القدس: 24-1-2018 ناقشت ندوة اليوم السابع رواية “سفر مريم” للأديب المقدسيّ مهند الصباح، صدرت الرواية ” بداية هذا العام 2019، عن مكتبة كل شيء الحيفاويّة، وتقع الرّوايّة التي صمّمها شربل إلياس في 188 صفحة من الحجم المتوسّط.
افتتحت النقاش ديمة جمعة السمان فقالت:
رزمة من الأسئلة الصعبة.. وضعها الكاتب أمام القارىء.
اصطحبنا الروائي مهند الصباح في رحلة خيالية لم يسبق أن خطّها قلم أديب.. هي فريدة من نوعها.. رحلة إلى المستقبل.. دغدغت عواطفنا الوطنية، جعلتنا نحك أدمغتنا نفكر.. ماذا لو حقق الفلسطينيون حلم العودة؟ هل ستنتهي مشاكل اللاجئين الفلسطينيين وتبتسم لهم الدنيا من جديد؟ هل سيعيش العائدون في وئام ومحبة كما كانوا قبل الرحيل؟ هل سيَفدي الجار جاره بروحه وماله كما كان قبل رحلة اللجوء؟
رزمة من الأسئلة الصعبة.. وضعها الكاتب أمام القارىء يواجهه بحقيقة أمر ما كان بالحسبان.
أحقا الصراعات لن تنتهي بعد تحقيق حلم العودة، وأن عنوانها هو الذي سيختلف فقط.. من صراعات مع الاحتلال الى صراعات اجتماعية عشائرية يغذيها الجشع والطمع والأنانية مدعومة بالمثل القائل (أنا وبعدي الطوفان)؟ هل صحيح أن حدّة العذابات ستزداد.. ووتيرة القلق سترتفع.. والوجع سيتغلغل في كل خلية من خلايانا؟ فقد تبدل الغريم.. ما عاد العدو هو الغريم.. أصبح الأخ والصديق الذي تقاسمت معه فرحك وحزنك ووجعك هو الغريم!
هل هذا ما سيحصل حقا.. سافرت مريم إلى المستقبل وجلبت لنا الأخبار التي لا تسر صديقا ولا عدوا.. هل سيكون هذا هو المصير؟
رحلة جلبت لنا المستقبل.. تحذر مما هو قادم لو تحقق “حلم العودة”.
هي رسالة جريئة من الكاتب يدعو من خلالها إلى التعقل والحكمة.. فليس هكذا يتحقق الحلم.. فلنرتق إلى مستوى ” الحلم بالوطن” .. ولنسعد “بحلم العودة”.. فلنرجع بروح المحبة والإخاء والتضحية والأصالة التي تميز بها من سبقنا من الآباء والأجداد.
رواية شيقة، شخوصها رُسمت بريشة فنان. الكاتب على دراية جيدة بالتفس البشرية.. فهو متخصص بعلم النفس.. نجح أن يمنح شخوصه الاستقلالية، لم يفرض نفسه عليهم.. ولم يجعلهم يتحدثون بلسانه.
لغة الرواية جميلة.. لم تخل من الصور الأدبية التي زينت النص وزادته جمالا.
كان للمرأة حصة لا بأس بها.. عكست رؤية الكاتب للمرأة الفلسطينية واحترامه لقدراتها وكفاءاتها.
وقال جميل السلحوت:
ومهنّد الصّباح روائيّ شابّ من مواليد العام 1979، صدرت له عام 2017 روايته الأولى “قلبي هناك” عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس.
بنى كاتبنا روايته “سفر مريم” على الخيال، وإن كانت أحداثها تدور على أرض الواقع من خلال معرفة الكاتب بواقع مجتمعنا الذي يعيش فيه، وضمن نطاق تخصّصه في دراسته الجامعيّة “خدمة اجتماعيّة وعلم نفس”.
بنى الكاتب روايته من واقعه الاجتماعيّ، وهنا لا بدّ من ذكر أنّ الكاتب ينحدر من أسرة لاجئة، كانت تعيش في قرية قالونيا المهجّرة غرب القدس، ومثله مثل بقيّة اللاجئين الفلسطينيّين الذين شرّدوا من ديارهم وأراضيهم، لكنّهم لم ينسوا الفردوس المفقود، لا يزالون على قناعة بأنّهم سيعودون يوما ما إلى ديارهم، وفي تقديري أنّ الكاتب لو لم يكن لاجئا، لما وردت له فكرة الرّواية على بال. فالرّواية تقوم فكرتها على حلم العودة، من خلال تطبيق قرار رقم 181 الصادر عن الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة الصّادر في 29 نوفمبر 1947. ومن هنا جاء اسم الرّواية، حيث جاء على لسان مريم:” لست مريضة أو مصابة بالحمّى، ةلكنّني كنت في المستقبل، ……أقسم لك، وقد شاهدت أحداثا كثيرة وسأقصّها عليك……………….وتبدأ مريم برواية ما شاهدته في سفرها من أحداث المستقبل.” ص186.
وهكذا تحقّق حلم عودة مجموعة من اللاجئين، إلى قريتهم المتخيّلة” كفر النّخلة”. ومع ذلك فقد دبّت الخلافات بينهم على تقسيم أراضي القرية بينهم، وعلى إرث النّساء، وحدثت صراعات بين العائلات على عضوية إدارة المجلس المحلي، لكنّها كلّها في النّهاية حلّت.
وكأنّي بأحداث الرّواية تشي بأنّ العودة إلى الدّيار في الفردوس المفقود، لن تنهي الصّراعات الاجتماعيّة التي تحدث في المخيّمات وفي القرى والمدن الأخرى، فطبيعة الحياة تقوم على الصّراع.
الرّواية والمرأة: لفت انتباهي انحياز الكاتب للمرأة، فقد جرت خلافات حول حقّ النّساء في الإرث، وحسم الخلاف لصالح توريث النّساء، كما أن رئاسة المجلس المحليّ تولّتها امرأة، كما لاحظنا الأدوار الإيجابيّة للنّساء سواء كانت المرأة ابنة أو زوجة أو أمّا.
الأسلوب: اعتمد الكاتب على أسلوب السّرد الرّوائيّ، وطرح أحداثا وحكايات كثيرة، استطاع ربط أحداثها ببعضها البعض، لنحصل على رواية لا ينقصها عنصر التّشويق، وفي تقديري وحسب معرفتي المتواضعة فإنّ موضوعها غير مسبوق.
