في زمنٍ تتعرض فيه القدس لمحاولات محوٍ ممنهجة، وتهميشٍ لروحها، ومصادرةٍ لذاكرتها المكانية، تأتي رواية” كنان يتعرّف على مدينته” لجميل السلحوت، والصّادرة عام ٢٠٢٠عن مكتبة كل شيء في حيفا، كعمل أدبي ينهض بوظيفة تتجاوز الإبداع إلى إعادة بناء الوعي، وتحصين مخيلة الناشئة، وإرساء لغة تربط الطفل بمدينته لا من خلال الشعارات بل من خلال المعرفة الحية والتجربة المباشرة.
الرواية تكتب القدس بعيون طفل، لكنها تقدم للمتلقي — صغيرًا كان أو كبيرًا — مدينة كاملة تتنفس وتتألم وتقاوم. القدس هنا ليست مسرحًا؛ إنما بطلة كاملة، ذات حضور روحي وتاريخي وإنساني.
أوّلا: القدس بوصفها كينونة سردية لا جغرافيا صامتة
يتعامل السلحوت مع القدس ككائن حيّ، لا كحجارة صامتة. المدينة في الرواية تتكلم عبر أبوابها، تتذكر عبر أسوارها، وتصرخ عبر مآذنها.
إنها مدينة تحت الاحتلال، لكنها ليست مكسورة؛ بل تُعيد إنتاج ذاتها في كل مشهد، وتُعلّم أطفالها معنى الانتماء الحق.
القدس الذاكرة:
تاريخ أبواب القدس وأسوارها ومآذنها يُقدَّم داخل السرد كنبض لا كدرس، فيتحول إلى معرفة متجذرة، لا إلى معلومة عابرة.
القدس الروح:
المسجد الأقصى، قبة الصخرة، الطقوس الدينية، والاحترام الهادئ للمكان تُشكّل بعدًا روحانيًا يتجاوز القداسة التقليدية إلى تجربة وجدانية.
القدس الجرح:
وجود الجنود في باب العمود يظهر بذكاء كجرح مفتوح، يتعامل معه الطفل بلا استسلام، بل بالأسئلة والدهشة والحاجة إلى الفهم.
لقد نجح الكاتب في جعل المكان شخصية رئيسية لا تقلّ أهمية عن كنان نفسه.
ثانيًا: كنان — طفل يتجاوز الطفولة ليصنع وعيًا:
يمثل كنان الجيل الفلسطيني الذي يتشكل بين الأسطورة والمعرفة، بين الرواية الشعبية والوثيقة التاريخية. هو طفل يسأل لا ليجادل بل ليبني.
من التلقي إلى النقد:
الصراع بين ما يقوله الجد عن الجن الذين بنوا السور، وما تقدمه المعلمة من معلومات تاريخية، هو صراع بين طبقتين من الوعي.
وكنان ينتصر للمعرفة دون أن يهين التراث. هذا التحول يُعد درسًا تربويًا عميقًا: الحقيقة ليست نقيض الخيال، بل هي امتداده الأكثر وعيًا.
الوعي الأخلاقي:
مشهد منع الشاب من تشويه حجر في المسجد الأقصى يكشف عن وعي مبكر بالمسؤولية. فالطفل هنا لا يكتفي بالمشاهدة، بل يتدخل، يعترض، يحمي. هذه ليست بطولة فردية، بل بوصلة قيمية.
الطفل بوصفه حاملًا للهوية:
كنان ليس مجرد شخصية، بل رمز لمرحلة كاملة تبحث عن جذورها في مدينة تتعرض للتشويه كل يوم.
ثالثًا: الشخصيات الثانوية — شبكة تُحيط بالبطل وتعمق رسالته
المعلمة ديمة:
تمثل المعلمة النموذج التربوي المتقدم؛ فهي لا تُقدّم المعرفة كحقيقة نهائية، بل كمسار.
تعتمد الحوار، لا الإلقاء، وتفتح ذهن الطفل على السؤال لا الحفظ.
زينب، عبدالله، جمال:
يمثلون الوعي الجماعي للناشئة، ويدلّون على أن المعرفة ليست رحلة فردية بل رحلة مجتمع كامل.
الجدّ، الشيخ، الحارسان:
لكل منهم دور:
– الجد: صوت الذاكرة الشعبية
– الشيخ: صوت الوعي الديني الموثوق
– الحارسان: ضمير المكان وحمايته
وظهور هذه الأصوات المختلفة يمنح الرواية تعدديتها الفكرية.
رابعًا: الأسلوب السردي — حين تتكامل المعرفة والجمال
بنية الرحلة
الرواية تقوم على رحلة مدرسية، لكنها ليست رحلة ترفيهية؛ بل رحلة معرفية—روحية—هويّاتية. الطفل لا يتجوّل، بل يكتشف.
الحوار كأداة إنتاج للمعرفة:
الحوار حيّ، نابض، واقعي، يخلق دينامية بين الشخصية والمكان، ويحوّل الوصف التاريخي إلى حدث سردي.
اللغة
لغة السلحوت بسيطة لكن عميقة، واضحة لكن رصينة، وتصلح لتخاطب الناشئة دون أن تتنازل عن عمقها.
خامسًا: لمن تُوجَّه الرواية؟
على الرغم من تصنيف العمل كأدب يوجَّه للفتية والفتيات، فإن الرواية تخاطب خمسة مستويات من القرّاء:
الأطفال واليافعون (10–16 عاما))
لأنها تمنحهم:
– معرفة دقيقة بالقدس
– إحساسًا بالانتماء
– قدرة على السؤال والتفكير النقدي
– علاقة وجدانية بالمكان
المعلمون والمربون:
لأنها نص تربوي متكامل، قادر على:
– تعزيز الهوية
– ربط الدروس بالحياة
– تطوير حوار داخل الصف
– تعليم التاريخ دون تلقين
الأسرة:
لأن الرواية تمنح الأهل لغة مشتركة للحديث مع أبنائهم عن المدينة، عن الذاكرة، عن القداسة.
المثقفون والقرّاء البالغون:
فالعمل يحمل مستويات دلالية وتاريخية تجعل قراءته ممتعة للبالغين أيضًا.
صانعو السياسات الثقافية
لأنها نموذج يُحتذى في الأدب الوطني للأطفال بعيدًا عن الخطاب التحريضي.
الرواية بهذا المعنى نص متعدد الجمهور، وهذا سر قوتها.
سادسًا: القيمة التي يقدّمها النص — بين الهوية والمقاومة الناعمة:
الرواية تقوم على مفهوم المقاومة الهادئة: مقاومة بالمعرفة، بالحب، بالوعي، بالانتماء.
إنها تُعلّم الطفل أن حماية القدس تبدأ من حماية حجارتها ومعالمها، وأن السؤال فعل مقاومة، وأن التاريخ درع، وأن المقدّس ليس فضاءً بعيدًا بل جزء من تكوينه اليومي.
سابعًا: خاتمة — لماذا تستحق الرواية أن تُقرأ؟
لأنها تبني وعيًا جديدًا، وتقدم للناشئة سردية فلسطينية متينة في مواجهة سرديات التزوير.
ولأنها تعلمنا — نحن الكبار قبل الصغار — أن القدس لا تُحمى بالخطابات الكبرى فقط، بل بالسؤال، بالمعرفة، بالحب، وبطفل يرى مدينته كما يجب أن تُرى:
مدينة تقف على أطراف الجرح، لكنها لا تنحني.
إن «كنان يتعرّف على مدينته» ليست مجرد رواية تعليمية، بل بيان ثقافي، وجرس إنذار جميل، ونافذة مفتوحة على هوية لا تزول
٢٧-١١-٢٠٢٥










