-
هذا هو نص الكلمة التي ألقاها الأديب الكبير محمود شقير في حفل تكريم الأديب المقدسي جميل السلحوت بمناسبة حصوله على لقب”شخصية القدس الثقافية” الذي أقيم ظهر الاثنين 19 نيسان 2012 في جامعة القدس في أبو ديس، تحت رعاية الأخت سهام البرغوثي وزيرة الثقافة.
يشكّل الكاتب المقدسي جميل السلحوت حالة متميزة في الواقع الثقافي لمدينة القدس. ولعلّ مردَّ تميزه أن يبدأ من مثابرته على تحقيق الإنجازات، ومن دأبه المتصل على تعزيز الحياة الثقافية في القدس، بإشرافه على ندوة اليوم السابع منذ العام 1991 والاستمرار في عقد اجتماع لها كل أسبوع على مدى زمني تجاوز العشرين عامًا.
وحينما كانت الثقافة الوطنية تجد متسعًا لها في القدس أيام الانتفاضة الأولى وما قبلها، حيث ترعرع المسرح والفن التشكيلي وأنشطة ثقافية أخرى، كانت ندوة اليوم السابع تخطو خطواتها الأولى في مناخ ثقافي صاعد، حيث شارك فيها إلى جانب المثقفين المقدسيين، مثقفون من بقية المدن الفلسطينية ومن وراء الخط الأخضر، وتألق في الندوة كتاب مخضرمون وكتاب شباب، اكتشفت الندوة مواهبهم ورعتهم ومنحتهم فرصًا للتطور والانطلاق قدمًا على طريق الإبداع.
ولم تتوقّف ندوة اليوم السابع عن مواصلة اهتمامها بالشأن الثقافي حتى حينما انحسر النشاط الثقافي في القدس منذ أواسط تسعينات القرن العشرين، لأسباب شتى من بينها الإحباط الذي رافق اتفاق أوسلو لما فيه من نواقص وسلبيات، ولعدم تنفيذ المحتلين الإسرائيليين لأي بند من بنوده التي يمكن أن تؤدي إلى اعتراف ما بحقوق الفلسطينيين في وطنهم
. ومن بين هذه الأسباب كذلك الإجراءات الإسرائيلية التعسفية الرامية إلى عزل القدس عن محيطها تمهيدًا لتهويدها الذي نراه رأي العين الآن، عبر إقامة جدار الفصل وتهجير المقدسيين من مدينتهم بمختلف الوسائل والأشكال، وغير ذلك من مظاهر إضعاف المشهد العربي الفلسطيني الإسلامي المسيحي في المدينة.
ولكي لا نكتفي بتوجيه الاتهام إلى المحتلين الإسرائيليين، فلا بد من تذكير السلطة الوطنية الفلسطينية بضرورة بذل المزيد من الجهود للعناية بالقدس وأهلها، ولا بد كذلك من تذكير العرب والمسلمين أينما كانوا بأنهم لم ينهضوا حتى هذه اللحظة بمسؤولياتهم الوطنية تجاه القدس.
ورغم هذا كله، استمرت ندوة اليوم السابع في ممارسة نشاطها الثقافي من خلال حرص مشرفها العام الكاتب جميل السلحوت عليها، والتفاف عدد من الكاتبات والكتاب والمهتمين بالشأن الثقافي من حولها، وإمدادها بما تحتاجه من فرص للبقاء، ولحمل الرسالة النبيلة ومواصلة حملها، ما جعلها مع الزمن معلمًا بارزًا من معالم الحياة الثقافية في القدس. ولعل توثيقها لأنشطتها الثقافية عبر إصدار المداخلات النقدية الخاصة بهذه الأنشطة، في سلسلة متتابعة من الكتب، أن يشكل إضافة مؤكدة إلى إنجازات الندوة، وحقيقة الدور الذي لعبته في الحياة الثقافية للقدس خلال العقدين الماضيين، وما زالت تلعبه حتى الآن.
ولم يقف نشاط الكاتب جميل السلحوت عند حدود الاهتمام بالندوة، وتحفيز نشاطها ورعايته والإسهام في تطويره، وإنما أضاف إلى ذلك عنايته بالمواهب الشابة التي كان من نتائجها ظهور كاتبات وكتاب شباب، يمكننا توقّع مستقبل باهر لهم في الحياة الثقافية الفلسطينية بوجه عام، وفي الحياة الثقافية في القدس بوجه خاص.
كما أن الروح نفسها التي ألهمت جميل السلحوت الاهتمام بما هو عام في الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية في مدينة القدس، ألهمته أيضًا كيف يطوّر أدواته في الكتابة ويتعلم من تجاربه الإبداعية يومًا بعد يوم وكتابًا بعد كتاب. فقد ابتدأ حياته الأدبية مهتمًا بالتراث الشعبي، وبذل جهودًا ملموسة في جمع التراث بما فيه الحكاية والأمثال الشعبية، وقدّم دراسات في التراث دللت على سعة اطلاع وقدرة على التحليل وإصدار الأحكام.
ومارس في الوقت نفسه كتابة المقالة الأدبية والسياسية الساخرة، وابتدع لمقالته شخصية حمار أطلق عليه لقب “حمار الشيخ” وكنّاه أبا صابر، معبرًا بذلك عن صفة من أبرز صفات الحمار، وراح في مقالاته هذه يدير حوارًا شائقًا مع حماره، متطرقًا هو والحمار إلى كثير من الظواهر السلبية في مجتمعنا، وناقدًا لهذه الظواهر.
ومارس أديبنا الشيخ كذلك الكتابة للأطفال. كتب لهم القصص والروايات، وقدّم رؤيته الخاصة لما ينبغي أن يكون عليه التعاطي مع عالم الطفولة والأطفال. ثم انتقل في الآونة الأخيرة إلى كتابة السرد. وله مخطوطة أو أكثر في أدب الرحلات، وكنت اطلعت على مخطوطة له في هذا النوع من الكتابة السردية، ووجدت فيها قدرة على وصف المدن وغيرها من الأمكنة بلغة جميلة، كما وجدت فيها طرحًا صائبًا للرؤى والمواقف وللمشاعر والأحاسيس وهو يتطرق لأسفاره ورحلاته في عدد من البلدان العربية والأجنبية.
ولعل كتابته للرواية أن تكون محصلة متوقعة لتجربته في الكتابة التي تجاوز عمرها الأربعين عامًا. وقد اعتمد في ذلك على جوانب من سيرته الشخصية ومن الواقع الاجتماعي الذي عاش في ظله وعايشه، وهو واقع موسوم بالتخلف والتزمت إلى حد كبير. ومما يحسب له أنه
تعامل مع هذا الواقع بصدق فني ومن دون تزويق أو تنميق، وزاوج بين هذا الواقع وبين تجليات السياسة في مجتمعنا منذ ما قبل النكبة وما بعدها وصولاً إلى هزيمة حزيران، وهو ما كشف عنه في ثلاث روايات حتى الآن. وأظنه بصدد استكمال التجربة ليقرأ تطورات الأحوال في مجتمعنا في سنوات لاحقة، وما يجعل هذا الاستكمال ضروريًّا وممكنًا كون جميل السلحوت نفسه صاحب تجربة سياسية اكتوى بسببها بنار السجن والسجان، وما زال حتى يومنا هذا ملتزمًا بمواقف سياسية وطنية تنويرية تقدمية، يجري التعبير عنها في مقالاته التي ينشرها تباعًا في موقعه على الانترنت وعبر مواقع الكترونية أخرى، وفي الصحف اليومية.
إن تكريم جميل السلحوت باعتباره شخصية القدس الثقافية للعام 2012 يأتي في وقته الصحيح، وقد انتبهت إليه وزارة الثقافة وإجراءات تهويد القدس التي تطال المدينة المقدسة وأهلها تجري على قدم وساق. ومن دون شك فإن هذا التكريم إنما يعني المدينة، مثلما يعني الكاتب المثابر على إنتاج ثقافة وطنية،
فيها تعبير عن حبه للمدينة، وفيها دفاع لا ينقطع عن المدينة. فابن المدينة والمدينة هما المكرّمان معًا، وهما الجديران معًا بهذا التكريم.