ديوان “نزف” لعزالدين السعد في ندوة اليوم السابع

د

القدس: 2 ديسمبر 2021-من ديمة جمعة السمان: ناقشت ندوة اليوم السابع الثّقافيّة الأسبوعيّة المقدسية ديوان “نزف” للشاعر عزالدين السّعد،وتقديم الرّوائي عبدالله دعيس، يقع الديوان الصادر عام 2021 في 160 صفحة من الحجم المتوسط، وصممت غلافه الكاتبة رهف عزالدين السعد.

افتتحت الأمسية مديرة الندوة ديمة جمعة السمان فقالت:

مجموعة من القصائد بعناوين مميزة، عكست عذابات المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال، الا أنه رغم الوجع الذي كانت تنطق به الكلمات التي كانت تخرج آهات تحكي قصة شعب طال به الترحال بعيدا عن وطنه، كان يختبىء خلف كل حرف في الديوان بسمة أمل بمستقبل مشرق بشمس الحرية مكلل بالغار.

قصائد موجعة ولكن شافية، أهداها الشاعر لحفيديه عز الدين وزين الدين يسار السعد، يطفو على سطحها الحنين إلى وطن مغتصب ينتظر الخلاص.

 تضمنت القصائد مشاعر تحمل ألم ضياع الوطن، ولكن لم يخف على القارىء نفَس الارادة والإصرار والتحدي الذي تحلى به الشاعر، وكلّه إيمان بأن النصر قريب، فهو يرى ان العودة إلى الديار أمر حتميّ لا نقاش فيه.

فلم يترك الشاعر اسم مكان إلا وذكره، وكأنه يقول للقارىء: لا تملّ منّي.. لا أريد أن أثقل عليك. أعلم انك تعرف هذه المناطق جميعها.. ولكنني أذكرها كي لا تنسى.

وكان للقدس وهبّة الأقصى نصيب، ولحرب غزّة وهبّة الفلسطينيين لنصرتها نصيب.

وكان للحكام العرب وتخاذلهم وتواطئهم نصيب، إلا أن رغم كل هذا، لا تنازل ولا ضعف ولا تخاذل، فالأرض تتمسك بأهلها تماما كما يتمسكون بها.

قصائد تميزت بصدق العاطفة، لسان حال كل عربي أبيّ يحلم بوطن حرّ.

وقالت د. روزاليوسف شعبان:

نزف قصائد ديوان ينزف ألمًا ووجعًا على شعب فقد وطنه، وأرضٍ تحضن شهداءها، وبلاد تتوق لأهلها الغائبين، ورغم النزف إلا أن الأمل ينبثق بين ثنايا الكلمات، فينير الدرب، ويبشّر بمسيح قادم وإن طال الانتظار.” يا أيها المسيح عجّل بالقدوم، يا مخلّص البشرية ننتظر القدوم”ص109.

يمكننا ايجاز مواضيع الديوان في أربعة محاور أساسيّة.

المحور الأوّل: الوطن والأرض: جاءت مواضيع غالبية قصائد الديوان لفلسطين، الوطن الجريح النازف  وقصائد حب لها، والتضحية من أجلها، والأمل بعودتها إلى أصحابها، وكان  للقدس حضور واضح في الديوان فهي تستوطن قلب الشاعر  وذاكرته، وتشحنه بالأمل:” وبالعين تبقى القدس نفديها بمهج الروح حتى المنتهى”.ص19. إلى جانب ذلك فقد انتقد الشاعر الجامعة العربية والحكام العرب وسياستهم  تجاه القضية الفلسطينية وتماهيهم مع السياسة الأمريكية.” غضبنا فلم تلق لنا أمريكا بالًا

لكن جامعة الدول حفظها الله

بالت وتغوّطت استنكارًا غاضبًا..”ص83.

المحور الثاني: الحب والمشاعر الإنسانيّة: فكتب الشاعر  عز الدين السعد في الحب،  الغزل، قصائد لأبنائه وأحفاده، حبه واحترامه لمعلميه، وأمانيه للسلام الحقيقي.:” هلّ السلام فعادوا، من منفى لعين… اقترب الوعد.. بضع سنين نبني لنا هذا البيت والأمل والغد الأمين”.ص94.:” نريده سلاما واضحًا يولد مع فجر حديد”.ص97.

المحور الثالث قصائد وجودية : فكتب عن جيل الخمسين وما بعده، وما يعتريه من مشاعر وأفكار في هذا العمر.”عمر كحلم قد تفانى فاستوى

حمل أعوامًا مضت منه فارتوى

مرّت به ثمانية وخمسون بما حوى…”.ص140.

المحور الرابع  الرثاء: حيث كتب عدّة قصائد في  رثاء أحبّته وأصدقائه.”: يا من ذهبتم لو تدرون ما فينا

نقول لكم وملء القلب لوعة تكبر

يجتاحنا الفراق والحزن أخضر

يسقيه دمع المحبين״.ص157.

ورغم أن عنوان الديوان “نزف قصائد”، يوحي بالألم الشديد، إلا أنه يبعث الأمل في النفوس، “فلا يموت حق له شعب يطالب”ص51، “صار الغد المرجو أقرب الآن”،ص53. ” رضعنا الصبر حتى ارتوينا فنما الصمود فينا أمل”ص76.

 كما نجد في بعض قصائد الشاعر تناصّا  جميلًا متداخلًا مع نصوصه مثل:” أضعنا الفتى وأي فتى أضعنا”ص82،” يا جفرا ندفن الرأس في الرملا” ص82، “بالأحمر كفنّاه بالأخضر كفناه…”

والتناص كما وصفه الزعبي :” أن يتضمن نص أدبي ما نصوصًا أو أفكارًا أخرى سابقة عليه عن طريق الاقتباس أو التضمين أو التلميح أو الإشارة أو ما شابه ذلك من المقروء الثقافي لدى الأديب، بحيث تندمج هذه النصوص والأفكار مع  النص الأصلي وتندغم فيه ليتشكّل نص جديد واحد متكامل”. الزعبي 2000أ  ص،11.

