رانية مرجية: قراءة نقديّة معمّقة في رواية البلاد العجيبة لجميل السلحوت

ر

تأتي رواية” البلاد العجيبة” الصّادرة عام ٢٠١٤ عن مكتبة كل شيء في حيفا، للأديب المقدسيّ جميل السلحوت كعمل يتجاوز تصنيفه كأدب موجّه لليافعين؛ ليتحوّل إلى نصّ يختبر علاقة الإنسان الفلسطينيّ بالواقع فعلا وبالحلم، وبالقدرة على إعادة تخيّل العالم حين يصبح العيش فيه شاقّا.
الرواية ليست مجرد سرد لرحلة خيالية، بل هي محاولة لإعادة ترميم الذات عبر بوابة الخيال، وتفكيك المفاهيم التي تحاصر الوعي، وإعادة بناء معنى الوجود في مكانٍ يعيش توترًا دائمًا بين ما هو واقعي وما هو مُشتهى

أولًا: الطفل الفلسطيني كبنية مقاومة لا كشخصية حكائية

يقدّم جميل السلحوت في «البلاد العجيبة» شخصية الطفل محمود بصورة تُخرج الطفل من دوره التقليدي كشخصية تتلقى العالم، إلى شخصية تعيد خلق العالم وتعيد طرح الأسئلة حوله

محمود لا يكتفي بأن يحلم، بل يُصدّر حلمه إلى الآخرين، يهزّ يقينهم، يربكهم، ويجبرهم على إعادة التفكير في ما يظنونه «حقيقة» نهائية

إنّ الطفل هنا ليس رمزًا للبراءة فقط، بل رمزٌ للنقاء المعرفي؛ النقاء الذي لم تتلوثّه الهزائم ولا التجارب التي صبغت وعي الكبار بالخوف والحذر

بهذا المعنى، يصبح محمود تقويضًا ناعمًا لسلطة الكبار، ولطغيان فكرة «النضج» بوصفه معيارًا وحيدًا للفهم. الوعي، كما تقترح الرواية، لا يُقاس بالعمر، بل بالقدرة على التساؤل ورفض المسلّمات، وهذا ما يجسده الطفل في كل مرة يصرّ فيها على صدق تجربته، رغم إنكار الكبار لها

ثانيًا: القدس كبوابة لا كجغرافيا – المكان كطاقة رمزية

اختيار السلحوت لبقعة «بين المسجد الأقصى وقبة الصخرة» بوصفها بوابة العبور إلى «البلاد العجيبة» ليس تفصيلاً جماليًا عابرًا، بل هو قلبٌ رمزي للرواية بأكملها

فالقدس في هذا النص ليست مكانًا يمكن قياسه بالمسافة أو رسمه على الخرائط فقط، بل هي مخزون روحي ومعرفي وثقافي تُعاد قراءته باستمرار

إنها نقطة عبور، لا نقطة إقامة؛ فضاء يسمح بالانتقال من الأرضي إلى الكوني، من الواقع المتعب إلى الحلم الممكن

وكأن السلحوت يريد القول إن للقدس بوابات لا تراها إلا مخيلة طفل وإن المدينة التي ضاقت على ساكنيها سياسيًا، تتّسع لهم روحيًا وخياليًا

بهذا التوظيف يتحول المكان إلى علامة مفتوحة: لا تحدّه السياسة، ولا تحصره الهوية الضيقة، وإنما يغدو جسرًا يربط الفلسطيني بما يمكن أن يكون، لا بما فُرض عليه أن يكون

ثالثًا: حضور الأنثى – المعرفة في صورتها الأوسع

تحضر الشخصيات النسائية في «البلاد العجيبة» بصورة تتجاوز الدور التقليدي القائم على التلقي والخضوع، لتصبح المرأة حاملة للمعرفة، ومحركًا للسرد، وشريكًا في إنتاج المعنى

