لا جديد في عودة العلاقات التركيّة الاسرائيليّة إلى طبيعتها، فتركيا عضو في حلف النّاتو، واسرائيل المحميّة الأمريكيّة في المنطقة عضو غير معلن في حلف النّاتو أيضا، وكلاهما أي تركيّا واسرائيل حارسان أمينان للمصالح الغربيّة في المنطقة، ومن بنى وهما على تعديل السّياسة التركية من الصّراع مع اسرائيل لصالح العرب بعد اقتحام الكوماندوز الاسرائيلي لسفينة مرمرة التّركيّة، وقتل تسعة أشخاص أتراك من المتضامنين مع المستضعفين المحاصرين في قطاع غزّة، فإنّما كان يعبّر عن أحلام لا تتحقق، فالعلاقات الاسرائيليّة التركيّة علاقات استراتيجيّة على مختلف الأصعدة، بما فيها الصّعيدين العسكري والاستخباراتي.
فهل ستعيد عودة العلاقات الاسرائيليّة التركيّة الوعي لجماعة الاسلام السّياسيّ، التي كانت تبرّر تصرّفات أردوغان الذي تلفّع بعباءة الدين وانخدعوا به، وحاولوا تبرير بعض تصرّفاته بأنّ الرّجل سيعيد تركيّا إلى حظيرة الاسلام بعد أن يتخلّى عن التزاماته مع حلف النّاتو وغيره شيئا فشيئا، وهل كان أردوغان وأوغلو يعملان حقّا لاعادة تركيّا إلى التزامها بقضايا الأمّة الاسلاميّة؟ أم أنّها تغيير أدوار لتتناسب مع تطوّر الأحداث في المنطقة؟ وأنّ الامبرياليّة العالميّة تغيّر ثوبها في كلّ مرحلة لخداع شعوب المنطقة، لتضمن حماية مصالحها، وهل من الممكن أن يكون دور أردوغان أفضل من دور عرب أمريكا الذين لم يجنوا من ولائهم لأمريكا غير الذّلّ والهوان؟
وإذا ما عدنا قليلا إلى الوراء فإنّ الدستور التركي ينص على “علمانيّة” الدولة، وأنّ الجيش يحمي الدّستور ويتدخل في سبيل ذلك، لذا وجدنا الجيش التّركيّ يتدخل “لحماية الدّستور” كلّما اشتد نفوذ الاسلاميين ” ففي عام 1998 م تم حظر حزب الرفاه الاسلامي وأحيل زعيمه أربكان إلى القضاء بتهم مختلفة منها انتهاك مواثيق علمانية الدولة، ومنع من مزاولة النشاط السياسي لخمس سنوات، لكن أربكان لم يغادر الساحة السياسية فلجأ إلى المخرج التركي التقليدي ليؤسس حزبا جديدا باسم الفضيلة، بزعامة أحد معاونيه وبدأ يديره من خلف الكواليس ، لكن هذا الحزب تعرض للحظر أيضا في عام 2000م. وتم اعتقال أربكان”
لكن أردوغان وحزبه “حزب العدالة” وصلا إلى الحكم، وقاما بتغيير بنود في الدّستور، واعتقل بعض جنرلات الجيش وحاكمهم، فهل حصل كلّ ذلك بشكل عفويّ، ومن وراء حلف النّاتو؟ أم هو تغيير في الأدوار بما يتناسب مع المرحلة الجديدة؟
ولنتذكّر على الساحة العربيّة، ففي سبعينات القرن العشرين، تمّت تغذية الطائفيّة االدّينيّة “مسلم ومسيحي” واندلعت حرب أهليّة في لبنان بناء على ذلك، وتمّ استهداف الأقباط في مصر من قبل جماعات الاسلام السّياسي، وصاحب ذلك هجرات مسيحيّة عربيّة واسعة.
سنّي وشيعي
وبعد استنفاذ هذه الفتنة لمهمّتها، واحتلال أمريكا وحلفائها للعراق عام 2003 وتدميره وقتل شعبه وهدم دولته، أتونا ببدعة طائفيّة أخرى هي “سنّي وشيعي” ووجدوا فيها سلاحا فعّالا لاعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفيّة متناحرة، تحت مظلّة المشروع الأمريكي”الشّرق الأوسط الجديد” ويتمّ تنفيذ هذا المشروع بأيد عربيّة مسلمة، ومال عربيّ وسلاح مدفوع الثّمن عربيا، وبدم عربيّ مسلم وبتخطيط أمريكي، وبتدمير أقطار عربيّة وقتل وتشريد شعوبها، حتّى وصل الأمر إلى درجة تحالفات عسكريّة “عربيّة اسرائيلية” لوقف خطر المدّ الشّيعيّ!
وقد أخذ هذا الصّراع مداه، بعد أن أخرج السادات وخليفته حسني مبارك مصر، من دورها القيادي والفاعل عربيّا وافريقيّا واسلاميّا، وبعد تدمير العراق واحتلاله علم 2003، ليترك المجال مفتوحا لاسرائيل وتركيّا وايران.
ولتنفيذ المشروع الأمريكي” الشرق الأوسط الجديد” لاعادة تقسيم المنطقة، لتنفيذ المشروع الصّهيني وتصفية القضيّة الفلسطينيّة لصالحه، هذا المشروع الذي تمّ افشاله وعرقلته من خلال صمود حزب الله اللبناني أمام الاعتداءات الاسرائيلية على لبنان، كان لا بدّ من اشعال فتن أخرى، فكان “الرّبيع العربيّ” الذي تمّ استغلال جماعات الاسلام السّياسي فيه بطريقة لم تعد خافية على عاقل، وبدأت الحروب الدّاخليّة في ليبيا، سوريّا، اليمن، وسيناء وغيرها.
وأعلن “المتأسلمون الجدد ” الجهاد” على شعوبهم وأوطانهم، وتمّ تجنيد “مجاهدين مسلمين” من أكثر من تسعين دولة، من ضمنهم مسلمون من مختلف الدول الأوروبيّة وأمريكا “للجهاد” في سوريا! وهنا جاء دور ” أخينا في الاسلام” الطّيب أردوغان، في تنفيذ المهمّة. ورافق ذلك الاعلان عن الدولة الاسلامية في العراق والشّام “داعش” لتفتك بمسيحيي العراق وسوريّا وبالأزيدين وغيرهم، وذلك لتجنيد الرّأي العام العالمي لمواصلة الحرب على العرب والمسلمين.
وتألق دور تركيا “المسلمة السّنّية” بقيادة أردوغان وأوغلو، للوقوف أمام ما يسمّى “الخطر الشّيعي الايراني” حتى وصلت الأمور في خداع الشّعوب إلى درجة تحالف أنظمة عربيّة” مع اسرائيل دفاعا عن “الاسلام السّنّي”، وتناست بعض الأنظمة العربيّة “السّنّية” احتلال اسرائيل لأراضي الدّولة الفلسطينيّة” واستباحتها للمسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشّريفين، ومعراج خاتم النّبيّين صلوات الله وسلامه عليه، وقسّمته زمانيا تمهيد لتقسيمه مكانيّا.
فهل عاد دور أردوغان في تنفيذ المشروع الأمريكي لاعادة تقسيم دول المنطقة ينطلي على أحد؟ وهل سيبقى “المتأسلمون الجدد” يهتفون له؟ وهل هناك غرابة في إعادة علاقاته الطبيعيّة مع اسرائيل كحليف استراتيجيّ لتركيا؟
27-6-2016