اخترت في قراءتي هذه، الكتابة بشكل خاص عن قصيدته: “هذا اسمها فاقرأ” صفحة 35، حيث وجدتها تختلف عن باقي القصائد من حيث اللغة الشاعرية التي تميّزها، في حين جاءت غالبية القصائد في الديوان بلغة بسيطة تقريرية.

تعجّ قصيدة ” هذا اسمها فاقرأ”   بالتعابير المجازية والاستعارات  والرموز .

فنجد القصيدة تصطبغ بالصور والتعابير والعواطف التي تعكس نفسية الشاعر الحالمة المتأملة التي تخاطب الشمس مركز النور والأمل فيقول لها:” يا شمس أفيقي آن لنا

أن نولد كل يوم

على أطراف المدى

عدّي لنا الأيام والساعات خمسين وما بعدها

في القلب موعد ميلادنا “ص36

من الرموز الجميلة في القصيدة: أجراس، محراب، شمس، زهر اللوز، الوضوء.

من هذه الرموز ما هو دينيّ مثل: ( المحراب ، الوضوء والأجراس) ورموز وجودية تأملية( الشمس وزهر اللوز)، وقد جاءت هذه الرموز لتشمل الدين والدنيا والأمل والوجود في حلم واحد وأمل واحد وهو  استعادة الوطن:”هي شئت أم أبيت لنا

وسنردها لنا فلسطيننا”.

اما الاستعارات فقد ظهرت بكثافة مثل: “يدّق الزمان أجراس المدى”، تصوير جميل للزمان الذي يقرع أجراس المدى الممتد أمام بصرنا إلى ما لا نهاية…

كذلك نرى الاستعارة التالية” يتفتح زهر اللوز بسمة تتوضأ بدمع الفتى، تحنو عليه، تلفه، تصلي الفجر في محراب عينيه” صورة جميلة جدا وشاعرية لتفتح زهر اللوز ولتلك البسمة الحانية المتلفعة بالايمان والصلاة، فتبعث الدفء والسكينة والأمل في نفس الفتى.

في هذه العبارة نجد أيضًا تلاعبًا جميلًا بالألفاظ،  تشبيه وتعبير مجازي وتأنيس( تتوضأ بدمع الفتى)،  وتشبيه العين بالمحراب المقدّس الذي يبعث الايمان والنور.

ثمّ يصف الشاعر هذا الفتى وقد كهل فجأةً” ما بين أمس مضى، وإشراقة صبح قد أتى، كهل الفتى… خمسينيٌّ وبين الضلوع لا يردد إلا اسمها…”ص35

في هذا الوصف الجميل يختصر الشاعر الزمان بين أمسٍ مضى وإشراقة صبح، ليمتزج العمر بالحلم والروح، فلا يردّد الفتى إلّا اسم بلاده. بتابع الشاعر هذا الوصف الجميل، الممتلئ بالتعابير المجازية والأوصاف الجميلة والاستعارة المكنيّة فيقول:” طفل يعاند زمانه هو الفتى، يشيخ عمر شمسه، ولا يفتأ يوقظ لحنها، يا شمس أفيقي قد آن لنا، أن نولد كلّ يوم على أطراف الدنى”ص36.

 فالأمل هو محور هذه القصيدة ونبض عروقها:” كم هدموا ونبنيها معًا، ونظل على عهد فلسطيننا، هذا اسمها فاقرأ باسمها!”.ص37. في هذه الجملة” فاقرأ باسمها”. تذكرنا بالآية القرآنية من سورة العلق” اقرأ باسم ربك الذي خلق”.

وربما هي إشارة من الشاعر إلى قدسية وطنه فلسطين، فيدعو القارئ أن يقرأ باسمها.

كما نجد الأمل في التعبير التالي” في القلب موعد ميلادنا، نعاند التاريخ لا الموعدَ وغدنا آتٍ ميعادنا”ص36.

وخلاصة القول إنّ قصيدة “هذا اسمها فاقرأ”، من أجمل قصائد هذا الديوان، وهي تخرج عن النزف المؤلم، لتستوطن الشمس فتستمدّ من أشعتها نورًا  يبعث الأمل يبشّر بفجرٍ جديد قادم.

وقالت هدى عثمان أبو غوش:

العنوان”نزْف”ملائم لمضمون الديوان،فالقصائد تنزف بشكل غاضب،لمساتها ثورية،لونها سياسي ووطني، وجهها حزين،تحث على الإصرار والصمود تحت سقف جسد الوطن، وتؤكد على تمسك الفلسطيني بذاكرة وطنه عبر كلّ الأجيال، تمطر وتبوح بالوجع، النكبة وخيانة الأُخوة العرب، فيها رثاء للشهداء ومديح للأطفال، ونقد لقتل النساء في المجتمع، وصرخة حق العودة، فيها حبّ الوطن؛ لذا فالحروف تصرخ وتعاتب وتهدأ في حضن الأرض، والقارىء لتلك القصائد يسترجع أرشيف الأحداث في قضية البوابات الإلكترونية، والعشق المحرم عند العرب وخيانتهم.ونشمّ في بعض القصائد رائحة ابتهالات وصوت العُمر والأيام وهواجس عاطفية. يهدي الشاعر ابنته الكاتبة الشابة رهف قصيدة باسم”هي ذي الأميرة صغيرتي”،كما كتب للأحفاد. احتوى الديوان على قصيدة بالعامية.

جاء أُسلوب الشاعر عزالدّين السعد متفاوتا ما بين الشكل الخطابي والشكل المباشر التقريري، الذي يخلو من الاستعارات أو التشبيه والخيال، وما بين بعض القصائد التي نجد الصور الفنية،عامة تجتمع العاطفة الصادقة عنده في كلّ القصائد.

فعلى سبيل المثال يقول في قصيدة “الماء مرّ والخبز مالح” قد يستبيح الظالم العالم العربي

لكن القدس عصية

يظن كل يوم احتلها

لكنها حرّة لم ينل منها شبرّا يصالح”.

وفي قصيدة “القدس عروس الأرض” تأتي الكلمات المستهلكة التي يرددها الصغير والكبير، فلم يستخدم الشاعر كلمات مغايرة تجعل القارئ يتأمل الصورة الفنية أو تحرك أحاسيسه.

بينما نجد في بعض القصائد رغم بساطة الكلمات نبض الإحساس التي تحرك مشاعر القارئ، كقصيدة”وحدنا” يا وحدنا أمام الطغاة شهيدنا تكلم

والجريح والكسيح والصحيح تقدم

منذ سبعين مضين وحدنا

وإلى سبعين تأتي؟ أوحدنا”.

وفي قصيدة “خذني إليه”تفيض المشاعر بمعاني الحب في الحنين إلى طبيعة الوطن حيث جبل الخليل والجرمق والزيتون والوديان، وفي هذه القصيدة يؤكد الشاعر من خلال بوحه على مدى ارتباطه بالوطن، وأن حبّ الوطن هو ككل لا يتجزأ.

كانت الأماكن والمدن والقرى المهجرة حاضرة في قصائده وخاصة مسقط رأسه قرية اللجون المهجرة عام 1948.

جاءت بعض العناوين طويلة وكأنها ومضات مثل”سينتصر أهل القدس هو الجواب” “كل عام نولد على وهج الأمل”، “لنا الغد ولليرموك والعرب” وغيرها،حبذا لو اختصر الشاعر من العنوان؛ لأنه حمله كلمات أكثر ممّا يجب.

وكتبت دولت الجنيدي:

بمشاعرالفلسطيني المحب لوطنه والمخلص له، المتلبس بأحداثه والمؤمن بحتمية النصر مهما طغت الأحداث، وجار الزمان وغدر من غدر، وخان من خان وتقاعس من تقاعس، وانسلخ عن القضية من انسلخ، يكتب الشاعر عز الدين السعد ديوانه نزف بأشعار جميلة تعبر عن مكنونات قلبه وقلب كل أنسان حر يؤمن بوطنه، ولا يقطع الأمل بحتمية النصر مهما طال الزمان.

فلسطين المحتلة الجرح الغائر الذي ما زال ينزف دما ولكن هذا الدم الطاهر سيكون الطاقة المشتعلة الحية التي ستقود حتما الى النصر باذن الله.

من يقرأ ديوانه هذا يعيش قضية فلسطين من بداياتها حتى الآن ويركز فيها على المكان الذي هو لنا وحقنا حيث كتب:

وعلى صهوة الزمان نضع سرج رحالنا

هنا باقون لأنا ملح هذه الأرض مكاننا

نحن لها مهما طال الترحال بنا

ماضون نحو نصر لنا

نبني أجيالنا هنا

فكل هذه الشوائب لن تعيقنا

فنحن الآن والغد لنا

كتب عن بلدته المهجرة اللجون وشوقه لها وحلمه بالعودة اليها.

كتب عن القدس والمسجد الأقصى وكل الأماكن التاريخية والهامة وتفاصيل أحداثها وعن حتمية النصر بإذن الله.

ذكر أمّ الفحم وأطفالها وصرخة الحرية فيها، وكتب عن جميع مدن فلسطين وقراها بالتفصيل وذكر أسماء الأماكن وأحداثها وعيشنا مع تاريخها.

كتب عن إلم الوحدة الذي يعانيه شعب فلسطين ويقول:

وحدنا لاعرب ولا أعراب

بل سراب

نحمل الروح على الأكفّ

وحدنا ونحمل على الرؤوس قدسنا

كتب عن الكوشان الذي يحوي الأسماء وكل الأمكنة التي هي لنا وبإسمنا. وعبر الحدود وكتب عن المدن العربية ومعاناتها من الحكام الفاسدين. ويشكو ويشحذ الهمم لأنه كما يقول:

الصمت ضعف والسبات لغز

ويشكو مجالس الأمم الذليلة التي نلجأ اليها فتمعن في إذلالنا فيكتب:

تؤجل الشمس الشروق نكاية فينا

إن لم نقم إليه نسعى

فنور الصبح لن يأتينا

ويكتب عن الصبر:

صابرون صامدون لأبد الآبدين

وكتب عن اللغة العربية:

فلنقم إليها إجلالا

ونجتهد في إتقانها

كتب عن السلام المزعوم الذي أعاق وعطل مسيرة تحررنا:

زرعنا زيتونة السلام

في أرض بأيدينا

ظنا بأنهم يريدون السلام

ظننا القادم حمائمهم

نعفت صقورهم أوراق شجرتنا

نسفت صرح حلمنا الباقي

طعنت بسمة أطفال

ولدوا لغد

نبنيه رغم الظالم القاسي

هكذا نرى ديوان نزف هو قصة فلسطين الحبيبة، مدنها، قراها وكل شبر فيها، أهلها معاناتهم ونكبتهم وهجرتهم وشعورهم بالوحدة ومعاناتهم من العرب والدول العربية وكل العالم. وأما العدو الذي هو سبب كل المشاكل فقد أغفل ذكره ربما لإيمانه بالنصر وحتمية إزالته إن شاء الله.

لم ينس أحباءه وأصدقاءه الذين اختطفهم الموت:

لروح الأحبة السلام

كتب عن آذار وعن المطر، ذكر ابنته رهف، هدى ديوانه الى حفيديه فالأطفال أمل المستقبل، وعبر عن أمله الكبير بهم وبمستقبلهم حيث كتب:

لكم الشمس لكم النصر والغد المكلل بالغار

هكذا نرى أننا عشنا مع ديوان نزف قصة فلسطيننا التي عشقناها ورواها أبطالنا بدمائهم ولا تزال في أعماقنا الى أن نموت.

كل ذلك جاء كقصة تاريخية عن فلسطين الأبية التي كانت أحيانا على حساب الشعر، الذي تأثر بكثرة الأسماء والتفاصيل وتطويع القافية على حساب النص.

