زرت عددا من بلدان العجمِ في أوروبّا وأمريكا، والتقيت دون تخطيط بعدد من عامّة النّاس هناك، وعندما كانوا يعرفون بأنّي عربيّ، رأيت البعض منهم يظنّ أنّني وبقيّة العرب وكأنّ الواحد منّا مليونير يملك بئر بترول، وأنّنا نتحمل مسؤوليّة الأزمات الاقتصاديّة في العالم، كما أنّنا إرهابيّون نسعى إلى تدمير الحضارة الإنسانيّة، وهكذا هم مشبعون بدعاية مضادّة تشيطن العرب والمسلمين، ولهذا أسباب كثيرة منها فشل الإعلام والدّبلوماسيّة العربيّة والإسلاميّة، وعجزها عن إيصال الرّواية العربيّة والإسلاميّة للشّعوب والأمم الأخرى. وقبل حوالي عشرين عاما زرت الولايات المتّحدة الأمريكيّة بصحبة طفلتي” بفيزيا سياحيّة”، حيث يعيش هناك ابني وخمسة من إخوتي، وفي المطار طلب منّي رجل أمن أن أخرج كلّ ما في جيوبي بما في ذلك الدّولارات التي بحوزتي وأضعها على طاولة أمامي، فوضعت مئة دولار هي كلّ ما معي من نقود، فسألني: عن سبب زيارتي لأمريكا؟ فأجبته: سياحة! فتعجّب الرّجل وسألني: هل معك “فيزا كارت”؟ فأجبته بالنّفي، فعاد يسأل: هل تريد أن تعمل في أمريكا؟ فأجبت بالنّفي أيضا. فاحتار الرّجل وسأل بعصبيّة:
كيف ستسيح في أمريكا وأنت لا تحمل سوى مئة دولار؟ فأجبته: أموالي في البنوك وعند إخوتي. فاطمأنّ الرّجل وهو يقول:
أنتم العرب تملكون مال العالم جميعه.
تذكّرت هذا وغيره في هذا الشّهر الفضيل، ومئات الآلاف من أبناء شعبي- خصوصا في قطاع غزّة المحاصر برّا وبحرا وجوّا منذ سبعة عشر عاما، ولا يجدون ما يفطرون عليه في هذا الشّهر الفضيل سوى الخبز والشّاي الذي تقدّمه لهم مؤسّسات إغاثة دوليّة، وتذكّرت ملايين اللاجئين والمشرّدين من أبناء أمّتنا في سوريا والعراق وليبيا واليمن والصّومال وغيرها، وتذكّرت الشّعب اللبنانيّ الذي يعيش على حافّة المجاعة، وكيف تمّت محاصرته وتدمير اقتصاده، وتذكّرت أنّ أكثر من مائتي مليون عربيّ “70% من العرب” يعيشون تحت خطّ الفقر وعلى حافّة المجاعة، وتذكّرت الآلاف الذين ابتلعهم البحر وهم يهاجرون بطرق غير شرعيّة إلى بلاد “الكفّار” طلبا للرّزق. وتذكّرت مليارات الدّولارات العربيّة التي تذهب هدرا، وترليونات الدّولارات المرصودة في بنوك أمريكا وغيرها من الدّول الأوروبّيّة؛ لتنعش اقتصاد تلك البلدان.
ووقفت أمام الخطابات الرّنّانة في هذا الشّهر الفضيل، والتي تتغنّى بأمجاد العرب والمسلمين، وحِرْص أولى الأمر على حماية الإسلام والمسلمين، وحماية المقدّسات الإسلاميّة والمسيحيّة، وكأنّهم لا يعلمون عن انتهاك حرمات المقدّسات الإسلاميّة والمسيحيّة في القدس وأكنافها، وفي مقدّمتها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة.
وتألّمت مع الصّائمين الذين لا يجدون ما يُفطرون عليه.
وتذكّرت أنّ المتاجرين بالدّين ممّن يمسكون برقاب النّاس يسيئون لدينهم ولشعوبهم، ولو طبّقوا الدّين الصّحيح، ما جاع مواطن من رعاياهم، وما احتلّ شبر من أوطانهم. فعَنْ أَبِي خِرَاشٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَادَ فِيهِ «وَثَمَنُهُ حَرَامٌ.”
وجاء تفسير لهذا الحديث في” الدّرر السّنّيّة”:” هناك مِن الموارِدِ الطَّبيعيةِ الَّتي لا غِنَى للإنسانِ عنها والَّتي يَنتفِعُ بها الجميعُ وإن غابَتْ عنه هَلَك؛ فلذلك جُعِلتْ مَشاعًا للمسملين، وفي هذا الحديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: “المُسلِمون شُرَكاءُ في ثلاثٍ”، أي: إنَّ لهم الحقَّ في ثَلاثةِ أشياءَ، ولا يَحِقُّ لأحدٍ أن يَبيعَ ولا أن يتَسلَّطَ على هذه الأشياءِ، فيَمنَعَ الانتِفاعَ بها، “في الكَلَأِ”، أي: شُرَكاءُ في الْمَراعي والأعشابِ الَّتي لا يَملِكُها أحَدٌ في الأرضِ الْمَواتِ، “والماءِ”، أي: شُركاءُ في مِياهِ الأنهارِ والأمطارِ والعيونِ الَّتي لم يَسْعَ أحدٌ في حَفْرِها، “والنَّارِ”، أي: شُرَكاءُ فيما يُنتَفَعُ به ويُستَخدَمُ للنَّار؛ كالأشجارِ والحطَبِ وغَيرِها، ويَدخُلُ معَها مُستحدَثاتُ العصرِ مِن النّفطِ والفَحمِ وما شابَهَ، وهذه كلُّها أمورٌ النَّاسُ شُركاءُ فيها، فلا يَصلُحُ أن تُمنَعَ، والنَّاسُ يَحتاجُ بعضُهم إلى بعضٍ، لا سيَّما إذا كانوا في البَراري، وليس معَهم حاجاتُهم الكافيةُ الَّتي لا بدَّ مِنها.”
ويحضرني هنا أنّني قابلت قبل حوالي عشر سنوات مسؤولا عربيّا في دولة نفطيّة، وحدّثته بناء على طلبه عن القدس وأكنافها وما يعانيه الشّعب والأرض.
فاستمع الرّجل لي باهتمام وتأثّرِ بالغ حتى خلته يبكي! فسألني: ما المطلوب منّا؟
فذكّرته بالحديث النّبويّ سالف الذّكر، وقلت له: وهذا يعني أنّ لنا نصيبا من عائدات البترول، لكن بارك الله لكم فيها وليتكم تخصّصون منها ريع ثلاث دقائق يوميّا لشعبنا وقدسنا! فاصفرّ وجه الرّجل الذي كتم غيظه من كلامي وقال: كان الله في عونكم.
فتقبّل الله صيام وعبادة العامّة، أمّا ناهبو خيرات الأمّة والمتاجرون بالأوطان والشّعوب فخالقهم أولى بهم. ورحم الله الشاعر معروف الرّصافي الذي يقول:
“يا قـوم لا تتكلَّـموا إن الكــلام محـرَّمُ
ناموا ولا تستيقظـوا ما فــاز إلاَّ النُّـوَّمُ
وتأخَّروا عن كلِّ مـا يَقضي بـأن تتقدَّموا
ودَعُـوا التفهُّم جانبـاً فالخير ألاَّ تَفهـمـوا
وتَثبتُّوا في جـهـلكم فالشرُّ أن تتعلَّــموا
أما السياسة فاتـركوا أبـداً وإلاَّ تندمـوا”
31-3-2023