رواية “ظلام النهار” للكاتب جميل السلحوت جرأة العرض و جرأة الكلام بقلم:الدكتور أحمد رفيق عوض*

ر

 

 

 

 

 


يقوم الكاتب جميل السلحوت بعملية جريئة جداً في حسم الموقف والإنحياز التام لرؤيته الإجتماعية،دون رحمة أو مواربة أو مجاملة، ففي روايته هذه “ظلام النهار” يدين الخرافة والإتكالية والتواكلية والكسل والدجل والزيف وباقي مكونات النسق الإجتماعي الذي خلف الهزيمة والإنكسار والتبعية والفقر والمرض. في روايته هذه، يلتقط حكاية عادية، تتخلص في أن الفتى الفقير الأكتع، ولكنه الذكيّ، والذي يعمل مع العالمة الأثارية كينيون، يلفت نظر عالم انكليزي آخرلنشاطه وذكائه و قدرته على إنجاز العمل، فيقوم هذا العالم بالعمل على استقدام الفتى إلى لندن، حيث يركب له يداً صناعية، ويتيح له الفرصة كاملة لأن يرى الإنكليز عن قرب شديد، وعندما يعود هذا الفتى إلى قريته القريبة من القدس، يفاجأ بحجم الفجيعة التي يعيشها، حيث تجبر أخته التي لا تزال طفلة على الزواج من شاب يكبرها سناً وتجربة، مما يؤدي إلى أن تصاب بصدمة نفسية قوية، لا تنفع معها تعاويذ السحر أو دجل الدجالين. رغم عادية الحكاية وتكرارها إلا أن الكاتب استطاع أن يحولها إلى حكاية درامية تتميز بالحركة والتشويق، وأن ينثر بين سطورها كثيراً من لحظات التأزيم والحبكات القوية، و أن يبني من خلال واقع مبتذل حكاية تشد وتفتن، وقد استعان الكاتب على ذلك بكثير من قوة التصوير وتشكيل الشخصيات، التي نراها و نعرفها، إلى شخصيات حاضرة وقوية تكاد تتنفس على الورق. وتميز النص الروائي أيضاً، إضافة إلى ما سبق، بكثير من القدرة على التنويع والتعددية والتلوين والمقاربة والمقابلة، والحبك الرصين الواثق، على الرغم من أن الحكاية قريبة وعادية ومحلية إلى أبعد حدود المحلية، وربما كان ذلك من أقوى ما يمكن تسجيله لصالح الرواية، فَضْحُ النسيج الإجتماعي يحتاج إلى جرأة في العرض وجرأة في القول وجرأة في التناول، ولم يكن ينقص هذه الرواية ذلك كله، بل ظهر بأقصى ما يمكن له أن يظهر، إلى درجة الكاريكاتورية،اذ ظهرت المشعوذة الدجالة، وكذلك الشخصيات الأخرى التي تدعى الحفاظ على التقاليد كشخصيات تسخر من نفسها قبل أن يسخر منها القارئ. وضوح الرسالة في الرواية جعلها أيضاً أو ربما أجبرها أن تكون ذات سرد خارجي برّاني، يتحدث الكاتب بصوته العارف والمسيطر، الذي يطلق الأحكام ويصف ويحلل ويدين ويقيّم، ورغم ذلك، فقد ترك لشخصياته حرية الكلام وحرية التصرف، إلا أن هذا السرد البرّاني جعل من الحكاية تتقدم باضطراد نحو أزماتها ونهاياتها، الأمر الذي جعل من الرواية دراما مشوقة، إلى حدٍ كبير، ففيها ذلك التعدد الزماني والمكاني والنفسي ما يجعل منها بانوراما يصطرع فيها كل شيء مع كل شيء آخر. واستوقفني في هذا كله، ذلك التقابل الذي أراده الكاتب تقابلاً يدعو إلى التساؤل الكبير، أقصد التقابل بين عالم الإنكليز و عالمنا، بين ثقافة المستعمر وسلوكه، وبين ثقافة من يقع عليه الإستعمار وسلوكه، وفي الرواية، قد يقع القارئ في ورطة أن يعجب بالمستعمر القوي و ثقافته و سلوكه، فقد قدّمه الكاتب قوياً و مسيطراً دون عيوب أو ثقوب أو أخطاء، فيما قدم البيئة المحلية بأكثر صورها بشاعة وتخلفاً، واذا كان ذلك صحيحاً، وهو صحيح، فإن الكاتب- باعتباره كاتباً صاحب رؤية، وباعتبار الأدب نصاً تأويلياً- فقد كنت أرغب ان يقدم الانكليزي بعيوبه أيضاً، وهو ما لم يحصل لم يكن في الرواية، فالفتى الذي ذهب إلى لندن بريئاً وبدائياً فقد ذلك كله هناك، وما كان يعتقد أنه حرام وجده حلالاً في لندن، وما كان يعتقد أنه نهائي اكتشف أنه ليس كذلك في عاصمة الضباب. كان يمكن للرواية أن تقارن بين عالمين، فنعرف ما لهما وما عليهما، ولكن الرواية تجاهلت ذلك تماماً، وكان يمكن أن يكون هناك اطار زماني للرواية أكثر تحديداً ووضوحاً، و لكن الرواية تجاهلت ذلك أيضاً. يبدو أن كاتبنا كان مسكوناً بالرغبة في إجراء عملية جراحية داخلية أكثر من أي شيء آخر. أخيراً، كانت رواية “ظلام النهار” رواية راقية، بقدرتها على تصوير الواقع كما هو، لم تجمله و لم تزيّفه ولم تخترعه، كانت أمينة وواضحة وجريئة جرأة غير عادية، وهو ما لم ولا يستغرب عن شخص كاتبها، ألم يُقل سابقاً أن الأسلوب هو الرجل.
*روائي فلسطيني

 

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات