معروف أن الجهل يقود الى سلسلة من الحلقات المفرغة تشكل كل واحدة منها كارثة، مثل التخلف العلمي والاقتصادي والاجتماعي والصحي وغيرها، ومن البدهيات أن الشعوب الفقيرة في غالبيتها ليست فقيرة في مواردها، وإنما هي فقيرة أو معدمة في استغلال هذه الموارد، ولكم أن تتصوروا أن مناطق واسعة وخصبة يعاني سكانها من الجوع لأن القبائل التي تسكنها تعتبر الزراعة عيبا، وهذه موجود منها في السودان وجيبوتي على سبيل المثال، وهذا الجهل هو مسؤولية الحكومات التي يجب أن تعلم شعوبها، وتثقفهم لتمحو من رؤوسهم هذا المعتقد، وكمثال معاكس فان دولة مثل بلجيكا عدد سكانها ستة ملايين نسمة، ومداخيلها عالية جدا، لأنها تستغل ثرواتها المتمثلة بصيد السمك وصناعة الأخشاب.
والجهل يقود الى جهل في فهم ما يحيط بالانسان من ظواهر يصعب عليه تفسيرها، فتتولد لديه قناعات بوجود ظواهر خارقة تسيطر عليه، ويتماشى معها كحالة مرضية يصعب عليه الخروج منها. أو بالأحرى لا يجد من يخرجه منها، بل يجد من يستغلها ويطورها لديه ليستغله ماليا وربما جنسيا، ويتمثل ذلك في “العرّافين” و”الفتّاحين” ومدّعي العلم بالغيب، والذين يزعمون بأن لهم علاقات مع الجنّ والشياطين وغير ذلك، ويتمترس هؤلاء المحتالون وضحاياهم حول فهم خاطئ للدّين، فحسب الدّين الجنّ موجود، “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” وقال العالمون بأمور الدّين: “أنّ الجنّ لهم عالمهم الخاص، وهم كائنات ضعيفة لا علاقة لها بعالم الانسان”، لكنّ الجهلاء لا يفهمون ذلك، ويعتقدون أنهم واقعون تحت سيطرة الكفرة من الجنّ، ويجدون من يحتال عليهم ليسلبهم فلوسهم القليلة، وقد يتلذّذون بضربهم وربما حتى الموت بحجة اخراج الجنّ منهم، أو باستغلالهم جنسيا لنفس السبب، وهذه مسلكيات موجودة في بلداننا العربية مع الأسف، بل الأدهى والأمر أن هناك فضائيات تبث 24 ساعة، وفيها أشخاص يعطونها صبغة دينية ليخدعوا المتصلين بهم عبر مكالمات دولية باهظة التكلفة يتقاسمونها مع شركات الاتصالات، ومن المحزن هو وجود قطاعات واسعة تؤمن بصحة ذلك، وذات برنامج تلفزيوني جرت مناظرة في احدى الجامعات العربية بين ممثل شديد الذّكاء تقمّص شخصية مشعوذ يعالج الأمراض، مع طبيب متخصص لم يكن يعلم الدور الذي يقوم به الممثل، وتمّ بثّ المقابلة، واقتنع جمهور المشاهدين وهم طلبة وأساتذة جامعيون بحجّة وقدرات المشعوذ أكثر مما اقتنعوا بقدرات الطبيب المتخصص، وفي آخر الحوار كشف الممثل عن شخصيته، فضحك بعض الحضور واستاء البعض الآخر، لكان غالبيتهم لم يغيّروا قناعاتهم. ومن اللافت أيضا أنّ هناك من يدّعي العلاج بالقرآن الكريم، معتمدين على قوله تعالى:” وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا” وهذا الشفاء كما أورده بعض المفسرين مثل الدكتور محمود عكّام: “وهذا الأثر للقرآن – الشفاء – أثر ذاتي، يتعلق بالإنسان ذاته، إذ يصححه من الأمراض التي ألمت بعقله كالشك والريبة، وتلك التي ألمت بقلبه كالحزن والقلق والاضطراب. فالقرآن يشفيني إذ يهيء مني إنسانا سليما وصالحا في ذاته” ويفهم من هذا أنّ القرآن دعوة للتوحيد والشفاء من الشّرك والحيرة في خلق السماوات والأرض. ويؤكد ذلك ما ورد في الحديث الشريف: ” ما خلق الله من داء الا وخلق له الدواء تداووا عباد الله”.
ومما ورد في الأثر من أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب مرّ بأعرابي يقرأ القرآن على ناقته الجرباء، فقال له عمر: لو أضفت لقراءتك قليلا من القطران لشفيت ناقتك.” وهذا دعوة من الخليفة تفيد بأن علاج الأمراض يكون بالدواء وليس بقراءة القرآن. ومن ضحايا المحتالين والمشعوذين هم من يصابون بأمراض نفسية وعقلية، وهي أمراض عضوية ناتجة عن خلل في الجهاز العصبي، واستطاع الطب الحديث المبني على العلم الصحيح أن يجد لها العلاج المناسب، وتعيس ذلك المريض منهم الذي يصطحبه التعساء القريبون الى المشعوذين ليزيدوه مرضا على مرض، إن لم يقتلوه ضربا بحجة اخراج الجنّ الكافر الذي يتلبسه. وثقافة الجهل والتخلف هي سلوك ومعتقد عند البعض، وقد شاهدنا في الأراضي الفلسطينية المحتلة في شهر نيسان 2014 حادثة تقشعر لها الأبدان، تمثلت بخنق شاب عشريني لابن شقيقه ابن الثلاثة أشهر، وليعترف للمحققين بأنه قام بخنق جدّته الثمانينية، قبل ثلاثة شهور، وأنه قام بحرق منزل الأسرة ونشر اشاعة أن الأرواح الشريرة هي من قامت بذلك، وأنها ستنتقل من بيت الى بيت لتصل الى القرى المجاورة، وتصل المأساة ذروتها عندما أتى والد الطفل الضحية ليخبر المحققين أن شقيقه بريء، وأن من قام بهذه الأفعال هي الأرواح الشريرة التي تسكن جسد شقيقه! وهذا يعني أن المصابين بأمراض نفسية هم أكثر من شخص واحد، وان لم يكونوا مرضى فهذا يعني أننا غارقون في بحر من الجهل، وهذا من أكثر الأمراض فتكا. ورحم الله المتنبي وهو القائل:
لكل داء دواء يستطب به .. الا الحماقة أعيت من يداويها
12-5-2014