لا تغيب القدس عن خطوات الكاتب (جميل السلحوت) في كتابه (كنت هناك) الصادر عن وزارة الثقافة مؤخرا، فمنها ينطلق، وإليها يعود بشوق، وعنها يحكي وينقل ويخبر. وهي دائمة الحضور في وجدانه؛ يقارن حالها بحال المدن التي يراها ويزورها من شقيقاتها، ويستذكرها في صحوه ومنامه، وفي أحاديثه ومقارناته. إنها الحاضر في غيابه، الغائب الماثل في العقل والوجدان.
يحكي عن حالها وهي ترزح تحت نير الاحتلال، وينقل واقعها المحاصر ثقافيا، ويبكي حالها في الأسر.
القدس دائمة الحضور لا تغيب إلا لتعود عند الكاتب الذي كتب انطباعاته ونقل زياراته إلى مدن عمان، والرياض، والقاهرة، وبيروت.
استعان الكاتب بأسلوب الاستطراد الذي يواصل حضور المعنى؛ فعندما يشير الكاتب إلى الماء في موضع ما يستذكر حال المياه الجوفية المنهوبة في فلسطين. وحين يشير إلى الأمن السائد والسير بطمأنينة يذكر واقع الخوف وعدم الاستقرار في الوطن.
يسرد الكاتب ويخبر بأسلوب إخباري سلس شائق مشوّق ليقول أمرا ويرسل رسالة. إنه لا يقص أخبارا جافة بهدف المعلومة والإعلام فقط، بل ليقارن، ويقف على المعنى، وينقل حال التغير العمراني، وينقل دموع الناس الصادقين المقهورين حين يسأل سائلهم: متى تعود القدس؟ أو: ما حال القدس؟
يبكي القوم حسرة ، وفي البكاء دليل حياة؛ القدس تحيا في الوجدان. الناس لم ينسوا القدس.
رحلات أراد الكاتب توثيقها بلغة إخبارية مطعمة بلغة الأدب والسياسة. وجغرافيا مكان وإنسان نقلها بوعي ومتعة.
يجد القارئ في (كنت هناك) الأساليب التعبيرية المتجاورة المتضافرة. ويقف على معلومات في الجغرافيا والوعي والعلاقات والعادات .
استخدم الكاتب أسلوب السرد الحقيقي الواقعي الذي يقدم معلومات للقارئ يردفها بتعليق خاص به بعيدا عن مواصلة خط سرده؛ يستقطع الكاتب مكانا من مساحة السرد ليعلّق ويذكّر، وكأنه يقول: إنما أسوق هذا السرد بمعلوماته لأذكّر بواقع ما زال ماثلا. فالاحتلال ما زال يربض على صدر القدس وشعبها الفلسطيني.
واستعان الكاتب أيضا بأسلوب الاسترجاع؛ فهو يستذكر الأمكنة، والأزمنة، والقدس، والسيرة الشخصية في مواقف محددة.
ويربط ما يشاهده في المدن العربية التي زارها بواقع وطنه، وحين يسير بحرية في شوارع المدن يذكر أنه يفتقد لهذه الحرية في وطنه.
الكاتب هنا في سرده بضمير ال(أنا) إنما يسرد (أنا) الشعب والوطن في جزء من سيرته ومسيرته. فهذا التوثيق لا يرمي إلى التسجيل والتوثيق فقط بل يقدّم مقارنة متخيلة حينا ومصرحا بها حينا آخر.
لهذا الكتاب الذي يواصل مسيرة (أدب الرحلات) أربع قيم أرادها الكاتب وأوصلها الكتاب؛
قيمة توثيقية، وقيمة أدبية، وقيمة وطنية، وقيمة فكرية.
لقد عاش الوطن بجماله وتاريخه ومكانته في نفس القارئ فلم يغب عنه لحظة بل رأيناه يزداد تمسكا به وحلما بالرجوع إليه. لم يتمن البقاء سائحا ذا احترام في مدن عربية أحبها وتغنى بجمالها وهدوئها وأمنها بل ظل يذكر وطنه في حله وترحاله مذكّرا بقول الشاعر العربي:
هب جنة الخلد عدن / لا شيء يعدل الوطن