريدون منّا؟
هدأ غضبُ الشّرطة قليلًا وسألها أحدُهم:
لِمَ كنت تصرخين؟
ضحك قيس من الموقفِ وأشار إلى ابنته ميرا؛ التي تلعبُ مع الأفعى وقال:
كما ترون طفلتي هذه تلعبُ مع أفعى الحدائق، ووالدتُها صرختْ خوفا من الأفعى التي أدخلتها الطّفلةُ إلى البيت.
التفتتْ مروة إلى ضابط الشّرطة وقالت:
أنا آسفةٌ هذا ما حصل.
قال الشّرطيُّ لمروة:
هل أنت متأكدةٌ بأنّكِ لستِ في ضائقةٍ ولا تحتاجين مساعدة؟
أجابتْ مروةُ بهدوء:
نعم أنا في ضائقةٍ من هذه الأفعى، لو سمحتم خذوها معكم.
ضحك الشّرطيّ وقال:
لن نأخذَ الأفعى ما دامت غير سامّة وهذه الطّفلةُ سعيدةً باللعب معها، واتّجه إلى ميرا وقال لها:
ما اسمُكِ أيّتُها الصّغيرة؟ هل تحبّين الأفاعي:
أجابته ميرا بابتسامتها العذبة وقالت:
اسمي ميرا، وهذه الأفعى لي، وهي غير سامّة.
ضحك الشّرطيّ وقال لهم: باي.
نظر قيس إلى زوجته مروة وقال لها بنظراتٍ فيها عتاب:
بعض الشّعوب كالصّين وفيتنام وكوريا يصطادون الأفاعي ويأكلونها، ونحن نصرخ خوفًا من أفعى غير سامّة، ونرعبُ الجيرانَ بصراخنا، فيستدعون لنا الشّرطة لحمايتنا من أنفسِنا.
ردّت عليه زوجته مروة وتساءلتْ ساخرةً:
في الصّين يأكلون الحشرات كالنّمل والصّراصير، ويأكلون الفئران والجراذين والكلاب، فما رأيُك أن نطبخَ وجبةً من الفئران والجراذين والسّحالي، ووجبةً أخرى من لحمِ الكلاب؟
بعد الغروب وعندما أرادت ميرا الذّهاب إلى سريرها لتنام، حملتِ الأفعى، وأطلقتها في زاويةِ حديقة المنزلِ البعيدة وهي تخاطبُها قائلة:
إلى اللقاء يا عزيزتي، اذهبي إلى بيتِكِ ونامي مع أسرتِك الجميلة.
***********
في بداية شهر ديسمبر اجتمعتِ الأخواتُ الثّلاثةُ ” لينا، ميرا ومايا” في حديقة المنزل الخلفيّة، التي اعْتَدْنَ اللعبَ فيها، لم يكن الجوُّ باردًا كما سنواتٍ خَلَتْ، فيه نسماتُ بردٍ تضيع أمام شقاوَةِ الطّفلاتِ اللواتي يُحبِبْنَ الّلعبَ والحركَةَ الدّؤوبة، فقالتْ لينا:
أخبرتني جارتُنا ماليسّا أنّها وأسرتَها قد حجزوا تذاكرَ الطّائرة؛ ليزوروا الوطنَ الأمَّ في العشرين من هذا الشّهر.
قطعتْ مايا حديثَ شقيقتِها لينا وسألتْ مستغربةً:
وهل للوطنِ أمٌّ تُزارُ؟
ضحكتْ لينا من سؤال شقيقتِها مايا وأجابتْ:
الوطنُ الأمُّ هو وطنُ الآباءِ والأجدادِ فيه وُلدوا وعاشوا وماتوا ودُفنوا، ووطنُنا الأمُّ هو فلسطين.
صمتتْ ميرا ومايا قليلًا، فركتْ لينا جبينَها وكأنّها تُنَشِّطُ ذاكرتَها وقالتْ:
نعم صحيح، فوالدي وآباؤه وأجدادِه وُلدوا وعاشوا منذَ آلافِ السّنينِ في فلسطين.
وهنا قالتْ مايا:
نعم فلسطينُ وطنُنا الذي لا وطنَ لنا سواه، صحيحٌ أنّنا وُلدنا في أمريكا، لكنّ أبي وُلِدَ في فلسطين، وأمّي وُلدتْ في تونس، وتونسُ قُطرٌ عربيٌّ كما فلسطين التي يعيشُ فيها جدّي جميل وجدّتي حليمة، وكذلكَ أباؤنا وأجدادُنا الذين وُلدوا وعاشوا وماتوا ودُفنوا في مقبرةِ قريتِنا التي تُطِلُّ على القدسِ الشّريف، لذا أنا أريدُ العودةَ إلى فلسطين؛ لأعيشَ مع جدّي جميل ومع جدّتي حليمة هناك، ولأتعلّمَ في مدارسِها.
وهنا تساءلتْ ميرا عن سببِ وجودِ والديها قيس ومروة في أمريكا:
فأجابتْها لينا بثقة:
لقد سألتُ أبي سؤالَكِ نفسَهُ يا ميرا، فأجابني بأنّه بعد أن أنهى المرحلةَ الثّانويّة في القدس، سافرَ إلى أمريكا؛ ليتعلّمَ في إحدى جامعاتِها، وبعدَ أن أنهى تعليمَه الجامعيَّ عملَ في أمريكا، وتزوّجَ والدتَنا مروة، ولم يعدْ إلى الوطن؛ لأنّهُ محتلٌ ولا عملَ فيه، لكنّ وجودَهُ في أمريكا مؤقّتٌ وسيعود حتمًا إلى الوطن.
وهنا تدخّلتْ مايا وقالتْ:
كلُّ هذه القضايا وغيرها سأعرفُها من جدّي جميل عندما نزورُهم هذا الشّهر، لكنّنا الآن سنذهبُ؛ لنذكّرَ أبانا كي يشتريَ لنا التّذاكرَ.
قالت ميرا: أبونا ليس بحاجةٍ إلى من يُذكّرُهُ، لكن ما رأيُكما بالهدايا التي سنشتريها ونأخذها معنا.
ردّتْ عليها لينا بهدوء:
لا داعي للهدايا، فكلُّ شيءٍ موجودٌ هناك.
ابتسمت ميرا وقالت:
نعم هذا صحيح، لكنّي سأشتري هديّةً رمزيّةً لعمّتي أمينة؛ لأنّها أنجبتْ طفلَها سنان، الذي لم نرَهُ حتّى الآن.
وهنا تساءلتْ لينا:
إذا اشترينا هديّةً لعمّتِنا أمينة، فيجبُ علينا أن نشتريَ مثلَها لعمّتي لمى.
ضحكتْ مايا وقالتْ:
وأنا سأشتري هديّةً لأبناء عمّتي أمينة كنان ولمى وبنان، ولباسل كريم وأمير أبناء عمّتي لمى.
بعد لحظةِ صمتٍ التفتتْ مايا لشقيقتيها لينا وميرا وقالت:
أمّا أنا فسأشتري هديّة لجدّتي حليمة وأخرى لجدّي جميل.
ضحكت لينا وقالت لشقيقتيها ميرا ومايا:
لا تنشغلا بهذا فبابا وماما سيشترون ما يلزم.
عندما دخلن إلى البيت سألت مايا أمّها:
أين بابا يا ماما؟
أجابتها والدتُها مروة وهي تشيرُ إليها كي لا ترفعَ صوتَها:
أبوك نائمٌ فلا تزعجيه.
عقدت مايا وجهَها احتجاجًا وقالت:
أفففففففففف.
التفتت إليها والدتُها مروة وسألتْها:
هل تريدين شيئًا ما من أبيكِ؟
ردّت مايا: نعم…أريدُ أشياءَ كثيرةً.
استغربتِ الوالدةُ كلامَ ابنتِها مايا وسألتْها:
ما هي الأشياءُ التي تريدينها؟ هل ينقصُكِ شيءٌ؟
مايا: نعم تنقصُني أشياءُ كثيرةٌ.
الوالدة مروة: مثلُ ماذا؟
مايا: هي أشياءٌ ليست لي لكنّها تهمّني جدّا.
ردّت مروة على ابنتها باستغراب:
ليست لكِ، لكنّها تهمُّكِ.
مايا: أريدُ أن أشتريَ هدايا لجدّتي حليمة، ولعمّتي أمينة ولأولادها، ولعمّتي لمى ولأبنائها.
ضحكتْ مروةُ ممّا سمعتْهُ من ابنتها مايا ومازحتْها سائلةً:
يبدو أنّك قد نسيتِ جدَّكِ جميل، هل ستشترين له هو الآخر هديّةً.
سبقتْها شقيقتُها لينا وأجابتْ ساخرة:
هديّةُ جدّي جميل سيشتريها له ابنُه قيس.
ضحكتْ مروة من جواب ابنتِها وعادت تسألُها:
قيس بن جدّك جميل ماذا يقربُ لك؟
أجابتْ مايا وهي تبتسم:
قيس أبي.
في هذه الأثناء استيقظ قيس وخرج من غرفة النّوم، جلسَ على كرسيّ متكاسلًا، ركضتْ إليه ابنتُهُ مايا وجلستْ في حضنه، سألتْه زوجتُه إن كان يُحبُّ احتساءَ فنجان قهوة، تحسّست ابنتُهُ وجهَهُ بيدِها وسألتْهُ:
هل أنتَ مريضٌ يا أبي؟
ابتسمَ لها وأجاب:
لستُ مريضًا، لكنّني لا أزال غافيًا.
مايا: ماذا يعني كلامُكَ هذا:
قيس: يعني أنّني لم أستيقظْ جيّدا، ولا رغبةَ لي بالكلام.
قدّمتْ مروةُ فنجانَ القهوةِ لزوجها قيس، أمسكتْ يدَ ابنتِها مايا وقالت لها وهي تشير للينا وميرا:
دعي أباكِ يرتح واذهبي إلى شقيتيك والعبي معهما.
احتسى قيس فنجانَ القهوةِ على مهل، شعرَ أنّه لا يزالُ متكاسلًا، أخذَ حمّاما دافئًا، شعر بعده براحةٍ وكأنّ المياهَ عندما تندلقُ على الجسمِ، تطردُ الكسلَ والنّعاس. نادى بناته الثّلاثة وقال:
زيارتُنا للوطن وللأهل لمدّة عشرة أيّامٍ لا تكفي. ونحن مُرتبطون بدوامِكُنَّ المدرسيّ، لذا سنرجئُ زيارتَنا حتّى شهر حزيران-يونيو-، حيثُ تبدأُ عطلةُ المدارس الصّيفيّة، وسنمكثُ هناك شهرًا كاملًا.
نظرتِ البناتُ كلٌّ منهنّ إلى وجه شقيقتيها، التزمنَ الصّمتَ، لكنّ دموعَ مايا خانتْها، فتساقطتْ على وجنتيها. احتضنها والدُها قيس، قبّلَ جبينَها وهو يسألُها:
لِمَ تبكين يا أميرتي؟
حاولتِ الهروبَ من حضنِ والدِها؛ لتذهبَ إلى غرفتِها، لكنّ أباها أمسكَ بها، وأخذَ يمازحُها، بينما شقيقتاها لينا وميرا تكتمانِ ضحكةً مستغربتين بكاءَها. عضّتْ والدتُها على شفتها السّفلى وهي تشير لابنتيها لينا وميرا أن تسكُتا. لكنّ ميرا انفرطتْ ضاحكةً وهي تغادرُ الجلسة، لم تستطعْ مروة وقيس كبتَ ضحكِهما الذي جرّتهما إليه ميرا، بينما خاطبتْ لينا شقيقتَها مايا بلهجةِ توبيخ:
ماذا تريدين؟ ما قالَهُ بابا صحيحٌ 100%، فعشرةُ أيّامٍ لا تكفي لزيارة الوطن والعائلة، ويجبُ عليك أن تتقبّلي ما قالهُ الوالدُ بصدرٍ رحب.
