يتساءل كثيرون عن الأسباب التي أدت الى فوز الأحزاب والتيارات الإسلامية في الانتخابات التي جرت في تونس والمغرب ومصر وقبلها في فلسطين، وفي تسعينات القرن الماضي في الجزائر، وتشير التقديرات أنه لو جرت انتخابات حرة ونزيهة في مختلف الدول العربية لفازت هذه القوى أيضا.
ويتوازى مع هذه التساؤلات التساؤل عن أسباب تراجع القوى القومية واليسارية والوطنية بشكل عام، وانخفاض جماهريتها وشعبيتها بشكل عام.
فهل هذه النتائج جاءت بشكل عفوي أم أنّ لها جذورها العميقة وأسبابها؟
ولكي نقف على حقيقة ما جرى ويجري دعونا نعود قليلا الى الوراء، فبعد الحرب الكونية الأولى وخروج العرب على الدولة العثمانية، جرى تمزيق العالم العربي الى دويلات تنفيذا لاتفاقية سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا، وجرى تغذية الإقليمية بين الشعوب العربية، كما جرى التنظير القومي المتأثر بما كان يجري من نهوض قومي في أوروبا تحديدا، غير أن الأقطار العربية كانت تخضع لاستعمار أوروبي مباشر، مما جعل الطلائع العربية المتنورة والمتعلمة تنتبه الى ضرورة تحرير شعوبها من السيطرة الأجنبية، وجرت صراعات وثورات أدّت الى استقلال الدول العربية ولو شكليا، حيث أصبح لكل دولة علم ونشيد وطني بعد ترسيخ الإقليمية بشكل واضح وممنهج، وكأن الدولة العربية الواحدة كانت مغيبة من التاريخ، واستطاعت بعض الدول –خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية- الحصول على استقلالها بالخلاص من الاستعمار الأجنبي المباشر، وإن بقيت ذيوله وهيمنته موجودة بأشكال أخرى، وصاحب ذلك نكبة الشعب الفلسطيني وقيام دولة اسرائيل في أيار 1948.
تشكيل الأحزاب:
وبدأت تتشكل أحزاب قومية مثل حزب البعث العربي، وحركة القوميين العرب، وما تبعها من قيام الثورة المصرية في تموز 1952 بقيادة جمال عبد الناصر، حيث أخذت هذه التيارات القومية ترفع شعار تحرير فلسطين والوحدة العربية…الخ.
وليس بعيدا عن ذلك كانت التيارات الدينية تنشط هي الأخرى فمثلا حركة الاخوان المسلمين تأسست في العام 1928، وحزب التحرير الاسلامي تأسس في العام 1952.
كما أن الأحزاب الشيوعية نشطت هي الأخرى بعد الثورة البلشفية في روسيا، وكان الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي تأسس في العام 1922 أول حزب شيوعي في المنطقة العربية.
واذا كانت الأحزاب القومية تدعو الى اقامة الدولة العربية الواحدة من ضمن ما تدعو اليه، فإن الأحزاب الشيوعية والماركسية كانت تدعو الى إقامة أنظمة اشتراكية موالية للاتحاد السوفييتي، بل إنها كانت ترى ثورية أو “رجعية” أيّ نظام عربي بمدى توافقه وتحالفه مع الاتحاد السوفييتي.
وقد استطاع زعيم الأمّة جمال عبد الناصر استقطاب الشعوب العربية حول طروحاته ورؤاه السياسية، في حين كانت ترى التيارات الدينية في نظامه خطرا على الشعوب العربية والاسلامية، ومن العجيب أن التيارات الدينية تساوت مع القوى الاستعمارية في عدائها لنظام عبد الناصر، الذي لم يهادنها هو الآخر، فاعتقلهم ونفذ حكم الإعدام بأحد قادتهم-سيّد قطب- في مصر.
تخبط الأحزاب القومية واليسارية:
وقد استطاع عبد الناصر عمل اتفاقية وحدة بين مصر وسوريا في العام 1958، وما لبثت أن انفكت هذه الوحدة في العام 1962، وحظي الانفصال بتأييد حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يرفع شعار(أمّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) و(وحدة…حرية…. اشتراكية) هذا الحزب الذي لم يستطع توحيد العراق وسوريا عندما حكم هذين البلدين.
وجاءت هزيمة حرب حزيران 1967 لتشكل صدمة للشعوب العربية جميعها، هذه الشعوب التي عانت الكثير من سياسة كبت الحريات، والقمع الفكري والسياسي، والاعتقالات والتصفيات وغيرها….وفضحت هذه الهزيمة طبيعة الأنظمة التي اضطهدت شعوبها ولم تعمل على عزّة هذه الشعوب وأوطانها، وحتى الأحزاب السياسية التي كانت تعتبر نفسها طليعية وثورية لم تستطع قراءة أسباب ونتائج الهزيمة قراءة صحيحة، فالأحزاب الشيوعية والقومية اعتبرت نتائج تلك الحرب نصرا للعرب لأن الصهيونية والامبريالية العالمية لم تستطع (إسقاط النظامين التقدميين في مصر وسوريا وهدم الكيان الأردني) وكأنّ وقوع الضفة الغربية وجوهرتها القدس، وقطاع غزة ومرتفعات الجولان السورية، وصحراء سيناء المصرية تحت الاحتلال ليس هزيمة، في حين أن التيارات الدينية وعلى رأسها حركة الإخوان المسلمين اعتبرت نتائج الحرب كارثية وناتجة عن خيانة الأنظمة لشعوبها وأوطانها.
العمل المسلّح:
تشكلت حركة التحرير الوطني الفلسطيني”فتح” في اليوم الأول من عام 1965ورفعت شعار الكفاح المسلّح لتحرير فلسطين، وإعادة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم التي شرّدوا منها، وأقامة الدولة العلمانية على أراضي فلسطين التاريخية، وقد سبق ذلك تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1964برئاسة المرحوم أحمد الشقيري، والتي وضعت ميثاقها الذي يدعو الى القضاء على دولة اسرائيل، وإقامة دولة علمانية على كامل أراضي فلسطين التاريخية، وقد اعتبرت التيارات الدينية وعلى رأسها حزب التحرير الاسلامي الذي لا يؤمن بالعمل المسلح، ويدعو الى اقامة دولة الخلافة الاسلامية التي ستجهز الجيوش لتحرير فلسطين، تشكيل منظمة التحرير خطوة لتصفية القضية الفلسطينية، وبعد هزيمة حزيران 1967ونتائجها الكارثية، تحول جناح فلسطين في حركة القوميين العرب الى العمل المسلح، وشكل “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” التي انشقت عنها لاحقا” الجبهة الشعبية –القيادة العامة- برئاسة أحمد جبريل” و”الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين بقيادة نايف حواتمة”كما شكل حزب البعث الموالي لسوريا “منظمة الصاعقة”، وشكل بعده حزب البعث الموالي للعراق”جبهة التحرير العربية” وشكل التيار الناصري” جبهة النضال الشعبي.
وخاض الجيش المصري ما أسماه “حرب الاستنزاف”….وشكلت وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر في 28 ايلول 1970 مفصلا هاما في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي، بل وفي مسيرة الشعوب العربية، فقد انفتح خليفته أنور السادات على أمريكا، لايمانه بأن أمريكا تملك 99% من أوراق حل الصراع، وطرد الخبراء العسكريين السوفييت ، وخاض بالإشتراك مع سوريا حرب أكتوبر 1973
لتحريك الأزمة، وبدلا من استغلال نتائج الحرب لتحقيق حلّ عادل لأزمة المنطقة، ارتضى بما سُمّي في حينه”فكّ الاشتباك” وقام في اكتوبر 1977 بزيارة اسرائيل، معلنا أن حرب اكتوبر هي آخر الحروب مع اسرائيل، وتوصل الى اتفاقية صلح منفرد مع اسرائيل عرفت باسم “كامب ديفيد”.
مؤتمر الرباط 1974
وفي مؤتمر القمّة العربية في الرباط في نيسان 1974 اعترفت الدول العربية بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، ومع أن منظمة التحرير والفصائل والأحزاب الفلسطينية هللت لهذا الاعتراف، إلا أنها لم تدرك أنه يعني براءة الأنظمة والدول العربية من واجباتها والتزاماتها القومية تجاه القضية الفلسطينية، وأن الفلسطينيين وحدهم غير قادرين على مجابهة اسرائيل التي تتعدى أطماعها التوسعية حدود فلسطين.
اخراج منظمة التحرير من لبنان:
وتوالت الأحداث والصراعات الى ان وصلت الى قيام اسرائيل بغزو لبنان، واجتياح أراضيه وعاصمته، لإخراج المقاومة الفلسطينية من الأراضي اللبنانية، ورغم مقاومة الفصائل الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية لهذا الغزو، إلا أنه تمّ إرغام منظمة التحرير على مغادرة الأراضي اللبنانية، وانتقلت قيادتها الى تونس، وتفرق مقاتلوها الى عدة دول منها سوريا وليبيا واليمن الجنوبي.
الانتفاضة الأولى وتشكيل حركة حماس:
عندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في كانون اول-ديسمبر- 1987كانت تعبيرا عن رفض الشعب الفلسطيني الجماعي للاحتلال، هذا الاحتلال الذي أمعن في نهب الأراضي الفلسطينية، وبناء المستوطنات اليهودية عليها، والذي أهلك البشر والشجر والحجر في الأراضي الفلسطينية، ظهرت حركة حماس كجناح لحركة الإخوان المسلمين في فلسطين، وشاركت الحركة بفعاليات الانتفاضة رافضة الانضواء تحت راية القيادة الموحد للانتفاضة التي تشكلت من ممثلين عن الفصائل الفلسطينية الوطنية، فكانت تصدر بياناتها بشكل مستقل، وقد غضّ الاسرائيليون النظر عن حماس في بداياتها، لا حبّا بها، وانما ظنّا منهم بأن ذلك سيضعف عدوهم الرئيسي المتمثل بمنظمة التحرير وفصائلها، وخلق قيادة بديلة في الأراضي الفلسطينية، ستكون قيادة دينيّة هشة لن تشكل خطرا على اسرائيل، خصوصا وأن التيارات الدينية لم تمارس العمل المسلح منذ نكبة العام 1948، ولم تمارس أيّ نشاط سياسي يُذكر ضد الاحتلال، وسيقتصر دورها على المواعظ الدينية، وبالتالي سيسهل السيطرة عليهم واحتوائهم، شجعهم في ذلك أن أمريكا وحلفاءها الذين كانوا يعتبرون الاسلام –من خلال الأنظمة العربية والاسلامية- الجدار الواقي من خطر الشيوعية المتمثلة بالاتحاد السوفييتي والدول الدائرة في فلكه، والصين الشعبية، وأن الأحزاب والتيارات الدينية الاسلامية هي الأخرى كانت تحارب الشيوعية من منطلقات دينية عقائدية، وترى فيها عدوها الرئيسي، حتى وصل الأمر بالشيخ الشعراوي أن يصرح بأنه صلى ركعتين شكرا لله على هزيمة العرب في حرب حزيران 1967، لأنهم لو انتصروا في تلك الحرب لتحول العرب الى الشيوعية.
-وقد اعتذر الشيخ الشعراوي عن ذلك بعد سنين وقبل ان ينتقل الى رحمة الله-.
لكن حماس ما لبثت أن شكلت جناحها المسلح-كتائب القسام- الذي قام بعمليات مسلحة، وهذا ليس جديدا على الإخوان المسلمين الذين تطوعوا وشاركوا في حرب العام 1948.
اتفاقات أوسلو:
وقد حاولت قيادة منظمة التحرير استغلال الإنتفاضة الشعبية للوصول الى حلّ سلمي للصراع مع اسرائيل، ساعدها في ذلك اصطفاف الأنظمة العربية خلف أمريكا، لإخراج القوات العراقية التي دخلت الكويت في آب-أغسطس-1990، وما تمخضت عنه حرب الخليج الثانية والحرب الأطلسية على العراق بمشاركة جيوش دول عربية، بما فيها سوريا التي يحكمها حزب البعث العربي، فأرادت ادارة ارئيس الأمريكي جورج بوش الأب استرضاء بعض الأنظمة العربية، فدعت الى مؤتمر مدريد في اكتوبر 1991، والذي حضرته اسرائيل تحت الضغوط الأمريكية، بعد أن رفضت الجلوس مع وفد عربي موحد، وشارك العرب منفردين في هذا المؤتمر حتى أن منظمة التحرير شاركت ضمن الوفد الأردني، ولم يتورع اسحق شامير رئيس وزراء اسرائيل في حينه من التصريح العلني بأنه سيفاوض العرب عشر سنوات دون أن يعطيهم شيئا.
وبعد سقوط حكومة شامير وعودة حزب العمل الاسرائيلي الى الحكم برئاسة اسحق رابين، جرت مفاوضات سرية بين منظمة التحرير واسرائيل، تمخضت عن اتفاقات أوسلو الذي اعترفت فيها منظمة التحرير باسرائيل كدولة، في حين اعترفت اسرائيل بمنظمة التحرير ولم تعترف بدولة فلسطين، ومن خطايا هذه الاتفاقية تأجيل قضية القدس والمستوطنات الى مرحلة الحل النهائي، حيث جرى ولا يزال يجري التمدد الاستيطاني واستمرار تهويد القدس بشكل جنوني.
غير أن من ايجابيات اتفاقات أوسلو وما تبعها-خصوصا بعد اغتيال رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين- أنها كشفت بأن اسرائيل غير مؤهلة للسلام العادل، وأنها تفضل الاستيطان والتوسع على السلام،وأنها لن تعطي الفلسطينيين أكثر من إدارة مدنية على السكان وليس على الأرض.
قيام السلطة الفلسطينية:
عادت قيادة منظمة التحرير وبضعة آلاف من كوادرها الى الأراضي المحتلة، وأقامت السلطة الفلسطينية، تمهيدا لإقامة الدولة الفلسطينية، وانحصر نفوذها داخل المدن والقرى الرئيسة، والتي صنفت كمناطق”أ” مع أن الجيش الاسرائيلي يستطيع دخولها واستباحتها متى شاء، وبقيت بقية الأراضي نهبا للاستيطان الذي تغوّل، وتمدد بطريقة جنونية، وسارعت اسرائيل بتهويد القدس، وعارضت حماس والجهاد الاسلامي وغيرها من التيارات الدينية اتفاقات أوسلو، ورفضت المشاركة في مؤسسات السلطة، كما عارضت المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي والرئاسة في العام 1996.
