عن مكتبة كل شيء في حيفا صدر كتاب:” رسائل- من القدس وإليها” وهي رسائل أدبيّة اجتماعيّة ثقافيّة، تبادلها الأديب المقدسيّ جميل السلحوت مع الكاتبة صباح بشير.
ويقع الكتاب الذي يحمل غلافه الأوّل لوحة للفنّان التّشكيليّ الكبير محمد نصر الله في 182 صفحة من الحجم الكبير، وصمّمّ وأخرج ومنتج الكتاب الأستاذ شربل الياس.
استوقفني كثيرا الأسلوب الراقي في الحوار بين عقلين وثقافتين وان بعدت بينهما الجغرافيا واختلف بينهما الجيل؛ ليكون نموذجا يستحق الوقوف عليه والتعلم منه، كيف أن الثقافة وحدها هي كفيلة بهدم الفجوات التي نعاني منها في مجتمعات العربية، بعد أن غيب الحوار الراقي سواء في البيت الواحد، والأسرة والعشيرة حتى تفشّى هذا المرض في المجتمعات قاطبة، ليكون الكل على صواب، وكلنا نعيش في عصر الجهل والتبعية .
للوهلة الأولى ظننت أنّي اقف على رسائل ذات طابع أدبي بين أديبين موهوبين مقدسيين، ولكن سرعان ما ظهرت صفة صدق الإنتماء الى الوطن لدى الكاتبين؛ ليبينا لنا أن التجول في بلدان العالم الحرّ وإن انبهرت بها العيون، لكن تبقى شمس الوطن هي مصدر الدفء الوحيد في برد الغربة، وقد عبرا عن ذلك بالقول “إننا محظوظان كوننا نسكن فوق تراب هذا الوطن المقدس”. ليكونا قدوة لكل كاتب ومواطن إن غاب عن الوطن، يجب أن يحمل وطنه في قلبه وفي قلمه، وخاصة إذا كان هذا الوطن هو فلسطين.
كان جليا أننا نقف أمام عمل أدبي رفيع يتحدث عن أدب الرحلات، حتى غدت هذه الرسائل كاميرا متجولة تجوب البلدان والمدن، ليس لأنها تصور البلدان والشوارع والمناطق السياحية والمتاحف فحسب، بل تسربت الى أعماق ونفسيات هذه الشعوب وتفكيرهم، وخاصة عندما وصف أديبنا الشيخ السلحوت نفسية وفكر المواطن الأمريكي، وكأنه فرق بين انبهاره في الحضارة الغربية وبين رغباتها الاستعمارية، حيث دمّرت بلادنا ونهبت خيراتنا، وأن المواطن الأمريكي في غالبيته بعيد عن السياسة، واسترسلت أحلق مع هذه الجولات السياحية، ولا أخفي هذه المتعة التي صاحبتني بما تقرا العيون، وليس بما ترى بعد، وقد حولا النص الادبي إلى كاميرا تجول البلدان وتكشف النفسيات.
كما استوقفتني كلمة الأديب جميل السلحوت “أزعم أنّي أشجع الكتاب الجدد، حتى وإن كنت لا أعرفهم”، غدت هذه الجملة ظلا يرافق مخيلتي كلما انتقلت من رسالة إلى أخرى، ربما لأنّي كنت أحد هؤلاء الأشخاص الذين ذكرهم الكاتب، وهي تعكس في طياتها أنه كاتب لم يتوقف على ما يكتب وينشر فقط، بل حرص على أن يكون وطنه غنيا بالثقافة والأدباء الجدد، ولسان حاله يقول كيف يحارب الجهل من جهة وكيف يمد يده لكل كاتب جديد باليد الأخرى، حتى يزدهر الوطن وينمو، فكلما زرع فكرا اقتلع جيلا من الجهل، وأذكر أنه وبدعم منه وبتوجهاته استطاع أن يزرع فيّ أسس الكتابة وأهمية المطالعة، بعد أن زودني بأعماله الأدبية، لأكون فيما بعد أحد محبي ومتابعي ندوة اليوم السابع؛ لنتعلم عشق الكلمة، كما قالت الكاتبة صباح بشير “فرب كلمة تصنع في نفوسنا أملا وتمطر على أرواحنا رذاذا لطيفا منعشاً”.
وبعد التعمق والاسترسال فيما قرأت أستطيع القول أننا لا نقف هنا على رسائل أدبية مجردة، بل على دستور يمكن الاقتباس منه في مجالات شتى، فهو يصلح ليكون نهجا تعليميا في المناهج الدراسية في التاريخ والجغرافيا، وتوثيقا سياسيا لحقبة من تاريخ القدس والمنطقة العربية، وكذلك نهجا تربويا يبين كيفية نهوض أمّتنا تحت شعار الثقافة والأدب، واحترام حقوق الإنسان وخصوصا المرأة، وتكامل المجتمعات وإن تعددت ثقافتها وديانتها وقومياتها، كما شبه كلا الكاتبين ذلك وأعطيا مثالا أمريكيا ولندن.
لقد أبدع الكاتبان أيّما ابداع عندما كتبا عن الثقافة والأدب في البلدان الغربية، وكأن هذه الرسائل تنادي بتحرر الإنسان والفكر قبل تحرر الأوطان من الاستعمار المباشر أو غير المباشر، ولسان حالهما يقول تحرر الفكر في الغرب ثم تبعه تحرر الإنسان، بينما المواطن العربي مقيدا فكرا وثقافة.
ولقد كتبا في الرسائل “أن الهوة الثقافية التي تفصل الشعوب العربية عن الشعوب الغريبة هائلة في كافة المجالات، بما فيها العلوم الإنسانية وانعكاس ذلك على حياتنا اليومية.” بل وضعا أسسا مهمة يمكن وضعها تحت عنوان كيفية النهوض والتغير، وقد أشارا في جانب ما إلى التربية والتعليم وتأثيرالعادات والتقاليد ص 106 وغيرها علينا ……….. وهذا الامر الذي جعلني أفكر مرارا وتكرارا ألهذا السبب شعوبنا العربية لم تنهض بعض ولا زالت تقدس أصناما وعشائر، وأصحاب رأس المال على حساب الأوطان والكثير من الأسئلة ربما ليس هذا المكان المناسب لسردها؟
وفي النهاية أستطيع القول ان كلا الكاتبين كانا محظوظا بالآخر، ونحن كنا أكثر حظا بالمتعة التي ساقاها لنا طوال تجوالنا في سطور الرسائل بسلاستها والفائده التي يتزود بها من يقرأها.
18-7-2022