رانية مرجية:رواية “اليتيمة” لجميل السلحوت… رواية الوجع الفلسطيني في أنثى تبحث عن وطنها الداخلي

ر

عن مكتبة كل شيء في حيفا صدرت عام ٢٠٢١ رواية” اليتيمة” للأديب جميل السلحوت، وتقع الرّواية الّتي يحمل غلافها الأوّللوحة للفنّان التّشكيليّ محمد نصرالله في ٢٥٨ صفحة من الحجم المتوسّط، ومنتجها وأخرجها شربل الياس.

في زمن تتكاثر فيه الحكايات وتضيع الأصوات الصّادقة، تأتي رواية” اليتيمة: للروائي الفلسطيني جميل السلحوت؛ لتعيد للأدب معناه الإنساني الأول: أن يكون شهادةً على الوجع، ومرآةً للروح، وصوتًا للذين لا صوت لهم.

ليست “اليتيمة” رواية عن فتاة فقط، بل عن وطن بأكمله يُحرم من دفء الأب، ويبحث عن معنى جديد للحياة وسط المقابر المفتوحة.

عبير… وجع الأنثى الفلسطينية بين الحلم والقدر.

بطلة الرواية “عبير” ليست مجرد طالبة متفوقة، بل كائن هشّ يحاول أن يرمم ذاته وسط مجتمع يقيّد الفتاة بأعراف عمرها أطول من التاريخ. في عبير تجتمع البراءة والتمرد، الطهر والرغبة، الألم والأمل. يتابعها السلحوت بعينٍ محبة، لا تشفق عليها، بل ترافقها كأب يعرف أن على الأبناء أن يتألموا كي ينضجوا.

عبير ليست يتيمة لأن أباها مات، بل لأن العالم من حولها قرّر أن يغلق باب الحياة في وجهها.

هي الوجه الآخر للقدس، محاصرة، جميلة، وصامدة رغم الخراب.

المرأة كذاكرة للمكان

يُعيد جميل السلحوت في اليتيمة تعريف صورة المرأة الفلسطينية، لا كرمز للتضحية فحسب، بل كذاكرةٍ جمعية تحفظ تفاصيل البيت والتراب واللهجة والفرح.

فالأمّ “لبنى” — تلك الأرملة التي ترتدي الحداد عشر سنوات — ليست مجرد شخصية حزينة، بل هي تمثيل للجيل الفلسطيني الذي نذر نفسه للألم حتى نسي الحياة. من خلالها، يطرح الكاتب سؤالا مريرا:

هل صار الحزن واجبا وطنيا؟ وإلى متى يظلّ الفلسطيني يقدّس الألم حتى يغدو هو ذاته دينًا؟

أمّا الجدّ “أبو نعمان” فيشكّل الجسر الإنساني بين الماضي والحاضر، بين الحكمة واليأس، بين الجيل الذي فقد كل شيء لكنه ما زال يحلم. هو الأب الرمزي، والفلسطيني الأخير الذي يصرّ على أن الفرح مقاومة، وأن اليُتم لا يُعاش إلا إذا فقدنا الإيمان.

القدس… الحاضرة الغائبة

القدس في الرواية ليست مكانا، بل كائن يتنفس بين السطور.

كلّ مشهد في اليتيمة يمرّ عبر حجارة القدس ورائحة سلوان، كأنّ الكاتب يكتب على جدران المدينة لا على الورق.

في حضور القدس، تتجلى المفارقة الكبرى: مدينة يتيمة مثل عبير، فقدت أباها التاريخي لكنها تصرّ على البقاء. هذا التوازي بين أنوثة البطلة وقداسة المدينة يمنح الرواية بعدها الرمزي والروحي، ويحوّلها من نص اجتماعي إلى ملحمة إنسانية.

اللغة والسرد: الواقعية الشّفافة

لغة جميل السلحوت لا تتكلّف، ولا تلهث وراء الحداثة المصطنعة.

إنها لغة من لحم الناس ودمهم، فيها صدق الحياة اليومية ونكهة الأمثال الشعبية ورهافة الإحساس الإنساني.

السرد في الرواية يتقدم بخطى هادئة، كمن يمشي في حارة مقدسية ضيقة، يعرف أن كل حجر فيها يحكي قصة.

ويُحسن السلحوت أن يوازن بين السرد الخارجي (الحدث الاجتماعي) والسرد الداخلي (الوعي والذاكرة)، ليجعل القارئ يعيش التجربة لا يقرؤها فقط. إنه لا يكتب عن عبير، بل يجعلنا نعيش داخل عبير.

اليتيمة كمرآة للأدب النسوي الفلسطيني

تتجاوز الرواية حدود الحكاية إلى مساحة الفكر؛ إذ تنتمي اليتيمة إلى تيار الأدب النسوي الفلسطيني، لكن من زاوية مختلفة لا تقوم على الصراع بين المرأة والرجل، بل على البحث عن توازن إنسانيّ بين القلب والواقع.

فالسلحوت لا يرفع شعار المظلومية، بل يقدّم صورة المرأة التي تفكّر وتحبّ وتخطئ وتتعلم. وهذا ما يمنح الرواية عمقها الحقيقي: إنها تُحرّر الأنثى دون أن تُقصي الذكر، وتُدين المجتمع دون أن تُلغيه.

البنية النفسية: الحزن كقَدَرٍ وجودي

يتعامل الكاتب مع الحزن بوصفه حالة فلسفية، لا مجرد تجربة إنسانية. في اليتيمة يصبح الحزن هو اللغة التي يتكلّم بها الجميع؛ الأمّ والابنة والجدّ وحتى القدس. لكن هذا الحزن ليس استسلاما، بل طاقة خفية تصنع المعنى.

عبير تبكي، ثم تبتسم، ثم تحلم.

وهذا التحوّل النفسي الدقيق يجعلها شخصية من لحم ودم، لا بطلة رمزية فحسب.

إنها تمثّل ما سمّاه محمود درويش يوما: “الفرح الممكن في ظلّ المستحيل”.

رسالة الرواية: الأمل فعل مقاومة

في نهاية الرواية، لا يموت الأمل، بل يتجدّد. تتعلم الأمّ أن الأسود ليس لون الوفاء بل لون السجن، ويتذكّر الجدّ أن الحياة قصيرة لكن الفرح ممكن، وتكتشف عبير أن الطريق إلى الحرية يبدأ من الداخل. إنها رسالة جميلة وبسيطة: أن نحبّ رغم الوجع، أن نعيش رغم الموت، وأن نكتب رغم الصمت.

خاتمة: جميل السلحوت، الكاتب الذي يكتب الإنسان أوّلا

يبرهن جميل السلحوت في اليتيمة أنه أحد القلائل الذين ما زالوا يؤمنون بأن الأدب لا يُقاس بعدد الجوائز، بل بعدد القلوب التي يلامسها. إنه يكتب عن القدس كما لو كانت ابنته، وعن المرأة كما لو كانت ذاكرة الوطن.

اليتيمة ليست رواية عابرة، بل نصّ يمشي على خيط رفيع بين الشعر والواقع، بين السياسة والإنسان، بين الموت والرغبة في الحياة. هي تذكير أن الحزن ليس نهاية الطريق، بل بدايته.

ومن رحم الوجع يولد الوعي، ومن قلب اليُتم يولد الوطن.

18-10-2025

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات