“الخواص”لحافظ البرغوثي رواية الأرض وعشاقها

&

 

 

حافظ البرغوثي كاتب ساخر مشاكس، وهذه طبيعة تكوين شخصيته، ويظهر جليا من كتاباته انه متمرد يسبح ضد التيار، والسباحة ضد التيار قد تكون شذوذا ايجابيا يصل الى حد البطولة، وان كانت عواقبها ليست سليمة دائما، والذي يقرأ مقاله اليومي في صحيفة الحياة الجديدة التي يرأس تحريرها يلاحظ مدى سخريته من الواقع المرير، ومن الاوضاع السياسية الأكثر مرارة، ومن العبث القاتل في معالجة كل ذلك.
وفي روايته >الخواص< سنجد مكونات شخصيته واسلوبه في الكتابة واضحين بشكل جلي.
اسم الرواية:
تحمل الرواية اسم الخواص وهو احد بل ابرز المقامات الموجودة في قرية دير غسانة، تلك القرية الواقعة الى شمال غرب رام الله، والتي ولد الكاتب فيها ولا يزال يعيش فيها أيضا، والخواص كما جاء على لسانه في الرواية: >انا العبد الفقير لله ابراهيم الخواص، خلقت في ارض مصر المحروسة، ما ان وعيت الدنيا وانا اعمل في الخوص، اقطعه وانسج منه سلالا وقفافا ونبني منه مراكب.. وذات يوم جاء داعية للجهاد يحث الناس لنجدة بيت المقدس والسلطان نور الدين زنكي<. ص90.
وهكذا جاء >الخواص< الى فلسطين واستقر على رأس تلة يراقب جيوش الفرنجة وينقل اخبارهم الى المجاهدين الى ان توفاه الله ودفن في قمة تلك التلة في دير غسانة، ثم بني مقام على قبره زمن المماليك مع ما بني من مقامات اخرى في اماكن اخرى في نفس تلك الفترة. ليحيك الخيال الشعبي حول الخواص الكثير من الكرامات والمعجزات التي لا تزال الاجيال تتناقلها كما جاء في الرواية.
صورة الغلاف:
استغل الفنان محمد صالح مضمون الرواية ليرسم غلافها على شكل مقام من قبتين، تماما مثلما جاء وصف مقام >الخواص< في الرواية، و>المقام عبارة عن حجرة مستطيلة طولها ثمانية امتار تتجه من الغرب الى الشرق، لها محرابان وبابان شماليان وقبتان< ص13، وبجانب المقام هناك رسم لفلاح عجوز يتكىء على عصاه وله نظرات مستنفرة.
الاهداء:
يهدي الكاتب عمله هذا الى سدنة الارض وقرابينها، فمحور الرواية هو الارض، والفلاحون الذين يفلحون هذه الارض، ويجبلون تربتها بعرقهم، وهم ايضا الذين يدافعون عنها، ويضحون بأنفسهم فداء لها.
كما يهديها ايضا >الى ادمتي الراحلة التي شاركت في هذا ولن تقرأه<.. و>أدمته< هي الراحلة زوجته التي توفاها الله قبل ما يزيد على الخمس سنوات، ورثاها بمرثية ابكى فيها بواكي، وقد ورد ذكرها في الرواية ومدى حبه لها في اكثر من موضع.
كما اهدى الرواية >الى كل العماليق، ملح الارض< والعماليق هم الكنعانيون الفلسطينيون، اول الاقوام التي سكنت فلسطين، وما انقطعوا عنها يوما حتى ايامنا هذه رغم ما تعرضوا له من غزوات، وبقوا يدافعون عنها رغم ما تعرضوا ولا يزالون يتعرضون للقتل والتدمير التخريب، وقد ورد ذكرهم في الرواية في مواقع كثيرة بل انه خصص بابا في الرواية بعنوان >على مائدة العماليق< ص197 وبابا آخر عن جده >الشيخ العملاق< ص23 وكأنه يوحي للقارئ بأن هذا الجد العملاق المعاصر هو حفيد العماليق القدامى.
ويلاحظ ان الاهداء يكاد يكون تلخيصا للرواية في جُمل ثلاث.
المضمون:
مع ان الرواية تحمل في طياتها جوانب من السيرة الذاتية للكاتب الذي تكلم عن نفسه بالولد، وتحمل ايضا جوانب من السيرة الذاتية لأبيه وجده وبعض الرجال والنساء قي قريته دير غسانة، وللشيخ الخواص الا انها تحمل في صفحاتها سيرة قرية دير غسانة، لتنسحب من خلالها الى سيرة القرى الفلسطينية بشكل عام، ومدى ارتباط الفلاح الفلسطيني بارضه، واستصلاحه لها، وزراعتها، وحمايتها والالتحام بها الى درجة الاندماج، وعدم التفريط بها مهما بلغت التضيحات ومهما غلا الثمن، وهذه التربية وهذه الثقافة يتوارثها جيل عن جيل، حتى المتعلمين الذين تبوأوا وظائف ومناصب رفيعة او غير ذلك بقي لهم ارتباط في الارض بشكل وآخر ومنهم كاتب هذه الرواية.
كما ان الرواية مليئة بالموروث الشعبي من حكايات وطرائف وامثال واقوال تكاد تكون موجودة في كل قرية فلسطينية، ومنسوبة الى اشخاص معنيين، الا ان الفضل في تدوينها يعود الى كاتب هذه الرواية كونه السبّاق الى تدوينها.
وزمن الرواية الممتد من أواخر العهد العثماني الى ايامنا هذه جعل كاتبها يتطرق الى بعض المفاصل التاريخية في حياة هذا الشعب، فقد تطرق الى المظالم التي شاعت في أواخر العهد العثماني يقول >الباشوات الاتراك خربوا البلاد واهلكوا العباد، وزعوا البلاد الى اقطاعيات، وكل اقطاعي كان يشتري منصبه بالمال، ويجبي ما يشاء من ضرائب من الناس<. ص641.
كما تطرق الى ثورة العام 1936، والى اسباب فشلها >فالكثيرون من ضعاف النفوس والزعران استخدموا الثورة غطاء لتجاوزاتهم، وبرز ذلك جليا في ثورة عام 1936 التي انتهت بالفشل، ليس بسبب القمع الانجليزي فقط، بل لأن النطيحة والمتردية وكل ذي مأرب خبيث صار ينضم للثورة، بل وتسلل اليها المستعربون لنشر الفتن والفساد في البلاد< ص139.
كما تطرق الى نكبة العام 8491، والى هزيمة العام 7691 ووصل الى الانتفاضة الاولى والانتفاضة الثانية.
ومع ذلك فان الكاتب قفز قفزات تاريخية جاءت في مكانها عندما تحدث عن غزو الفرنجة للمشرق العربي، وهو ما عرف في حينه بالحروب الصليبية.
والكاتب الذي مر على هذه الجوانب التاريخية مرا سريعا بيسر وسهولة ودون اقحام، تطرق الى جوانب سلبية في الثورة الفلسطينية المعاصرة، ولم يتردد في انتقادها، فهو ينتقد التنظيمات الفلسطينية التي كانت في بغداد >ونفذت عدة تفجيرات صوتية في الكويت عام 2891 بهدف ابتزاز الاموال.. فبينما كانت الثورة تخوض غمار الحرب كانوا يمارسون البلطجة باسمها< ص351. وهو يبدي ضجره من الفساد والمفسدين في هذه المرحلة لذا فهو يخاطب الشيخ الخواص في مقامه قائلا: >ما عدت احتمل العيش في زمن كهذا.. انني ارى ما حولي فأكاد لا اطيق، الفساد تمأسس، والمجتمع تمومس، والطاهر تدنس، والخائن تغطرس، والجبان ترأس< ص871.
والكاتب ينتقد بشدة >تعهير< الشهادة، لذلك وفي عمله لتخليد شهداء الانتفاضة الاولى فانه يقول: >كان ثمة خلط بين البطل والعميل، وعندما مارس عملية فرز بين العميل الذي هلك، والبطل الذي ارتقى انتقده البعض قائلين، ان القيادة اصدرت اوامر باحتساب هذا شهيدا، مع انه عميل، رفض ذلك وقال: فلترسله القيادة الى الجنة ان استطاعت وظل يؤرخ<. ص512.
ضياع الوطن:
يبدي الكاتب خوفه المشروع من ضياع تاريخ الوطن بعد ضياع جغرافيته لذلك فهو ينحني فوق بئر القلع قرب مقام الخواص ويطلق صرخة في البئر.. >لم يبق الكثير مما يشير الى الكناعنة، فما من قبر لهم الا ونبش، وما من بئر الا وحفرت، وما من كهف الا ونهب، رموزهم وتماثيلهم واوانيهم، كلها نهبت وفخارهم تكسر<. ص22.
والسبب ضعف الأمة وفرقتها لذلك فهو يخاطب العماليق الكنعانيين قائلا: احفادكم أما اذلاء ارقاء، او منافقون عملاء للفرنجة، نساؤكم ما عاد فيهن طعم الاناث، ورجالكم تمومسوا< ص222. وهزيمة الأمة ليست ناتجة عن ضعف بل عن فرقة، ويسوق على ذلك مثال الكلاب التي كانت تتدافع في ملاحقة ذئب كان يهاجم قطيعا من الاغنام فيفلت منها، الى ان جاء بدوي واشار عليهم >ان اربطوا كلابكم واطلقوا كلبا واحدا قويا، وفي الليل عندما جاء الذئب هاجمه الكلب وصرعه.. فالأصل ان الواحد يهزم الكثرة المتفرقة، غير المنظمة والواحد قد يهزم الواحد<. ص201.
الارض:
من المفيد ان نكرر ما كتبه الشاعر علي الخليلي على الغلاف الخارجي الأخير للرواية >لا ادري ان كان ثمة من فلسطيني قبلك، كتب بمثل ما كتبت في الرواية، من >صوفية ثورية< تتماهى مع الارض الى حد >المقدس، في التماهي< فالرواية من الغلاف الى الغلاف عن الارض، وما تحويه من كنوز لا تنضب، وقد توارثها الآباء عن الاجداد، وتربتها مجبولة بدمائهم، والحفاظ عليها وفلاحتها وعدم التفريط بها من الأمور البدهية غير القابلة للنقاش، وهي امر غريزي عند الانسان والحيوان، وهو يذكر في روايته قصة كلب اقتناه في الانتفاضة الاولى لحراسة الارض، فكان يمنع اي انسان او اي حيوان من دخولها ويقول في ذلك >حتى الكلب لا يفرط بالأرض المكلف بها< ص75 وما دامت الارض أمانة في أيدي الانسان فان الذي يفرط بأرضه اسوأ من الكلب واضل سبيلا.
الزوجة الغائبة الحاضرة:
واضح ان الكاتب مفجوع برحيل زوجته قبل اكثر من خمسة اعوام، لذا فهي دائمة الحضور في ذهنه وفي عقله ونتاجه الأدبي، وهو لا يقبل بديلا لها لا في الدنيا ولا في الآخرة: >ماذا لو التقيت ادمتي الراحلة ثانية، او بعد الممات؟؟ ثمة حوريات لكنه لا يريدهن، انه يريدها هي، يتنازل عن الحور العين من أجلها<. ص721 وهذا دلالة على العشق المستمر مع ملاحظة انه اخطأ في العبارة السابقة في استعمال الضمير، فقد بدأ بضمير المتكلم ثم عاد يتحدث بضمير الغائب.
ومع مرور عدة سنوات على رحيل زوجته الا انه يرفض عروض والدته له بالزواج من اخرى.. >الولد لا يريد أدمة جديدة، يعرف انه لم يعد قادرا على حب غير التي أحب، وكأنما عندما رحلت حملت ما فيه من حب الى السماء<. ص671.
الآباء والأجداد:
قرأت الرواية مرتين، وتصفحتها ثالثة للتذكر، فوجدت الكاتب يعطي اباءه وأجداده قداسة تصل الى درجة العصمة، وهذا حقه ومع انني رأيت والده واجداده يمثلون كل الآباء والأجداد الفلسطينيين الذين نحتوا في صخر هذه الارض الا انني تذكرت ما قاله لي احدهم، بأنه تجاوز الثلاثين من عمره وهو يعتقد بأن أباه وجده هما الرجلان الوحيدان على الارض، فهم ابطال في كل شيء، في الحنكة والدراية، والاقتصاد وجمع الثروات، والبطولات الفردية غير القابلة للنقصان حتى في المعارك العشائرية >الطُّوَش< لأنهم هكذا كانا يحدثانه دائما، ولم يذكرا له يوما أنهما او احدهما تعرض لكبوة.
فهل اباؤنا واجدادنا كانوا هكذا يا حافظ؟؟
نرجسية:
من الأّهمية بمكان ان يعرف القارئ شخصية الكاتب، وشيئا من سيرته الذاتية حتى يستطيع ان يفهم نتاجه الأدبي، والذي يعرف كاتبنا، يلاحظ بسهولة مدى اعتداده بنفسه، ومدى سخريته، هذا الاعتداد الذي يصل الى درجة النرجسية التي ظهرت في الرواية، ومنها اعتداده بذاكرته التي تعيده الى امور حصلت معه وهو في الرابعة من عمره حيث يقول: >وعندما كان يسرد هذه الواقعة على العائلة فيما بعد كان البعض يكذبه، فكيف لطفل ان يتذكر هذه التفاصيل؟ ولكنه متأكد انه يتذكر تفاصيل اشياء قبل ذلك، فأسوأ ما فيه ذاكرته التي لا تنسى، كانت في بعض مراحل حياته علامة ذكاء ساعدته في عمله، لكنها تحولت الى علامة شقاء فيها بعد< ص41.
ومن نرجسيته ايضا عشق الفتيات له ومراودتهن له عن نفسه، >ذات سنة عشقته فتاة اميركية في روما وظلت تراوده عن نفسه لكي يذهب معها الى الولايات المتحدة< ص51.
وكذلك استشهاده بما خاطبه به الشهيد ناجي العلي قائلا: >انت المساحة المحررة في الصحافة العربية< ص301 ومن نرجسيته اعتباره نفسه انه الصالح الوحيد في الأمة يسأل العماليق مستنكرا: >أأنا فقدت عقلي واهذي وغضبت عليّ الألهة لأنني لا ارى املا في اصلاح ما افسدته الانظمة والتنظيمات؟ ص522 فأجابوه: >ليس انت يا بني، اننا نعني قومك< ص622.
الاسلوب:
استعمل الكاتب اسلوب السرد الحكائي اكثر من استعماله الاسلوب الروائي، وعمله هذا هو خليط ذكي ما بين الرواية والحكاية، فهل نستطيع مزج الكلمتين في كلمة واحدة ونقول هذه >ركواية<؟؟ ربما يكون الجواب ايجابا او سلبا ولكل مجتهد نصيب.
الخاتمة:
رسم الكاتب في آخر روايته واقعا مؤلما لشعبه وأمته، وهو بذلك ينقل الواقع كما هو، فواقع الأمة يدعو الى الاحباط، فالهزائم متتابعة، والقادة يتذيلون للفرنجة على حساب الاوطان والشعوب والأمة، والخلافات كثيرة، والكل يتهم الكل، والفساد منتشر، والخيانة ديدن الكثيرين، ومع ذلك فان كل فرد يزعم انه المالك الوحيد للحكمة، فيلقي بالتهم على غيره، ويبرئ نفسه بينما الوطن نهب للفرنجة. والكاتب الذي رسم هذا الواقع انما يبقي الباب مفتوحا امام الجميع ليفكروا كل على طريقته للخروج من الحضيض الذي وصلنا اليه كشعب وكأمة. والكاتب بهذه النهاية ليس مستسلما ولا يائسا فقد سبق وأن ذكر في صفحات سابقة ان هذه البلاد مطموع فيها من قبل القوى العظمى على مر العصور، ويعدد الأقوام والأمم التي غزتها ومنها: الاشوريون والاكديون والبابليون والفرس والحثيون، والعبرانيون والفراعنة، والاسكندر الاكبر، والاغريق، والروم والبيزنطيون والفرنجة، والمغول والعثمانيون ونابليون والانجليز< ص971.
وجميع الغزاة كانت نهايتهم الاندثار: >ما عبر قوم هذه الارض الا كانت تلك خطاهم الأخيرة قبل الاندثار<. ص871.
ومهما بطش الغزاة، ومهما قتلوا ودمروا، واشعلوا الفتن والحروب الا انهم اندثروا وبقي شعب هذه البلاد فيها وانتصر >لم يتعظوا وما زالوا يغزونها، هم يندثرون ونحن الابقى، نحن كما الفينيق، نبعث كل حين، فليتركوا هذه الارض تعيش بسلام< ص971.
وماذا بعد؟
تبقى هذه الرواية عملا ابداعيا مشوقا موضوعها غير مسبوق وتشكل اضافة نوعية للمكتبة الفلسطينية بشكل خاص وللمكتبة العربية بشكل عام.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات