فذاكرة فتحي البس أعادتنا الى ذكريات عن بعض المخيمات التي عاش فيها طفلاً وشاباً مثل العروب والفوار وعقبة جبر وصولاً الى مخيم البقعة في الأردن . وقد رسم لنا فتحي البس بكلماته صورة المعاناة والحرمان والجوع والعري في مخيمات اللجوء التي عاشها أبناء الشعب الفلسطيني بعد تشريدهم من وطنهم ، هذه المعاناة التي اكتوى بنارها الأطفال والنساء والشيوخ والشباب ، ومع ذلك تشبثوا بالحياة التي يعشقونها على أمل العودة الى الفردوس المفقود .
فتحي البس في هذه المذكرات يستذكر طفولته وطفولة أبناء جيله الذبيحة في المخيمات، فأسرته التي كانت تعيش في الفالوجة حياة عز وكرامة ، تحولت جراء نكبة الشعب الفلسطيني في العام 1948 الى السكن في بيوت من الصفيح في المخيمات لا تجد قوت يومها ، ويتحدث الكاتب عن بعض عذابات الوالدين في سبيل تحقيق عيش الكفاف لأطفال زغب الحواصل .
وفتحي البس هذا الانسان الذكي الذي انتشل نفسه وأسرته بعد كفاح مرير من حياة الحرمان الى الحياة الكريمة، يشكل نموذجاً يحتذى للشباب الفلسطيني، فقد كافح في سبيل توفير مصاريفه اليومية والمساعدة في توفير لقمة العيش للأسرة وهو طفل كسير الجناح ، استغل ذكاءه في سبيل تحصيله العلمي ، فتحي البس ذلك الطفل الطالب الفقير سافر الى بيروت للدراسة في ” الانترناشونال كولدج ” ولم يستطع تكميل دراسته لعدم قدرته دفع أجرة المواصلات ما بين السكن والكلية ، ثم ما لبث ان التحق بحركة ” فتح ” وعاود الدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت ليدرس الصيدلة، وليجمع في هذه المرحلة ما بين النضال في صفوف فتح والمشاركة في اتحاد طلبة الجامعة وبين الدراسة ، ونجح في كلا الجانبين رغم الصعوبات التي واجهته . ويشارك فتحي البس في ” الكتيبة الطلابية ” التي كانت ذراع فتح في الجامعة . ويخوض معارك الثورة خصوصاً في الحرب الأهلية اللبنانية .
لم تكن طريق الحياة معبدة أمام كاتبنا بل كانت مزروعة بالأشواك وبالألغام ، ومع ذلك تخطى كل هذه المعيقات بقدرة واقتدار، ونجا من الموت المحقق مرات عديدة ليعمل صيدلانياً بعد عودته الى الأردن في مخيم البقعة ، ثم ليتحول الى طباعة ونشر الكتب وليؤسس دار الشروق للنشر في عمان ورام الله وليصل الى رئاسة اتحاد الناشرين العرب ،وهو بهذا يمزج ما بين الماضي والحاضر لايمانه كما قال بأن ” الماضي المبعثر قطعة من مستقبلنا ” .
وفتحي البس في مذكراته يكتب لنا جانباً تأريخياً من الملهاة الفلسطينية على رأي أديبنا ابراهيم نصر الله ، فهو يؤرخ دون قصد للتأريخ لجوانب من بدايات تأسيس مخيمات اللجوء الفلسطينية ، ونمط الحياة في هذه المخيمات ، كما يفعل نفس الشيء بالنسبة للحركة الطلابية في الجامعة الأمريكية في فترة دراسته ، وكذلك بالنسبة لحركة فتح في لبنان ، ورغم الفجائع التي تحويها هذه الذاكرة المغموسة بالدماء والدموع، الا أننا نجد أنفسنا أمام عمل ابداعي مشوق وممتع، يكشف لنا أننا أمام مبدع لديه الكثير مما يقوله .