سألتْ مايا أباها وهي تمسحُ دموعَها:
ما رأيُكَ أن تشتري لي تذكرةً، وسأسافرُ مع أسرةِ جارنا التّلحميّ، وسأعودُ معهم، فأنا مشتاقةٌ لجدّتي حليمة ولجدّي جميل وللوطن أيضا؟
قالتْ لها والدتُها:
ونحن نشتاقُ العائلةَ والقدسَ أكثرَ منكِ، لهذا فقد أجّلْنا رحلتَنا حتّى العطلةِ الصّيفيّة؛ لأنَ عشرةَ أيّامٍ لا تكفي.
احتضنَ قيس ابنتَهُ مايا، تحسَّسَ رأسَها، ابتسم لها وقال:
في عطلةِ أعيادِ الميلادِ المجيدةِ ورأسِ السّنةِ الميلاديّةِ، سنزورُ مناطقَ جديدةً لم تُشاهدْنها من قبلُ، أمّا زيارةُ الأهلِ في الوطن، فسنقومُ بها في عطلةِ المدارسِ الصّيفيّة القادمة، وسنقيمُ عندهم شهرًا كاملًا.
نظرتْ مايا إلى وجهِ أبيها وكأنّها تبحثُ عن شيءٍ في وجهه، فسألها:
عمَّ تبحثينَ يا مايا؟
عقدتْ مايا وجهَها دلالةً على عدمِ الرّضا وأجابت:
لا أبحثُ عن شيءٍ، لكنّي غاضبةٌ لأنّني لن أستطيعَ العودةَ إلى الوطنِ، ولن أرى القدسَ، ولن ألتقيَ جدّي جميل وجدّتي حليمة في عطلة أعياد الميلادِ ورأسِ السّنةِ الجديدةِ كما وعدتَماني.
ابتسمَ لها والدُها وقال:
بإمكانِكِ أن تلتقي جدّيكِ وأن تتحدّثي معهما صوتًا وصورةً عبرَ الشّبكةِ العنكبوتيّةِ متى تشائين؛ لأنّ عطلةَ الأعيادِ لا تكفي، وسنقومُ خلالَها برحلةٍ نزورُ فيها أكثرَ من مكانٍ جميل.
وهنا تساءلتْ مايا باستغراب:
وهل هناك أماكنُ جميلةٌ ومقدّسةٌ مثل القدس؟
ضحكتْ مروةُ والدةُ مايا وقالت مازحة:
نعم قرطاجُ أجملُ من القدس.
فردّتْ عليها مايا وتساءلتْ ساخرةً:
وهل في قرطاج مسجدٌ مباركٌ كالمسجدِ الأقصى، وكنيسةٌ عظيمةٌ ككنيسةِ القيامة؟ وهل لها سورٌ عظيمٌ كسورِ القدس؟
احتضنتْ مروة ابنتَها مايا، وقالت لها:
ها هنا كلامُكِ صحيحٌ يا بُنيّتي، فالقدسُ عروسُ المدائنِ، ولا تشبهُها مدينةٌ أخرى، لذا سنزورُها في عطلةِ المدارسِ الصّيفيّةِ، وسنبقى فيها شهرًا كاملًا.
لينا تستمعُ لحديثِ شقيقتِها مايا ووالديها، وهي تنظرُ الثّلوجَ التي تتساقطُ خلفَ زجاج النّافذة، رأتِ الثّلوجَ تتساقطُ بكثافةٍ وهدوء، تكسو الأرضَ ثوبًا أبيضَ جميلًا، تتساقطُ الثّلوجُ على زجاجِ النّافذةِ، تنزلقُ بهدوء إلى الأسفلِ، تتراكمُ على حافّةِ النّافذةِ من الخارج، وكلّما تراكمَتْ يسقطُ بعضُها على الأرض، لكنّ لينا استدارتْ فجأةً إلى الخلفِ، خرجتْ عن صمتِها وسألتْ والِدَيْها:
أيُّ الأماكنِ سنزورُ في عطلةِ أعيادِ الميلادٍ المجيدةِ ورأسِ السّنةِ الميلاديّة؟
أجابَها والدُها قائلًا:
سنزورُ شلّالاتِ نياجرا، وبعدَها سنزورُ ولايةَ لويزيانا، وسنلتقي بعَمّيكِ داود وابنِه علاء، وبعمِّك راتب، وزوجتِه فلسطين، وأبنائهِ أمينة، ضرغام وحسين، كما سنلتقي بعمّتكِ فاطمة وابنها محمّد.
وهنا سألتِ البنت الوسطى ميرا أباها:
وهل سنلتقي تهاني زوجةَ عمّي داود وابنتيه هناء وريام؟
تبادل قيس وزوجتُه مروة النّظرات ولم يجيبا، لكنّ لينا قالت:
تهاني زوجة عمّي داود وابنتاه هناء وريام، عادتا إلى فلسطين؛ وسيبقينَ هناك.
وهناء التحقتْ بجامعة القدس؛ لتدرسَ الطّبَّ، بينما التحقتْ ريامُ بمدرسةٍ هناك.
استغربتْ مايا ما سمعتْه وقالت:
ظننتُ أنّهما ذهبتا في زيارةٍ فقط. ثمّ التفتتْ إلى والديْها وسألتْهما:
لِمَ لا نعودُ إلى بلادنا مثلهنّ وندرسُ في المدارس هناك؟
تهرّبَ قيس ومروة من الإجابة وقال قيس:
هيّا بنا لِنذهبَ إلى البحيرة القريبة، ونتجوّلَ في الحديقةِ التي تحيطُ بها.
*********************
بدأتْ عُطلةُ أعيادِ الميلادِ المجيدةِ ورأسٍ السّنةِ الميلاديّةِ يومَ الثّالث والعشرين من شهر ديسمبر، عندَ ساعاتِ المساءِ أمرتْ مروة بناتَها:
لتذهبْ كلُّ واحدةٍ منكنَّ إلى فراشها، ففي ساعاتِ الصّباحِ الباكرِ سنسافرُ في رحلةٍ طويلةٍ إلى شلّالاتِ نياجْرا.
