مما قاله الأقدمون”لا يزال المرء عالما ما طلب العلم، فإن ظن أنه عالم فقد جهل”، ويروى عن الامام الشافعي قوله: “ما جادلني عالم إلا غلبته، وما جادلني جاهل إلا غلبني”. وما الجهل إلا السبب الرئيس الذي أنتج وينتج هزائمنا وخيباتنا على مختلف الأصعدة، والمصيبة الأكبر هي في أجهل الجهلاء، وهم “الذين يجهلون ولا يعلمون بأنهم يجهلون” وليتهم يتوقفون عند هذا الحدّ، بل إنهم يزعمون أنهم علماء. ومما يلاحظ في بلداننا أن هناك من يدعي العلم بأمور الدّين، ويبدأ بالتردد على المساجد، ويطلق ذقنه، ويرتدي ثوبا قد يضع تحته سروالا، ويبدأ بالوعظ والارشاد، وهو لا يعرف أركان الدين، ولا يكلف نفسه بقراءة كتاب، والويل والثبور لمن يخالفه الرأي، فان تهمة التكفير جاهزة لقذفه بها، وكأن صاحبنا يملك مفاتيح الغيب والايمان، وبعضهم يعتلي منابر المساجد وقد يكون خطيبا مفوها، لديه بعض المعلومات غير المكتملة، فيبدأ خطبه موزعا التهم ذات اليمين وذات الشمال، وقد يسيء الى الدين وهو لا يدري، ظنا منه أنه ينشر الدعوة، ولديه أنصار يهللون ويكبرون لفصاحة صاحبهم، وسأعطي بعض الأمثلة، فقد استمعت ذات جمعة الى خطبة الصلاة، فبدأ “الامام العالم” بلغة هجومية وكأنه في حرب مع المصلين، ومن يستمعونه عبر مكبرات الصوت حديثه عن أخلاق المسلمين، وأعطى مثالا على ذلك” أن طالبا صوماليا مسلما يدرس في احدى الجامعات الأمريكية، سأل زميله الأمريكي في قاعة المحاضرات: كيف تقضي أوقات فراغك؟ فأجابه الأمريكي: في الحانات ومع النساء، ثمّ ردّ الأمريكي السؤال الى الطالب الصومالي، فأجابه: انظر إليّ، وذهب الى المغسلة وتوضأ، وبينما هو يغسل قدميه في المغسلة، صاح به أستاذه قائلا: ويحك كيف تغسل قدميك في مغسلة نغسل ايدينا فيها ونشرب منها؟ فرد عليه أخونا المسلم: إن قدميّ أنظف من يديك وفمك لأنني أتوضأ خمس مرات في اليوم! وصاح الخطيب: هذه أخلاقنا الاسلامية!” وعلا التكبير والتهليل! والتقيت”العالم الخطيب وسألته: من أين أتيت بهذا الخبر يا سيدنا الشيخ؟ وهل ما رويته يسيء الى الاسلام أم يدعو اليه؟ وهل من الأخلاق الحميدة أن يجيب طالب أستاذه بالاجابة التي رويتها؟ وماذا كنت فاعلا لو أجابها ابنك لك مثلا؟ وهل سبق لك وأن دخلت جامعة؟ وهل يوجد في غرف المحاضرات الجامعية مغاسل؟ وإن وجدت فهل يشرب الأمريكان منها؟ فاستاء صاحبنا مما سألت ودعا لي بالهداية وكأنني ضال وهو مهدي! وذات خطبة أخرى هاجم الخطيب الأولومبياد الذي جرى في جنوب افريقيا، واعتبره نشاطا لافساد أخلاق أبناء المسلمين! ولمّا ذكرته بالحديث:”علموا أبناءكم الرماية والسباحة وركوب الخيل” قال بأنه حديث موضوع…والأمثلة كثيرة ومحزنة، وقد كتبت عددا من المقالات انتقدت فيها هكذا خُطَب، ودافعت فيها عن الدين الصحيح، وفوجئت بنشرها على موقع أحد الأحزاب الدينية تحت عنوان” تقيؤات على شكل مقالات”.
لكن اللافت والمثير للرعب هم التكفيريون الذين يرفعون راية الجهاد حسب فهمهم، ولا يكتفون باستهداف غير المسلمين باعتبارهم”كفارا” بل يتعدونهم الى قتل المسلمين ممن يخالفونهم الرأي، فقاموا بتفجيرات اجرامية في مدن عربية، ضحاياها كلهم من المسلمين، لأن من يخالفهم الرأي كافر، بل يستحق القتل، وقد شاهدنا على شاشات التلفزة اعدامات لأسرى مسلمين مقيدين من الجيش السوري في الحرب القذرة الدائرة في سوريا، كما شاهدنا عمليات قطع الرؤوس لمدنيين وعسكريين في سوريا والعراق وسط التكبير والتهليل، بل شاهدنا ما هو أبشع عندما قام أحدهم بشق صدر سوري وأكل قلبه، أما الذبح تعذيبا وتنكيلا فهي كثيرة وتقشعر لها الأبدان. فمن المسؤول عن هكذا جرائم؟ وما علاقة الاسلام الصحيح بها؟ ومن يملك مفاتيح الغيب ليقرر من هو المؤمن؟ ومن هو الكافر؟ ولمصلحة من أعمال التفجير والقتل التي تحصل في سوريا والعراق ومصر واليمن وليبيا وغيرها؟ ومن المستفيد منها؟ ومن المتضرر؟ ومن يموّل هذه الجماعات التكفيرية ؟ ولمصلحة من؟
وعلى الجانب الآخر هناك تنظيمات وأحزاب تدعي الوطنية، ويصل بها التحزب الأعمى الى تخوين من يخالفها الرأي، بل ان بعضها مارس هو الآخر قتل بعض خصومه السياسيين، وله وسائل اعلام مختلفة لترويج سياسة التخوين.
واذا كان “الحلال بيّن والحرام بيّن” دينيا، وأن البشر “أدرى بشؤون دنياهم” فلماذا التكفير والتخوين؟ ولماذا لا تتسع صدورنا للرأي والرأي الآخر؟ ومتى ندرك أن الدّين لله وأن الوطن للجميع؟ وهل نحن شعوب قادرة على تطوير ذاتها وتطوير بلدانها ما دمنا نتعامل مع بعضنا البعض بالحديد والنار وبالتهديد وبالوعيد؟ إن الخراب الذي يعمّ بلداننا سببه خراب الانسان نفسه، ولا بدّ من تطوير التعليم في مختلف مراحله، واطلاق الحريات، وهذا يتطلب بناء الانسان السليم جسديا ونفسيا أولا، حتى يستطيع استيعاب العلوم والتحرر من الخرافات ومن عقلية”الأنا” التدميرية.
9-5-2014