عن دار الياحور للنّشر والتّوزيع في أبوديس صدرت رواية “غربة نفسي” للكاتب الشّاب فراس علان. وتقع الرّواية في ٢٣٠ صفحة من الحجم المتوسّط.
عندما أمسكت بالرّواية لأطالعها، توقّفت حائرا عند عنوانها” غربة نفسي”،
وتساءلت حول ما يقصده الكاتب بهذا العنوان، وما هو مضمون هذه الرّواية؟ وزادت حيرتي عندما قرأت” الإهداء” وممّا جاء فيه:” إلي من عرفوا الغربة وهم بين أحبّتهم، وعاشوا الألم دون أن يشتكوا….. إلى كلّ روح أنهكها الانتظار، وإلى أولئك الّذين حاولوا النّجاة، لا لأنّهم أقوياء، بل لأنّهم لم يجدوا خيارا آخر.”
لكنّني بدّدت حيرتي وشرعت في مطالعة الرّواية، وكلّما طويت صفحة وواصلت مطالعة صفحة جديدة كنت أجد نفسي أمام فلسفة الكاتب واجتهدت لمعرفة ما يرمي إليه الكاتب في روايته هذه. خصوصا أنّني لا أعرفه ولا أعرف شيئا عن سيرته رغم أنّه ابن قريتي، وإن كنت عندما قرأت خبرا عن صدور الرّواية قبل أيّام قليلة هاتفت أحد أصدقائي وسألته عن الكاتب وإذا ما كان من قريتنا، لأنّ اسم عائلته هو اسم عائلة كثيرة العدد من حامولة العويسات، إحدى حمائل بلدتنا، فأكّد لي أنّه من أبناء تلك العائلة الكريمة وذكر لي اسمه الرّباعيّ، فعرفت جدّه وجدّ وعمّ والده، وأنّ هذا الكاتب في الرآبعة والعشرين من عمره ويعمل “حلّاقا” في الشّيخ سعد إحدى حارات” عرب السّواحرة” والّتي أصبحت قرية منفصلة حسب التّقسيمات الإداريّة للاحتلال. ولم أتفاجأ بنبوغ كاتب جديد من بلدتنا، الّتي أنجبت عشرات الكتّاب ومنهم وفي مقدّمتهم أستاذنا وشيخنا الأديب الكبير محمود شقير.
ما علينا…سنعود إلي الرّواية فقد طرح فيها الكاتب الشّاب حالة الغربة والاغتراب الّتي يعيشها أبناؤنا في ظلّ الظّروف غير الطّبيعيّة الّتي يعيشها أبناء شعبنا وما يكابدونه في سبيل البقاء، والعضّ بالنّواجذ على تراب الوطن. فشبابنا يعيش ظروفا غير طبيعيّة في أوضاع سياسيّة غير طبيعيّة.
وبطل الرّواية الرّئيس” حلّاق”، وكاتبنا حلّاق ومن حقّي كقارئ أن أتساءل حول ما إذا كان الكاتب قد كتب عن الغربة الّتي يعيشها هو نفسه وسحبها على أبناء جيله الشّباب أم هي مجرّد صدفة؟ مع لفت الانتباه أنّ الرّواية قد جنحت إلي خيال جامح لا ينطبق على الكاتب ولا على غيره، وهذا ليس غريبا فكلّ كاتب يكتب في أعماله الأدبيّة شيئا من ذاته دون أن يدري أو أن ينتبه لذلك. مع التّأكيد أنّ من حقّ الكاتب أن يتخيّل ما يشاء دون شروط، وقد لا يقصد أن ينطبق عليه ما يكتبه حتّى وإن توافق معه أو انطبق عليه، وفي الوقت نفسه من حقّ القارئ أن يفهم ما يقرأه بما يتطابق مع ثقافته ووعيه.
وغربة الشّباب عبّر الكاتب عنها في مواضع عديدة، والرّاوي العليم يتكلّم بلغة” الأنا” لتكون أكثر حميميّة، وطرح مفاهيم فلسفيّة عميقة عن الغربة والاغتراب، ومنها عندما يتكلّم عن الهدوء الّذي وصفه بالخارجيّ:” أمّا داخلي فكان ضجيجا عارما، ويكاد عقلي ينفجر من الضّغوط القاسي،” ص٧. ومنها:” تمرّ الحياة ونحن لا نعي كيف نعيشها، نظلّ نكابد فيها كالسّجناء في عقولنا، مكبّلين بقيود الوهم.” ص٨. ومنها:” بدأت يومي وأنا أتخبّط مع ذاتي، كم هو صعب شعور الفقد، فقدت ما لم أكن أملكه، وما زال في قلبي أثر غياب لا اسم له”. ص١١. وغير هذا كثير..
تتحدّث الرّواية عن ضياع وحيرة الشّباب وعدم قدرتهم على حسم أمورهم لا عجزا منهم، بل لأنّ جميع الأبواب مغلقة أمامهم نتيجة الظّروف المأساويّة الّتي يعيشونها، فهناك فتاة انعزاليّة تحمل زجاجتي مشروب وتذهب؛ لتجلس في مكان منعزل، ليتبيّن أنّ حبيبها فقد في المكان الّذي تجلس فيها، ليتبيّن لاحقا أنّها تموت في المكان نفسه دون أن يتعرّف أحد عليها.
ولجوء الكاتب إلى الخيال الجامح لم يكن في صالح الرّواية، فبطل الرّواية الرّئيس يذهب إلى غابة يمنع الدّخول فيها، وفجأة ودون مقدّمات يجد نفسه في جزيرة، وهناك يجد شخصا يخوض وإياه غمار البحر، فيغرق القارب وذلك الشّخص” أدريان” مع أنّه يعرف السّباحة وينجو السّارد الذي لا يعرف السّباحة لينقذه آخرون، وليجد نفسه مرّة أخرى على جزيرة، ويعود منها على ظهر سفينة تجاريّة إلي وطنه؛ ليجد أهله ومن يعرفهم قد انتهوا أو ماتوا بسبب الحرب.
ويلاحظ في الرّواية أنّه لم يرد فيها اسم لمكان حقيقيّ أو وهميّ، حتّى اسم وطن السّارد لم يذكر، وهذا الجموح في الخيال اللاواقعيّ يطرح سؤالا حول مدى تأثّر الكاتب بأدب المغامرات الخياليّة والبوليسيّة؟ كما يطرح سؤالا آخر حول الحكمة من وجود الأماكن الخياليّة دون أسماء لها حتّى ولو كانت وهميّة؟ ولماذا ابتعد الكاتب عن الواقع في الأماكن، فالكاتب ابن بيئته، ولماذا اختار غابة وجزرا وبحرا مع أنّها ليست موجودة في بيئته؟ وحبّذا لو لجأ إلي أمان محلّيّة أو إقليميّة، ولكان هذا قريبا لقلب وعقل القارئ المحلّيّ.
الّلغة والأسلوب: لغة الرّواية فصيحة أدبيّة شاعريّة قريبة إلى القلب، والسّرد في الرّواية سلس انسيابيّ ولا يخلو من التّشويق.
الإخراج: تنسيق الرّواية وإخراجها لم يكن موفّقا فهناك عشرات الصّفحات كلّ جملة فيها في سطر واحد.
وماذا بعد: هذه الرّواية تنبئنا بميلاد روائي جديد سيكون له شأن في عالم الرّواية، وهذه العجالة لا تغني عن قراءتها.
١٧-١١-٢٠٢٥