قالتِ البناتُ بصوتٍ واحدٍ:
لسنا ناعساتٍ حتّى ننامَ الآن.
قالتْ مروة تهدّدُ بناتِها لتشجّعَهنَّ على النّومِ مبكرًا:
إذا لم تستيقظنَ معَ طلوعِ الشّمسِ سنلغي الرّحلة.
لمْ تستجبِ البناتُ لتهديدِ والدتهنّ، وتركنها راكضاتِ إلى صالةِ البيتِ حيثُ يجلسُ والدُهنّ قيس، يستمعُ لنشرة الأخبار، قفزتْ مايا إلى حضنِ والدِها تضحكُ وتسأل:
هل رأيتَ شهادتي المدرسيّةَ؟
أجابها والدُها وهو يُمسكُ بوجنتيها باسمًا:
نعم…قرأتُ شهادَتَكِ وشهادتيْ شقيقتيكِ لينا وميرا، وأعجبني اجتهادُكنَّ، لذا سأكافئُكُنَّ برحلةٍ إلى شلّالات نياجرا العجيبةِ.
ضحكنَ وقُلنَ بصوتٍ واحدٍ:
شكرًا يا أبانا.
رفعتْ مايا نظرَها إلى وجهِ أبيها وسألتْهُ:
هلْ صحيحٌ أنّكَ ستلغي الرّحلةَ إن لم نستيقظْ غدًا مع شروقِ الشّمسِ؟
سألها أبوها قائلا:
من قالَ لكِ ذلك؟
مايا: ماما هي من قالتْ ذلك.
ضحكَ قيس وقال:
إنْ لم تستيقظي مبكرًا سأحملُكُ إلى السّيّارةِ؛ لتبقي نائمةً حتّى تستيقظي وحدَك.
سألتْهُ لينا وميرا:
وإذا لمْ نستيقظْ نحنُ هل ستتركُنا نائمتين، وترحلون دونَنا؟
أجابَهما والدُهما: سأحملُكما مثلما سأحملُ شقيقتَكنّ مايا.
قهقتْ مايا وهي تقول:
أنا سأستيقظُ قبلكَ وقبلَ ماما.
فردّت عليها لينا وميرا:
ونحن سنستيقظُ قبلك.
صباح اليوم التّالي استيقظ قيس ومروة على غير عادتهما في الّرابعة صباحًا، حيثُ اعتادا الاستيقاظَ في السّادسة، لكنّ أصواتَ طفلاتِهما لم يتركْ لهما مجالًا، ومع ذلك فإنّهما لم يخرجا من غرفة نومِهما إلّا في الخامسة. تناولوا طعامَ الفطورِ، استقلّوا السّيّارةَ في السّادسة صباحًا، وقبلَ أن تتحرّكِ السّيارةُ من موقفِها سألت مايا:
متى سنصلُ يا أبي؟
أجاب قيس وهو يضحكُ:
لم نخرجْ من بيتِنا حتّى نسألَ عن ساعة وصولنا.
وهنا سألت لينا:
كم تبعدُ شلّالات نياجرا عن شيكاغوا يا أبي؟
أجابَها أبوها:
تبعدُ شلّالاتُ نياجرا من هنا حوالي ألفٍ ومئة كيلومتر، ونحتاجُ إلى ثلاث عشرة ساعةً في الطّريق السّريعِ حتّى نصلها إذا لم نتوقّف.
سألت لينا متعجّبة:
ما هذه الشّلالات؟ وهل تستحقُّ كلَّ هذا التّعب؟
أخرجتْ مروة من حقيبتِها اليدويّةِ منشورًا، طلبتْ من بناتها أن يستمعنَ؛ لِيَعرفن معلوماتٍ عن شلّالات نياجرا Niagra Falls وقرأتْ:
عندما يقف المرء أمام شلالات نياجرا يسحرُه جمالُ الطّبيعة، ولا يوجدُ مكانٌ طبيعيٌّ آخر يفوقُ جمالَ هذه الشّلالات، فضفّةُ النّهرِ الشّماليّة تقع في الجانب الكنديّ، والضّفّةُ الجنوبيّةُ في الجانب الأمريكيّ، وفي كلا الجانبين تمّ استغلال ُالمنطقة بطريقةٍ رائعة؛ لتكونَ منطقةَ جذبٍ سياحيّ، ولهذا فإنّ حوالي 26 مليون شخص يرتادون هذه الشّلالات سنويّا، أيْ بمعدّل 70 ألف شخص يوميّا، ففي الجانب الأمريكيّ جرى تقسيمُ المنطقةِ المحاذيةِ والمطلّة على الشّلالات إلى طرقات وحدائق تظلّلها الأشجار، وفيها مطاعم ومحلّاتٌ سياحيّةٌ وحمّاماتٌ عامّة، ويحيطُ بها من جهة النّهرِ حاجزٌ معدنيٌّ قويٌّ ارتفاعُهُ مترٌ وعشرون سنتمتر؛ ليحميَ النّاظرين من السّقوط في النّهر، وهناك باصٌ كهربائيٌّ يُقلُّ الزّائرين من طرف الجانب الأمريكيَ المحاذي للشّلّالات، إلى المنطقة السّياحيّة عند الشّلال الكبير الواقع بين حدود أمريكا وكندا.
الشّلالات:
يبلغ ارتفاع الشّلالات 54 مترا في الجانب الكنديّ و56 مترا في الجانب الأمريكيّ، وتبلغ كمّيّة المياه المتساقطة في الشّلالات 670 ألف جالون في الثّانية.
والشّلالات عبارة عن شلّالين عظيمين، واحد طوله حوالي 430 مترا ويقع في الجانب الأمريكيّ، وفي طرفه الشّماليِّ مغارةٌ هائلة، يتمّ النّزولُ إليها بدرج؛ ليقف المرء بين جزء من مياهِ الشّلالاتِ وبين الإنجرافِ الصّخريّ، وتتساقط المياهُ من ارتفاع 56 مترا، على صخورٍ سوداءَ اللّونِ كما بقيّة الجرف النّهريّ، محدثةً خريرًا هائلًا، وباعثةً رياحًا محمّلةً بِرَذاذِ المياه إلى مئات الأمتار، لتنقسمَ إلى جداولَ عظيمةٍ بين الصّخورِ البارزةِ قبل أن تختلطَ بمياه النّهرِ القادمةِ من الشّلال الكبير، الذي يبعدُ عنها بضعَ مئاتٍ من الأمتار. أمّا الشّلالُ الكبيرُ الواقع بين حدود البلدين ويسمّونه حذوة الفرس Horse shoe “” بناءً على شكله، فيبلغ طولُهُ حوالي 670 مترًا.
ومن طَرَفِ الجانبِ الأمريكيِّ هناك جسرٌ يُوصلُ إلى مصعدٍ ينزل بالزّائرين 56 مترا إلى ضفّة مياهِ النّهر، حيث المنطقة مرتّبة بأدراجٍ للوصول إلى السّفينة، التي تقلُّ الزّائرين لمواجهة الشّلالاتِ بشكلٍ مباشر، ومَنْ لا يستقلُّ السّفينةَ يستحيلُ عليه رؤيةُ الشّلالاتِ كاملة، بل يرى جزءًا منها فقط، وحسب الزّاوية التي يقفُ فيها وينظرُ منها.”
قاد قيس السّيّارةَ متّجهًا من مدينة شيكاغو في ولاية إلينوي إلى ولاية إنديانا المجاورة، واصلوا طريقَهم إلى مدينةِ ديتوريت في ولاية متشيغان، وهذه المدينةُ التي تشتهرُ بصناعة السّيّارات فيها أكبرُ جاليةٍ عربيّةٍ في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وصلوا المدينةَ بعد حوالي خمس ساعات، انتبهوا إلى مراكز تجاريّةٍ تحملُ محلّاتُها أسماءً عربيّةً مكتوبةً باللغتين العربيّة والإنجليزيّة. رأوا لافتةً على مطعمٍ مكتوب عليها بالعربيّة ” سمك المسجوف العراقيّ”، قال قيس لزوجته مروة:
“المسجوفُ العراقيُّ” أشهى طعامٍ، فهم يشوون الأسماكَ بعد خلطها ببهاراتٍ مميّزةٍ تفتحُ شهيّةَ من يأكلُها، وهذه طريقةٌ لا يعرفُها إلّا العراقيّون.
سألتُه زوجتُه: كيف عرفتَ ذلك؟
أجابها: لقد أكلتُها في مطعمِ أسماكٍ عراقيٍّ في العاصمة الأردنيّةِ عمّان.
مروة: إذن لنذهب إلى المطعمِ لنتناولَ “المسجوف”.
بعد أن تناولوا طعامَ غدائهم، واصلوا طريقهم، في أطراف ديترويت مرّوا بشارع يمرّ من تحت جسرٍ، فوق الجسر شاهدوا غرفةً صغيرةً يعلوها العلمان الأمريكيُّ والكنديُّ، تمرُّ من أمامها السّيّارات بالاتّجاهين، قال قيس:
هذه واحدةٌ من نقاطِ الحدودِ الأمريكيّة الكنديّة، يعبرها مواطنو الدّولتين دون توقّف. دخلوا ولايةَ أوهايو، واصلوا مسيرَهُم وعلى يسارهم بحيرةُ “إري” التي تبلغ مساحتُها خمسة وعشرين ألف كيلومتر، شاطئُ البحيرةِ الآخرُ يقع في الجانب الكنديّ.
قالتْ مروة لقيس:
البناتُ نائمات، واضحٌ أنّهنّ تعباتٌ من السّفر.
قيس: إذن لنذهب إلى أحد الفنادق، نقضي يومَنا فيه حتّى صباح غدٍ.
في اليوم التّالي ساروا باتّجاه الشّلالات، في ولاية بنسلفانيا شاهدوا حقولا واسعةً جدّا مزروعة بأشجار العنب، واصلوا طريقهَم حتّى وصلوا مدينة نياجرا، وهي مدينة صغيرةٌ لا شيءَ لافتٌ فيها سوى الفنادق. مشوا قليلا أطلّوا على الشّلّالات العجيبة.
هالَهم انخسافُ الأرض دون مقدّمات؛ لتتساقطَ مياهٌ هائلةٌ مشكّلةً الشّلّالات التي تشكّلُ بدورها نهرَ نياجرا، توقّفت لينا وميرا مذهولات من المنظر، بينما كانت أمُّهنّ مروة تمسكُ بيد مايا، التي بدورها حاولتِ التّوقف، لحق بهنّ قيس بعد أن وضع السّيّارة في موقف للسّيّارات، أمسك بيد لينا اليسرى؛ لتمشي على يمينه، وأمسك بيد ميرا اليسرى؛ لتمشي على يساره، قالت له لينا:
دعنا نقفُ هنا قليلا لنتمتّعَ بهذا المنظر الجميل.
فقال لها قيس: سنسرعُ لنكسبَ الوقتَ، فالطّقسُ باردٌ جدّا، وكلّما اقتربنا أكثر من الشّلالات فإنّها تظهر لنا بوضوحٍ أكثر.
وصلوا إلى الحاجز المطلّ على المنحدرِ الصّخريّ ومن تحته النّهرُ المنطلقُ من الشّلاّلات، والذي لا يمكن تجاوزه، رذاذُ الماء النّاتجُ عن سقوطِ مياه الشّلّالات يتناثر بهدوء فوقهم، قال قيس:
الجوّ باردٌ جدّا، وكي نرى الشّلّالاتِ بوضوحٍ تامّ لا بدّ أن ننظرَها من أسفلِها من خلال استقلال سفينةٍ مخصّصةٍ لذلك. فهيّا بنا؛ لنكسبَ الوقتَ قبل تساقُطِ الثّلوج.