فوز حماس في انتخابات التشريعي:
في حين تراجعت حماس عن موقفها الرافض لأوسلو وافرازاته، فخاضت انتخابات العام 2006 التشريعية، وحصدت غالبية مقاعد المجلس التشريعي، وبغض النظر عمّا جرى بعد ذلك، إلا أن السؤال الذي طرح نفسه هو لماذا فازت حماس، وتراجعت القوى الوطنية؟ وتواصل هذا السؤال لاحقا بعد فوز الاسلاميين في انتخابات تونس والمغرب ومصر؟
وفي الواقع فان القوى القومية واليسارية والماركسية ارتكبت أخطاء كبيرة في التعامل مع الشعب وقضاياه، فالأنظمة العربية طيلة القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، لم تحقق لشعوبها وأوطانها سوى الهزائم وعلى مختلف الصعد، فقد دخلنا القرن الحادي والعشرين بسبعين مليون أمّي، والشعوب العربية في غالبيتها تعيش تحت خطّ الفقر، بل إن شعوبا شهدت مجاعات كالصومال والسودان، ولم يحصل أيّ تطوير للزراعة أو زيادة مساحة الأراضي الزراعية في غالبية الدول العربية، ولم يقوموا بتصنيع البلاد واستغلال ثرواتها، كما أن التعليم وطرقه ومناهجة لم يواكب التقدم العلمي، ويعاني من مشاكل تصل الى درجة الفضيحة، والخدمات الصحية اللائقة غير متوفرة في غالبية الدول العربية، ولم تحصل أيّ مبادرات جدية لتوحيد الدول العربية، واقتصرت دور الدول العربية على أن تكون سوقا رائجة للمنتوجات الزراعية والصناعية للدول الأخرى، وجرت احتلالات لأراضي أكثر من دولة عربية، وغابت الديموقراطية والحريات عن الساحة العربية.
وانهار الفكر القومي بشكل واضح في حرب الخليج الثانية، وسبقه انهيار الفكر الماركسي بانهيار الاتحاد السوفييتي ومجموعة الدول الاشتراكية في بدايات العام 1991.
ولم يكن دور الأحزاب وقوى المعارضة أفضل من دور الأنظمة فهي الأخرى لم تتلمس مشاكل الجماهير، ومن وصل منها الى الحكم لم يختلف عن ممارسات بقية الأنظمة إن لم يكن أسوأ منها، ومارس الفساد بشكل لافت، وقمع الحريات، وهذه الأحزاب كانت تعيش بعيدا عن الشعوب بدلا من حمل همومها وتلمس مشاكلها واهتماماتها، بل إنها تعارضت مع ثقافة شعوبها، فالمثقفون اليساريون على سبيل المثال كانوا يقرأون أشعار بوشكين، لأن لينين أشاد بها، في حين لم يقرأوا أشعار المتنبي شاعر العربية على مرّ العصور، وفي تقليدهم لدعوات الغربيين للديموقراطية وفصل الدين عن الدولة في تلك الدول، لم ينتبهوا لطبيعة أنظمة الحكم في تلك الدول، ولم ينتبهوا مثلا أن الأحزاب الحاكمة في الدول الأوروبية هي أحزاب”اشتراكية مسيحية” هكذا تسمي نفسها، وأن تقديس البابا واحترام رجال الدين عندهم ظاهر للعيان، وأن شخصا مثل الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش احتل العراق وأفغانستان ودعم اسرائيل بلا حدود وهو يقول بأنه”يتلقى كلّ صباح أوامر الرب وينفذها” وأن المسيحيين المحافظين يتحكمون بالسياسة الأمريكية، وأن دعم العالم الغربي لاسرائيل والتبرعات السخية التي تصلها هي على أسس دينية، وأن اسرائيل”العلمانية” قامت على أسس تواراتية وتلمودية، وأن مستوطناتها تحمل أسماء توراتية…الخ وأن رؤساء وزاراتها يحجون الى بيت الحاخام الأكبر طالبين البركات والرضا، وما فصل الدين عن الدولة في الدول الغربية إلا ردّ فعل على الممارسات الخاطئة التي مارستها الكنيسة، يضاف الى ذلك أن الديانة المسيحية ديانة أخلاقية لا تشريع حكم فيها.
وحتى أن صموئيل هنينجتون رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية في كتابه “صراع الحضارات”الصادر في بدايات تسعينات القرن العشرين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، اعتبر أن الصراع بين الأمم صراع ديني، من خلال تركيزه على أن “الإسلام هوالخطر القادم على الديموقراطيات الغربية”. وبالتالي بدأت طاحونة الإعلام الصهيوني والغربي بمهاجمة الإسلام والمسلمين، حتى أن استاذا جامعيا ألمانيّا صرح لوسائل الإعلام بأنه على استعداد أن يسكن بجوار مفاعل نووي، على أن يسكن بجوار مسلم، لأنه لا يعرف متى سيقتله المسلم، بينما هو يعرف متى يبدأ خطر المفاعل النووي.
وقد انبرى مثقف ومفكر كبير هو ادوارد سعيد للدفاع عن الاسلام- مع أنه مسيحي-
من منطلقات وعيه واطلاعه على الديانة الاسلامية التي تشكل حضارة وثقافة شعبه الفلسطيني وأمّته العربية، في حين لم يعد غريبا أن تجد”متعلمين ومثقفين” عربا ومسلمين، وينتمون لأحزاب وفصائل وطنية، لا يتورعون من شتم الاسلام وخاتم الأنبياء والرسل –صلوات الله وسلامه عليه- والمسلمين، ويستهزئون بالمصلين والصائمين….الخ. وكأنهم بذلك يستيجيبون عن قصد أو دون قصد للحملة المعادية التي تستهدفهم وتستهدف شعوبهم وأمتهم، وهم أيضا يقفون ضد شعوبهم وضدّ ثقافتهم، – يساعدهم في ذلك بعض أصحاب اللحى والعمائم، من أصحاب الفتاوي الجاهلة والغريبة، والذين يحسبون أنفسهم دعاة دينيين وهم يجهلون جوهر تعاليم دينهم ودنياهم-ودون أن يحسبوا –المثقفون والمتعلمون الوطنيون-حسابا لعواقب ذلك، وأن شعوبهم ستعاقبهم عند صناديق الاقتراع، عندما يحين وقتها.
وإذا كان الإنغلاق الثقافي الذي تعاني منه الشعوب العربية والاسلامية، لأكثر من سبب، ومنها عدم الترجمات عن اللغات الأخرى، ولكم أن تتصوروا أن دولة مثل اسبانيا –عدد سكانها ستون مليون- تترجم الى الإسبانية في العام الواحد، ما يعادل الترجمات الى العربية منذ عصر الخليفة العباسي المأمون حتى أيامنا هذه، ومنها أيضا عدم قدرة الغالبية العظمى من الترحال وزيارة الدول الأخرى للاطلاع على مدى ما وصلت اليه، وعدم إجادة اللغات الأجنبية، وتخلف المناهج الدراسية، وعمى وسائل الإعلام العربية…الخ فإن غالبية مدعي الثقافة والعلم من القوى والأحزاب الوطنية لا يكلفون أنفسهم بالإنفتاح على ثقافة شعوبهم وأمّتهم، ومنها الثقافة الدينية طبعا، وتقتصر معرفتهم على ما يقرأونه من مؤلفات ومقالات يكتبها غربيون معادون بهدف تجنيد شعوبهم للإلتفاف حول حكوماتهم، في حروبها الظالمة ضدّ العرب والمسلمين لنهب خيراتهم والإستيلاء على بلدانهم، ومنع شعوبهم من التقدم وأخذ زمام المبادرة في صنع التاريخ.
وقد يستغرب بعض” المثقفين والمتعلمين”المنبهرين بدعوات الغرب لحقوق الانسان، وحقوق الطفل واتفاقات جنيف الرابعة وغيرها من المسميات-لعدم اطلاعهم- أنها جميعها مستمدة من الدين الإسلامي، وإذا فاخر العالم الغربي بالوصول اليها بعد الحرب الكونية الثانية، فإن الإسلام جاء بها قبل اربعة عشر قرنا، وهل يكلف “المتعلمون والمثقفون” العرب والمسلمون أنفسهم بالإطلاع على تعاليم الإسلام ليتأكدوا بأنفسهم من ذلك؟
وليس خافيا على أحد أن الوطنيّة الحقة، لا تختلف مع الدين الصحيح، وأن الدين الصحيح أنزله الله لسعادة البشرية، وأن لا تناقض بين الدين والقومية، تماما مثلما هي الوطنية الحقة.
27-1-2012