ولا بد أن أنوه الى المقدمة الرائعة الموضوعية للروائي عبدالله دعيس .

وكتب عبدالله دعيس:

لا يكون النّزف بلا ألم. فالجرح غائر ونزف الكلمات أقسى من نزف الدّماء أحيانا. لكنّ تدفّق الدماء لا يعني الموت، بل قد يعني حياة جديدة أفضل وأجمل. أليست الحجامة تحيي الجسم وتخلّصه من أمراضه؟ أليس الشّهيد ينزف دمه مسكا طاهرا، لتكون حياة جديدة له وحياة كريمة لأمّته؟

عندما أمسك الشّاعر عزّ الدّين السّعد بقلمه، ونزف حبرا على أوراقه، كان قلبه ينزف بالمشاعر الجيّاشة، يتحرّك فيحرّك المتلقّي معه، فيشعر مدى الألم الذي اعتراه وهو يرى بلاده تضيع ليستوطنها أغراب محتلّون، وأحلام أمّته العربيّة تتضاءل مع مرور الزّمان، وآمال الوحدة والحريّة التي عاش العربي ينتظرها تتحوّل إلى كابوس مقيت رهيب. ويرى بأمّ عينيه هرولة الغثاء نحو العدوّ يستجدونه ويتذلّلون له.

يقاوم الشّاعر هذا الشّعور المرير الذي يعيشه كلّ أنسان عربيّ حرّ، فيرى فلسطين وقد تخلّصت من الاحتلال، ويرى الحياة وقد عادت إلى قراها ومدنها التي دُمّرت، وكأنّ هذا العدوّ الطارئ لم يدنّس ثراها يوما. فالشّاعر في كلّ نصّ من نصوصه يبدو مؤمنا إيمانا راسخا بحتميّة النّصر وبحتميّة العودة، مؤمن بأمّته ولا يرى في من خانوا وتخاذلوا إلا سقط متاع لا يمكن له أن يعيق موكب الأمّة الهادر، ولا أن يوقف حركة التّاريخ، التي ستأخذنا حتما إلى النّصر والتّحرير.

العودة إلى الديار. هذا ما يشغل بال الشاعر عز الدين السعد، وهذا ما يصبو إليه. عاطفة الحنين إلى الوطن هي الطاغية على ديوانه، وهي التي تحركه وتشغل جوارحه، فيتدفق الشعر على لسانه ومن قلمه عندما تغزو قلبه هذه العاطفة الجيّاشة.

تلخّص القصيدة الأولى في الدّيوان جلّ ما يعقبها من قصائد فيقول فيها:

وعلى صهوة الزّمان نضع سرج رحالنا

هنا باقون لأنّا ملح هذه الأرض، مكاننا

نحنّ لها مهما طال التّرحال بنا

ماضون نحو نصر لنا

نبني أجيالنا هنا

فكلّ هذه الشوائب لن تعيقنا

فنحن الآن والغد لنا

يصوّر الشاعر الإنسان الفلسطينيّ الذي هُجّر من أرضه، ومرّت عليه السنون والآيام حتّى ضعف جسده، لكنّ حبّ وطنه ما زال ينمو في قلبه، ويقينه بالعودة يزداد مع مرور الأيام، فحبّ هذه الأرض هو العطر المخبّأ في جسده فينزف أنفاسا عطرة تعطي القوّة للقلب المنهك.، وإن مات الجسد فسيبقى حبّ الوطن مدفونا في ثراها.

لن أقلق

في بطن ثراك الأدفأ

هو وعد بل عهد

دائم، أن أسدل عيني هناك

في حضنك أبدا لن أقلق

وكما يفتّت الماء الصّخر بطول إصراره وتعاقب الأزمان والفصول، فإنّ الفلسطيني بإصراره سيعود لأرضه.

ماء يفتّتُ الصّخر بإصرار

إرادة شعبنا انتصرت

نراها قريبة ولا يرونها

نحن الإرادة والإرادة انتصرت

ويرسم الشّاعر بكلماته خارطة مفصّلة للوطن فلسطين قبل أن يطأه المحتلّون، فيذكر أسماء الأماكن في فلسطين وفي القدس ويعاود ذكرها ويربطها مع بعضها البعض ومع الأزمنة المختلفة، حتّى ليخال القارئ خريطة فلسطين نابضة أمام عينيه، يرى فيها البلاد التي هُجّرت في أماكنها، ولا يرى أثرا للمحتلّ فيها. لكن المبالغة في ذكر الأماكن في بعض النّصوص حولها إلى لغة تقريرية مباشرة وأبعدها عن جمال القصيدة وموسيقاها وروح الشّعر فيها.

ويعتمد الشّاعر في رسمه صورة للوطن السّليب على ثلاثة عناصر:

أولا: الإنسان العربيّ الفلسطينيّ الذي تندمج صورته مع المكان بحيث لا تكاد تلحظ أيّ وجود للآخر فيها، وكأنّ الآخر غبار عارض لا يلبث أن يزول.

ثانيا: المكان، حيث يركّز الشاعر على ذكر الأسماء الحقيقية للأماكن ويصفها كما كانت وكما يرجو أن تكون، بعيدا عن هيمنة المحتلّ وتغييره لملامح الأرض وتشويهها.

ثالثا: الزمان، حيث يذكر ساعات الليل والنّهار والفصول والشّهور ويربطها باتجاهات الأمكنة ومواقعها، فيرسم صورة زمانيّة مكانيّة رائعة.

ويخلّد الشّاعر في بعض قصائده أحداثا مهمّة مرّت على الشّعب الفلسطينيّ. فيتحدّث عن مرارة النّكبة دون أن يفقد الأمل بالعودة:

الماء منذ النّكبة مرّ

والخبز مالح

والعرق صديد منذها

يتجدّد كل يوم

وليس للقلب نبض يصالح

ويذكر يوم الأرض في نصوص متعدّدة، ويحكي قصّة حصار المسجد الأقصى ووضع البوابات الإلكترونيّة وهبّة أهل القدس التي أفشلت الحصار. ويخلّد هبّة أهل اللد وأمّ الفحم وباقي البلاد لنصرة غزّة في رمضان 1442 ويتغنّى بشهدائهم، ويذكر فظائع جرائم قتل الفتيات بدعوى شرف العائلة.

