ظلام النهار لجميل السلحوت أو ظلاّم النهار بقلم:ابراهيم جوهر-القدس

ظ


في روايته الجديدة ( ظلام النهار ) ، الصادرة حديثا عن دار الجندي في مدينة القدس باكورة نشاط الدار في النشر والتوزيع ، نعيش مع الكاتب جميل السلحوت فترة اجتماعية امتدت عقدين من الزمن وعصفت بنسيج مجتمعنا الاجتماعي بمفاهيمها وإفرازاتها الخاصة التي تسبب بها الجهل الذي أورثه الاستعمار، وأبقاه ليعاني من آثاره وآثامه المجتمع وأبناؤه، فيحاصرهم ويقسو عليهم ويحرمهم من ممارسة حقهم في الحياة والنمو والتطور، فحاصر بذا مستقبل المنطقة وأبقاها تدور في ظلامه.

( الجهل ) هو سيّد الموقف، إنه البطل الحقيقي الذي تدور أحداث الرواية حوله، فجميع القصص الفرعية ما هي إلا تجليات للجهل، وإثبات لآثاره على البشر بشكل عام من خلال شخصيات رصد الكاتب واقع الجهل الذي تربت فيه، وعاشته وتنفست مفاهيمه. من هنا لم يكن أمام(خليل) الأكتع من مناص سوى الحلم مع صديقه الداخلي الذي أوجده خياله وطموحه وذكاؤه، ورغبته بالتغيير وبإيجاد البديل العملي لواقع الجهل المستشري والمستشرس في البيئة التي ذكرها الكاتب، معدّدا أسماء كثير من مواقعها ووقائع تاريخها المجبول بتاريخه الخاص في كثير من الأحداث، لتكون الرواية بهذا سيرة روائية.

(الجهل)هو السيد المسيطر، جهل في التطبيب، وفي التزويج، وفي التطليق، وفي الدعوة إلى مأدبة الطعام، وفي الكرم، وفي المشكلات، وفي التربية، وفي العلاقات ….
الجهل كان هو السيد دائم الحضور، ولم يعد معنى فقط بل صار شخصا متحكما يأمر وينهى، ويخطط ويحلل ويحرم، وهذا ما يدعوني للقول: إن الجهل شخصية، وهو شخصية طاغية(بطل الرواية) بامتياز.

في (ظلام النهار) يتحرك أشخاص الرواية على مساحة من التخلف الحضاري والبيئي الذي يحارب العلم والعلماء ويعاديهما، إنه يؤمن بالتداوي بالوصفات الشعبية، وينفر من الأطباء والمستشفيات، ويؤمن بالفتّاحة التي تمارس الدجل مستغلة جهل الناس، وتنطلي عليه –سياسيا- ادعاءات (مس كنيون) وهي تنقّب عن الآثار لصالح المؤسسة الصهيونية .
إنه المجتمع الذي لا يحل مشكلاته بغير العصا، ويعطّل أي دور إيجابي للعقل، فهو ينظم (طوشة) جماعية دفاعا عن (شرف) أتان أحدهم … وينسى الشرف الأسمى الذي يدنّس كل حين.

في هذه البيئة ذاتها التي قصد الكاتب إبرازها بهدف توثيقها ونقدها، عاش أشخاص الرواية وماتوا، وأنجبوا وتشاجروا ليكون (الجهل) شخصا بعينه يفعل ويؤثّر. فخليل نفسه ليس بطلا ولا والده، ولا كامل الشخصية الواعية نسبيا، والعاجزة عن التأثير والتغيير والإقناع، إنه نموذج الأنسان الغرّ غير الواثق المتردد غير المقدم، والكاتب لم يشأ أن يخلق منه بطلا في الواقع يتحدى ويقود، بل وصفه كما هو بعجزه وسلبيته رغم تعاطفه معه، وإشارته إلى وعيه السابق لأفعال قومه / أهله، إنه نموذج المثقف المحلي السلبي العاجز غير مسموع الرأي، الذي يضطر للاعتذار ممن لا يستحق طلب الاعتذار.

خليل وكامل ووالدهما ووالدتهما مجرد أشخاص مارس الجهل ثقافته عليهم، فأنامهم إلى حين، وترك بصماته – لأنه الأقوى الذي يجد على جهله أعوانا وهم لا يجدون – لذا نجد بصماته هي الأقوى أثرا، فخليل فقد يده بفعل الطب الجاهل، ولم تشهد البلدة تقدما يذكر بفعل سيطرة الجهل الطاغية.

