ذكرت وسائل الاعلام أن ” عقدا ” ذهبيا للمطربة الراحلة أمّ كلثوم قد بيع قبل بضعة شهور في مزاد علني في دبي بمبلغ مليون وثلثمائة وخمسة وثمانين ألف دولار ، في حين كان يتوقع المشرفون على المزاد أن يباع بمبلغ ثلثمائة وخمسين ألف دولار ، ومع احترامنا للفن الطربي الرفيع الذي قدمته الراحلة أمّ كلثوم، واستحقت عليه بجدارة لقب “سيدة الغناء العربي” ومع فقداننا لجيل عمالقة الفن الحقيقي الرفيع الذي يتمثل بفنانين كبار أمثال الراحلين:محمد عبد الوهاب، فريد الاطرش، عبد الحليم حافظ ،ناظم الغزالي، وديع الصافي وأخرون فإننا نغبط ورثة أمّ كلثوم على الملايين التي حصدوها وسيحصدونها من وراء تركة مُورّثتهم- على فكرة أمُ كلثوم كانت عاقرا -، مع التذكير أن ثمن”العقد” المباع الحقيقي لا يتجاوز الثلاثين ألف دولار، وكذلك فإننا نفزع من المغنين الجدد الذين”أبدعوا” لنا أغنيات تليق وتخلفنا الحضاري مثل أغنيات:”ليك الواوا …. بوس الواوا ” و”بحبك يا حمار” و”يا البيتجانة” و”يا البردقانة” ويا ويل الذائقة الفنية لجيل الشباب من هكذا فنون ….الخ
لكن الملايين المدفوعة ثمنا لقطعة واحدة من مجوهرات أمّ كلثوم تذكرنا بما رواه لنا أحد الكتاب الذي كان في ضيافة أديب عربي مبدع كبير، وترجمت أعماله الى عدة لغات، فجاءت طفلة ذلك المبدع التي لم تتجاوز الثلاثة أعوام في حينه، وأخذت ترقص في”الصالون” مقلدة ما تراه على الشاشة الصغيرة ببراء الطفولة التامة، فخاطبها والدها بسخرية قاتلة قائلا: ارقصي وتعلمي الرقص فدخل راقصة في ليلة واحدة يساوي دخل والدك طيلة حياته، وهذه اشارة لاذعة الى أمتنا التي يحركها الطبل والمزمار، ولا تلتفت الى الأدب الرفيع أو الى مواكبة العلوم المتزايدة والمبتكرة في كل دقيقة.
مع التذكير أن الأدباء والمفكرين في وطننا العربي يعيشون على هامش الحياة الاقتصادية لأن أدبهم وفكرهم لا يغني ولا يسمن من جوع في أمّة”اقرأ” التي لا تقرأ،ويحضرني هنا بمرارة ولوعة أن أحد المفكرين العرب الذي ضاقت به بلاده ووجد ملاذا آمنا في باريس،ارتدى معطفا في قائظة الصيف بعد أن وصل حافة الرّدى من الجوع، ودخل متجرا كبيرا “ليسرق” قطعة معجنات يسدّ رمقه بها،فلفت معطفه أنظار أمن المتجر الذين راقبوه، وألقوا القبض عليه متلبسا بالجرم المشهود،وعندما تعرفت الشرطة الفرنسية على هوية المتهم،اعتذرت الحكومة الفرنسية له ولتقصيرها معه،وصرفت له راتبا شهريا يعتاش منه،وخصصت له بيتا يسكنه.
وعودة الى صاحبنا الذي اشترى”عقد” أمّ كلثوم ، والله اعلم كيف هبطت عليه الملايين، بحيث ان ترف الحياة ومجونها دفعه الى صرف بعض منها على”عقد” جواهر بخمسين ضعفا من ثمنه الحقيقي.
وبما ان الغناء هو ايضا من النتاج الثقافي لأيّ أمّة، وبما ان وزراء الثقافة العرب قد اجمعوا على اعتبار ” القدس عاصمة الثقافة العربية للعام 2009 ” فهل سمع اصحاب الملايين العرب بالقدس وبالفاجعة التي تعيشها؟ وهل هم مستعدون للتبرع لانقاذ ثقافتهم العربية وحضارة أجدادهم المهددة في القدس؟ وهل هم مستعدون حتى لطباعة كتاب عن تاريخ القدس وترجمته الى اللغات الأخرى كي لا يسلب تاريخ المدينة كما سلبت جغرافيتها؟ وهل القدس بتاريخها وموقعها الديني وحضارتها وجلها وجلالها تساوي عندهم أغنية من أغاني مطربيهم المفتونين بهم؟ انني أشك في ذلك، فهذه أمور خارجة عن حساباتهم وعن دائرة اهتماماتهم، ومعرفتهم بها قد يسبب ازعاجا لهم، وهل تصدقون أن أحد”المثقفين العرب الأشاوس” ظهر على احدى الشاشات العربية مفاخرا بانتمائه قائلا:” بانه يتعاطف مع ضحايا فيضان أصاب احدى الدول العربية المجاورة لدولته أكثر من تعاطفه مع الضحايا الذين يسقطون في فلسطين والعراق بدون ذنب اقترفوه؟ وحجته في ذلك أنهم بعيدون عنه ونحن اذ نتعاطف مع ضحايا الفيضانات وكوارث الطبيعة وغيرها في كل الاقطار العربية بل وفي العالم اجمع ، الا أننا نتساءل عن مدى انتماء هذا”المثقف” ليس للعروبة فحسب بل للانسانية، عندما لا يرف له جفن على اطفال تـُمزق الأسلحة التدميرية المحرم استعمالها دوليا اجسادهم في فلسطين والعراق؟ ولا نملك الا أن نردد”لك الله يا قدس” وأن نغني بحسرة “أمجاد يا عرب أمجاد” وأن نرقص طربا على أشلاء شهدائنا لأننا لا نملك “اذا رأينا أناسا يعبدون العجل الا أن “نحش”- نجمع له الحشيش- ونطعمه”.