في رواية «أميرة» للأديب الفلسطيني جميل السلحوت، الصادرة عام ٢٠١٤ عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس، لا يكتب الأديب جميل السلحوت عن طفلة تُولَد فحسب، بل عن وطنٍ يتنفس من رحم الحكاية، ويُولد من خاصرة الألم.
من بين صفحات العمل، ينهض السؤال الأبدي: هل يمكن للفرح أن يكون وجهًا آخر للفاجعة؟
يقدّم السلحوت نصًا مركّبا، بسيطا في لغته، لكنه شديد العمق في معناه، يجمع بين التوثيق الاجتماعي والفلسفة الإنسانية والرمزية الوطنية، في بنية سردية تنسج من الولادة أسطورة مقاومةٍ صامتة.
1. الطفلة التي حملت الوطن في بكائها الأول
المشهد الافتتاحي — ولادة أميرة على يد الدّاية كاترينا — لا يُمكن قراءته كمشهد حياتي عابر.
الكاتب، ببراعة المراقب العارف ببنية الوجع الفلسطيني، يجعل من الولادة حدثا كوسمولوجيّا: ميلاد الجسد امتداد لميلاد الأرض.
صرخة المولودة هي الصرخة الأولى لفلسطين قبل النكبة، حين كانت القرى ما تزال تُغني للبرتقال والزيتون، لا للمخيمات والحدود.
إنّ اختيار الدّاية المسيحية «كاترينا» ليس تفصيلا بريئا؛ بل إعلانٌ رمزيٌّ مبكر عن أن فلسطين كانت، قبل أن تُختزل في السياسة، كيانًا إنسانيًا متعدّدا ومتكاملا.
يُبشّر المسلم والمسيحي والمزارع والعامل بالمولودة ذاتها، كأنهم جميعا يقبّلون وجه الوطن قبل أن يُصلب على جدار التاريخ.
2. الأنثى بوصفها الذاكرة والمصير
لا تُقدَّم المرأة في «أميرة» كجنس بيولوجي أو ديكور اجتماعي، بل كـمركز للوجود وللحكاية.
« سعدية» ليست أمّا فحسب؛ هي الأرض التي تلد وتُرضع وتخاف وتُحبّ.
و« خديجة»، الحماة المتسلطة، ليست شخصية ثانوية بل تمثيلٌ رمزيّ للسلطة الأبوية الموروثة، التي قهرت النساء وأضعفت المجتمع من داخله.
أمّا « كاترينا» فتمثل الوجه الآخر للأنوثة: المعرفة، الرحمة، والقدرة على كسر الحدود الطائفية.
هكذا، تتحول النّسوة الثلاث إلى مثلث رمزيّ: الأمّ/الذاكرة – الحماة/السلطة – الداية/المعرفة.
وكل ضلعٍ من هذا المثلث يعيد تعريف معنى” الأنوثة” الفلسطينية بوصفها القدرة على البقاء رغم الانكسار.
3. المكان الذي يتكلم بلغة الورد والتراب
يُدخلك السلحوت إلى المكان لا كزائر، بل كابنٍ يعود إلى بيتٍ يعرف رائحته منذ الطفولة.
البيوت الحجرية، السجاد العجمي، الأرائك الشامية، القيشاني الملوّن، الطابون، القهوة المغلية على نار الحطب — كلها لا تُوصف لتزيين المشهد، بل لتوثيق ذاكرة المكان الفلسطيني قبل النكبة.
هذا التوثيق الحسيّ يجعل الرواية عملا أنثروبولوجيّا بقدر ما هو أدبي.
المكان عند السلحوت ليس خلفية للأحداث، بل شاهدٌ حيّ على تفتّت العالم القديم.
كأن القصر والبيارة والشارع يروون الحكاية مثل البشر — كل حجر يتذكر صوتا رحل، وكل نافذة تشتاق لطفلة لم تكبر بعد.
4. اللغة كجسر بين المأساة والأمل
تتحرك اللغة في «أميرة» على حافة الشعر.
الفصحى تتعانق مع العامية، والأمثال الشعبية تتجاور مع الآيات القرآنية والأهازيج النسائية.
في هذا المزج، تتحول اللغة إلى كائن حيّ يحفظ اللسان الفلسطيني كما يحفظ التراب أسماء القرى.
حين تقول الدّاية:” ربنا أنعم عليك عروسة مثل البدر”، يتجاوز النصّ جمال العبارة، ليُدوّن نغمة الحياة التي كانت تُغنّى في البيوت قبل أن تُغرقها السياسة.
هكذا، تصبح اللغة وسيلة مقاومةٍ ناعمة، تحافظ على ما لم يعد يمكن حفظه بالسلاح.
5. من الزغاريد إلى الرصاص: حين يداهم التاريخ الحكاية
بعد الولادة، ينقلب الفرح إلى مأساة.
الرصاص البريطاني يملأ الأفق، والاحتلال يطرق الأبواب، فيختلط بكاء الطفلة بزغاريد النساء، وكأن القدر يكتب نصّه بالدمّ.
يتحوّل البيت الفلسطيني إلى مسرح للتاريخ؛ تبدأ الحياة بحفلة وتُنهيها جنازة.
في هذا الانقلاب المفاجئ، يختصر السلحوت مأساة فلسطين كلها:
كل لحظة ولادةٍ تُرافقها نبوءة موت، وكل ابتسامة تحمل ظلّ التهجير القادم.
الطفلة” أميرة” لا تكبر لأن الوطن نفسه لم يُتح له أن يكبر؛ ظلّ معلقًا بين الحلم والفقد.
6. نقد الذات بشجاعة المؤرخ العاشق
ما يميّز السلحوت عن كثيرٍ من الروائيين الفلسطينيين أنه لا يكتفي بإدانة الاحتلال، بل يفتح جرح الداخل.
يعرّي تناقضات المجتمع: التفاخر الطبقي، خضوع النساء، غياب التعليم، وسلطة المال والعادات.
يقول للقارئ، من دون خطابية: نحن لم نخسر الأرض فقط، بل خسرنا أنفسنا حين خاف بعضنا من التغيير.
هذه الجرأة تجعل الرواية نصّا للتّطهّر الجماعي أكثر منها رواية سياسية.
إنها تكتب المرآة كما هي — لا تلمّعها، ولا تحطمها، بل تضعها أمامنا حتى نرى وجوهنا بصدق.
7. البعد الكوني للرواية
القارئ غير الفلسطيني لن يقرأ” أميرة” كحكاية محلية، بل كملحمة إنسانية عن الذاكرة والأمومة والكرامة.
السلحوت ينجح في تحويل المأساة الوطنية إلى تجربة وجودية:
كيف يعيش الإنسان حين يُنتزع منه المكان؟ وكيف تظلّ الأغنية ممكنة وسط الركام؟
هذه الأسئلة تتجاوز الجغرافيا لتصبح شأنًا إنسانيًا عامًا، كما فعل نجيب محفوظ في القاهرة، وغارسيا ماركيز في ماكوندو.
” أميرة” بهذا المعنى لا تخصّ فلسطين وحدها؛ إنها صوت البشرية حين تفقد بيتها الأول.
8. جماليات البنية السردية
تعتمد الرواية على بناءٍ حلزونيّ: تبدأ بلحظة الولادة وتنتهي بالانهيار، لكنّ الخطّ الزمني ليس مستقيمًا.
الزمن في الرواية يتحرك مثل الذاكرة: يعود، يتوقف، يتناثر.
كل مشهدٍ هو قطعة من فسيفساءٍ أكبر، وكل صوتٍ نسائي أو رجولي هو خيط في نسيج جماعيّ.
هذه التقنية تمنح النصّ إيقاعًا شعريًا بطيئًا، كأنّ القارئ يسير في متحفٍ من الوجوه والروائح والأصوات، لا في سردٍ متسارع.
وهنا تكمن فرادة السلحوت: لا يستعجل القارئ نحو النهاية، لأنه يريد أن يجعله يعيش التفاصيل كما عاشها أهلها.
9. « أميرة» في الذاكرة النقدية
في سياق الأدب الفلسطيني الحديث، تضع” أميرة” نفسها بين أعمال إبراهيم نصر الله وليانة بدر وسحر خليفة، لكنها تحتفظ بخصوصيتها الريفية الأصيلة.
فبينما كتب الآخرون عن المقاومة والسياسة، كتب السلحوت عن الحياة التي سبقت المقاومة — عن البدايات التي أنجبت المأساة.
لهذا، تُعد الرواية وثيقة فنية من طبقة الروايات التي تصنع التاريخ لا تلك التي ترويه.
خاتمة: الولادة التي لم تنتهِ بعد
حين تغلق آخر صفحة من” أميرة»، تدرك أنّ الطفلة ما زالت تبكي.
صوتها يخرج من الرواية إلى الواقع، يختلط بأصوات المخيمات والحروب والنساء اللواتي ما زلن يلدن في المنافي.
إنها ليست مجرد شخصية خيالية، بل رمزٌ دائمٌ للأنوثة المقاومة، وللذاكرة التي ترفض الموت.
«أميرة» لا تروي تاريخا، بل تُعيد كتابته من منظور الحنين والأمل والأنوثة والحبّ.
هي رواية لا تُقرأ فقط، بل تُسكن القلب كصلاة، وتذكّرنا أن الشعوب التي تنجب أطفالها رغم الخراب — لا تموت.
٤-١١-٢٠٢٥