وكتبت صباح بشير:
عَنوَنَ الكاتب رواية “سفر مريم” في بدايتها بالكلمات ” بداية الحكاية .. ومبتدأ الخبر ” مما أعطى القارئ إيحاءً خاصا بمضمون الرواية ، فغدى عنصر التشويق فعالا تجاهها . هو عنوان مجازي صيغ بشكل فني غير مباشر ، يحفز القارئ على طرح الاسئلة، تلك التي يستشف الإجابة عليها تباعاً خلال القراءة .
عند الحديث عن هذه الرواية لن أنسى ذلك الإهداء المُلفت ، فقد كان الاهداء مميزا بالفعل حيث أهدى الكاتب الأب روايته لأبنائه الأربعة ، محمد ، مريم ، سلمى ، يحيى ، موصياً إياهم بتذكر مقولة الكاتب الفلسطيني سلمان ناطور (ستأكلنا الضباع إن بقينا بلا ذاكرة ) هي كلمات مؤثرة مختصرة ومعبرة عن إحساس الكاتب بالانتماء الى الوطن المسلوب ، هنا نجد رسالة قَيّمَة واضحة ، يوجهها المُربي إلى المُتربي وكأنه يوصيهم بحب الوطن والحفاظ على ذاكرته الجمعية والهوية ، كذلك تحمل هذه الوصية في طياتها فكرة نقل وتعميم الذاكرة الوطنية.
ناقشت رواية سفر مريم عبر شخصياتها بعض القضايا، حيث تدور أحداثها في قرية فلسطينية متخيلة ، وبأسلوب شيق وسردٍ روائي مترابط يحكي من خلاله الكاتب ويصف شخصيات خيالية عبر قصة مُتسلسلة ، بُنيت لتتحدث عن واقع اجتماعي يحمل بين سطوره فكرة حق العودة ، وذلك الصراع المستمر الذي يبعث ويحفّز على الأمل الدائم في نفوس الحالمين به .
تسافر مريم عبر الزمن والخيال ، ثم تحكي ما شاهدته خلال سفرها من مُجريات ، يعود أهالي المخيم إلى قريتهم الأم “كفر النخلة “، تمضي الاحداث ويقوم الأهالي بالتصدي للعديد من العقبات والقضايا بعد خلاف يواجههم حول العضوية لإدارة المجلس ، وكذلك مشكلة تقسيم الأراضي وميراث النساء ، وفي النهاية تُحل كل تلك القضايا التي كانت تحمل في طياتها صراعات ومشاكل اجتماعية عديدة .
الشيء الجميل الذي لفت نظري هو ذلك الدور البناء للعنصر النسوي في الرواية ، وهذا ليس ببعيد عن طبيعة المرأة الفلسطينية التي تتمثل بمشاركتها الايجابية والفاعلة في شتى المجالات ، كما تحمل العديد من الصفات كالصبر والعطاء .
نهاية الرواية حملت لنا الحلم ممزوجاً بالأمل ، فحلم العودة المقدس ، حلم يراود كل فلسطيني مهجر ، يحمل بداخله قطعة من أرضه وغرسه وزرعه ، كما يحمل مفتاح بيته وتلك الذكريات التي بقيت راسخة في الأذهان …
في الصفحات الأخيرة ، ولعله من الصعب التفكير في نهاية بعيدة عن تلك النهاية المفتوحة التي تركها لنا الكاتب ، حيث تمكن من إيصال باطن فكرته التي احتوتها التفاصيل، فانتشرت بين سطوره فكانت كافية لتبلغ الهدف والرسالة.
وقالت هدى عثمان أبوغوش:
روايّة “سفر مريم”، هي الحلم الذي يراود كلَّ فلسطيني وهي الأمل الذي ينتظره كل لاجئ في فتح باب منزله ، وأجراس مفاتيح العودة تعلن ابتهاجها ليرتاحوا في أسِرَتهم.
اختارالكاتب نسج مكان الرّوايّة الخيالي في مخيّم الحمامة وقريةكفر النخلّة التي يعود إليها اللاجئون .
طرح الكاتب موضوع عودة اللاجئين الى منازلهم وقد تحقق من خلال سفر مريم الخيالي الى المستقبل، وأثار الكاتب عدة مواضيع من خلال الروايّة، أهمّها ما بعد عودة اللاجئين إلى قراهم، تساؤلات كيف ستبدو الظروف الإجتماعية ومقارنة بين الماضي والحاضر، قضيّة الميراث وإرث النّساء والخلاف الذّي نشب في عدم منحهم إيّاه قبل قرار استرجاع الحق الشرعي للنساء من قبل فاروق، تطرق إلى قضيّة عدم تزويج النساء للغرباء من أجل الحفاظ على الأرض، حيث قام زكريا بطلب يد رهف المخطوبة لايهاب من أجل الحفاظ على الأرض، وتمّ رفض طلبه. قضيّة الخلاف والشجار على خلفية الإنتخابات لرئاسة المجلس المحلي الذي تمّت تسويّته، وقد وجه انتقادات لعيوب المجتمع كنفاق المرشحين في خطاباتهم واستغلال عاطفة النّاس من خلال ذكر الآيات القرآنيّة.
وفي عرضه لهذه المواضيع نشعر بحجم القلق وهو يستوقفنا أمام التساؤلات المطروحة في الروايّة، التي تتساءل بشكل غير مباشر ماذا سنفقد إذا تحقق الحلم؟ وما هو الشيء الذّي سنحققه؟ وهل يتوجب علينا أن نظل تحت الاحتلال كي نحافظ على بعضنا؟
جاءت العاطفة متأرجحة مابين مشاعر الفرح بالعودة، زغاريد ،غيبوبة لعظمة تحقيق الحلم، ومشاعر النّصر المفقود منذ سنين، والقلق والخوف من الخلافات التي حلّت بالقريّة بعد الرّجوع إليّها، وحادثة القتل التّي أودت بحياة احمد موسى العبد.
برزت مشاعر القلق والتوتر من قبل رهف بسبب تأجيل والدها فاروق لزواجها. كما ظهرت هذه المشاعر على نفسيّة الأُمّ ريما والخطيب إيهاب، وظهرت الحالة الإقتصاديّة المترديّة والحرمان المادي ممّا أدى إلى ارتكاب جريمة غير مقصودة، كان القصد منها السرقة، فانهار المتهم باكيا يشرح أسباب فعلته.
جاء عنوان الرواية “سفر مريم” بداية الحكاية ومبتدأ الخبر موفقا، وقد يظن القارئ حين تقع عيناه على العنوان، أن الكاتب سيتحدث عن سفر لرحلة اعتيادية عبر مركبة أو طائرة ليتبين من خلال القراءة أنّه سفر مجازيّ نحوالمستقبل، ومن هنا يزداد شوقنا لمعرفة مجريات الأحداث وبداية الحكاية، فقد كان مضمون الرواية عن ما شاهدته مريم من خلال سفرها. ويجدر بالذكر أنّ الرّوايّة الأولى للكاتب “قلبي هناك” كانت تتحدث عن الحنين إلى القرى المهجرّة، وقد ربط الكاتب اسم الكتاب من خلال سرد الرّوايّة .
برزت عدّة صور من الحرمان التي عانى اللاجئون منها، اكتظاظ المخيّم وعدم الخصوصيّة والمساحة الضيّقة التي تمنع الأطفال باللعب بحريّة، عدم تمكنّهم من رؤيّة البحر إلاّ من خلال شاشة التلفاز.
أظهرالكاتب تأثير المعتقل على الأسير المحرّر من خلال شخصيّة عمر، الذّي يحيا بمواعيد السّجن الباكرة أثناء خلوده واستيقاظه من النّوم. وهنا إشارة إلى أثر الإحتلال السلبي من النّاحيّة النفسيّة والحاجة إلى تأهيل نفسي للأسرى، وكأنّ بالكاتب هنا يناشد المجتمع والمسؤولين بالإهتمام بالأسرى خاصة الحالة النفسيّة وعدم إهمالهم.إختار الكاتب الطفلة اليافعة مريم لتكون شاهدة على المستقبل ،لأنها رمز للأجيال القادمة وللفرح الموعود، ومما يذكر أنّ اسم مريم هو اسم إحدى بنات الكاتب.
وأخيرا في هذه الرّوايّة، سافرنا مع مريم فتعطرنا بالنَّصر، وعدنا لأرض الواقع نحمل الخيبات والهزائم.
وقال الدّكتور عزالدين أبو ميزر:
امتزج في هذه الرّواية الواقع مع الخيال، وقد تعبت في قراءتها، لعدم وجود الرواية مسطّرة في كتاب بين يديّ، وإنّما برابط على البلفون أرسله لي الكاتب مشكورا بخط صغير، وكم كانت تضيع الصفحة من أمام عينيّ لأيّ حركة منّي، فأعود إليها وهو ما كان سببا آخر في تعبي، ولكنّ حلاوة السّرد ولذّة التشويق غلبا ما عانيته من تعب وجهد.
لن ألتفت الى شاشات التلفزيون في سنة 1947 التي صدر فيها القرار181 وخاصّة الشّاشة الكبيرة في مدخل المخيّم، والّتي كان يجتمع حولها مهجّروا القرية المتخيّل اسمها أصلا، ولا إلي مفهوم مبدأ العودة الّذي أؤمن به إيماني بالله عزّ وجل، وأنّه واقع لا محالة عاجلا أم آجلا، والّذي أراه حتميّا في يوم من الأيّام قرب أم بعد، ولكنّي سأبحث في أمرين اثنين هما:
الأوّل هو الاختلاف على كيفيّية تقسيم أراضي القرية بعد أن تغيّر ما كانت عليه من صورة وشكل.
والثّاني هو دور المرأة في الرّواية.
وأظنّ جازما أنّهما موضوعان كبيران واختصارهما في صفحات قليلة من كتاب لهو ظلم كبير لهما من جهة، وهما أكبر منّي ومن الكاتب ومن كثير غيرنا من جهة أخرى، ولكن لفت النّظر إليهما من قبل الكاتب عن وعي وقصد، أم لا، فإني أعتبره شيئا يُشكر عليه.
لأن ما بذلته القوى الماكرة ومن أعانها على ذلك قبل وقوع النّكبة بعشرات العقود سرّا وعلنا، وما أحاط ذلك من ظروف سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة والّتي ساعدت على نجاح هذا التآمر غربيّا وشرقيّا وعربيّا وصهيونيّا، على هذه الأرض وعلى أهلها ممّا أدّى الى هذه النّتيجة المفجعة، ولا زالت تؤثّر تأثيرا سلبيّا وقاتلا حتّى هذه اللّحظة، والّتي لم يشر إليها الكاتب، فقفز بسرعة إلى المشكلة، وأراد أن يجد لها الحل بجهده المتواضع، وإن كنت أشكره أيضا على ذلك، وإن كان جديرا به أن يدق ناقوس الخطر وبشدّة منبّها إلى هذه المسألة، والتي هي بنظري إن لم نعمل على تهيئة الناس لها وإقناعهم عن علم ودراسة واعية على أيدي أهل الخبرة في ذلك، لا بشكل ارتجاليّ وسطحيّ وإلا سيكون وقعها علينا أكبرَ من النّكبة ذاتها وإن لم نعمل على إيجاد الحلول النّاجعة لها بسرعة وبدقّة وجهد لا يكلّ ولا يملّ.
فقد اختلفت الأفكار والمفاهيم وتبدّلت النّفوس، وخلقت أجيال – ولست أبالغ إن قلت- أنّه قد يكون لُعِبَ في جيناتها، فبيننا أصبح خلق جديد آخر لم نهتدِ إليه بعد. وإن كنت أعتقد بالقول القائل: هم بشر ونحن بشر وما فعلوا من شرّ فلدينا المقدرة على تحويله إلى خير لنا؛ إذا تكاتفت الجهود والإرادات والاخلاص في العمل، والّتي لا يخلو منها مجتمع مهما انحدر وتأخّر، والخير باق وينتصر، وإن لم يَدْعُ كلّ منا من الآن، وكان أجدر أن تكون الدّعوة قبل الآن بكثير لاستدراك ما فاتنا في هذا الأمر، وإلّا سنقع في شرّ ما بعده من شرّ وورطة لا مسلّم لنا منها إلّا الله سبحانه وتعالى.
فالنّفوس اختلفت والمصالح تشعّبت ونشأت، واستجدّت أمور وأمور لم تكن بالحسبان كالانقسام الطّولي والعرضي البغيض، وها قد مضى ما يقرب من عقد ولم نجد له حلّا، ناهيك عن ربع قرن ضاع من أعمارنا ونحن نجري وراء حلول وهميّة، ونتمسّك بخيوط هي والله أوهى من خيوط العنكبوت.
من هنا ومن هذه اللحظة فإنّي أدعو الجميع من سياسيّين ومفكّرين وقياديّين، ولا أعني أحدا ممّن هم في سُدّة الحكم والمسئوليّة اليوم، فهم أحد عوامل المشكلة وما نحن فيه من بؤس، بل أعني المخلصين من هذه الأمّة لبحث هذا الأمر الجلل، وتهيئة الناس لما هو قادم حتى لا نقع في المحظور، فليس المهمّ أن نصل إلى القمّة بل الأهمّ هو الثبات عليها.
سنرجع يوما رغم أنف كلّ متخاذل ومتآمر وعميل( وراجعين ونصّ وتلات أرباع) ونبقى فيها ثابتين ولا نهجّر منها مرّة أخرى، ويعم الحب والسّلام بيننا ونظلّ يدا واحدة ومتوحّدين.
والأمر الثاني هو انحياز الكاتب للمرأة وأنا معه قلبا وقالبا، وهذه هي معضلة أخرى لا تقلّ عن الأولى بل هي أكبر منها وأعمق، فالمرأة هي نصف المجتمع والعقل الذّكوري وثقافة الجهل الّتي ملأت أدمغة المثقفين وغير المثقّفين من الرّجال وحتّى النّساء لا تزال سائدة فينا، والفهم الخاطيء للدّين وما أنزل الله به من سلطان من الفهم الذّكوريّ البائد، والذي يساعد على نشر مثل هذه الثّقافة لهو من أكبر الأخطار علينا، وكأنّنا نمشي برجل واحدة وأخرى أصبحت عبئا علينا، وليست لتحمل العبء معنا. والعلاج يحتاج إلى نسف وتدمير كثير وكثير من هذا الموروث المغلوط من غير كتاب الله المحفوظ منه تعالى نصّا ولفظا.
وإنّما هي النصوص المكذوبة والمنسوبة إلى الرّسول الكريم كذبا وبهتانا والفهم الخاطيء والمقصود هو ليُّ عنق معاني الألفاظ عن ما وجدت لأجله المعاني، ومفاهيم أُخرى لأغراض ومآرب في أنفسهم، وإرضاء للحاكم والعمل على تثبيت حكمه وبسط سلطانه على البلاد والعباد.
وقال سامي قرّة:
أحداث كثيرة تجري في الرواية تبدأ من عام 1947 عندما أصدرت الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة القرار رقم 181 الذي يقضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة فلسطينية وأخرى يهودية، وإنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وتنتهي بيومنا الحاضر الذي يعيش فيه الفلسطينيون في شبه دولة يسودها انقسامات حزبية وأحوال سياسية متقلبة، لا تختلف كثيرا عن الاضطرابات والتوترات الاجتماعية التي يشهدها المجتمع الفلسطيني والتي تعكسها أحداث الرواية.
ونرى ما يحدث في الرواية من وجهة نظر مريم تلك “الطفلة اليافعة صاحبة العقل الرزين” (186). نجدها في غرفتها نائمة تحلم عن وطنها وأهلها، وتسافر في خيالها إلى المستقبل، وترى أحداثا كثيرة ترويها لأبيها الذي يُبدي اهتماما بالغا “بما شاهدته في سفرها من أحداث المستقبل” (189). لكن إذا نظرنا إلى أحداث الرواية وأجرينا مقارنة بينها وبين السياق السياسي والاجتماعي القائم للمجتمع الفلسطيني، فإننا نجد أن ذلك المستقبل هو في حقيقة الأمر الحاضر الذي يعيشه الفلسطينيون في الوقت الراهن. تتحدث الرواية عن مواضيع متعددة منها النكبة وحق اللاجئين في العودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، والوحدة والأرض والعشائرية، وحق المرأة في الميراث والمساواة بين الجنسين والغربة والاغتراب والصراع العائلي والمقاومة واللجوء والحبّ والزواج، وهذه كلها مواضيع تشكل صلب القضايا الحياتية للفلسطينين. وبهذا يصبح الحلم واقعا؛ وهذا الخلط بين الحلم والواقع إنما يدل على التخبط الذي يعيشه المجتمع الفلسطيني سياسيا واجتماعيا، لا سيما في ظل غياب سياسة وطنية واضحة المعالم والأهداف. كما أن هذا الخلط بين الحلم والواقع ينعكس من الناحية اللغوية في الخلط بين صيغة الماضي وصيغة الحاضر التي يستخدمهما المؤلف في روايته للدلالة على فترتين زمنيتين مختلفتين، هما ما قبل النكبة حتى العام 1947 والمتمثلة في حياة اللاجئين في مخيّم الحمامة، وفترة ما بعد النكبة والمتمثلة في حياة اللاجئين بعد عودتهم إلى قريتهم الأمّ كفر النخلة.
وفي واقع الأمر تتداخل الفترتان في الرواية، وتتداخل الأحداث نتيجة ذلك إلى حد قد يؤدي بالقارئ إلى أن يتوه ويتساءل عمّا إذا كان الكاتب يتحدث عن فترة ما قبل النكبة أو ما بعدها. سأعطي مثالين من الرواية لتوضيح هذه الفكرة. تبدأ أحداث الرواية في العام 1947 بعد صدور قرار التقسيم، ونرى اللاجئين في عين الحمامة يتنقلون بين المحطات التلفزيونية العربية لمعرفة إجراءات تطبيق القرار، وفجأة نقرأ السطور التالية عن الإدارة الأمريكية التي زجّت بالأمريكان في “حروب متناثرة في أصقاع الكرة الأرضية بلا حلفائها التاريخيين في أوروبا … وبالذات في منطقة الشرق الأوسط الذي شهد ثورات في بعض بلدان، وتحالفات بين بلدان أخرى، وارتفاع الأصوات المطالبة بانفصال ولاية كاليفورنيا عن الفيدرالية الأمريكية”(6). هنا نرى خلطًا واضحا بين الماضي والحاضر، إذ أن الثورات في بعض البلدان العربية وإحياء المطالبة بانفصال ولاية كاليفورنيا وتحالفات البلدان العربية ضد بلدان أخرى جميعها أحداث جرت مؤخرا نتيجة للتطورات السياسية المتلاحقة. ونجد المثال الآخر عن هذا الخلط الزمني في حادثة وفاة قاسم ابن فاروق. مرة أخرى تبدأ أحداث الرواية في العام 1947 ويكون قاسم متوفى أصلا، لكننا نقرأ عن حادث وفاته بعد ذلك بكثير اي في العام 2017 أثناء محاولته دخول القدس للمشاركة في “الاعتصام الدائر حول سورها احتجاجا على نصب البوابات الإلكترونية على مداخل مسجد الأقصى” (69). يمكننا تعليل هذا الخلط أو الربط الزمني بين الماضي والحاضر في الرواية بالقول أن النكبات والنكسات التي تعرض لها الشعب الفلسطيني في الماضي ما يزال أثرها قائما حتى الآن، وقد تستمر لسنوات طوال في المستقبل.
تتميز الرواية بتعدد الشخصيات فيها، فجميعهم ينحدرون من ثلاث عائلات رئيسية، هي عائلة العبد وعائلة السعد وعائلة حميد، وجميعهم يمثلون كافة أطياف المجتمع الفلسطيني من مختلف الأعمار والمهن، فمنهم من يعيش في المخيم، ومنهم من يعيش في الشتات مثل سعيد، ومنهم المهندس مثل يوسف، ومنهم العقيد مثل إياد، ومنهم رئيسة اللجان النسائية مثل فاطمة، ومنهم الطبيب مثل إيهاب، ومنهم المحقق مثل كريم، ومنهم الأمّ مثل ريما، ومنهم السجين في السجون الإسرائيلية مثل عمر، وهناك الشيخ مثل عبد العليم وغيرهم. وتمثل الشخصيات جيلين هما جيل الكبار مثل فاروق وأبو سالم والحاج أحمد موسى والعجوز رندا، وجيل الشباب مثل رهف وسعيد وإيهاب وعمر وغيرهم.
يعيش مجتمع الرواية في مخيّم عين الحمامة الافتراضي بعد تهجيرهم إليه قسرا من قريتهم الأصلية قرية كفر النخلة، وهي أيضا قرية من صنع خيال المؤلف. يعيش سكان المخيّم حياة اللجوء بعد أن تمّ تهجيرهم قسرا من قريتهم الأمّ. يصف أبو سالم كيف خرج أبوه وجدّه من كفر النخلة لحظة احتلالها: “خرجوا خائفين مرعوبين، تاركين كل شيء في القرية، يتخطفهم الموت ويلاحقهم الرصاص، عطشوا وما وجدوا شربة ماء، جاعوا وما عثروا على كسرة خبز بائسة” (20). لكن فجأة يصلهم نبأ عودتهم إلى قريتهم الأصلية فتكبر آمالهم وتكثر أحلامهم، ويتوحدون نحو تحقيق هذا الهدف. وبقيادة العقيد إياد يضعون خطة العودة، وبالفعل يعودون عودة “الثائر المنتصر لا اللاجئ المنكسر”. ويردد الجميع بصوت واحد: “عائدون، عائدون ص”20.”
أمّا حق العودة للاجئين الفلسطينيين فهو موضوع هام يستحق الوقوف عنده بعض الشيء؛ لأنه الموضوع الأبرز في رواية سفر مريم. وهو حق ينص عليه القانون الدولي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمعاهدات الدولية لحماية حقوق اللاجئين، وقد أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة على هذا الحق أكثر من 135 مرة، ومع ذلك يبقى حق العودة حلما يراود كل لاجئ فلسطيني. واليوم لا نسمع كثيرا عن حق العودة قدر ما نسمع عن توطين اللاجئين في الدول المضيفة أو تعويضهم أو السماح بالعودة لعدة آلاف منهم فقط. فأصبح هناك الكثير مثل ريما زوجة فاروق التي تشكك بتحقيق العودة إلى كفر النخلة، فتقول لزوجها: “السياسيون لن يدعوكم تعودون إليها” (9). فالعودة مثل رحلة الهذيان التي تقوم بها مريم؛ هي رحلة المبتدأ الذي لا خبر له؛ هي رحلة لها بداية وليس لها نهاية.
بعد عودة اللاجئين إلى كفر النخلة يشعرون بالاغتراب، وعندما كانوا يعيشون في عين الحمامة كانوا يعيشون في غربة، والغربة والاغتراب من المواضيع الهامة التي ترتبط ارتباطا وثيقا بحياة الفلسطينيين، كما أنها مواضيع ذات قيمة أدبية خاصة في الأدب الفلسطيني. والعودة إلى كفر النخلة هي بمثابة العودة إلى الوطن، ومع ذلك يشعر أهلها بالاغتراب، فهم إلى حد ما غرباء في وطنهم. فقرية كفر النخلة لم تعد قرية بل “أصبحت بلدة نتيجة تراكم السنين” (28)، وعندما يحاول فاروق البحث في القرية عن الأمكنة الواردة في الخارطة التي ورثها عن جدّه لا يجدها؛ لأن كل “شيء قد تغير”، ويستمر هو وعمر في “البحث فترة طويلة دون نتائج تذكر” (29). يغضب فاروق حتى أنه يشك في مصداقية الخارطة التي ورثها عن أبيه، ففي هذه “الخارطة الموروثة من زمن تغيرت ملامحه وتغيرت معه طبيعة الأرض أيضا” “33”
هذا الاغتراب المكاني له أهميته؛ إذ أنه من ناحية يفصل الماضي عن الحاضر فصلا تاما، ويفصل الجذور عن الفروع. ففاروق يحاول ان يجد الرابط بين الأيام الحاضرة والأيام الماضية، وبين أهل كفر النخلة وأبائهم وأجدادهم إلا أنه لا يفلح في ذلك، فتفقد الخارطة أهميتها، ويتم صياغة وثيقة توقع عليها العائلات الثلاث وتصبح هي المرجع الذي ينظم حياة أهالي القرية. ولما يقوله سعيد في هذا السياق أهمية كبرى، إذ يعكس كثيرا الوضع الفلسطيني الراهن الذي بات يتخلى تدريجيا عن جذوره التاريخية في أرضه، ويقبل بتسويات ومساومات. فقد فقدت القوانين الدولية وقوانين حقوق الإنسان وقرارات الأمم المتحدة المرتبطة بحقوق الفلسطينيين أهميتها وقوتها التنفيذية، واصبحت الاتفاقات الثنائية والمفاوضات السياسية هي القنوات التي عبرها سيستعيد الفلسطينيون حقوقهم. يقول سعيد: “بلغني ما كان في الأيام الماضية، ولو تابعتم قراءة خارطة جدّ فاروق مدى الحياة لن تصلا إلى شيء يُذكر. وهذه نتيجة حتمية لما هي عليه القرية الآن، خاصة بعدما أصبحت أكبر من قرية وأصغر من مدينة، والأهم من ذلك كله في هذه المرحلة هو التمسك بالوثيقة الموقعة بين العائلات؛ هي أكثر أهمية من الأرض ومالكيها الأصليين” ص”37.”