ولا ينسى الشّاعر الأمّ والزّوجة والمعلّم، فهم من يحافظون على شعلة حبّ الوطن والتّمسّك بحقّ العودة لدى الأجيال المتعاقبة.

ويقوم الديوان بكامله على أربع ركائز:

أولا: حبّ الوطن والاعتزاز به وهو ما تدور حوله معظم القصائد، إن لم تكن كلّها. وتتجلّى فيها العاطفة الصادقة الجيّاشة.

ثانيا: الثّقة بالنّصر والعودة. فلا تلمح يأسا ولا تراجعا ولا اهتزازا لهذه الثقة في أيّ من النّصوص. بل يشعر القارئ وكأنّ عودة فلسطين والعودة إليها قدرا حتميّا وظاهرة من ظواهر الكون التي لا يمكن أن تتخلّف مهما طال الزّمن.

ثالثا: عدم ذكر الآخر وكأنّه غير موجود. رغم أن الشاعر يتحدث عن النكبة وكل القضايا الكبرى التي مرّت على الشّعب الفلسطيني، لا تكاد تلمح في قصائده ذكرا للآخر ولا وصفا له، وكأنّه شيء طارئ عارض. وهذا مما يثير الإعجاب بهذه النّصوص.

رابعا: فهم الواقع البائس الذي تعيشه الأمّة العربيّة، وخذلان حكّامها وتواطؤ بعضهم مع العدو، دون أن يكون لهذا الفهم تأثير يذكر على شعلة الأمل والثقة بالنّصر والعودة، وكأنّ هذا الخذلان ما هو إلا سنّة أخرى من سنن الطبيعة، لا يمكن أن يوقف مسيرة الحقّ.

والأرض، في قصائد الشّاعر عزّ الدين السعد، كائن حيّ يعرف أصحابه ويشهد بأسمائهم، ولا يرضى بالآخرين، ولا يعترف بوجودهم.

الأرض تعرفنا

تنشد بلغتنا الأشعار

تنشد باسم الزعتر

باسم اللوز والصبر والرّمان

قسم الله بالتّين والزّيتون

قسم تتلوه الأرض

ويستغلّ الشّاعر بعض المشاهد البسيطة التي قد لا نعبأ لها ليرسم صورة جميلة لفلسطين وتضحياتها، ويفارق بينها وبين الساقطين في وحل الخنوع والخيانة.

بائعة العكّوب بباب المدينة

تُبتلى…

 حملت ياقوتها أميالا

ما بين الملّ وعين القلب

يخزّها الشوك … بباب القدس

ولا تئن ولا ترى ..

حملت من قبل في أحشائها

بطلا تمرّد، ملء الكون صاح

وتظهر لدى الشّاعر أحيانا، خصوصا في النّصوص الأخيرة، عاطفة الغضب من حالّ الأمّة وضعفها وخنوعها وعبوديتها وتواطؤ حكّامها، لكنّ هذا لا يؤثر على الثّقة بالنّصر والأمل بالعودة التي تطغى على جميع قصائده.

وتمتاز قصائد الشّاعر عزّ الدين السّعد بالعفويّة وصدق العاطفة، فهو يبثّ ما يجول في خاطره ببساطة شديدة، فتخرج قصائده لتعبّر عمّا يجول في خاطر كلّ عربيّ ومسلم وكلّ من يتوق إلى الحريّة والانعتاق.

يعمد الشاعر أحيانا في بعض قصائده إلى الوصف المباشر بأسلوب تقريري، ويميل نحو الأسلوب الخطابي، ويبتعد عن التصوير الفني والخيال؛ فالمواقف العاطفية تؤثر في القارئ بصورتها المباشرة دون حاجة إلى الصور والخيال، فينجح في ذلك في بعض قصائده، خاصة تلك التي تصف الوطن المفقود وتمجد حق العودة، فلا خيال ولا تصوير سيشي بهذه العواطف أكثر من الحقيقة التي فاقت الخيال، فليس هناك حاجة لخلق مشاعر غير موجودة، فالمشاعر طاغية على الشاعر والمتلقي. بينما تزخر قصائد أخرى بالصّور الشعريّة الجميلة والموسيقى الدّاخلية التي تدغدغ النّفس وترتفع بها وتحفّزها.

لكن هذه النزعة التقريرية، تضفي على بعض القصائد نوعا من الوضوح المخل بأصول الشعر وخصائصه الفنية، فتتحول بعض القصائد إلى ما يشبه الخطبة أو الموعظة.

فالشاعر، عز الدين السعد، له قدرة رائعة على التأثير بلغة بسيطة سهلة دون تعقيد أو إرهاق للقارئ. فهو يبدع عندما يشدّه حنين العودة إلى الوطن السليب، ويقدم لنا مشاعره ببساطة وسهولة فنهتز معها ولها.

وقال الدكتور عزالدين أبو ميزر:

لدى قراءتي كتاب نزف لفت انتباهي المضمون أكثر من الشكل، والصدق في العاطفة والقيم الوطنية الجياشة التي احتوتها أغلب النصوص، وفي تسجيل الأحداث التى مر بها شعبنا الفلسطيني ووطننا المحتل، بعفوية واندفاع وطني ظاهر للعيان ولا يخفى على أي ذي بصيرة وبصر.

     وكم جلب انتباهي كثرة العناوين والأحداث في الكتاب، وإن كان المضمون الحقيقي أكثر بكثير مما كُتب؛ لأن الأحداث في فلسطين أحداث يومية ولا تقف أبدا، وما يقوم به المحتل الغاصب ضد شعبنا ووطننا لا تكاد تقف ساعة من نهار أو ليل. وقد أغنانا كاتبنا بالكثير منها، فتحس أحيانا وأنت تقرأ مقطوعاته أنك تقرأ كتاب تاريخ وكتاب جغرافيا وكتاب أسماء للمدن والقرى والمعالم والأشخاص.

     ولا يكون في أغلب الأحيان شيء إلا على حساب شيء آخر، والكمال لله وحده عز وجل.

      نحن نعلم أن الشعر أحد فنون الكتابة وهو ديوان العرب، ونعلم أن احمد الفراهيدي قعد قواعده، ووضع البحور الشعرية الخمسة عشر بحرا وتفعيلاتها، وزاد عليها تلميذه الأخفش البحر السادس عشر.

       في عصرنا الحديث بدأت الحداثة بالتفلت من القافية فخرجت إلى الوجود قصائد التفعيلة التي بقيت ملتزمة بالبحر والتفعيلة مع الانفلات من القافية، وبقيت الموسيقى والجرس.

      ثم انتقلوا بنا الى الشعر الحر وقصيدة النثر بعد الانفلات تماما حتى من التفعيلة.

      في لغتنا العربية الجميلة كل كلمة لها وزنها وموسيقاها ووقع جرسها في قلب وسمع القارىء والمتلقي، واختيار الكلمات والقدرة على توليفها هي موهبة من الله تعالى تنصقل بالحفظ وكثرة القراءة.

      إن قصائد كاتبنا الجميل وسمِيّي هي من قصائد النثر فهي بعيدة كل البعد عن الوزن والقافية والتفعيلة وهي من القصائد النثرية.

      وكعادتي في المناقشة أميل الى الإجمال العام، وليس التخصيص والتفصيل، فلا يمكنني أخذ كل مقطوعة أو عنوان كل على حدة.

      وقد ختمت قراءتي بقراءة مقدمة كتاب نزف لصديقنا وصديق ندوتنا الروائي الرائع  الاستاذ عبد الله دعيس فوجدته مستوفيا كل جماليات الكتاب غير ناس وضع النقاط على الحروف في قوله : ( ان المبالغة في ذكر الأماكن في النصوص يحولها الى لغة تقريرية مباشرة ويبعدها عن جمال القصيدة وموسيقاها وروح الشعر فيها ).

وأنا أعلق أن هناك فرقا كبيرا بين اللغة المباشرة كلغة غالبية شعراء العربية من المتنبي الى أحمد شوقى والجواهري  ونزار قباني، واللغة التقريرية.

وقالت نزهة أبو غوش:

حمل الشّاعر عزّ الدّين السّعد، عصارة فكره وتجاربه الحياتيّة؛ ومخزون ثقافته وحضارته، ووعيه لماضيه وماضي أجداده؛ ليصبّها جميعا في قالب شعريّ، يحتوي على 77 قصيدة، في ديوان يتألّف من 160 صفحة من الحجم المتوسّط.

أودّ أن أحلّل القصائد في هذا الدّيوان بشكل عام؛ لأنّ التّفرّد بكلّ قصيدة يتطلّب الكثير من الدّراسة والتّعمّق كي أعطي الدّيوان حقّه.

اعتمد الشّاعر في معظم القصائد خلق التّوتّر، وإعطاء الشّعور بجريان القصيدة، حيث يمتدّ التّدفقّ الشّعوري حتّى نهاية القصيدة: في ص 73″ تصحو صباحاتكم الثّكلى/ على هدم وتشريد/على حزن نما فينا/ على ردّة وحسرة فينا/ على جزر موج منافينا/ يقطعنا العدوّ وفي ظهرنا/ يغرس كلّ أخ سكّينا…”

حمل الشّاعر في قصائده همّ وطن عربيّ بأسره، كانت كلماته وموسيقاه الشّعريّة تعبّر عن الغضب، والألم، والحزن في آن واحد

قال في ص101″ يا من خنتم عهد الأمين محمدا ماذا لربّ محمد ستقولون يوم الملتقى…/ نسفتم اليمن السّعيد ومن قبله الشّام/والمسجد الأقصى منذ خمسين/ تدوسه الآلام”

لقد ظهرت في قصائد الشّاعر الكثير من الكلمات والجمل المكرّرة، ممّا أضاف للقصائد إثراء إيقاعيّا، داخليّا وخارجيّا.

هويّة الشّاعر السّعد بدت واضحة في جميع قصائده، فهي الانتماء لعروبته ووطنه. الوطن والأرض والطّبيعة والانسان. قال في ص55 “فالكوشان لغة لا يفهمها الجلّاد/ والحقّ موسوم بكوشان الحقيقة/ فأنا وأرضي واللغة وشدو البلابل/ وهدير البحر نحن كوشان الحقيقة” والانتماء الخاص لبلده اللجون ” ” سيلعب الأطفال في واد السّت/ في عين الحجّة في اللجون/ أنا هنا على انتظار في الخمسين”ص135.

برزت نظرة التّفاؤل في بعض قصائد الشّاعر، ممّا أضاف ولو نسيجا من خيوط الأمل للقارئ المتلقّي للنّص.

قال في ص70 ” هنا أبني بيتي/ وبيوتا للزّمن الورديّ/ سمّها ما شئت/ لكنّي أبني هنا بيتي”

لحن الحزن بدا في معظم القصائد، حيث راح هذا اللحن يتنقّل إِلى قلب القارئ وعقله، ويصنع فيه حزنا يشبه لوعة الحنين لكلّ الأشياء المفقودة من أعمارنا.

قال في ص119 “هي دمعة المحزون/ في غلس الدّجى/ يستحضر المحبوب من قاع النّوى/ لا تألمي فكم من دمعة/ جلت القلوب من الجفا/ يا دمعة سرت بليل تائه/ ضمّيني من برد الليالي والنّوى من خلال قراءتنا للدّيوان نشعر بأنّ الشّاعر قد تفاعل مع حقائق الحياة، وعبّر في قصائده عن رؤاه الذّاتيّة المتعلّقة في نفسيّته، وتقرّبه إِلى الخالق عزّ وجلّ؛ مما أضاف نوعا من النّفحات الإيمانيّة: قال في ص 138 ” سبعا من بعد خمسين/ وقفت ببابك وقد فاض الحنين/ يمضي بنا العمر وإِن طال ضنين/ ففي ترحال كلّ يوم أنين…/ وقفت ببابك أبكيني السّنين/ ارحمني ربّي أنت الرّحمن الرّحيم”

لقد استخدم الشّاعر السّعد في بعض قصائده الأسلوب الخطابي، الّذي أضاف للقصيدة صدقا في المشاعر. في ص158 لم يغفل الشّاعر محبّيه الّذين غادروه، فيبثّهم أشواقه، وحزنه على فراقهم: ” يا من ذهبتم لو تدرون ما فينا/ من الشّوق لكم والغربة الّتي فينا/ ذهب المودّعون كلّ لحاله، وبقي الحنين إِليكم فينا”

نصر الشّاعر المرأة، ونقد أسلوب العنف ضدّها وظاهرة قتل النّساء في المجتمع: ” ونحن من نربّي الذّئب ونمنحه القتيلة/ فلتخرس الألسن، حان وقت انتصار كلّ قتيلة/ ولنخلع القناع والصّمت والحجج الهزيلة/ هو القصاص بالإِعدام نصرا للقتيلة.”

استخدم الشّاعر الأسلوب السّرديّ في بعض القصائد، الّتي ظهر بها أحيانا بعض التشتّت. أرى بأنّ التّداخل النّص الشّعري والنّثري في القصيدة، يقرّب النّص الشّعري للتّعامل مع الواقع بشكل أكثر سهولة، شرط أن تظهر به البنية الموسيقيّة ذات الايقاعات المختلفة.

بدت لغة القصائد سلسة ومباشرة لا تظهر بها الرّموز، أو الغموض اللغوي ولا التّاريخي، ولا الشّعبي، حيث تضمّنت القصائد أسماء تاريخيّة، واقتباسات دينيّة، وشخصيّات معروفة في المجتمع.

العاطفة في قصائد الشّاعر كانت متدفّقة تحاكي واقعه الآني المرتبط بالماضي والحاضر؛ لذلك خلقت حركة أضافت للقصائد بعدا دراميّا.

العاطفة المبالغة أثقلت النّصوص الشّعريّة؛ فأرهقتها، فهي تبثّ للقارئ شيئا من التّشاؤم وأنّ كلّ الحياة ألم وحزن وانقطاع وفقدان، وتهجير؛ علما بأن هناك بعض القصائد التي تعبّر عن الحبّ، والشّوق، والأمل والتّفاؤل بحياة أفضل؛ لذا أرى بأنّ النّص الشّعريّ وقع ضحيّة للعنوان ” نزف” وأنّ الشّاعر السّعد قد استنزف ديوانه بإضافة الحبوب المميّعة.

وقالت رفيقة عثمان:

  قصائد الشّاعر عزالدّين السّعد، تبوح بالعاطفة الجيّاشة والصّادقة الحزينة، والتي تنزف ألمًا نفسيًّا عميقًا؛ حزنًا على الفراق، فراق الأحبّة، واستشهاد بعضهم، يتدلّى الألم منذ النكبة ولغاية عصرنا هذا من الاحتلال بأشكاله، والاستيطان، والتهجير، واللّوم على التخاذل وتواطؤ الحكام في الدّول العربيّة، ومناصرة العدو، دون اكتراث للقضيّة الفلسطينيّة.

    لا بدّ من وقفة بسيطة على اختيار الشّاعر لعنوان “النزف” الذي يعبّر عن القصائد والنّصوص النازفة بكلمات وقعها زاجر مؤثّر جدًّا على آذان وقلوب القرّاء؛ وممّا يزيد من وقع النّزف على النّفس، صورة الغلاف باللّون الأحمر، وكلمة نزف الحمراء أي العنوان تنزف دمًا، كما نزفت كلمات الشّاعر بحرارة.

  يحمل شاعرنا هموم الوطن والأرض، والحنين للأماكن الغالية على قلبه؛ لكن أمله بالعوة لم يفارق قلبه وعقله، كما ورد صفحة 98 بقصيدة “سلام بلا منّة” ” حق العودة  وبناء الدّولة .. وكرامة المنبت .. وميلاد جيل الثّورة… ليزيل عن فلسطين العتمة .. وينير دروب العودة .. يرفع مجدنا راية.. خفّاقة فوق قدسنا”.

  احتل المكان حيّزًا شاسعّا من قصائد شاعرنا، اشتملت على الأماكن القريبة من قلبه، مثل: القدس كما ورد صفحة 25 بقصيدة “قدسنا” القدس والشيخ جرّاح وسلطان صلاح الدّين وباب دمشق، سوق العطّارين، باب دمشق، باب حطّة، باب القطّانين، سلوان، المكبّر، جبل الزّيتون، والقطمون.

  تربّعت القدس على ديوان الشّاعر، حيث نظم أبياتها الشّعريّة، من صميم قلبه، كما  تربّع حبّها في قلبه. كما ورد صفحة 95، قصيدة “سلام يجرحنا” ” تزداد ثورتنا فالقدس مهجتنا… القدس، لم ينسّ الشّاعر أسماء الأماكن للقرى المُهجّرة والمُدمّرة، كما ورد في قصيدة “الذّكرى سلسال” صفحة 27. مثل: البِروة، اللجون، اللّد، معلول، بلد الشّيخ، القسطل، لفتا، الشّجرة وقاقون، وإقرت وبرعم، والرّوحة، وعمواس، والرّملة، ويافا، وحيفا، والدّامون.هذه الأسماء مقتبسة من قصيدتين فقط، لا شك بأنّ الأماكن شغلت خيّزًا كبيرًا في نفس الشّاعر، ممّا يدل على نزفه للأماكن؛ لفقدانها واختراق حرمتها من قِبل المُحتل. أدلى كاتب مُقدّمة الدّيوان الرّوائي عبدالله دعيس، بمداخلته حول ذكر الأماكن بالدّيوان بأنّ “المبالغة في ذكر الأماكن في بعض النّصوص، حوّلها إلى لغة تقريريّة مباشرة، وأبعدها عن جمال القصيدة وموسيقاها وروح الشّعر”، ستظل هذه المداخلة تخص رأي مُقدّم الديوان، ووجهة نظره الخاصّة.

