يحيي الشعب الفلسطيني هذه الايام الذكرى الستين للنكبة الكبرى التي حلت بهذا الشعب في 15 ايار 1948 . والتي تمحضت عن اقامة دولة اسرائيل على 78.4% من اراضي فلسطين التاريخية ، وتشريد الشعب الفلسطيني في ارض اللجوء في كافة ارجاء المعمورة . وقد رافقت هذه النكبة مذابح جماعية وجرائم حرب ضد الانسانية ، ولم تكن مذبحة دير ياسين الا واحدة من سلسلة مذابح كانت تستهدف ترويع من تبقى من الفلسطينيين لإجبارهم على الهرب من وطنهم طلبا للنجاة بأرواحهم ، لأن قادة الفكر الصهيوني يريدون دولة عبـرية خالصة نقيـة مـن ” الاغيار ” الغرباء .
ومن المفارقات التي لم تعد عجيبة ان يهود اسرائيل يحتفلون بهذه المناسبة كعيد استقلال لدولتهم ؟ وهذه المفارقة تؤكد من جديد ان ” مصائب قوم عند قوم فوائد ” . وهذه المفارقة هي التي وضعت المنطقة في صراع تناحري حصد ارواح مئات الاف الضحايا بين قتيل وجريح من الطرفين . وواضح ان هذا الصراع منذ بدايته وحتى الان يستمر في ظل عدم وجود توازن قوى بين الطرفين أو الاطراف المتصارعة .
ومعروف ايضا ان اسرائيل التي ما كانت لتقوم كدولة ، لولا تواطؤ قوى عظمى مع الحركة الصهيونية . فبريطانيا التي خرجت من الحرب العالمية الاولى منتصرة ، اصدرت وعد بلفور في الثاني من تشرين عام 1917 وتعهدت فيه باقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ، وتزامن ذلك مع اتفاقية سايكس – بيكو بين فرنسا وبريطانيا لتقسيم العالم العربي الى دويلات تخضع لسيادتيهما الاستعمارية ،وهذا يؤكد ان التخطيط لاقامة دولة بهودية في فلسطين لا علاقة له بضحايا النازية من اليهود في الحرب العالمية الثانية، وبريطانيا التي فرضت انتدابها على فلسطين بعد الحرب الكونية الاولى وحتى 15 ايار 1948 هي التي سلحت ودربت العصابات الصهيونية ، وسلمتها قواعدها العسكرية عند انساحبها ، كانت تعدم الفلسطيني شنقا حتى الموت اذا ما ضبطت معه رصاصة فارغة أو سكّينا عاديا.
واسرائيل التي استمدت شرعية وجودها من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم -181- المعروف بقرار التقسيم والصادر في 29 نوفمبر 1947 ، لم تكتف بالحدود التي اعطاها اياها قرار التقسيم ، والتي بموجبها تسيطر على ما مساحته حوالى 52% من فلسطين، بل تعدته الى اكثر من ذلك بكثير . كما انها قبلت بجزء من البند الذي ينص على اقامة دولة يهودية ، ورفضت جزءه الثاني الذي ينص على اقامة دولة عربية فلسطينية، ورغم صغر مساحة فلسطين التي لا تزيد عن 26 الف كيلو متر مربع ، فإن التداخل السكاني بين اليهود الذين هاجروا الى فلسطين ، واصبحوا مواطنين في دولة اسرائيل ، وبين المواطنين الفلسطينيين العرب المواطنين الاصليين لهذه البلاد .
وهذا التداخل الناتج عن الاطماع الصهيونية التوسعية ادى الى حروب متواصلة حتى حرب حزيران 1967 والتي اوقعت كامل اراضي فلسطين التاريخية تحت السيطرة الاسرائيلية، اضافة الى اراضي عربية اخرى . وهذا التداخل السكاني له تعقيداته الاخرى ، فمثلا تبقى في الاراضي التي قامت عليها اسرائيل مائة وخمسون الف فلسطيني عضّوا على تراب وطنهم بالنواجذ ، تكاثروا واصبح عددهم الان حوالي مليون ونصف انسان ، جزء كبير منهم لاجئون داخل وطنهم ، فاسرائيل التي تعتبرهم مواطنين فيها، ويحملون حنسيتها صادرت غالبية اراضيهم ، ورحلت الآلاف منهم من مدنهم وقراهم ، وتعاملهم كمواطنين ناقصي المواطنة في مختلف المجالات ، حتى ان بعضهم عبر عن ذلك بسخرية قاتلة عندما قال : ” دولتي تحارب شعبي ، وشعبي يحارب دولتي ” وهؤلاء الفلسطنيون يحيون ذكرى النكبة التي حلت بهم ، فاستقلال ” دولتهم ” هو نكبة لهم ، فدولتهم ” تضطهدهم وتسلبهم انتماءهم القومي وتحارب شعبهم وأمتهم” ، ويعي قادة الفكر الصهيوني مدى التناقض الذي يعيشونه ، ومن هنا فانهم يطرحون ” يهودية الدولة ” ليتخلصوا من مواطنيهم الفلسطينيين ،ولتكون اسرائيل دولة لليهود فقط وليس لكل مواطنيها،وهذا غير موجود في أي دولة أخرى في العالم.
واسرائيل الصهيونية القائمة على الاستيطان والتوسع ، قامت ببناء المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية ، وفي الجولان السورية ، ونقلت اليها مستوطنين يهود في محاولة لفرض سياسة الأمر الواقع ، ونكلت بالفلسطينيين في الضفة الغربية وفي جوهرتها القدس شرّ تنكيل، في محاولة منها لاجبارهم على الرحيل عن وطنهم ، وهي تلقى الدعم اللامحدود على كافة الأصعدة من الدولة الاعظم في العالم .
وبما ان الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش الذي يدعم اسرائيل بشكل يفوق توقعات القادة الاسرائيليين انفسهم ، فد ورط بلاده في حروب خاسرة أهمها حربه العدوانية على العراق وافغانستان ، فإنه اقتنع وبناء على توصيات مستشاريه وتوصيات لجان امريكية اخرى بأن اسباب الصراع في المنطقة هي القضية الفلسطينية ، فإنه ارتأى ضرورة قيام دولة فلسطينية في محاولة منه لانقاذ ما يمكن انقاذه من هيبة امريكا التي تمرغت في وحل العراق ، ويلاحظ ان رؤيته هذه تتجنب ذكر قرارات الشرعية الدولية ، والقانون الدولي ، بل انه استبدل ذلك بخارطة الطريق .
وبما ان الرئيس الامريكي قادم للمنطقة للمشاركة في احتفالات اسرائيل بالذكرى الستين لقيامها ، فإنه اوعز لوزيرة خارجيته كونداليزا رايس للقيام بجولاتها المكوكية في المنطقة ، لتقريب وجهات النظر بين الفلسطينيين والاسرائيليين ، واذا كانت رايس قد قالت على استحياء في مؤتمر صحفي يوم 4 ايار الحالي ان الاستيطان عقبة في طريق السلام ، فإن وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبي ليفني التي وقفت بجلنبها لم تتورع من قول ان اسرائيل اوقفت بناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية ، واوقفت مصادرة اراضي الفلسطينيين ، وكانت لتوها خارجة من اجتماع لحكومتها اقرت فيه توسيع مستوطنة : هارحوماه ” -جبل ابو غنيم – بين القدس وبيت لحم ، وتوسيع مستوطنة أخرى على اراضي قرية بورين قرب نابلس .
والرئيس الامريكي سيشارك في احتفالات اسرائيل بذكرى قيامها الستين ، من منطقلات ايمانية يتقرب فيها الى الله تمهيدا لعودة المسيح المنتظر ، كما يؤمن المحافظون الجدد ، اعلن في تصريحات سابقة تأييده للاستيطان اليهودي في الضفة الغربية ، ويؤيد حصار قطاع غزة حصارا تجويعيا صارما ، لم يسأل نفسه كيف ستقوم هذه الدولة على رقعة جغرافية صغيرة ، تمزقها المستوطنات اليهودية ، وتعزل جدران التوسع الاسرائيلي تجمعاتها السكانية في كانتونات هي اشبه ما تكون بالسجون الكبيرة .
واذا كانت اسرائيل وامريكا تعيان ما تقومان به ، وما تخططان له ، فإن غالبية الدول العربية إمّا موافقة أو ساكتة على ذلك مغلوبة على أمرها ، أو لا يعنيها الأمر شيئا ، فالسفارات الاسرائيلية في اكثر من عاصمة عربية ، والدبلوماسيون الاسرائيليون يدخلون غالبية العواصم العربية ، والغاز المصري يتدفق الى اسرائيل ، والحصار مستمر على قطاع غزة ، والاستيطان مستمر في الضفة الغربية .
فهل ستقوم الدولة الفلسطينية هذا العام بناء على وعود بوش ؟؟ وهل اسرائيل جاهزة لمتطلبات السلام ؟ والجواب ان كل الدلائل تشير الى عكس ذلك تماما ، وواقع الانقسام الفلسطيني يساعد على ذلك ، ولتبقى النكبة مستمرة وتبقى المعاناة مستمرة .