عزّت الطيري شاعر موهوب متميّز
لم تتسنّ لي الفرصة لمطالعة دواوين الشاعر المصريّ عزّت الطيري، كوني أعيش في درّة التّاريخ التي أضاعها إخوتي في العروبة ونسوها، ويا حسرة التاريخ لو يعلمون أيّ مدينة أضاعوا بضياع القدس.
ما علينا…فدواوين الشّاعر عزّت الطيري لم تصل وطني الذّبيح، ومن خلال متابعتي لقصائد الشاعر المتميّز عزت الطيري التي ينشرها على صفحات التواصل الاجتماعي، وجدت نفسي أمام شاعر مطبوع ساخر خفيف الظّلّ، سريع البديهة، يصنع من لا شيء قصيدة، حتّى خلته كما أبي نواس عندما قال” والله لو أردت أن لا أتكلم إلا شعرا لفعلت”، وإذا كان الشّاعر الطيريّ قد اختار أن يكتب غزلا عذريّا، وأن يكتب النّوادر والفكاهات، فهو يعبّر بهذا عن روح أشقائنا في أرض الكنانة، الذين عرفوا بخفّة الدّم، وكأنّهم ينتصرون على سوء الأوضاع في مجالات مختلفة من خلال السّخرية منها.
عندما قرأت للمرّة الأولى بعض المقاطع الشّعريّة للشّاعر الطّيري، أدهشتني فتوقّفت أمامها، وأعدت قراءتها مستمتعا، وشعرت أنّني قد عثرت على ضالّتي التي أبحث عنها، خصوصا وأنّ صفحات التّواصل الاجتماعيّ تعجّ بكثيرين ممّن يزعمون أنّهم شعراء وشواعر، حتّى كدت أن أعزف عن قراءة “الشّعر” وصنوف الأدب كافّة على “الفيسبوك”، الذي ساوى في النّشر بين العالم والجاهل، وبين الشّاعر ومدّعي الشّعر، لكنّ شغفي لمعرفة مبدعي أمّتنا العربيّة، الذين انقطعنا عنهم، وانقطعوا عنّا بسبب الاحتلال البغيض، الذي أهلك البشر والشّجر والحجر، جعلني أواظب على ما ينشره أشقاؤنا العرب خصوصا أولئك الذين لم أعرف عنهم من قبل، فتابعت الشّاعر الطّيريّ فرحا سعيدا بشعره، وبكلّ كتاباته، واحتفيت بـ “اكتشافي” هذا على عادة أجدادنا القدامى الذين كانت تحتفي كلّ قبيلة منهم بنبوغ شاعر فيها. لكنّ الشّاعر الطيري ليس جديدا على الشّعر، بل ظهر كشاعر مجيد قبل ظهور “الفيس بوك” والشّبكة العنكبوتيّة بأكثر من عقدين، وشارك في مهرجانات شعريّة كبرى في مصر وفي أكثر من قطر عربيّ.
والشّاعر الطّيري ولد في قرية صغيرة اسمها نجع قطية، التابع لمركز نجع حمادي بمحافظة قنا، في صعيد مصر، وتبعد عن القاهرة حوالي خمسمائة كيلومتر، ومع أنّه درس الهندسة الزّراعيّة في جامعة أسيوط، إلّا أنّه عاد إلى القرية التي ولد فيها، وابتعد كثيرا عن مراكز الصّخب الإعلاميّ والإبداعي في القاهرة والإسكندريّة، وغيرهما من المدن المصريّة الكبيرة. وبما أنّ الإنسان بمن في ذلك الإنسان المبدع ابن بيئته، فهل جاءت هذه العفويّة البرّاقة وبراءة عذريّة القصيدة التي يكتبها الطّيري، وليدة البيئة الرّيفيّة البريئة التي قضى حياته فيها، هذه البيئة التي لم تهتك عذريّتها ازدحامات المدن الكبيرة كالقاهرة؟ ولا يفهمنّ أحد من هذا أنّ الشّاعر الطّيري بعيد عن الحضارة، منعزل في قريته الصّغيرة في الصّعيد، فالعكس هو الصّحيح، فشاعرنا ذو اطّلاع واسع، وثقافة غزيرة متعدّدة الأوجه والمشارب، ويظهر هذا جليّا في شعره، ولا غرابة في ذلك فشاعرنا ولد وعاش في بيت علم وأدب، فوالده أزهريّ ومدير مدرسة أسّسها في قريته، لكنّه -أي الشّاعر-لم يحظ بتسويق أعماله الشّعريّة كما يليق بها وبه، وكما هو حال مبدعي الطّبقة المخمليّة أو الملتقين بها بشكل وآخر.
وإذا كان الشّعر تعبيرا عن لحظة شعور، فإنّ قصائد الطّيري تؤكّد ذلك، فالرّجل لمّاح بطبعه، ويلتقط فكرة قصيدته وهو جالس في شرفة بيته، أو وهو يمرّ في طرقات الحقول بين المزارعين، فيغزلها خيوطها بشرايين قلبه وعاطفته الدّافقة، فتأتي لغتها انسيابيّة عذبة كخرير قناة مياه تمرّ عبر حديقة غنّاء، تأتي كلماته راقصة يعلو إيقاعها، فتتسلّل كما خيوط ضوء القمر البدر إلى قلوب قارئيها أو مستمعيها.
هذا اليوم قرأت له هذا المقطع:
وحبيبى يستضعفنى
يفرض سيطرة فى الليل
على قلبى
يحتل بقاعى
ويشل ّ ُ
فضاءاتى
والعالم يشهد
دون حراكِ
وكأن حبيبى
روسيا
وأنا
اوكرانيا
وهنا لاحظت خفّة الدّم وسلاسة اللغة وسرعة البديهة وربط العام بالخاصّ، من خلال حدث يقلق العالم جميعه، وهو الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة.
الشاعر عزّت الطيري لم ألتقه يوما إلا من خلال قصائده التي أجدها على”الفيس بوك” وألتقطها وأقرأها متمعنا وفاحصا ومستمتعا، فأنا لا أجيد نقد الشّعر مع أنني أحبّه وأتذوّقه وأستمتع به وأطرب له، وكم تمنّيت أن أجد في إحدى مكتباتنا دواوينه الورقيّة، لأشبع ذائقتي الأدبيّة منها، ومن الطّريف أنّني سألت زملائي الأدباء الفلسطينيّين إن كانت لديهم دوواين شاعرنا الطّيريّ، فأجابوني: إذا كانت لديك أعرنا إيّاها! في حين سألني عنها آخرون، وهم يشيدون بقدرات الطّيري الشّعريّة وتميّزه عن كثيرين غيره، وأنا لم أستغرب هذه الموهبة اللافتة عند الشّاعر الطّيري، فأرض الكنانة ولّادة.
وإذا كان من حقّ ذوي الفضل علينا أن نذكر أفضالهم، فإنّني أكتب هذه العجالة عن شاعر ذي فضل يتميّز شعره شكلا ومضمونا، لكنّها حتما لا تغني عن مطالعة دواوينه، ودراسة مسيرته الشّعريّة.
5-مارس-2022