القدس: 24-5-2012 ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس رواية(دروز بلغراد…حكاية حنا يعقوب) لربيع جابر، والتي صدرت عام 2011 عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء، ودار الآداب في بيروت.وتقع في 240 صفحة من الحجم المتوسط.
قال رفعت زيتون:
كأنّي أمام فيلم إنجليزيّ قديم بالأبيض والأسود عن أحداث مرّت قبل قرنين من الزّمان عن السّجون والسّجناء والأقبية، والدّخان والضّباب يعمُّ الأرجاء.
لقدْ وصلت رائحة الدّمِ والعرق إلى أنفي في أكثر من مشهد عبر السّطور، وأحسستُ بخدرٍ في أنحاء جسدي كلّما ترنّحت أمامي صورة حنا يعقوب الهزيلة الضّعيفة وكلّما ذُكرتِ السّلاسلُ شعرت نفسي مقيّدًا بها إلى جانبه.
حنا يعقوب هذا المسيحيّ الذي أصبح فجأةً درزيًّا رغم أنفه في طريق مأساته إلى سجن الهرسك، والذي أصبح مسلمًا رغم أنفه أيضًا ولكن دونرفض منه لأنّها الطّريقة الوحيدة المتاحة للعودة.
الرّواية تحدّثت عن هذا الصّراع القديم الحديث الذي يجعل لبنان دائمًا يبدو وكأنّه على فوهة بركان ينام ويصحو كلّما غذّى نارَه حطبُ العصبيّة، أو أوقد فتيل جنونه وقود الأيدِ الغريبة.
غريب أمر هؤلاء الدّروز والمسيحيين والمسلمين، كيف لم يسعهم لبنانهم ببساتينه وأرزه ومياهه العذبة فقتلوا بعضهم بعضًا، بينما وسعهم قبوٌ حقيرٌفي الهرسك أو صوفيا أو البلغار.
ولا أدري كيف تترابط الأمور في رأسي كما ربطت تلك السّلاسل سجناءها، فأجدني أرى ذلك فينا نحن الفلسطينيين، عندما لا تسعنا جبال الضّفة الغربيّة ولا سواحل غزّة بينما نصبح إخوة في زنزانة حقيرة أو خيمة اعتصام، وما كان قبل أيام ليس عنا ببعيد عندما كسرت عصا وحدتنا عصا الجلاد، فعلا غريب أمرهم وأمرنا.
وعودة إلى دروز بلغراد، فقد قرأت هنا رواية غريبة وجميلة في آن، هي رواية الصّدفة والنّحس اللذيْنِ إذا اجتمعا على ثور لم يمهلاه ليرى نفسه معلقًا تسلخُ جلده السّكاكين.
وهذا ما كان من أمر الشّيخ حنا كما اعتاد أخوته الدّروز أن ينادوه لاحقًا،فقد وجد نفسه فجأة فوق سفينة وقد تغيير اسمه وثوبه وحتّى ديانته في أحداث متلاحقة، كانت أشبه بصفعات سريعة على خدّه الأيمن لم تمهله لأنْ يدير لها خدَّه الأيسرْ.
هذه الرّواية جعلتني أقف أمام فكرة الصّدفة بمزيد من التّأمّل والتّفكّر، ربّما آخذًا منها العبر لوضع الخطط والبدائل لما يمكن أن يكون، فمن منّا يملك من الأقدار شيئًا؟ وماذا لو ألقتنا الصّدفة فجأة وراء الغيم مثلما حدث لحنا يعقوب المسكين، تاركين وراءنا هيلانة وبربارة في غابات البشر تنهش لحمهما الطّريّ وحوشُها؟
الصّورة كانت قاتمة في رأسي للحظة، ولكنها ليست كقتام تلك التّجربة التي خاضها مرغمًا بطلُ الرّواية، والتي أغرقها الكاتب بتفاصيل جعلتني كلّما قرأت جديدها نسيت قديمها، وهذا مما آخذه على الكاتب رغم أنّه استطاع أن يركب جيدًا عنصر التّشويق، فأبحر بنا إلى نهاية الرّواية متجاوزين لغته التي اعتراها بعض الوهن، ومغمضين أعيننا عن كثير من المفردات والألفاظ التي أقحمها الكاتب في العربية دونما أن يفسّر معناها أو دلالاتها وهذا مأخذ آخر على الكاتب، ولو أنّه اختصر بعضًا منها لكان ذلك أجمل ولزاد في تشويقها.
وعلى عكس ما توقّعت فقد جاءت النّهاية أمام بيته في أقلّ من صفحة ليقف أمام بيته ولتسأله زوجته هيلانة ببرود شديد كذلك الجليد الذي اكتسى جبال البلقان (حنا؟ هذا أنت يا حنا؟) !!
لقد اصطحبنا الكاتب طوال طريق الرّواية الملتهبة في أزقّة ضيّقة غطتها جمرات الغربة والسّجن والقهر ليصل بنا إلى هذه النّهاية الباردة في مشاعرها.