  تمثّلت لغة الشاعر، باللّغة الفصحى القويّة، وظهرت القصائد في الدّيوان مزيجًا ما بين اللّغة الشّعريّة واللّغة السرديّة، كما ورد في قصيدة “غضب فردي” صفحة 81 نصوصها سرديّة وليست موزونة.

  استخدم الشّاعر الإيقاع الموسيقي في نهاية كل عجز (أي الشطر الثّاني) من كل بيت شعر، كما ورد صفحة 84: ” الجواب – اقتراب – أسراب – الصّواب – لا نهاب – إياب).

  ظهر التكرار في بعض القصائد، كما ورد صفحة 30 بقصيدة “سينتصر أهل القدس هو الجواب”: ” سندخل الأقصى الحبيب هو الجواب “. في قصيدة زفّة شهيد، صفحة 34. ظهر التكرار ” وصار زماننا النّصر… صار زماننا النّصر ” . هذه المقولة تكرّرت مرّتين؛ هذا التّكرار دلالة على التأكيد، والإصرار في تنفيذ القرار.

  ورد التّلاعب اللّغوي في بعض المفردات واشتقاقاتها، كما ظهر في قصيدة “نشتاقك ملء الكون” : صفحة 155.

 تراقص  الرّوح والرّيح والرّاح

وتكاتب البحر والحبر والرّبح

تكسر النير بنار تنير حريّ الحرف

  يبدو بأنّ  شاعرنا السّعد متأثّر بقصائد محمود درويش، لِما يبدو عليه بعض التّناص بما يُدعى بالتّداخل النّصي؛ “هذا النّوع من التّناص يكون عندما تحدث حالة من الممازجة بين النصوص الأدبيّة مما يخلق حالة من الصّلة بين النّصين المتمازجين” (سالم محمد، 2019، مجلّة سطور). أطرح نموذجًين للتّناص التّداخلي، كما ورد في قصيدة “غضب فردي” صفحة 84 “سجّل برأس الصّفحة الأولى .. واغضب حين مكرمة”، استخدم شاعرنا التّناص للشطر الأول لقصيدة درويش ” سجّل برأس الصّفحة الأولى .. أنا لا أكره النّاس ولا أسطو على أحد، ولكنّي إذا ما جعت آكل لحم مغتصبي”. بينما التّناص الثّاني

ورد صفحة 155 بقصيدة  نشتاقك ملء الكون، ” تتوعّد وعلى أثر الفراشة تسبقه”، كما ورد في قصيدة درويش “أثر الفراشة لايُرى… أثر الفراشة لا يزول”. لم يخلُ الدّيوان من التّناص الديني، كما ورد صفحة 103 بقصيدة “رقص عصفورة”. لم يتوقّف شاعرنا بتأثره بدرويش فحسب؛ بل رثاه قائلًا ” وأنت الدّرويش فارس القصيدة”. من قصيدة نشتاقك ملء الكون، صفحة 155.

  “يُردّد ملء السّماء… الله الله الله … تنادين وغير الله”، كذلك صفحة 159 ” يا أيّها المسيح عجّل بالقدوم” .. قد بشّرتنا بنبي الرّخمة أحمد…عليه الصّلاة والسّلام… وأحمد بشّرنا بك للخلاص بالقدوم .. يا ابن البتول خير أم عليك السّلام .. وعلى من حملتك السّلام”؛ بالإضافة لقصيدة وقفت ببابك، صفجحة 138، قصيدة مكسوّة بالنفحات الدينيّة والتّناص الدّيني.

  احتلّت قصائد الرّثاء للشهداء، كما ورد صفحة 153 في قصيدة لم يحن بعد وقت الرّحيل؛ لروح الشّهيد عبد الحكيم محمد مفيد ” عبد الحكيم وقد منحت الحكمة … وكنت المنارة ونورك كامل… موجع مبكٍ، مذهل… كان اختطافك”. كذلك أفرد الكاتب قصيدة رثاء عن روح الشّهيد محمّد كيوان، كما ظهر في قصيدة “زفّة شهيد” صفحة 33 .

   في نهاية هذه القراءة، برأيي؛ لا أجد ضرورة لتقديم الدّيوان، كما قدّم الرّوائي عبدالله دعيس مشكورًا؛ لأنها تحتوي على تفاصيل، وشرح للقصائد ومضامينها، لا تدع للقرّاء مجالًا للتفكير والتحليل الذّاتي، أو ربّما من الأفضل اقتصار التقديم على بعض النقاط الهامّة.

وكتبت خولة الإمام:

ما بين السطور التي تنوء بحمل آلام الوطن  وحضور روح الشاعر النازفة حرقة ولوعة لتنطلق مشاعره الوطنية معبرة عن نزف جماعي .

يدخل الشاعر في حالة بوح معبرا عن آلامه ومشاعره موظفا الصور الشعرية؛ لتجسد آلام وطن لا زال ينزف منذ سنين من نزف اللجوء والشتات والنكبة، مما انعكس على نفس الشاعر مطلقا لمشاعره العنان في التعبير عن الوجع الذي يعيش في دواخله ودواخل أمة بأكملها.

كل نص متواصل الأحداث في نسيج متكامل .

وكل عنوان يدل على مضمون القصيدة ومجملا للمحتوى ( وحدة القصيدة)  .

وفي كل نهاية تشرق روح الإباء لتلقي بظلالها على نبض الكلمات.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات