مدخل:
محمود شقير أديب مبدع مجيد، لمع اسمه في الستينات من القرن العشرين على صفحات مجلة “الأفق الجديد” التي كانت تصدر آنذاك في مدينة القدس وكان من كتابها: يحيى يخلف، الشهيد ماجد أبو شرار، صبحي الشحروري، د. ابراهيم العلم، المرحوم الشاعر عبد الرحيم عمر، خليل السواحري، جمال بنورة وآخرون.
ومنذ ذلك التاريخ وهو معروف ككاتب قصة قصيرة مبدع، صدرت له مجموعته القصصية الأولى “خبز الآخرين” عام 1975، وقدم لها الشاعر المرحوم توفيق زياد عن منشورات صلاح الدين في القدس بعد إبعاده عن أرض الوطن الى لبنان، حيث عمل كمحرر في مجلة “فلسطين الثورة”، انتقل الى الأردن ليعود الى مهنته التي كان يعمل فيها قبل إبعاده، وهي التعليم، الى أن أحيل على التقاعد، ليرحل بعدها الى براغ كممثل للحزب الشيوعي الفلسطيني في مجلة “قضايا السلم والاشتراكية”.
وفي العام 1993 عاد الى أرض الوطن، ضمن من عادوا حسب الاتفاقات السياسية الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل، ليعمل محررا ثم رئيس تحرير لصحيفة “الطليعة المقدسية” الاسبوعية الى أن توقفت، وبعد تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية عمل ولا يزال مديرا عاما في وزارة الثقافة الفلسطينية.
وبالتأكيد فان الأديب شقير لم يتوقف عن الكتابة منذ بدأها في ستينات القرن الماضي رغم مشاغله الكثيرة وهمومه الأكثر، فقد كتب القصة القصيرة، والقصة القصيرة جداً حيث كان أحد روادها، وقصة الأطفال وقصة الفتيان والرواية “ظل آخر للمدينة”. وكتب المقالة الأدبية والمقالة السياسية، والمسرحية، وسيناريوهات لعدة مسلسلات تلفزيونية شاهدناها على شاشة التلفاز الأردني.
ومحمود شقير الذي يحسن اختيار كلماته وصياغة جملته الأدبية كاتب مقل الى ما قبل العام 2000، وبعدها فإن سياسية الاغلاق والحصار التي يمارسها المحتلون، والتي تحول دون وصول الأديب شقير الى عمله في رام الله، قد أعطته الوقت الكافي للمطالعة والكتابة، فجاءت من باب “رب ضارة نافعة” فصدرت له عدة كتابات ابداعية تجعلنا نصيح بصوت عال متسائلين: لماذا لا يتم تفريغ المبدعين كي نستفيد من ابداعاتهم؟
والأديب شقير انسان متكامل، فهو رصين رزين في كل الأحوال، جاد في مواقف الجد، فكاهي في مواقف الفكاهة، لكنه ليس مسرفا لا في جده ولا في هزله، يعشق الحياة ما استطاع اليها سبيلا. ومع أنه من مواليد العام 1941 إلا أنك تجد فيه عزم الشباب ونشاطهم وفكاهتهم وفيه حكمة الشيوخ أيضا، يحطم فوارق الأجيال عندما يتعامل مع أبنائه أو من هم في جيل أبنائه، وكذلك يفعل مع من هم في جيل آبائه، والسبب في ذلك هو ثقافته ووعيه وسعة تجربته.
وأنا أسوق هذه المقدمة لا للتأريخ لحياة أديبنا أو لكتابة سيرته وإنما لأعطي لمحة سريعة لمن لا يعرفونه عن قرب – خصوصا وأنه أبعد عن أرض الوطن مدة تقارب التسعة عشر عاما تمثل زهرة شبابه – لتكون هذه اللمحة مدخلا لقراءة أعماله، ولتكون مرشداً لي – أنا الزاعم بأنني أعرف الكاتب عن قرب – في قراءة مجموعته القصصية الأخيرة “صورة شاكيرا” الصادرة هذا العام عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت.
صورة شاكيرا:
عندما وقعت يداي على هذه المجموعة “صورة شاكيرا” قرأت نصوصها القصصية البالغة تسعا وعشرين نصا قصصيا في جلسة واحدة، فدارت في ذهني أعمال الأديب شقير السابقة، حيث تميز في كتابة القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، وعمله الروائي “ظل آخر للمدينة” الذي يصر على أن يسميه “سيرة للمكان” والمكان هنا هو القدس الشريف، وقصصه للأطفال.
وفي مجموعته هذه تميز بكتابة القصة القصيرة الساخرة حيث جاء في المجموعة بضع قصص ساخرة كنا قرأنا بعضها في مجلات “الكرمل” و”مشارف” و”صوت الوطن” وتمنيت لو أن المؤلف تركها لمجموعة خاصة فقط للأسلوب القصصي الساخر، ولم تنشر في مجموعة حوت في دفاتها هذا الصنف، مع قصص أخرى قصيرة أو قصيرة جدا، لكان تميزه واضحا يضاف بقوة الى رصيده الأدبي المتميز، أم أن الكاتب لجأ الى هذا الخلط عامدا متعمدا؟؟ وفي كل الأحوال يبقى هذا الشأن حقا له “فأهل مكة أدرى بشعابها” مع أن من حق من يدخل هذه الشعاب أن يخرج بانطباعاته كما شاهدها.
السخرية في المجموعة:
معروف أن الأسلوب الساخر هو الأسلوب الأقرب والأكثر نفاذا وتأثيرا الى وعي وعقل ونفسية المتلقي، وأنا استذكر في هذا المجال أديبنا الراحل اميل حبيبي حيث لمع نجمه بأسلوبه القصصي والمسرحي والروائي الساخر خصوصا في رائعته “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” ومسرحيته “لكع بن لكع”.
وقد حوت مجموعة “صورة شاكيرا” لأديبنا محمود شقير على بضع قصص ساخرة سأتناول اثنتين منها في هذه العجالة لما تركته في نفسي من تأثيرات أضحكتني وأسعدتني وآلمتني في آن واحد. والتي يؤكد فيها محمود شقير مقولة ذلك الناقد الذي طار اسمه من ذاكرتي بأن الكاتب المبدع “جاسوس” مجتمعه، فقد التقط كاتبنا بطريقة نبيهة ومبدعة بعض الآفات الاجتماعية وصاغها بطريقة ابداعية ساخرة ومن هذه القصص:
مقعد رونالدو: ملخص القصة أن كاظم علي، وهو أحد الشباب المعجبين بلاعب كرة القدم، البرازيلي رونالدو، يزعم بأن اللاعب البرازيلي وزوجته وطفله سيزورونه في قريته بعد مراسلات بينهما عبر الأنترنت، ومع أن أهل القرية لا يهتمون بكرة القدم وحتى لم يسمعوا باسمه حتى أن بعضهم كان يردد اسمه بطريقة مغلوطة مثل “فونالدوا” و”كونالدو”، إلا أن كاظم علي ظل يحجز المقعد الأمامي في سيارة الأجرة لضيفه المحتمل وأهالي القرية يتهمون كاظم علي بالكذب فيقول أحدهم للآخر عندما يستمعون اليه “حط في الخرج” إلا أنه بقي مصراً بأن رونالدو سيزوره.
وتسري الشائعات حول حجز كاظم علي للمقعد الأمامي في السيارة لرونالدو منها أن المقعد محجوز لبعض الفتيات “للولدنة” مما عرضه للضرب المبرح من ثلاثة رجال ملثمين، ومن الشائعات أيضا أن كاظم علي “يتستر على شخص له صلات مشبوهة مع سلطات الاحتلال”. مما دعا أهل القرية الى اجتماع بناء على طلب “حركة الأفعال لا الأقوال” وتعرض كاظم علي للضرب مرة أخرى على أيدي سبعة رجال ملثمين. ثم ذهب وفد من أهالي القرية الى عائلة كاظم علي طالبين أن يضعوا حدا لابنهم، فيذهب وفد من العائلة يتقدمهم كبيرهم الجزار الذي “أطبق بضراوة على ذراع كاظم علي، ضغط على رقبته بحد السكين الذي يستعين به لتقطيع لحم الخراف عنوة وضربوه على وجهه مطالبينه بعدم ذكر حتى اسم رونالدو، فلم يتفوه كاظم علي بأي كلمة في حين انصرف وفد العائلة “اعطوا أهل الحارة وعد بأن ابنهم لن يثير من الآن فصاعدا أية مشكلة، وبأن المشبوه كونالدو سيغادر الحارة نهائيا مع بزوغ شمس الصباح”. وفي صباح اليوم التالي لم يسمح كاظم علي لأحد بأن يجلس في المقعد الأمامي للسيارة لأنه محجوز لرونالدوز.
وفي القصة أيضا نقد لاذع لمفاهيم بعض الشباب في الزواج فكاظم علي “له رأي ثابت بخصوص الزواج: لا تتزوج الفتاة التي تستجيب لك من أول نظرة” لذا فقد تزوج زوجته بعدما صعدت الى سيارته التي كان فيها وحيدا وأعجب بجمالها “قال دون مقدمات” أنا طالب القرب، خلعت الفتاة فردة حذائها، هزتها في وجه كاظم علي، كادت تضربه لولا أنه اعتذر لها في الحال”. فبحث عن بيتها ثلاثة أيام متواصلة الى أن عرفه، وأرسل أهله لطلب يدها فكانت الخطوبة ثم الزواج”. وكأني بالكاتب يستذكر الأغنية الشعبية – عندما كتب هذا الموضوع – التي تنتقد طريقة العشق عند أبناء البادية:
ملعون أبوكم عرب واوي طرد واوي
ملعون ابوكم عرب ما فيكم الغاوي
فالحب عند الأعراب حسب الشاعر الشعبي شبيه بغرام وحب “الواويات” وهي نوع من الثعالب، في حين أن الزواج عند الشباب في عصر رونالدو يكون بضرب النعال.
والكاتب هنا يسخر من بعض الأشخاص الذي يختلق أكذوبة يصنعها لنفسه بادعائه العلاقة مع أحد النجوم، ويصر على أكذوبته مع ما يتعرض له من شائعات ومن أضرار قد تصل الى حد الايذاء الجسدي. وفي مجتمعنا كثرة من أمثال كاظم علي الذي صاغ قصته الأديب شقير بطريقة ساخرة ومضحكة.
مايكل جاكسون في حينا
تتمحور القصة حول المغني الأميركي الشهير مايكل جاكسون حيث أن ابن عم الراوي في القصة “قال ذات مساء كمن يحلم: سأحضر مايكل جاكسون الى هذا الحي بالذات، سأجعله يغني أغانيه العذبة أمام فتيات الحي وفتيانه” وابن العم هذا سافر الى أميركا للمشاركة في دورة للادارة الحديثة في نيويورك وشاهد حفلا غنائيا لملك الغناء الاميركي مايكل جاكسون، ويتطور الحلم الى تحضير قاعة المدرسة لاستقبال جاكسون الى أن يحضر المغني ويغني في الحي مع رقص الشباب والشابات دون اكتراث بمعارضة العم ودون الاستماع اليه عندما حاول أن يغني بيتا من الشعر العامي.
وهذه القصة فيها من السخرية الشيء الكثير وفيها نقد لاذع للشباب الذين تخلوا عن أغانيهم التراثية الأصلية واستبدلوها بأغان أجنبية لا يفهمون منها شيئا ولا يعرفون شيئا عن كاتبها وملحنها ومؤديها.
كما في القصة نقد شديد طبعا غير مباشر لجيل الآباء الذين لا يعيرون انتباها لمتطلبات الأجيال الشابة، ذكورا وإناثا، الذين يرقصون على الأغاني الأجنبية حتى مطلع الفجر.
فالعم ينشد في الحفل “بصوت جهير شيئا من الشعر العامي اعتاد ترديدة على أنغام ربابته في ليالي السهر:
ليت المنايا الـ تيجي يا سلامه تدور على الظالمين دار بدار
جوبه عمي باحتجاجات صاخبة، لم يستجب أحد من جمهور القاعة لانشاده”. في حين عندما غنى مايكل جاكسون “صفق له الجمهور بحماس، خرجت بعض فتياتنا الى خشبة المسرح، رقصن مع المغني الشهير وهن في أتم انبساط، رقص الفتيان كذلك بابتهاج، وظل مايكل جاكسون يترنم بالأغنية تلو الأخرى في حينا البائس حتى مطلع الفجر، إي والله حتى مطلع الفجر”.
فهل إعجاب الشباب والشابات بالأغاني الأجنبية التي لا يفهمونها هو من باب الاعجاب بقوة دولهم؟؟ فعندما حصلت مشاحنة بين العم ومايكل جاكسون غضب الأخير، “أخرج هاتفه النقال من جيبه.. قال: سأتصل بوزير دفاعنا رامسفيلد، سأطلب منه أن يرسل في الحال طائرة من نوع شبح أ وطائرتين”، ربما يكون هذا السبب، أم أن العولمة أخذت تفرض نفسها على الشعوب الضعيفة؟؟ ربما أيضا.
وتسخر القصة من اهتمامات بعض الشباب. فقد جاء في الصندوق المعد لرسائل المعجبين والمعجبات بمايكل جاكسون جاء في رسائل الشباب: “يسألون المغني الشهير عن وجبة الطعام التي يشتهيها، يسألونه عن آخر نكتة سمعها، يسألونه عن اللون المفضل له” ويعلق الراوي على ذلك “هذا من تأثير التلفاز” وفي هذا نقد لاذع لبرامج محطات التلفزة ترتكز على مثل هذه التوافه دون الالتفات الى الجوهر.
أما الفتيات فتدل رسائلهن على أنهن “الملعونات يعانين من كبت مسعور، تصور، تسع عشرة فتاة من اصل أربع وعشرين يعرضن على المغني الزواج… ثلاث فتيات سخرن من المغني، قلن في رسائلهن إنه ولد مائع ولا يقبلنه مجرد ماسح لأحذيتهن”.
إذا نحن أمام جيل شاب ضائع وشابات يعانين الكبت دون أن يلتفت أحد الى معاناة الطرفين اللذين كلاهما يبتعد عن ماضيه وحضارته وتائه في ما يريده من جديد، وحفلات أعراسنا مثال على ذلك حيث أن الأغنية الشعبية لم يعد لها مكان أمام الموسيقى الصاخبة والأغاني الصاخبة التي لا يفهمها الراقصون على أنغامها. والتي تملأ الأحياء والقرى صخبا وضجيجا دون مراعاة حق الآخرين في الهدوء والنوم المريح.
ويطول الحديث عن هذه المجموعة التي تشكل قصصها الساخرة ميزة جديدة تضاف الى تميز ابداع الأديب محمود شقير.