لقد توقّعت الكثير عندما وصلت إلى النّهاية، توقّعت سيناريو أقوى، ولحظات تردّد، وخوفًا، وذكرى، وتزاحمًا في الأفكار، وشريطًا لا أظنّه ينساه في تلك اللحظة وأسئلة تدّوي في خلده عن زوجتهوابنته، وانهيارًا كتلك الانهيارات الكثيرة التي حدثت له في رحلته،
لكنّ ذلك لم يحصل، ولعلّ جمال القصّة جعلني أطلب وأتوقع المزيد. لقد جعلنا الكاتب نعيش الحدث لحظة بلحظة ونقلنا من حدث لآخر بشوق، وهذا يحسب له، وجعلنا نتعاطف مع البطل إلى درجة نتغاضى فيها عن بعض الأمور الغريبة ربّما لنسرّع في عودة البطل إلى بيته، ومن هذه الأمور: أين ذهبت السّلاسل الحديديّة التي كانت ليلة هروبه والتي منعته حتّى من الوصول إلى طعامه؟ وكيف رآه أحدهم ميْتًا في إحدى الحفر وذكره بالاسم في صفحة ثم فجأة نجده في اليوم التّالي هائمًا على وجهه في الجبال؟
وأقول أخيرًا إنّ الرّواية مؤثرة جدًا وإنّها من أنجح الرّوايات التي قرأتها في الآونة الأخيرة خصوصًا أنها جعلتني أشعر أنّي أشاهد الأحداث أكثر من أنّي أقرأها.
لقد قال العرب قديمًا الكثير من الأمثال للمبالغة في وصول صاحبها إلى صفة لم يصلها قبله أحد، كالمثل القائل (أشأم من طويس)، ولو أستطيع أن أضيف إلى الأمثال مثلًا
آخر لقلت (أنحسُ من حنا ابن يعقوب).
وقال طراق السيد:
سامحنا يا حنا
حملت هذه العبارة في طياتها الكثير من صفحات الرواية، إذا كان من الضروريّ لحنّا أن يسامح (الدروز) فإنه يجب عليه أيضا أن يسامح حظّه العاثر، الذي أوقعه في بئر من الظلم.
لقد بنى (ربيع جابر) رائعة درامية بحبكة سينمائية من خلال روايته (دروز بلغراد) ومن خلال عنوان بسيط استطاع أن يجعل القارئ يلتهم صفحاته بشغف وسرور، وأن يسير مع الدانوب وأن يملأ رئتيه من الهواء الثلجي …
بدا بالرواية بأسلوب (الفلاش باك) أي البداية من النهاية، وهو أسلوب يبعث على عنصر التشويق، فيحملنا مع (حنا يعقوب) بائع البيض المسالم زوج هيلانة ابنة قسطنطين، وليست هيلانة أمّ قسطنطين، يبيع البيض بينما الحرب الأهلية بين الدروز والمسيحيين تطحن مقاتليها. لم يشارك في هذه الحرب ليختاره قدره في المشاركة بحروب لا ناقة له فيها ولا جمل …..
……تحدث (ربيع جابر) عن حلقة من زمن مفقود، فبالرغم من طول فترة الحكم العثماني إلّا أن الأعمال الأدبية التي تتحدث عن هذه الفترة تكاد تكون شحيحة، والحديث في معظم الأحيان في أيّ عمل أدبي في الفترة العثمانية، كان يتحدث عن الصراع العثماني العربي، ولكن رواية (دروز بلغراد) وضعتنا في محيط الصراع العثماني مع مناطق في أوربا الشرقية، والعرب كانوا الأوراق الرابحة التي كان يزجّ بها في بلاد الثلج، للمشاركة في صراعات سياسية كان يحصد نتاجها العثمانيون وحدهم.
تركزت الرواية على المأساة مع مزج الواقع والابتعاد عن الرمزية والغموض، إلّا في بعض المواقع التي ارتكزت على التشويق مثل عودة حنا في النهاية، وهو لا يعلم إذا كانت عودته حقيقية أم عبارة عن حلم .
نكتشف فيما بعد أن رائحة الموت لم تكن في بيروت، بل كانت في بلغراد، لذلك نرى تعاطف الأخوة الدروز مع حنا يبدو واضحا، وهذه الرسالة التي أراد أن يرسلها الكاتب ليقول لنا أن الانسانية لا تفرق بين مسلم أو مسيحي مسلما أو مسيحي …أو كما يقول محمود درويش (الكل سواسية امام الموت )
المكان في الرواية ….في استعراض واضح للكاتب لعنصر المكان استطاع أن يعرض لوحة لبلاد البلغار والبوسنة والصرب، وتعمد أن ينقلنا بخارطة رسمت بريشة فنان.
مظاهر الحياة في العصر العثماني : الخان والقهوة وحياة السلاطين والنظام الاقطاعي، وحتى نوع الظلم والعقاب الجائر ،فنرى حنا يقضي سنوات من عمره لأكله بيضة دجاجة .
رواية (دروز بلغراد) من الروايات التي يجب تصنيفها مع الروائع العالمية ….
الرواية دسمة في محتواها، وهذا أدّى الى تزاحم النصوص، هناك خلل ما في علامات الترقيم فنجد النقطة في منتصف السطر، وحتى الحوار كان جماعيا مبهما في بعض الأحيان، ممّا استدعى القراءة لأكثر من مرة حتى أعرف من المتحدث في النص.
نقل الكاتب حنا وأدار به عجلة الزمن، ولكن عند الانتقال الى هيلانه وبربارة، نجد أن الزمن توقف، ولا أدري هل كان للكاتب مغزى من هذا أو أنه أراد أن يحافظ على شباب هيلانه، و أن يحذف مساحة من الزمن، الكاتب كان هو الراوي، وابتعد عن أسلوب المونولوج، وغاب في كثير من الأحيان الصراع الداخلي، وركز على الإطار الخارجي لحياة حنا….
وأخيرا نجح الكاتب في تقديم رواية ببطولة جماعية، وابتعد عن فكرة الاهتمام بالفرد على حساب الجماعة.
وقال موسى أبو دويح:
الرّواية تناولت واقع الدّولة العثمانيّة في آخر أيّامها، أو آخر ستين سنةً من آخر عمر الدّولة، وهو ما أطلقوا عليه اسم (الرّجل المريض). ولا شكَّ أنَّ الكاتب تحامل، بل ظلم الدّولة العثمانيّة في روايته، وجرّدها من العدل والرّحمة والشّفقة والإنسانيّة.
ومعلوم أنّ بريطانيا –رأس الكفر وعدوَّ الإسلام والمسلمين الأوّل، في القرن الثّامن عشر ومنتصف القرن التّاسع عشر، أي ما كان يطلق عليها (الإمبراطوريّة الّتي لا تغيب عنها الشّمس)؛ لكثرة مستعمراتها، وبعد هدمها لدولة الخلافة، بمعاونة عميلها -مصطفى كمال أتاتورك- شوّهت صورة الدّولة العثمانيّة، ولقد خدع بهذا التّشويه كثير من الكتّاب العرب، وعلى الأخصّ، الّذين لا حظّ لهم من الإسلام.
بطل الرّواية (حنّا يعقوب) رجل نصرانيّ من بيروت، بائع بيض، متزوّج من (هيلانة)، الّتي أنجبت له ابنة سمّاها (بربارة)، يُغرى ويُرسل في باخرة بدل سجينٍ، باسم (سليمان غفار عزالدّين)، على أن يرجع من عكّا ويعود إلى أهله في بيروت. وكما يقول الكاتب في روايته فإنّ الدّولة العثمانيّة لم تكن تجبر ولا تطلب من النّصارى الدّخول في الجيش. إلاّ أنّه يُنقل من بيروت إلى تركيا وبلغاريا ورومانيا وإلى بلاد الصّرب. ويقضي عددًا من السّنين في السّجون والعذاب، وبعدها يعود في قافلةٍ للحجيج ذاهبة للدّيار الحجازيّة، وعندما يصل دمشق، يترك القافلة ويعود إلى بيروت ويلتقي بزوجته هيلانة وابنته بربارة.
لغة الرّواية لغة عاديّة سهلة بسيطة ساذجة، لولا بعض كلمات غريبة على كثير من القرّاء، وبخاصّة من غير بلاد الرّواية مثل: (يبلعط حيًّا)، (كبة حيلة)، (الرّفش)، (كشك بيقورمة)، (أشجار البتولا)، (عند حائط الجل)، (عصافير الدّوري مسقسقة)، وأظنّها مزقزقة، (الجلول التّحتانيّة)، (نمال بشريّة في الأسفل)، (حدوله)، (برمت الشمس السّماء)، (حدلت السّقف)، (كجبّ الفرفحين)، (تراصفوا في حراسة البواريد)، (توجّ وتتحرك)، (يقوّص بارودة أو غدّارة)، (النّار تشرقط)، (لصيد الترويت)، (بائع الجلاب)، (البنادق تشرقط بين الأشجار). ومثل هذا كثير.
أمّا الأخطاء في الرّواية فهي غير كثيرةٍ نسبيًّا، مثل:
1. (يا ابني، ويا ابنتي)، جاءت في كثير من الصّفحات باثبات الألف، والصّحيح حذفها بعد النداء.
2. وفي صفحة (92) قال: (وصار الأعمى)، والصّحيح وسار بالسّين المهملة لا بالصّاد المهملة.
3. في صفحة (95) قال: (سمّاه فؤاد)، والصّحيح سمّاه فؤادًا.
4. في صفحة (146): (الهواء قارص)، والصّحيح قارس بالسّين لا بالصّاد، وإن كانت تلفظ بالصّاد وتكتب بالسّين.
5. في صفحة (155): (تدفّأوا) والصّحيح تدفّؤوا، أي بكتابة الهمزة على واو لا على ألف.
6. في صفحة (168): (في مغاور الجبال)، والصّحيح في مغارات أو مُغُر الجبال.
7. في صفحة (220): (هذا بئر زمزم)، والصّحيح هذه بئر زمزم؛ لأنّ بئر مؤنثة.
وشارك في النقاش:جميل السلحوت ،سمير الجندي وخليل سموم.