نزلوا إلى الأسفل في مصعدٍ. قبل الصّعود إلى السّفينة يرتدي الزّائر ثوبًا أزرقَ الّلونِ من البلاستيك الخفيفِ؛ لِيَقيَهُ من رذاذ الماء المتطايرِ من سقوط الشّلالات، والذي يُشكّلُ ما يشبهُ جبلًا من الدّخان، في حين يرتدي الزّائرون في الجانب الكنديّ ثوبًا بلون أحمر، ويصعدون في سفينةٍ أخرى تُبحرُ من الجهة المقابلة للسّفينةِ الأمريكيّة. وكلّما اقتربتِ السّفينةُ من الشّلّالات كلّما ازداد رذاذُ المياه. ازدادت قوّةُ الرّياحِ الباردةِ المنبعثة من الشّلالات، ويستحيلُ على المرء رؤيةُ الشّلالاتِ كاملةً ما لم يواجهها من السّفينة. ويُلاحَظُ وجودُ بناءٍ قديمٍ مُكوّنٍ من عدّةِ غُرفٍ مُتجاورةٍ تحت الشّلالات في الجانب الكنديّ، كانت تُستعملُ لوضع أجهزةٍ لتوليدِ الطّاقةِ الكهربائيّةِ في مرحلةٍ سابقة. تَمخُرُ السّفينةُ عبابَ مياهِ النّهرِ الذي يزيدُ عرضُهُ على الأربعمائة مترٍ؛ لِتَصلَ إلى مسافةٍ ليست بعيدةً عن تساقطِ مياه شلّال “حذوة الفرس”، وعلى الجانب الأمريكيّ حيثُ تُوجدُ مسافةٌ صخريّةٌ بين الانهيار الصّخريِّ ومياه النّهر، هناك أعدادٌ هائلةٌ من طائر النّورسِ بين الصّخور والأعشابِ والأشجار…لا تستغرقُ رحلةُ السّفينةِ أكثرَ من رُبْعٍ ساعة، لتعودَ مرّةً أخرى إلى مكان انطلاقها، تُنزل حمولتَها وتحملُ حمولةً أخرى ودواليك.
وهناك مهبطٌ لطائرات هليوكبتر صغيرة تتّسعُ الواحدةُ منها لأربعة أشخاص، تُقِلُّ من يريدُ جولةً جوّيّةً فوق الشّلالات.
عندما عادوا إلى المنطقةِ السّياحيّة المرتفعة، استقلّوا حافلةَ ركّابٍ تسيرُ على الطّاقة الكهربائيّة، عند آخر محطّة للحافلة ازداد تساقُطِ الثّلوج، دخلوا مطعمًا مجاورًا، تناولوا وجبةَ الغداء وهم ينظرون من خلفِ الزّجاجِ إلى الشّلالِ العظيمِ المشتركِ بين أمريكا وكندا. ازدادَ تساقطُ الثّلوج، فقال قيس:
هيّا بنا نحجزُ غرفتين في أحد الفنادق في “نياجرا”، قبلَ أن تمتلئَ الفنادق بالسّائحين الموجودين، الذين يخافون سياقةَ السّيّاراتِ في الثّلوج. وسنعودُ مساءً إذا توقّفتِ الثّلوجُ.
وهنا سألتْه مايا:
وإذا لم تتوقّفِ الثّلوج؟
ردّ عليها قيس ضاحكًا:
سنبقى في الفندق حتّى تتوقّف.
تمدّدَ الوالدان قيس ومروة على سريرهما في الفندق طلبًا للرّاحة، بناتُهما في الغرفة المجاورة، بين الغرفتين بابٌ خشبيٌّ تركه الوالدان مفتوحًا؛ لتبقى بناتُهما تحت رقابتهما. تدفئةُ الفندقِ تطردُ البردَ والصّقيع خارجًا، خلعتِ البناتُ معاطفهنَّ وقبّعاتهنّ، فلم يعدْ لهنّ بها حاجةٌ وهنّ في الفندق. وقفتِ البناتُ أمامَ نافذةِ غرفتِهنّ يُراقبنَ تساقطَ الثّلوج، وينظرنَ الجانب الكَنَديّ المقابل، والذي يعلو الجانبَ الأمريكيّ. البناتُ يتدافعنَ ويلعبْنَ ويضحكنَ فرحاتٍ بيومهنّ هذا، لم يستغربنَ منظرَ الثّلج المتراكم، فقد اعتدْنَ عليه في شيكاغو التي تتساقطُ فيها ثلوجٌ كثيرةٌ في فصل الشّتاء.
في التّاسعةِ مساءً طلبت مروة من بناتها أن ينمن؛ كي يأخذن قسطًا من الرّاحة استعدادًا لليوم القادم.
انصرفتْ كلُّ بنت إلى سريرَها، أطفأتْ مروة الضّوءَ في غرفة بناتها، لكنّهن بقين يتهامسن؛ كي لا يسمعهنَّ والداهنّ. بعد نصف ساعةٍ وفي العاشرة تمامًا، انطلقتْ أصواتُ ألعابٍ ناريّةٍ كثيفة، ملأتِ الفضاء نورًا مصحوبا بألوانٍ مختلفة، الألعابُ وأضواؤها تغطّي مدينةَ نياجرا الأمريكيّة، والجانبَ الكنديّ أيضًا، اصطفّت البناتُ على النّافذة يُشاهدنَ الألعابَ النّاريّة، بينما كان والداهنَّ يشاهدان المنظرَ من غرفتهما، طرقتْ مايا بابَ غرفةِ والديها، وعندما سمحا لها بالدّخولِ سألتْ:
ماذا يجري في هذا المكانِ العجيب؟
ردّ عليها والدها قائلًا:
لا تخافي يا بُنيّتي فهذه طقوسٌ احتفاليّة ينيرُ بها الأمريكيّون والكنديّون الشّلّالاتِ العجيبةَ في مثل هذه السّاعةِ من كلّ ليلة.
وهنا دخلتْ لينا تسألُ والديها:
ما رأيكم أن نخرجَ الآنَ ونذهبَ إلى الشّلّالات؛ لنرى جمالَ هذه الإضاءة عن قُرب؟
أجابها أبوها:
الطّقسُ باردٌ جدّا، ومن غير المناسب أن نخرجَ من هذا الدّفء إلى جحيم الصّقيع في الخارج.
عاد كلٌّ منهم إلى سريره بعد الإنتهاء من الألعاب النّاريّة والإضاءة، لكنّ صوت الرّعدِ ولمعانَ البرقِ لم يخمدا. في لحظة صفاءٍ ذهنيٍّ فكّرَ قيس بأنّه أخطأ مرّتين، الأولى عندما منع ابنتَهُ مايا من زيارةِ جدّيها برفقة أسرةِ جارهم التّلحميّ، ولو فعلها لحقّقَ رغبةَ طفلتِه بزيارة بلاده فلسطين، وبلقاء جدّيها وأبناءِ عائلتِها، وبإبعادها عن هذا الطّقسِ المجنونِ، الذي تقلُّ درجةُ حرارتِه عن العشرين مئوي تحتَ الصّفر. فمناخُ فلسطين معتدلٌ جدّا في فصول السّنة جميعِها، أمّا خطؤه الثّاني فهو زيارةُ شلّالات نياجرا في هذا الوقت مع علمِه المسبق ببرودة الطّقس التي لا تُحتمل.
رأتْه زوجتُه مروة في شرود ذهنيّ فسألته:
بِمَ تُفكّر يا قيس؟
التفت إليها وأجاب:
كيف عرفتِ أنّني أفكّرُ بشيءٍ ما؟ أنا في هذه اللحظة لا أفكّرُ بشيءٍ ذي قيمة، لكنّني مشغولٌ في كيفيّةِ إقناعِ بناتِنا باختصارِ هذه الرّحلة، والعودةِ إلى شيكاغو قبلَ أن نُكملَ جولتَنا في منطقةِ الشّلالات، فلن نستطيعَ الانتظارَ دون جدوى، خصوصًا وأنّ دائرةَ الأرصادِ الجوّيّةِ التّابعةِ لوكالة الفضاء الأمريكيّة “ناسا” تقولُ بأنّ تساقطَ الثّلوج سيستمرُّ هنا في نياجرا ومحيطها أسبوعًا كاملًا.
صمتتْ مروة قليلا وقالت:
ما رأيُك أن نعودَ صباحَ غدٍ إلى شيكاغو.
قيس: هذا ما أفكّرُ به.
مروة: أخشى أن تكونَ الطّرقاتُ مغلقةً بسبب الثّلوج.
قيس: لا أعتقدُ ذلك فمن المتعارف عليه في أمريكا أنّهم لا يسمحون بإغلاق الطّرقِ الرئيسيّةِ في المدن، والطّرقِ الخارجيّةِ التي تربطُ بين مدينةٍ وأخرى أو ولايةٍ وأخرى.
مروة: إذن سنغادر في ساعات الصّباح، ولن نكرّرَ زيارتنا لشلّالات نياجرا إلا في أشهر الصّيف.
صباح اليوم التّالي وبينما قيس واقفٌ أمام موظّف الاستقبال؛ لدفع أجرة مبيتهما في الفندق، رأت ميرا في طرفِ الصّالةِ أمرأةً عجوزًا تجلسُ بخشوع، فذهبت إليها ظنّا منها أنّها مسلمةٌ تصلّي، جلستْ بجانبها بهدوء، التفتتِ المرأةُ لمايا باسمةً، وأبدتْ إعجابها بجمالها وبهدوئها قائلة:
ما هذا الجمالُ يا أميرة؟
ردّت عليها ميرا ضاحكةً:
شكرًا لك….أنت جميلةٌ أيضا.
أدركتْ ميرا أنّ المرأةَ لا تصلّي، فهي تعلمُ أنّ المسلمين لا يتكلّمون مع أحد أثناء صلاتهم، فسألتها:
لِمَ تجلسين هنا؟
أجابتْها المرأةُ قائلةً:
أنا أقوم بطقوس “اليوغا”؟
سألتْها ميرا مستغربةً:
ما هي اليوغا؟ هذه كلمةٌ أسمعُها للمرّة الأولى.
في هذه الأثناء جاءتْ مروة وأمسكتْ يدَ ابنتِها ميرا وهي تقول:
هيّا بنا سنخرجُ الآن.
طلبتْ ميرا من أمّها أن تتريّثَ قليلا؛ لتمسع جوابَ المرأةِ عن “اليوغا”.
التفتت المرأةُ لمروة وسألتْها:
هل هذه الطفلةُ الجميلةُ ابنتُكِ.
ردّت مروة بالإيجاب، فقالتِ المرأةُ:
لتحفظها العذراء، هذه بنت جميلةٌ ذكيّةٌ، ثمّ التفتتْ إلى ميرا وقالت:
“اليوغا يا صغيرتي رياضة الجسم والعقل، تمتدُّ لِأصولٍ تاريخيّةٍ قديمةٍ في الفلسفة الهنديّة، وتتعدّدُ أنماطُ اليوغا التي تجمعُ بين تقنيّاتِ التّنفّسِ، والاسترخاء، والتأمّل، والحركات الجسديّة”.
ضحكتْ مايا وغادرتْ مع والدتِها وهي تشيرُ بيدها إلى المرأة تُوَدِّعُها بعد أن شكرتها على جوابها عن سؤالها، مع أنّها لم تفهم شيئًا ممّا قالته.
وصلوا بيتَهم في شيكاغو تَعِبين بعد مرور سبع عشرة ساعةٍ، توقّفوا خلالها مرّتّين ليتناولوا طعامهم، صحيحٌ أنّ البناتَ غَفوْنَ في السّيّارة، إلّا أنّ وعثاءَ السّفرِ كانت باديةً عليهنّ. ومعَ أنّ مروة وقيس تبادلا سياقةَ السّيّارةِ إلّا أنّهما كانا تعبينِ أيضًا.
ناموا ليلَهم الطّويلَ دون حراك، استيقظوا في الصّباحِ وقد تراكمتِ الثّلوجُ في محيط المنزل، مع أنّها توقّفتْ عن التّساقُطِ، الشّمسُ تُطِلُّ على استحياءٍ لكنّها لا تلبثُ أنْ تختفي، درجةُ الحرارةِ كانت درجتين مئويّة.
ارتدتِ البناتُ ملابسَهُنّ الشّتويّةَ الدّافئةَ بعد أن تناولنَ وجبةَ الفُطورِ، وخرجنَ يَلعبْنَ بالثّلوجِ في حديقةِ البيتِ الخلفيّة. البناتُ يتراجمنَ بالثّلجِ فَرِحاتٍ ضاحِكاتٍ، وقيس ومروة يحتسيان القهوةَ ويُراقبانهنّ من خلفِ زُجاجِ إحدى نوافذِ المطبخ.
بعد انتهاءِ عطلةِ أعيادِ الميلادِ المجيدةِ ورأسِ السّنة الميلاديّةِ فتحَ قيس مواقعَ شركاتِ طيران عدّة على الشّبكة العنكبوتيّة؛ ليحجزَ تذاكرَ سفرٍ له ولأُسرتِه؛ لزيارة الوطن والأهلِ في فلسطين، اطّلعَ على أسعارِ التّذاكرِ، وقال لزوجتِهِ:
ما رأيُكِ يا مروة، أن نحجزَ تذاكرَ؛ لزيارة الوطنِ في الثّالث من حزيران -يونيو- القادم، فعطلةُ المدارس الصّيفيّةِ تبدأ في اليومِ الأوّل من الشّهرِ نفسِه؟
لِمَ هذه العجلة، فلا يزال لدينا وقتٌ طويل؟
قيس: نعم لدينا حوالي خمسةِ أشهر، لكن كلّما حجزنا مبكرًا نحصلُ على سعرٍ مناسبٍ، ونستطيعُ اختيارَ المقاعدِ المناسبة.
مروة: على بركة الله.
بعدَ انتهاء عطلةِ أعيادِ الميلادِ المجيدةِ ورأس السّنة الميلاديّة، عادت البناتُ إلى مدارسهنّ، أخبرتْ لينا صديقتَها العنودَ أنّهم سيزورون وطنَهم فلسطين في الثّالث من حزيران القادم، وأضافت لينا:
وسنصلّي في المسجدِ الأقصى المبارك.
ضحكتِ العنود وقالت:
بالأمس اتّفقَ أبي وأمّي أن نمرَّ بالقدس، ونصلّي بمسجدها الأقصى، ونمكثُ في فلسطين أسبوعا كاملًا، وبعدها نعودُ إلى ديارنا في وطننا شرق الأردنّ.
اطمأنّت مايا بأنّ عودتَها لأرض الوطن، ولقاءَها بجدّيها جميل وحليمة باتت مؤكّدة، لكنّها لم تتخلَّ عن سؤالها اليوميّ لكلٍّ من والديها وهو:
كم يومًا بقيَ على بداية العطلةِ الصّيفيّة؛ كي نعودَ إلى بلادنا الجميلة؟
بعدَ حوالي شهرٍ من شراء تذاكرِ السّفر، أُصيبَ النّاسُ بالهلعِ من الأخبار حول انتشارٍ فايروس كورونا القاتل، وسائلُ الإعلام تتناقلُ أخبارًا متسارعةً حولَ إجراءات الوقايةِ من هذا الفيروس اللعين. الدّولُ تُغلقُ حدودَها ومطاراتها. توقّفتْ عجلةُ الاقتصاد، أغلقتِ المدارسُ أبوابَها، قيس ومروة يمارسان عملهما من داخل البيتِ عبرَ الشّبكة العنكبوتيّة، لم يعدْ متّسعٌ للمصابين في المستشفيات، سألت مايا أباها:
ما رأيُكَ أن نسافرَ اليومَ إلى وطننا فلسطين ما دامتِ المدارسُ مغلقةً؟
التفتَ قيس إليها وسألها:
كيف سنسافرُ والمطاراتُ مغلقةٌ؟ هذا الفيروسُ لن يستمرَّ طويلًا، سيختفي سريعًا مثل فيروسات انفلونزا الطّيور وانفلونزا الخنازير، وسنزورُ الوطنَ حسبَ موعدنا.
في شهر مايو تلقّى قيس رسالةً إلكترونيّةً من شركة الطّيران جاء فيها:
لقد تمّ تأجيلُ موعدِ رحلتكم إلى مطار الّلد لمدّةِ شهرٍ قابلٍ للتّجديد، بسبب إغلاق المطارات.
عندما رأتْ مايا صُوَرَ النّاسِ على شاشة التّلفزيون يضعون الكمّامات على وجوههم، وسمعتْ تعليمات الجهاتِ الصّحّيّةِ بضرورةِ عدم الخروجِ من البيوتِ إلّا في الضّرورة القصوى، وضرورة الالتزام بوضعِ الكمّامات عندَ الخروج، شعرتْ بالخوف، فسألتْ والدتَها:
هل يعني أنّنا سنموتُ إذا خرجنا من بيتِنا؟
احتضنتها والدتُها وقالت لها:
لا تخافي يا بنيّتي.
انتهى العامُ الدّراسيّ وانتهتْ عُطلةُ المدارسِ الصّيفيّةِ والمطاراتُ مغلقةٌ والمدارسُ مغلقةٌ، ومايا تنتظرُ الفرجَ لتحقّقَ أمنيتَها بزيارة وطنها فلسطين، والالتقاء بجدّيها، والصّلاة في المسجد الأقصى المبارك.
بدأ العامُ الدّراسيُّ، لمْ يعدِ التّلاميذُ إلى مدارسهم، وصاروا يتلقّون دروسهم عبر تقنيّةِ “زووم” الإلكترونيّة.