في بيئة هذا حالها لا يستغرب ما جاء من معاملة متدنية للمرأة الأم والأخت والزوجة. وقد أورد الكاتب نماذج لرؤية المجتمع للمرأة وكرر جملة (النسوان ما فيهن خير) ليشير مؤكدا موقف المجتمع من خلال أيمانه وألفاظه لواقع النظرة الدونية للمرأة.

بيئة (ظلاّم النهار) هنا تشير بأيد خفية كامنة ما وراء السطور إلى السبب الكامن وراء ظاهرة انتشار الجهل، وتمكّنه من رقاب الناس ومصائرهم، وما الإشارة إلى التنقيب عن الهيكل المزعوم والبعثات البريطانية إلا إشارة إلى دور الاستعمار التدميري التجهيلي ليسهل له السيطرة على مقدّرات الشعب والناس لاستغلالهم في مخططاته الاستعمارية.

من هنا قد نفهم الرمز الكامن في فقدان خليل ليده اليسرى، واليد اليسرى بالتحديد لأنه ما زال يمتلك يدا أخرى قادرة على التغيير والتنوير انسجاما مع أحلامه ورؤاه ومغامراته مع الشيخ ذي اللحية البيضاء رمز المستقبل والخلاص والأمل، وإشارة من الكاتب إلى المعادل المقابل الذي ينتظر خليلا، والذي سيصنعه خليل وأخوته كنموذج للشباب الذي سيغيّر ويثوّر، ويقهر الجهل الذي مكّن الآخر من التحكّم برقاب المنطقة وأبنائها، فسوّد معيشتهم والتهم أرضهم وصادر مستقبلهم واحتلهم كيانا وفكرا وحياة.

الرواية هنا تقدّم مادة خصبة لدارسي علم الاجتماع والانثروبولوجيا (علم الإنسان) بما احتوته من لهجة محكية، وأغان شعبية فولكلورية، وعادات اجتماعية، ومفاهيم وقيما ، وأسلوب تطبيب ، وعادات الخطبة والزواج ومراحله …

(ظلام النهار) وإن بدت بعيدة عن السياسة حتى وهي تشير إلى (البيك)، كما أطلق عليه أبناء عرب السواحرة الذين دارت الأحداث على أرضهم، وثورة عام 1936 وعيوب رافقتها، إلا أنها في التحليل الآخر لرموزها تشير إلى مسؤولية القائد غير المؤهل للقيادة وإلى دوره، وإلى تعطيل القوى المأمول منها التغيير. فخليل الطفل الذي سيكون له شأن بما يمتلك من ذكاء وأحلام يتغلب بها على الواقع البائس، إنما يمثل جيلا نموذجا للتغيير ولكنه محاصر بالفقر، والجهل، والصد، والمنع، وجهل الأب المسؤول والأمّ الحنونة

التي تتغلب على شقاء حياتها بالدموع والاسترضاء، ظلت عاجزة عن التأثير والإقناع، ولم تستطع مواجهة ظلم زوجها – ظلم المسؤول- ، وكذا كامل الفتى المتفتح الذي وقف في وجه الجهل نسبيا، ولكنه لم ينطلق من وعي وشجاعة تؤهلانه للقيادة، ولم تتح له الظروف الضاغطة فرض آرائه التنويرية، فظل محتجا سلبيا، بصمت وخجل، وبلا دور واضح الأثر .

إن هذا الواقع المأساوي الضاغط المظلم ( لنتذكّر هنا عنوان الرواية، ظلام النهار، أو كما حوّرته ” ظلاّم النهار ” ) قد قمع تطور خليل الذي تنبأ له الشيخ الوقور بدور أفضل في المستقبل، كما قمع تأثير كامل الفتى الواعي الواعد، ولكن أحداث الرواية التالية على أرض الواقع، وبعيدا عما نقلته الرواية هنا، قد أثبتت أنهما غيّرا وقادا …فانطلقت حركات تحرر وشهدت الساحة نهضة فكرية وحراكا اجتماعيا وسياسيا، وإن شاب التجربة شيء من بقايا الجهل نفسه.

خليل ولد في كهف مظلم، وكانت والدته ( حردانة )، والقوم يتشاجرون بسبب حمارين في البرية، ومس كنيون تواصل التنقيب والبحث عن آثار تثبت أحقية من لا حق له في أرضنا وتاريخنا وذاكرتنا … فهل عاد بطل روايتنا ( الجهل ) إلينا اليوم ؟

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات