صدرت هذا العام 2021 رواية اليتيمة للأديب المقدسي جميل السلحوت عن مكتبة كل شيء الحيفاوية. تقع الرواية في ٢٦٠ صفحة من الحجم المتوسط وقد حمل غلافها لوحة بريشة الفنان التشكيلي محمد نصر الله.
رواية اليتيمة رواية اجتماعية، تحمل في طياتها رسالة هادفة إلى مجتمعاتنا الذكورية التي تظلم الفتاة في جل شؤونها.
الشخصية المحورية في الرواية هي شخصية عبير التي لا تلقى الاهتمام من والدتها كأخيها عزيز، فرغم تفوقها في المدرسة وحصولها على معدل مرتفع ونيلها المرتبة الأولى في دفعتها، إلا أنها لا تحظى بالتعليم كما حصل مع أخيها الذي لم يكن بذكائها، بل وصل الإجحاف بأن يتم الاستيلاء على هدية تفوقها المالية التي جمعتها مديرة ومعلمات المدرسة لمساعدتها في تعليمها، لإعطائها لأخيها عزيز من أجل المساعدة في مصاريف إتمام زواجه.
والأحداث تتوالى وترسم لنا صورًا متنوعة من سيطرة المجتمعات الذكورية وتعسفها وظلمها للفتاة.
ولعل تسليط الأديب جميل السلحوت الضوء على هذه القضايا، يعطينا فكرة عن مدى حرصه على أن تأخذ المرأة حقوقها، وأن يتوقف الظلم الممارس عليها من قبل المجتمع الذي يبدأ أحيانا من المرأة نفسها.
إذ يبدو أن العادات والتقاليد الموروثة والتي لا تمت للدين بصلة قد ترسخت في العقلية العربية، فأصبحت كأحد المسلمات وإن لم يكن هناك قناعة بجدواها. فرغم الظلم الذي تشتكي منه المرأة، إلا أنها أول من يمارسه على بنات جلدتها.
فأمّ عزيز مثلًا ظلمت ابنتها حينما فضلت ابنها عليها، وأمّ مهيب مارست الظلم على عبير حينما طلبتها للزواج من ابنها مخفية حقيقة مرضه النفسي، كذلك سلوى اقترفت ذنبا أوقع الظلم على عبير حينما أخفت حقيقة ابن خالتها مهيب. أي أن من يشكو من الظلم هو أول من يمارسه.
والمتتبع لروايات الأديب جميل السلحوت سيلاحظ أن له أسلوبه المميز في الكتابة، حيث لغته السهلة الممتنعة المتينة التي تختلط بها بعض المفردات المحكية الفلسطينية؛ لتجعلها أكثر قربًا من القلب والواقعية.
كما أن أسلوبه في السرد يعتمد خطية السرد المتنامي، الذي يتطور بالأحداث تدريجيا حسب مرور الزمن، وقليلًا ما يعتمد أسلوب الاسترجاع (الفلاش باك)، إلا في بعض الأحيان بصورة سريعة. أيضا يعتمد على الحوارات الخارجية وقلما تتواجد الحوارات الداخلية في السرد.
رواية اليتيمة كغيرها من روايات الأديب السلحوت، حيث فلسطين الحاضرة دوما في مجريات الأحداث، وكذلك القدس التي يسكنها؛ نجدها دومًا ماثلة أمامنا بجمالها وشعاعها وتضحية أهلها.
كذلك أسماء مدن وقرى وحارات وشوارع فلسطين تكون موجودة بقوة، لتجعل من الأماكن معالم تدخل القلوب وتترسخ فيها دون استئذان، ولعل هذا من أهم الأمور الّتي تجعلني أستمتع حين قراءة هذه الروايات، فهي تنشلني وإن كان لبرهة من الزمن من الغربة التي أعيش؛ لأتواجد وأتنقل في شوارع وزقاق مدينة مولدي القدس، ووطني فلسطين الذي حرمني الاحتلال من التمتع بدفء أحضانه.
ولا يخفى لأي قارئ مدى تمسك الأديب جميل السلحوت بتراثنا الشعبي، حيث نراه حاضرا بقوة من خلال الأمثال الشعبية التي يذكرها، والتي تتماشى مع أحداث أي عمل أدبي له، كذلك الأهازيج والأناشيد الشعبية التراثية التي تخلق من روايات جميل السلحوت بصمة متميزة.
وليس خافيًا لأحد مدى أهمية حضور هذا التراث، فهو بمثابة توثيق له، يتم تناقله من جيل إلى جيل في ظل احتلال يحاول سرقة كل جزء من أوطاننا بما فيها تراثنا.
يظهر ذكاء الروائي أيضا في ذكر مقاومة أهل فلسطين للاحتلال مهما كان الثمن، فالفلسطيني يفدي أرضه بدمه وروحه، وهذا أمر يحتل مكانة كبيرة من الأهمية؛ لتذكير العالم أن هناك قضية وأرض من حق أهل فلسطين، وأنه لن يتم التنازل عنهما مهما طال الاحتلال والظلم.
والاحتلال الغاشم لم يكتف بسرقة أرضنا فحسب بل يحاول أن يسرق أفراحنا أيضًا، وهذا ما نستخلصه من الرواية، ففي حفل خطبة عزيز، اقتحم المستوطنون بمساعدة الشرطة قاعة الفرح وقاموا بإطلاق الرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع، وإنزال العلم الفلسطيني عن بيت الاحتفال، وبهذا يمارس الاحتلال دوره التخريبي الدائم الذي يحاول تعكير صفو أصحاب الأرض ومنعهم من أن يهنئوا بافراحهم، ولكن رغم كل هذا التعسف إلا أن هذا لا يسقط من عزيمة الشعب الذي لا يقف أمام إرادته أي سلاح أو قوة.
ومن الأمور الإيجابية التي حملتها الرواية أيضا، التركيز على دور الكويت وشعبها المعطاء، الذي لم يتوان يوما عن مساندة القضية الفلسطينية والتعاطف الكبير مع الشعب الفلسطيني، وذلك من خلال عائلة العنود وراشد الذين استقبلوا “عبير ومهيب، في بيتهم حينما سافرا إلى الكويت للعمل والإقامة هناك.
الرواية اعتمدت اللغة العربية الفصحى المتينة، والسرد المباشر الذي يجعلها سهلة الفهم، كما أنها أضافت قيمة أدبية ثمينة إلى رفوف المكتبة العربية، إضافة إلى قيمة وثائقية مهمة لصالح القضية الفلسطينية، وتعتبر رصدًا قيّما لحياتنا الاجتماعية والسياسية في فلسطين.
29-7-2021