وفي ملاحظة ذات صلة بهذا الموضوع، دعونا نأخذ قضية القدس مثالا. فمدينة القدس التي عرفها أجدادنا وأباؤنا هي غير المدينة التي يعرفها أبناؤنا وأحفادنا الآن، وذلك بسبب التغييرات الكبيرة في معالمها الجغرافية وأماكنها. وبيئة المدينة التي عاشها أجدادنا وآباؤنا تختلف اختلافا كبيرا عن البيئة التي يعيشها أبناؤنا وأحفادنا، فالجيل الجديد يعيش مغتربا عن تاريخ المدينة، بينما يعيش الجيل القديم مغتربا عن حاضرها وهو في حنين دائم إلى ما قد مضى. والتصالح بين تاريخ المدينة وحاضرها يتم عن طريق أدب الذاكرة. فالذاكرة هي الضامن الوحيد للتفاعل بين الأجيال.
يحث الأستاذ مهند الصباح أولاده (ومن يقرأ روايته بالطبع) في صفحة الإهداء أن يتذكروا جيدا ما قاله سلمان ناطور: “ستأكلنا الضباع إن بقينا بلا ذاكرة”. وعلى مدى السنوات الماضية ظهرت ثقافة الذاكرة أو أدب الذاكرة كوسيلة للحفاظ على الإرث الثقافي والسياسي والجغرافي الفلسطيني . وتنتقل هذه الذاكرة من جيل إلى جيل عن طريق الأدب والفنون بجميع أشكالها وأيضا عن طريق الإعلام. وما رواية سفر مريم سوى مساهمة تستحق التقدير لإبقاء الذاكرة الجمعية للنكبة والعودة والوطن والأرض حيّة. وأخيرا ينبغي القول أنه حتى الموروثات الثقافية والاجتماعية لا بد من مراجعتها وإعادة صياغتها؛ كي تتناغم مع متطلبات الحياة العصرية، وهذا ما يعبر عنه الكاتب بوضوح عندما يقول أن التحدي الذي يواجهه عمر وسعيد وفاروق يكمن بالدرجة الأولى في محاولة آبائهم الحفاظ على إرث قديم وعادات عشائرية غير منصفة: “كان تحديهم بالدرجة الأولى موجها نحو إحياء إرث بالٍ وعادات عشائرية، لا تنصف المظلوم ولا تقتص من الظالم” (91). ويضيف فاروق لاحقا: “نصرنا منقوص … كل تحرير منقوص ما لم يتحرر العقل والفكر” ص”97″.
سفر مريم رواية جميلة سهلة القراءة، لكنها متشعبة في مواضيعها وتعالج أكثر من قضية تمسّ صميم المجتمع الفلسطيني خاصة مستقبل بناء الدولة الفلسطينية الحديثة، والتحديات التي تواجهها. فالعودة إلى المستقبل رحلة شاقة وطويلة لكنها ممكنة الحدوث. تصرخ مريم: “صدقني يا أبي … لقد كنت هناك … أقسم لك” (186).
وكتب عبدالله دعيس:
ما الحدّ الفاصل بين الرّواية الخياليّة والرواية الواقعيّة؟ وهل أراد مهنّد الصّباح روايته (سفر مريم) أن تكون واقعيّة أم خياليّة؟ أو ربما دمج بينهما لهدف كبير تحمله الرّواية بين طيّاتها وخلال أحداثها؟ تدور أحداث رواية “سفر مريم” في المستقبل، وقد يظنّ القارئ أنّها ضرب من الخيال، لكنّه ما إن يستغرق في قراءة أحداثها، حتّى يدرك أنّ بين يديه أحداثا واقعيّة قد تقع في أيّ مجتمع محليّ، وإن كانت تدور بعد تحرير جزء من فلسطين، فهل هذا خيال أم واقع؟ وماذا أراد الكاتب من هذا؟
حبكة الرّواية وأحداثها تجعل القارئ يشعر أن تحرير فلسطين وعودة اللاجئين إلى أرضهم التي هجّروا منها، هو بحكم الواقع لكل فلسطينيّ. وإن كان التحرير اليوم حلما تراه الصغيرة مريم في منامها، فإنّها حتما ستعيشه في واقعها يوما ما، ولن يكون هذا اليوم بعيدا. هذه الرّسالة العظيمة تحملها هذه الرّواية الرّائعة وغير المسبوقة، حيث تدور أحداثها في قرية فلسطينيّة عاد أهلها إليها بعد تحريرها، وهناك عاشوا حياة طبيعية، فيها الخير والشرّ، والتنافس الشريف وغير الشّريف، تتسلسل فيه الأحداث، وتدور عجلة الزّمان، كما في أيّ مجتمع وأيّ بلدة، حتّى يعيش القارئ مع هؤلاء العائدين واقعهم، وكأنّ الصهاينة لم يكونوا هناك يوما ما. شعور عظيم وتجربة جميلة يحملنا إليها الكاتب في وقت يقبع البعض فيه في زوايا اليأس، ويظنّون أن ظلمة الليل لن تنفرج عن فجر وصباح مشرق.
لم يحدّد الكاتب زمنا معيّنا لأحداث روايته، لكنه أتى بالكثير من القرائن للدلالة على زمن قريب من الحاضر، فنوع الاتصالات التي تستخدمها الشخصيات، والحديث عن بعض الأحداث مثل انتفاضة الأقصى، ووضع الكاميرات الإلكترونية في المسجد الأقصى، يدلّ أنّ الزمن بعد برهة قريبة من الحاضر، وهذا إمعان بالتفاؤل والأمل بالقادم.
لم يجعل الكاتب المجتمع بعد التّحرير مجتمعا مثاليّا، فالعشائريّة والعادات والتّقاليد ما زالت تطغى عليه حتّى بعد أن تحرّر من ربقة الاحتلال. لكنّه يشير أيضا إلى واقع جديد، فالمجلس البلدي يتمّ اختياره عن طريق الانتخابات الحرّة، والتي لا تخلو من العشائرية ومحاولة التأثير بالمال، لكنّها تسفر في النّهاية عن مجلس منتخب ديمقراطيّا، ويقوم بمهامّه، ولا يتمّ الانقلاب عليه، كما حدث وما يزال يحدث في بلادنا العربيّة. ثمّ ترأس المجلس امرأة، وهذا يؤسّس لرؤية جديدة واختراق للواقع الحاضر. فهناك في الرواية تحول ديموقراطي بعد التحرير، خلافا لم حدث في الدول العربيّة، أو في حالة السلطة الفلسطينية الحالية.
وإن كان الحلم بالتحرير والتغيير هو ما يبثّه الكاتب في طيّات هذه الرواية، إلا أنّ سقف الحلم لم يكن عاليا، فبينما ينتشي القارئ عندما تبدأ مشاكل كفر النخلة بالحلّ، ويُنتخب المجلس ويعمل، نجد المحقّق في جريمة القتل، نسخة مطابقة للمحقّقين في الدول العربيّة الحاليّة، حيث يستخدم التّعذيب لانتزاع الاعترافات، ويُسجن المخالفون للحكومة سياسيّا؟ فلا يمكن أن يحدث تحوّل نحو الحرية والكرامة والحكم الشوري الديموقراطي ما دامت نزعة إقصاء المخالفين بالرّأي موجودة، والاعتداء على كرامة الإنسان وتعذيبه أمرا مقبولا أو مستخدما. حبّذا لو أبقى الكاتب فتيل الأمل مشتعلا، ولم يذكر ذاك المحقّق الذي أعاد القارئ إلى أجواء الحكومات العربية الدكتاتوريّة، والتي لا يمكن أن يكون هناك تحرير ولو لجزء من الأرض ما لم يتحرّر الإنسان من عسفها. يقول الكاتب في صفحة 148 (مضى أسبوع على خضوع عمر لجلسات التعذيب والتحقيق.) لماذا التّعذيب؟ ألا يحقّ لنا أنّ نحلم بمستقبل دون إهدار لكرامة الإنسان، أو دون العبوديّة لأحد؟ فإن كان ما حدث في كفر النخلة من منافسة على الأرض، وشجار، ومحاولة لحرمان النساء من حقوقهن، قد يكون واقعا في أيّ مجتمع، رغم كراهيتنا له، إلا أنّ العبوديّة ليست خيارا ولا يمكن أن تكون جزءا من المستقبل.
وقد استخدم الكاتب عددا من الأساليب لجعل الرواية أكثر إثارة وتشويقا. فكان لشخصيّة العجوز رندا وكلبها دور في إضفاء نوع من الإثارة والغموض والتشويق، لكنّها أيضا رمزت، كونها يهودية، إلى أفول نجم الصهيونيّة والإيذان بزوال دولتهم في فلسطين، ففي نهاية الرّواية ينتهي ذكر رندا وكذلك ذكر الصهاينة، ويتنقّل الفلسطينيون في بلادهم بحرّية، وكأنّ اليهود الصهاينة لم يكونوا فيها يوما. وكذلك استغلّ الكاتب قصّة زواج رهف وتأجيل أبيها المستمرّ له، للإشارة إلى موضوع الحداد النفسي وآثاره، وللإشارة إلى المعاناة الدائمة التي يحياها ذوو الشهداء حتّى بعد استشهاد أبنائهم بمدّة طويلة، وإن حاولوا إخفاء ذلك. وتدلّ أحداث الرّواية على حداد نفسيّ جماعيّ، فهل كان الجميع يؤخّرون الفرح بالتّحرير، تشغلهم عذابات الماضي؟ ألم يكتمل التّحرير فقط عندما أتى جيل جديد ولد بعده؟ وأشار الكاتب إيضا إلى المعاناة الدائمة للأسرى حتّى بعد خروجهم من السّجن، والآثار النفسية التي لا تنتهي عن طريق شخصيّة عمر.
لعلّ أجمل ما في رواية لحظات خروج أهالي كفر النخلة من المخيّم ووصولهم إلى بلدتهم التي طالما حلموا بالعودة إليها، ومقارنة رحلة العودة برحلة اللجوء. (لم ينظروا خلفهم ليودّعوا المخيّم.) ص 21. والرواية جميلة الحبكة والصياغة، سهلة اللغة، تحمل القارئ إلى أفاق جديدة، وتحرّره من الماضي؛ ليتشبّث بمستقبل مشرق بعيدا عن عتمة الحاضر.
وكتبت سهير زلوم:
أول ما يلفت انتباه القارئ عندما يمسك الرواية هو صورة الغلاف المميّزة والمعبّرة عن محتوى الرّواية. وأودّ هنا أن أركّز على المعاني المستوحاة من هذا الغلاف:
يغلب على الغلاف اللون الخمري، والذي يدلّ في المنام على الثروة والنجاح والازدهار، وبما أنّ الرواية تتحدّث عن منام رأته مريم فهو متوافق مع موضوع الرّواية، التي تتحدّث عن التحرير، والتغلّب على المشاكل بعده للوصول إلى الحريّة والاستقرار.
ثمّ تظهر صورة فتاة نائمة، وخلفها أرض وأشجار عارية، والنّوم يدل على الراحة والطمأنينة، وهي مبتسمة ويظهر على عينينها الرّاحة. أمّا جسدها فهو عارٍ كالأشجار التي في خلفيّة الصورة بلا أوراق، وهي تدلّ على فصل الشّتاء ببرده وطول ليله، وما يصاحبه من محن ومشاكل، ويدلّ على الأرض المسلوبة، كما سلبت الأوراق عن الشجر والملابس عن الفتاة. لكنّ الشتاء مهما طال، فإنّه سرعان ما يأتي الرّبيع بخضرته وجماله.
وإذا أمعنا النّظر في صورة الفتاة على الغلاف، فإنّنا نلحظ أربع شامات، وهي علامات بارزة بالجسم، قدّ تدلّ على العقد البارزة في الرّواية، لكنّها في النّهاية علامات جمال. فالمشاكل التي ربما ترمز إليها: مشكلة عدم فهم الخارطة القديمة، الشجار على الإرث، الصراع على انتخابات المجلس البلدي، وسجن عمر. وهي ترمز أيضا للجمال، وهو يدلّ على أنّ هذه المشاكل ستنتهي وستعمّ بعدها حياة الحريّة والجمال. ووجود القمر في الصورة يدلّ على التفاؤل في مستقبل أفضل، وما بعد الضيق إلا الفرج.
وقد امتازت الرواية بتنوّع العواطف، فخلال القراءة لا يتمالك القارئ نفسه من الضحك أحيانا، والبكاء والحزن والشوق، وغيرها من العواطف. والرواية لغتها جميلة سلسة وبسيطة، لا يملّ القارئ من قراءتها ولو قرأها أكثر من مرّة.
