الخاصرة الرخوة/ المطلقة/ روايتان لجميل السلحوت
مكتبة حيفا كل شيء/ 2020
د.صافي صافي
(أفكار رئيسة في الكتابة الروائية)
تحية مرة للكاتب جميل السلحوت، وتحية أخرى للناشر مكتبة كل شيء.
من المتعارف عليه إلى حد ما، أن هناك عدة وظائف للفن، ومنه الأدب: تحسين الذائقة الفنية وتطويرها، إعمال العقل، ربط الجمال بالحياة، التفكير والتفكير الناقد، التأمل في الذات والذوات التي حولنا، تقدير الجمال، اتخاذ موقف بين الشر والخير، ….الخ
إن أي عمل أدبي، يحمل رسالة، والرسالة هي فكرة، والفكرة لها قيمة، والقيمة لها مكانة، والمكانة تقع في أعلى سلم الهرم أو قريبا منه، والهرم هو معرفي، والمعرفة تقع في ثلاثة مجالات هي: المعرفة، والوجدان، والنفسحركي. وهرم المعرفة يبدأ من الحفظ فالاستيعاب فالتطبيق فالتحليل فالتركيب فالتقويم فالاتبكار. وفي الابتكار تكون الكتابة الإبداعية، التي تتضمن للمبدع كل المستويات التي تحتها، وعلى ذلك سأحاول محاكمة روايتي الكاتب جميل السلحوت.
وأوكد أن السلحوت لا تغيب عنه مثل هذه الأمور، بل هو يحملها، كما أعرف من خلال اللقاءات معه، ومن خلال كتاباته النقدية لأعمال آخرين، في الشعر والقصة والرواية والمسرحية، وفي المقالات الأدبية والصحفية. يعني ذلك، أنه رغم أهمية التفاصيل، وهي في كل الأحوال مهمة، فإننا نبحث عن سياقها وأهدافها في تحريك العقل للتفكير والتفكر، ليس فقط في فترة قراءة الرواية، بل لتمتد، ونحملها معنا أطول فترة ممكنة.
هكذا نتذكر الروايات العالمية المشهورة، فلا ننساها، وتصبح جزءا من ثقافتنا، نستشهد بها، ونحكم على سلوكنا وأقوالنا وفق أحكامها.
إذا يبقى السؤال المشروع: ما هي الأفكار الكبرى التي حاول جميل السلحوت بثها من خلال روايتيه؟
ربما يتوقف البعض عند فكرة الظلم الذي لحق بالمرأة اجتماعيا وثقافيا وممارسة، والدليل على ذلك عنوان الروايتين، أو الشخصيات النسوية التي تناولها. إذا كان كذلك، فإن السلحوت يقصد أن نعمل على تغيير هذه الثقافة والممارسة، لتكون أفضل، متحررة من الماضي المقيد، في الطريق لتحرير المجتمع، فالمرأة مثل الرجل، وإن اختلفا بيولوجيا ونفسيا.
ربما يتوقف آخرون عند تفاصيل الحياة الاجتماعية، خاصة في مراسيم الزواج ابتداء من اختيار العرسان، فالخطبة، فالحفل، فالزواج، وبذلك يصبح مؤرخا أو شبه مؤرخ، لننظر إلى الماضي، ولننظر إلى المستقبل، ورغم أحقيتهم في اختيار هذه الفكرة، فإنها ليست وافية، اذ يمكن أن تكون هذه في مجالات أخرى غير الفن الروائي.
وربما يتوقف طرف ثالث، عند المكان، القدس وما حولها، باعتبار المكان هو المنتج لكل المعتقدات والعادات والتقاليد، ويعتقد البعض أن الصراع في هذه المنطقة هو المكان، فهي أرض المنشر والمحشر، ولا بد من التركيز عليه، فمكانة المكان هي همّنا، وما البشر الذين يعيشون عليه، سوى استكمالا له، فهو يدرس المسألة بطريقة فنية روائية، لكن في ذهنه، هذا المكان بالذات، الذي تدور حوله الصراعات الدينية والسياسية والاجتماعية، ورغم حقهم في هذا التفكير، فإنها أيضا ليست وافية.
وربما يتوقف طرف رابع، عند فرص العمل التي لا تتوفر في بلادنا، وبالتالي اضطرارنا للهجرة للتكسب في الخارج، كما فعل أسامة في السعودية، حتى لو كانت على حساب تعبه وبخله وغربته، فغيابه لعدة سنوات، ربما يوفر له مستوى أعلى مما هو فيه، هو وعائلته وأهله. وما العادات والمعتقدات الجديدة إلا ثمن هذه الغربة، باعتبار أننا أنقياء أوفياء، لكن الفكرة أوسع من ذلك.
وربما يتوقف طرف خامس عند الحياة بعد الهجرة، والتمازج الثقافي والاختلاف، ومن ثم المصاهرة، وتعلق المهاجرين اللاجئين بالتعليم حماية وسندا، وما آلت إليها الأمور بعدها، فاللاجئون هم أكثر انفتاحا (ربما حسب الرواية)، من غيرهم، لكن هذا ليس كافيا، وربما ليست هي الفكرة الرئيسة، فالكل أصبح تحت الاحتلال، جيل وراء جيل، ومنطقة وراء أخرى.
وربما يتوقف طرف سادس، عند الحالات الشاذة (لا يقصد بالشاذة غير المقبولة أخلاقيا، بل مختلفة عن السياق الاجتماعي العام)، مثل المطلقات والحب قبل الزواج، والممارسة خارج إطار الزوجية، والتحول، والمثلية. لكن لم يتم التركيز على هذه المسائل بالقدر نفسه، رغم أن الطلاق، أخذ نصيبا أكبر.
وربما يتوقف آخرون وآخرون عند الصراع الاجتماعي والثقافي في إطار الدين نفسه، بين تيار متشدد تكفيري “يمثله أسامة”، لا يرى الحياة إلا من خرم إبرة، ويرى في العبادات أساسا للدين، ويتسند إلى الإمام ابن تيمية، وعبد الوهاب، ومن الجانب الآخر ما تمثله طليقته جمانة، من تمسّك بالدين وبالحياة، وبانفتاح مناسب حتى لو اصطدم بثقافة الجزيرة العربية، التي رفضت الرجوع إليها، وآثرت الحياة قريبا من أهلها، ومن بيئتها. فأسامة هو نتاج ثقافة هؤلاء، تلك الثقافة التي امتدت، وتعيش الآن بيننا، لتكفرنا وتخرجنا من دائرة المؤمنين.
في هذا الموقف الذي طال معظم مفاصل الروايتين، ربما حاول السلحوت، أن يقول لنا، بأن نفهم الدين بشكله اللين القابل للحياة دون انغلاق، وإن التمازج بين المتشددين والمنفتحين (الأقل تشددا) لا يمكن تحقيقه.
في هذا الإطار، فإن السلحوت، يخبرنا بأن التشدد جاء من خارج فلسطين، من بيئة صحراوية بدوية، ترى في المرأة إناء للتفريغ والتفريخ، غير قابلة للانفتاح على ثقافة الأدب والعلم، بينما التمسك بالدين بطريقة حضارية مقبولة يكون في بلاد الشام، في بلاد الرباط وأكناف بيت المقدس. هل يعني ذلك بأن الصراع القادم هو بين ثقافتين دينيتن، الأولى الجزيرة العربية والثانية هي بلاد الشام؟ لا أعرف. هل يعني أن الصراع القادم، سيكون محصورا بين هاتين القراءتين، وغابت وراءهما القومية واليسارية والليبرالية والليبرالية الغربية؟ هل غاب أيضا أثر المستعمر في تغيير ثقافتنا، وعاداتنا؟ هل خلقنا نموذجا خاصا مختلفا تماما عن الثقافة البدوية؟ ربما قصد ذلك.
ربما أميل أنا للموقف الأخير، ولي من الشواهد الكثيرة، لأثبت ذلك، أهمها اعتماد كل الأطراف على الآيات القرآنية والأحاديث، لاثبات وجهات النظر، ومنها أيضا مدى التمسك بالعادات والتقاليد المتبعة في هذا المجتمع وما حوله.
بالطبع غابت الكثير من القراءات في هذين النصين، مثل السياسية والفكرية والاستعمار، رغم وجودها بشكل طفيف هنا وهناك.
ربما تكون هذه القراءات التي أوردتها، هي قراءتي أنا وحدي، فلا يتفق معي أحد، وله الحق في ذلك، لكن يمكن أن تكون هناك قراءات أخرى أكثر عمقا وجمالا.
6 اكتوبر-2020