خلف العبيدي والسّيرة الغيريّة

خ

صدر قبل أيّام قليلة كتاب “خلف العبيدي-رجل من هذا الزّمان” للأستاذ علي عطا أبو سرحان، تقديم الأستاذ جمال الدّرعاوي، وكلمة ختامية شموليّة للأستاذ فايز سعود أبو سرحان. ويقع الكتاب الذي صمّمه ومنتجه فادي حمدان في 188 صفحة من الحجم المتوسّط، ويحمل غلافه الأوّل صورة حديثة للحاجّ خلف العبيدي، في حين يحمل غلافه الأخير صورة للمرحوم صالح أبو سرحان والد خلف.
أدب السّيرة:
وهو من أقدم الأصناف الأدبية التي عرفها العرب، فقد عرفوها في جاهليّة ما قبل الإسلام، ومعروف أنّ الثّقافة العربيّة تهتمّ بالأنساب وبسيرة المميزّين في بيئاتهم المختلفة.
السّيرة في الاصطلاح هي: بحث يقدّم فيها الكاتب حياته أو حياة أحد الأعلام المشهورين، ويبرز فيها المنجزات التي تحققت في حياته أو حياة
المتحدّث عنه.
أمّا فن السيرة في التّعريف الأدبيّ فهو: “نوع من الأدب يجمع بين التّحري
التّاريخي، ويراد به مسيرة حياة إنسان ورسم صورة دقيقة لشخصيّته.”
انظر- تهاني عبد الفتاح شاكر: السيرة الذاتية في الأدب العربي ،فدوى طو قان، جبرا إبراهيم جبرا، وإحسان عباس نموذجا ،المؤسسة العربية للنشر والتوزيع، الأردن، ط1 ،2002م.
والسّيرة أنواع منها:
أوّلا: السّيرة الذّاتيّة:
وهي أن يقوم الكاتب نفسه بتدوين مسيرة حياته، ويعرفها عبد العزيز شرف في كتابه” أدب السّيرة الذّاتيّة، الشّركة المصريّة العالميّة للنّشر، لونجمان، مصر، 1992م.”
“السّيرة الذّاتيّة تعني حرفيّا ترجمة حياة إنسان كما يراها.”
ثانيّا: السّيرة الغيريّة:
وهي جنس أدبيّ يكتبه بعض الأفراد عن غيرهم سزاء كانوا معاصرين أو سابقين لهم. وهذا ما يهمّنا هنا، حيث كتب علي عطا أبو سرحان سيرة الحاجّ خلف العبيدي.
ولن نخوض هنا في تفصيلات عن كتب السّيرة في تاريخ الأدب العربيّ، لكنّنا سنمرّ سريعا على بعض كتب السِّيَرِ الشعبيّة لشخصيّات شعبيّة في تاريخنا العربيّ، مثل سِيَر عنترة بن شدّاد، أبو زيد الهلالي، معن بن زائدة، وغيرها من كتب السّيرة التي تمّ تدوينها في العصر العبّاسيّ، والتي تضخّمت فيها هذه الشّخصيات حتّى أصبحت أقرب إلى الخرافة من كونها شخصيّات واقعيّة.
ولن ندخل في متاهات كتب السِّيَر الأدبية التي كتبها أدباء كبار في العصور الحديثة مثل كتاب “الأيّام” لطه حسين، و”حياتي” لأحمد أمين، وسيرة توفيق الحكيم في رواية “عصفور من الشّرق،” والكاتب المغربي محمد شكري(ت-2003م) الذي كتب سيرته في كتابه “الخبز الحافي” وجبرا إبراهيم جبرا كتب سيرته الذّاتيّة في “البئر الأولى” وسميح القاسم في ” إنّها مجردّ منفضة” ومحمود شقير، في ” أنا والكتابة من ألف باء اللغة إلى بحر الكلمات”. وجميل السلحوت في “أشواك البراري-طفولتي”، و”من بين الصّخور-مرحلة عشتها.” وفيصل الحوراني يكتب في “الوطن في الذاكرة” و محمد القيسي في كتابه “ثلاثية حمدة” وغيرهم كثيرون.
وعودة إلى كتاب “خلف العبيدي- رجل من هذا الزّمن” حيث نجد أنفسنا أمام سيرة شخصيّة شعبيّة لها دورها في الحياة، فمن هو خلف العبيدي الذي يتضمّن الكتاب شيئا من سيرته الذّاتيّة؟
الحاجّ خلف صالح محمد حسين أبو سرحان العبيدي هو أحد رجالات الإصلاح العشائريّ، من مواليد العام 1957 في العبيديّة قرب بيت لحم، وانتقلت عائلته للعيش في جبل المكبّر منذ طفولة خلف المبكرة. وقد خطّه رجالات العشائر قاضيا عشائريّا نظرا لمعرفته ودرايته بالأعراف العشائريّة منذ بدايات حياته.
من خلال الكتاب سيلاحظ القارئ أنّ خلف العبيدي قد اهتمّ بالأعراف العشائريّة في سنّ مبكرة وبوازع ذاتيّ، ولا غرابة في ذلك فقد ولد وعاش ولا يزال في بيئة عشائريّة.
ورغم أنّ العبيدي لم يكمل دراسته الإبتدائيّة، لظروف يبدو أنّها خارجة عن إرادته بسبب حالة الفقر والحرمان الذي كانت أسرته تعيشها في أواخر خمسينات وبداية ستّينات القرن العشرين، مثلها مثل الغالبيّة العظمى من أبناء الشّعب الفلسطينيّ والشّعوب العربيّة الأخرى في تلك المرحلة، إلا أنّ ذلك لم يمنعه من بناء نفسه بنفسه، وأن يسعى إلى الأفضل بشكل دائم وعفويّ.
قرأت الكتاب من الغلاف إلى الغلاف، ولفت انتباهي المدخل الذي كتبه المؤلّف، والذي جاء فيه أنّه احتال على خلف لتسجيل سيرته الذّاتيّة دون علمه:” فلجأت إلى الحيلة، حيث شرعت في توجيه الأسئلة إليه حول مختلف القضايا والأعراف العشائريّة، وسجّلت ذلك، بحجّة أنّني أقوم ببحث حول الأعراف والعادات العشائريّة سيقدّم كرسالة ماجستير للجامعة.” أمّا دوافعه لكتابة هذه السّيرة فكانت:” فكّرت أن لا تمرّ تجربة الحاجّ خلف في دفاتر النّسيان، كما مرّت تجارب من سبقوه.” ويضيف المؤلّف ساردا هدفه من الكتاب:” وهذا حقّ له عليّ، ومن حقّ ذوي الفضل أن نذكر أفضالهم علينا.”
عندما رأيت الكتاب تساءلت عمّا يميّز الحاجّ خلف العبيدي عن غيره من الوجاهات العشائريّة، حتّى تُكتب سيرته في كتاب؟ ووجدت الجواب في التّقديم الذي كتبه الأستاذ جمال الدّرعاوي:” وأخيرا أشكر الكاتب على هذه السّيرة القيّمة لهذا الرّجل الذي يستحقّ الذّكر ونقل الأثر، فهو رجل يشهد له كلّ الرّجال بالمصداقيّة.”
كما وجدته في خاتمة الكتاب بقلم الأستاذ فايز سعود أبو سرحان رئيس قسم أصول الدّين -كليّة الشريعة في جامعة الخليل، حيث جاء فيها:” وعند قراءة سيرة هذا الرّجل تجد كلّ صفات الرّجولة والشّهامة من الجود والسّخاء والشّجاعة والوفاء، والمروءة والمحبّة والتّسامح، ونصرة المظلوم ودفع الأذى عن الضعفاء والمهضومين والمسحوقين، وغيرها من صفات الخير والأخلاق الفاضلة.”
وأضاف الأستاذ أبو سرحان:” وهو يعي-خلف العبيدي- جيّدا أهمّيّة الإصلاح في ترسيخ السّلم المجتمعيّ، وحفظ الأجيال والأعراض والأموال والدّماء والقيم والعادات الحميدة.”
وهكذا وجدت نفسي أمام رجل استثنائي.
الأسلوب: اعتمد الكاتب على أسلوب السّرد الحكائي الذي خالطه الرّويّ، قاصدا وضع عناوين لحكاياته بشكل لافت، وهذا يسجّل لصالح الكاتب، فكثيرون لا يقوون على عنونة مضامين مؤلّفاتهم.
ويلاحظ أنّ المؤلّف لجأ للغة “الأنا” في سرده لسيرة خلف العبيدي، وكأنّ خلف هو من يتكلّم عن نفسه، وهذا يعطي حميميّة وزيادة في عنصر التّشويق التي فرضتها اللغة السّرديّة التي تطفح بصدق العاطفة.
أعجبني في الكتاب أنّ الحكايات والقصص التي مرّ بها خلف العبيدي ذات مصداقيّة عالية، وهي عبارة عن واقع مرّ يثبت أن الواقع قد يكون أكثر خيالا من الخيال نفسه.
ويلاحظ أنّ الكتاب يعتبر تأريخا تسجيليّا لمرحلة من مراحل حياة شعبنا وأمّتنا، وما رافقها من ويلات ومعاناة قد تتفوّق على الخيال في نظر من لم يعيشوا هذه المرحلة.
وتنبع أهمّيّة هذا الكتاب أنّ المؤلّف قد ربط حياة خلف العبيدي بالواقع الإجتماعيّ، فالفقر والجهل والحرمان ليس حكرا على أسرة خلف وحدها، بل هو ظاهرة اجتماعيّة شبه شموليّة في تلك المرحلة. وإذا كان التّركيز في النّصف الأوّل من الكتاب قد انصبّ على حياة أسرة خلف العبيدي، من خلال والديه وأشقّائه وشقيقاته، وعلى طفولة خلف نفسه، وكيف عانوا وشبّوا وذاقوا مرارة البؤس والحرمان، فقد ساعدت صلة القربى الكاتبَ على الخوض في هذه الحياة الخاصّة لهذه الأسرة الكادحة، فلم يصعب على الكاتب معرفة سيرة سريعة للرّجال وللنّساء وحتّى للأطفال. تماما مثلما كان موفّقا في رصد مسيرة هذه الأسرة، التي جدّ أبناؤها وكدّوا وعملوا في المقاولات ومارس بعضهم التّجارة، وحتّى دخلوا مجال الصّناعة، فالمرحوم عليّ شقيق خلف أقام مصنع “طوب أوتوماتيكيّ حديث”.
ولم يفوّت الكاتب فرصة الحديث عن الزّواج المبكر، ومعاناة المرأة الفلسطينيّة من خلال حديثه عن والدة خلف وشقيقاته، فالمرأة التي تعجن وتخبز وتطبخ، كانت ترعى الماشية وتحلبها وتعمل الألبان والأجبان والسّمن البلدي، وتحمل وتلد وترضع وتربّي وتسوّق المنتوج، وفوق هذا تخضع خضوعا تامّا لوليّ الأمر”الأب أو الأخ أو الزّوج” وقد تُضرب بسبب ودون سبب وممنوع عليها أن تشكو معاناتها.
والمرور على سيرة حياة الأسرة ضروريّ، من أجل خدمة هدف الكتاب وهو تطوّر شخصيّة خلف العبيدي من الحرمان، ليصبح واحدا من رجالات الإصلاح العشائريّ، وتدرّجه في مسيرته ليصبح قاضيا عشائريّا. وهذا يقودنا إلى قضيّة أخرى لم تغب عن بال مؤلّف الكتاب، وهي أنّ الوجاهة ومعرفة الأعراف العشائريّة ليست حكرا على أبناء شيوخ العشائر وأبناء الميسورين، ولا هي عمليّة وراثيّة، ولا علما يُدرّس في المدارس والمعاهد، وإنّما هي مكتسبة من المجتمع، وكما قال المثل: “اولاد المجالس غلبوا اولاد المدارس”.
وقد ورد في الكتاب تعداد لأنواع العطوات العشائريّة والقضاة العشائريّين، وكيفيّة ترتيب ذلك، وكيفيّة عمليّات الصّلح، وكلّ ما يتعلّق بهذه الأعراف.
كما ورد فصل عن القهوة وأدواتها ومسمّياتها وطريقة صبّها.
خلف الإنسان: من خلال الكتاب يرى القارئ بأنّ خلف العبيدي إنسان صادق مع نفسه قبل صدقه مع غيره، لذلك فإنّه لم يتنكّر لطفولته المعذّبة، بل روى بعض ذكرياته المؤلمة بطريقة طريفة. وهنا تنبع نجاحاته ونجاحات أشقّائه، فقد خرجوا من العدم، وحقّقوا بجدّهم واجتهادهم نجاحات لافتة، أهلّتهم ليتبوّأوا مكانة رفيعة في المجتمع.
وخلف البارّ بوالديه تكلّم عن والده فوصفه بالأب القاسي الرّحيم الحنون، ووصف والدته بأنّها سيدّة النّساء دون منازع، وظهر جليّا أنّه يضمر حبّا وتقديرا لأشقّائه وشقيقاته، فوصف شقيقه الأكبر محمد بأنّه بمثابة الأخ والأب الثّاني وأنّه صاحب فضل عليهم، كما وصف زوجة محمّد بالأمّ والأخت الثانيّة، وهذا ما وصف به شقيقتيه اللواتي يكبرنه عمرا ورعينه طفلا.
وتتجلّى إنسانية خلف العبيدي عندما تكّلّم عن فقدانه لزوجته الأولى ولنجله حسام، ولطفلته أنغام في حوادث مريعة، ولوفاة شقيقه عليّ بطريقة فجائيّة. فقد عبّر عمّا اعتراه من أحزان بصدق متناهٍ، وما الحزن إلا عاطفة إنسانيّة تعاكس الفرح.
أهداف الكتاب: كما جاء في مقدّمة الكتاب بقلم كاتبه الأستاذ علي أبو سرحان، فإنّ الهدف هو تسجيل تجربة خلف العبيدي في الإصلاح العشائريّ؛ كي لا تضيع هذه التّجربة كما ضاعت تجارب السّابقين.
ويستشفّ من بين السّطور أنّ للكتاب أهدافا أخرى منها “التّعلم بالقدوة والإقتداء”، فخلف كافح بجهده الشّخصيّ، وبنى نفسه من العدم بجدّه واجتهاده، وانتقل من المغارة إلى العمارة، حتّى أصبح علما يشار إليه بالبنان، ويرتاد بيته المتخاصمون لحلّ مشاكلهم وأخذ المشورة منه.
ملاحظات على الكتاب:
القارئ للكتاب سيجد أنّ الحديث تركّز على حياة البؤس والحرمان والفقر في العبيدية من منتصف أربعينات القرن العشرين وحتي نهاية السّتّينات، فلم تكن هناك مدارس، مثلما هو الحال في العديد من الأراضي الفلسطينيّة، ممّا جعل السّيادة للفقر وللجهل، واضطهاد المرأة وتهميشها، وهذا أمر جيّد وضروريّ للكاتب وللمكتوب عنه، لأنّ الإنسان ابن بيئته التي يعيش فيها. ولا يمكن فهم سيرته ومسيرته الحياتيّة دون ذلك. لقد قرأنا بشكل سريع كيف تزوّج خلف مبكرا، وعمل في “الورشات”، ثمّ أصبح أبا ومقاولا ناجحا، وهذا ما حصل مع أشقّائه أيضا، لكنّنا لم نجد في الكتاب كيف اختلف نمط معيشتهم، وكيف واكبوا التّطوّرات التّاريخيّة الحتميّة. تماما مثلما لم نجد ذلك عن البيئة التي عاش فيها خلف بين السّواحرة والعبيديّة، وكأنّ الرّجل يعيش في كوكب آخر.
بالتّأكيد أنّ القارئ سيستوعب طبيعة المرحلة التي عاشها خلف وإخوانه وأخواته، وكيف حرموا من التّعليم لأسباب لم يستطيعوا الفرار منها، لكن القارئ نفسه لم يجد أيضا شيئا في الكتاب عن تعليم أبناء خلف وأبناء شقيقاته وأشقّائه، ومهما كان الجواب فإنّه لا يوجد في الكتاب تفسير له أيضا؟
وأيضا لم يتطرّق الكاتب للتّطوّر الإجتماعي والإقتصادي والتّعليمي والتّجاري اللافت، فالعبيديّة الآن مدينة، موجود فيها كلّ متطلّبات الحياة الحضاريّة، وقفز أهلها من حياة البداوة إلى الحياة الحضريّة، وتطوّر وضع المرأة فيها، فالمئات من بنات وأبناء العبيديّة تخرّجوا من الجامعات وفي مختلف التّخصّصات، ويتبوّأون مناصب رفيعة، وهذا ما لم نشاهده في الكتاب ممّا يشكّل ثغرة في بنائه.
وبعد قيام السلطة الفلسطينيّة صارت العبيدية مدينة، لها مجلس بلدي، وفي عدد من المؤسّسات، لكنّنا لم نشاهد ذلك في الكتاب.
وهناك بعض الملاحظات الفنّيّة على تنسيق وتوضيب ومنتجة وإخراج الكتاب، لكنّها لا تنتقص منه.
وماذ بعد؟
إنّ وجود ثغرات في الكتاب لا تقلّل من أهمّيّته، فهو يحتوي على قواعد الأعراف والتّقاليد العشائريّة، في حلّ الخصومات، والحفاظ على السّلم المجتمعي. وهذا يدعم ما رمى إليه الكاتب في التّعريف على رجل الإصلاح العشائريّ خلف العبيدي.

15-6-2020

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات