للمراسلات بين كاتب وكاتبة نكهة خاصة، وأكثر من شهادة تزعم بأنّ المرأة الكاتبة تثق بصداقة الرجل الكاتب أكثر من صداقتها مع المرأة الكاتبة، كذلك يثق هو بصداقتها أكثر من صداقته مع الرّجل الكاتب، وحسب تفسير الكاتب جميل السَّلَحوت في إحدى رسائله إلى الكاتبة صباح بشير، أن هذه الثقة تعود إلى غياب الغيرة والمنافسة التي قد نجدها بين الرجل والرجل وبين المرأة والمرأة.
معظم المراسلات تبقى طيّ الكتمان، إلا أن إتاحة الطباعة ودور النشر، إضافة إلى هامش الحرية في بعض المجتمعات العربية، شجّع بعض الكتاب على نشر مراسلاتهم، من بين هؤلاء المقدسيان جميل السّلحوت وصباح بشير، حيث صدرت رسائلهما مؤخّراً عن مكتبة كل شيء في حيفا، تحت عنوان «رسائل من القدس وإليها»، وهي مراسلات بدأت بينهما منذ العام 2010 واستمرت حتى أواخر 2022، مع وجود فترات توقّفت خلالها.
السؤال هو ما الذي تضيفه هذه المراسلات إلى جمهور القراء؟
لا بد من تذكّر مراسلات بين كتّاب وكاتبات، أشهرها رسائل جبران خليل جبران ومي زيادة، وغسان كنفاني وغادة السّمان، ومؤخّراً بين محمود شقير وحزامة حبايب، وبين الكاتبين عمر كتمتو الفلسطيني المغترب ود. روز شعبان المقيمة في الداخل الفلسطيني، وللناقد الدكتور نبيه القاسم عن دار النشر نفسها مراسلات بينه وبين إحدى تلميذاته، عندما كان أستاذاً في الكلية العربية للمعلمين في حيفا، لكنه اكتفى بتوقيع رسائلها بضمير «هي» دون ذكر اسم الطالبة، وقد ربطتهما علاقة سامية من المشاعر النبيلة، وتبادل الآراء ليكون منقذاً وسنداً وناصحاً لها، دون ترك العنان للمشاعر الحميمة بالانطلاق.
في الرسالة الأولى من جميل السّلحوت إلى صباح بشير، يتذكر لقاءهما الأول في ندوة اليوم السابع الأسبوعية التي تدار في مسرح الحكواتي في القدس، ويكتشف أنها تسكن في الحي نفسه الذي يسكنه في جبل المكبر في القدس المحتلة.
تبدأ المراسلات حول قضايا الثقافة ونشاط الندوة والقراءة والكتابة لتتشعب وتشمل قضية المرأة والعادات الاجتماعية السائدة والفساد والاحتلال وممارساته القمعية، إذ إن الكاتب نفسه سُجن إدارياً لمدة عام في سجن الدامون في كرمل حيفا مع صديقه الكاتب محمود شقير، فيصف سجن الدامون ولقاءه الأول مع حيفا عام 1969 مع عدد من المبدعين الفلسطينيين.
يتطرّق الكاتبان إلى أسرلة مناهج التعليم في القدس الشرقية وتسرّب آلاف الطلاب المقدسيين قبل إنهاء تعليمهم الأساسي، وسياسة التجهيل، وإلى الفنون، والجوائز الأدبية بإيجابها وسلبها ومعايير اختيارها، وإلى المعاناة تحت الاحتلال بمختلف صورها، فيذكر الكاتب أراضي العائلة وغيرها من عائلات القدس التي كانت مصدر معيشة ومراعي للحلال التي صودرت وأقيمت عليها مستوطنات وأحياء تهويدية، والانتفاضة الأولى ثم اتفاقات أوسلو وتوسّع الهجمة على الأرض الفلسطينية، والموقف من الثورات العربية التي كانت أملاً في بدايتها، ثم اغتيالها، ووصولاً إلى التطبيع والكورونا وانعكاسها على العلاقات الاجتماعية.
يؤكد الكاتب موقفه الداعم للمرأة وحقوقها ويناصرها ويخصّص أكثر من رواية لقضية المرأة « المطلقة» و»الخاصرة الرخوة» و»الأرملة» وغيرها، إضافة إلى سيل من المقالات الداعمة لحقوق المرأة.
أغنى الكاتبان رسائلهما بالكتابة عن رحلاتهما وتنقلاتهما، صباح بشير ابنة القدس، عاشت في الأمارات العربية مع أسرتها بضع سنوات، ثم في بريطانيا، وفي السعودية وتونس، وزارت عدداً كبيراً من الدول كسائحة، تركت كل واحدة منها بصمة ما في شخصيتها، فوصفت الكثير من المدن وعادات الشعوب، الأمر الذي أغنى الرسائل وقرّبها من أدب الرحلات.
الكاتب بدوره زار معظم الدول العربية وبعض الدول الأوروبية، أما الولايات المتحدة، فقد زارها ما يقارب العشرين مرّة، إذ إن ابنه قيس تعلّم وتزوج ويعيش فيها، فيكتب الكثير عن رحلاته هذه بتوسّع، وكان قد نشر كتاباً عام 2012 عن رحلاته بعنوان «كنت هناك».
تخلل الرسائل مداخلات حول سياسة الغرب وأمريكا المتناقضة، فهي تحترم حقوق الإنسان داخلها لكنها عكس ذلك خارجياً، منحازة ضد فلسطين والعرب والشعوب الفقيرة، وتنهب حتى آثارها وتعرضها في متاحفها.
يمنح الكاتب حيّزاً كبيراً للحديث عن المجتمع الأمريكي، فيأخذ القارئ في رحلة شائقة إلى مختلف الولايات التي زارها بعينِ ناقدة، فينتبه إلى تناقضات المجتمع الأمريكي، الغنى الفاحش والقصور مقابل الفقر المدقع والأكواخ الحقيرة، ويتطرّق إلى حياة العرب هناك، فمنهم من نجح بالفعل وصار رجل أعمال أو أستاذاً كبيراً، ومنهم من بات متسوّلاً ويلجأ إلى المساجد لينام فيها ويعتمد على أهل الخير في طعامه، وهناك شرح وافٍ لزياراته إلى المحميات الطبيعية والمتنزهات العامة وشلالات نياغارا في سرد جميل، يمنح القارئ وجبة جيّدة من المعلومات والمتعة.
طرقت الرسائل مواضيع ومضامين كثيرة من زوايا مختلفة، الأمر الذي يحول دون ملل القارئ، وفي الوقت ذاته ابتعد الكاتبان عن الحياة الخاصة لكل منهما، فركّزا على الهموم العامة في مختلف تجلياتها مع لمسات ذاتية خفيفة.
تحاول الكاتبة تجنُّب الخوض في القضية القومية، فهي تتعبها، وعلى العكس منها ينخرط الكاتب في السياسة إلى جانب القضايا الاجتماعية العامة.
يرى الكاتب أن الإسلام أنصف المرأة، لكن المسلمين لم يحسنوا تطبيقه، إلا أن الكاتبة تردّ عليه بأنه « ليس من الضرورة أن يثبت الكاتب بأن أفكاره الإنسانية لا تتعارض مع الدين، فهذا قد يقيّد حريته الإبداعية، لأنه وبمجرد انطلاقه من رؤية أخلاقية تبرز مصداقيته والتزامه في توظيف الأدب لخدمة الفكرة، يكون بذلك قد أخلص في أداء الرسالة، دون الحاجة إلى التبرير والإثبات، فالعمل الأدبي بحد ذاته فعل حر خلاق يقود إلى الإبداع» ص 106.
تحكي الكاتبة عن هاجسها في كتابة رواية بدأت بها بالفعل، لكن ضغوط الحياة وتنقّلاتها الاضطرارية وعدم استقرارها ترغمها على التأجيل، إلى أن تنتقل إلى العيش في حيفا في العامين الأخيرين، حيث تبدأ بالاستقرار واستئناف كتابة روايتها.
طرح الكاتبان قضايا خاصة في القدس وفلسطينية وعربية وإنسانية، سياسية واجتماعية تهمّنا جميعاً، وهذا ما يبرِّر جمعها ونشرها في كتاب، مع لاحظة تجرّد الكاتبين من أي تجاذب عاطفي أو جنسي، إذ يخاطب أحدهما الآخر في رأس الرسالة إلى الأخ وإلى الأخت، وهذا لم نعتده لدى من سبقهم في هذا المجال، حيث لعبت مشاعر الحب والتجاذب بين الجنسين دوراً في تبادل الرسائل.
14-7-2022