وقد استخدم الكاتب عدد من الأمثال الشعبية والأغاني القديّمة، التي جاءت في سياقها. واستخدم التّشبيهات بشكل كبير، وكان التّشبيه يتلو التّشبيه، مما أضفى شيئا من المتعة والجمال على لغة الرواية وانسياب أحداثها.
وكتبت سوسن عابدين الحشيم:
من عنوان الرواية نلاحظ أن الكاتب يريد ان يكون مختلفا في كتابته عن الآخرين بجعل العنوان طويلا ونهاية الرواية تخبر عن بدايتها، عكس به الكاتب ما أراد إخبارنا به في روايته، في بداية الرواية دفع بنا الكاتب إلى التحليل والغوص عميقًا فيما بين السطور والتنقيب عن الرمزيات والمعاني المختلفة، التي يرمي إليها بخصوص عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى قراهم التي هجروا منها قسريا في حرب ١٩٤٨. لم يذكر الكاتب زمنا للرواية لأنه حلم سيحصل في المستقبل حتى يبدو للوهلة الأولى أنه فعلا قد تحقق هذا الحلم، وعاد اللاجئون يعمرون في قريتهم، ويفكرون بتقسيم أراضي القرية بين العائلات التي عادت اليها . الرواية تتمتع بطابع لغوي سلس، و تلامس المعنى الحقيقي، وفيها من الخيال الذي ابتكره الكاتب في سفر أبطال الرواية إلى تركيا والرجوع بالأوراق الثبوتية لأراضيهم من الأرشيف العثماني،
وضع الكاتب عمله الروائي في نص سردي قصصي يعرض فيه قضايا المجتمع المختلفة من قضية الميراث والنزاع بين العائلات، وأحاطه بإطار ليقيد القارئ بتحليله للأمور وربطه بين الماضي والحاضر والمستقبل، جعل القارئ يتساءل هل عودة اللاجئين في المستقبل وبعد بزوغ الأمل وتحقيق الحلم سينتج عنه قتال ونزاع، وستؤول الأمور إلى الأسوأ؟ هل الكاتب يريد من القارئ أن يتشاءم من المستقبل أم ينتبه ويحذر مما سيحدث في الزمن القادم والمجهول؟ وهل هذا الخلاف بين أهل القرى سينبذ الحقد والكره بينهم ويودي بهم الى القتل والثأر؛ ليرجع بنا إلى زمن الجهل والتخلف؟ نلاحظ أن الكاتب رسم الشخصيات ووظف عناصر روايته لتناسب حبكة الرواية معلنا عن آرائه الخاصة من بعض القضايا بشكل ضمني؛ ليكتشفها القارئ ويفتح له المجال لمعرفة هدف هذه الرواية وما الرسالة التي يحملها الكاتب من ورائها ومضمونها، ويستشف بها عاطفتي التفاؤل أم التشاؤم بعد انتهاء حكاية الاحتلال وبداية حكاية العودة.
وكتبت هدى خوجا:
عنوان الرّواية يتناسب مع المحتوى العام ، بوقع رنّان متناسق.
الألوان الخاصة بالغلاف الأحمر رمز التّضحية والفداء، فصل الخريف مع الشّتاء مع الهجرة والألم، وجه مريم مليء بالأسى بدموع اللاجئ والحلم بالعودة.
استخدام اسم مريم موفق جدا مريم رمز الطّهارة والنّقاء البتول .
استخدم الكاتب اللغة السّليمة والكلمات الملائمة للاحداث بإيقاع موسيقي جذّاب .مثال ص 7 “يعصر خلايا الذّاكرة أكثر؛ فيصاب بصداع الذّكريات وألم طفولة حرمت من اللهو بثمار البلح، وتسلّق أشجار النّخل الباسق”.
لماذا اختار الكاتب أشجار البلح خاصة؟ أهو لعلو القامة وصعوبة المنال أم لتمسك أحلام اللاجئ بأرضه ووطنه!
“عودوا بشغف الثّائر المنتصر لا اللاجئ المنكسر” ص20
“يلبي سعيد حفيف شجرة الزّيتون وينقاد إليها بخطوات واثقة” وتتوارد الصّور الجميلة والمعبّرة تارة والمؤلمة الحزينة تارة أخرى، لتتصاعد الأحداث بأحلام سلوى ببيت واسع مثمر بالورود الحمراء وياسمينة تعطّر مساء الصّيف، ولا يكتمل حلم سلوى.
عائلة أمين حميد وزوجته سلوى قتلوا جميعهم، لا إنّهم استشهدوا جميعهم.
وتتناثر الأحلام والأمنيات البريئة الزّاهية.
يستخدم الكاتب في ص 43 بعض الكلمات التّركية المعربة مثال :
“هوش جالدينز” أهلا وسهلا كلمة ترحيب بالتركية، ولكن حبذا أيضا لو كتبت بالأحرف التّركية.”كاردشيم” أخي بالتركية.
احتوت الرّواية على أناشيد وأهازيج تراثيّة جميلة مثال ص59 ، وشعر للشّاعر محمود درويش من ضمن حفر أبيات من شعره على سطح الجرانيت المتّخذ من المسجد الأقصى ص74
” يا نوح
لا ترحل بنا
إن الممات هنا سلامة”
التّركيز على اللجوء وقيمة الأرض العظمى، مع توافق الأسماء مع سمات كل شخصية.
مثال رهف، مريم، عمر، كامل، إيهاب وفاروق.
أظهر الكاتب شخصيّة الفتاة المثقفة من خلال رهف وقراءتها رواية قلبي هناك، وعدّة روايات ومناقشات إيجابية وشخصيّة الزّوجة الذّكيّة المتماسكة ريما.
تخلّل الرّواية حلول لبعض المشاكل الخاصّة بالبلدة والعائلات المتعدّدة منها: تشكيل لجنة ممثلة للعائلات الثلاثة، توزيع الميراث بشكل عادل مع أخذ بعين الاعتبار ميراث المرأة الأم والجدّات والأمّهات والاسترشاد بالآيات القرآنية من سورة النساء آية 11 وحق الميراث، إنشاء رؤية إيجابيّة ومستقبليّة لتقديم الخدمات لأهل البلد.
مثال: مدرسة لتلاميذ القرية، وتحديد منطقة صناعيّة ، وبناء جامع للصّلاة وحدائق عامّة بهدف التّنزه، ومركز ومقر للمجلس المحلي ونشاطات جماهيريّة.
اللغة رصينة والأفكار متوافقة مع أحداث الرّواية، حيث سارت بوتيرة متناسقة مع الأحداث وتسارعها. وستبقى مريم … بداية الحكاية.