تظهر زينب بوصفها وعيًا فضوليًا يقظًا؛ لا تكتفي بالاستماع لما يقوله محمود عن المدينة العجيبة، بل تسأل، وتستوضح، وترغب في أن تكون جزءًا من التجربة، لا شاهدة عليها فقط

أما مكامانتو، المرشدة في المحمية، فتمثل المعرفة المنظمة التي تعرّف العائلة على تفاصيل العالم الجديد، وتفتح أمامهم أفقًا أوسع لفهمه واستيعابه

وتأتي سعاد لتجسد الشخصية الأكثر كثافة رمزية؛ تجمع بين الغموض الأنثوي والمعرفة العلمية، وبين الحضور الحالم والقدرة الفاعلة وجودها ليس لإغراء البطل، بل لإغراء القارئ بالأسئلة، وإنعاش الوعي بمعنى أن العلم ليس نقيضًا للخيال، بل امتداده المنضبط

بهذه الشخصيات، يكسر السلحوت ثنائية المرأة ككائن ضعيف أو كائن مُقدّس، ويعيدها إلى مكانها الطبيعي: كائن معرفيّ يقود السرد ويُحرّك الأحداث، لا مجرد تابع لها

رابعًا: العلم والخيال – عندما يصبح الخيال مقدمة للمعرفة

لا تستخدم الرواية الخيال للهروب من الواقع، بل لتعريته وإعادة النظر فيه من زاوية أخرى

فالخيال الذي يسافر عبره محمود، والعلم الذي تتحدث عنه سعاد، ليسا بديلًا عن الواقع، بل اختبارًا له ولحدوده الضيقة

الخيال هنا بنية معرفية، لا مجرد متعة عابرة. سؤال الرواية الأعمّ هو

هل يمكن للخيال أن يكون طريقًا للعلم؟

الجواب الذي تقترحه الرواية هو «نعم»، وبقوة؛ فكل اكتشاف علمي كبير بدأ بخيال ما، وكل معرفة جديدة بدأت بسؤال بسيط رفض أن يُقمع

بهذا المعنى، تضعنا الرواية أمام رؤية تربوية مهمة: التربية الحقيقية لليافعين لا تكون بقتل الخيال أو الاستهزاء به، بل بتوجيهه ليصير رافعةً للمعرفة، لا عائقًا أمامها، وبوابةً لا جدارًا

خامسًا: «البلاد العجيبة» كيوتوبيا فلسطينية مؤجلة

تبدو البلاد العجيبة، في ظاهر السرد، عالمًا فوق-أرضي، لكنها في جوهرها النسخة التي يحلم بها الفلسطيني لمدينته وحياته

عالم بلا احتلال، بلا قمع، بلا حدود خانقة، بلا خوف يومي، وبلا شعور دائم بالتهديد

إنها المدينة التي يسافر إليها الطفل بسهولة، بينما يعجز الكبار عن الوصول إليها لأنهم فقدوا البوصلة الداخلية التي لا تعمل إلا بإيمان الأطفال وقدرتهم على التصديق

هنا تحقّق الرواية وظيفة مزدوجة؛ فهي من ناحية تعالج جرحًا واقعيًا عميقًا، ومن ناحية أخرى تفتح أفقًا لخيال جماعي قادر على تعويض النقص الذي يخلّفه الواقع، دون أن تُنكر هذا الواقع أو تجمله على نحو زائف

بهذا، تغدو «البلاد العجيبة» يوتوبيا فلسطينية مؤجلة؛ ليست وعدًا سياسيا بقدر ما هي وعدٌ روحي وإنساني بإمكانية العيش الكريم، إن لم يتحقق على الأرض، فعلى الأقل في حيز المخيلة

خاتمة

«البلاد العجيبة» رواية لا تبحث عن الترفيه السهل، بل عن إعادة تشكيل العلاقة بين الإنسان وعالمه
هي نص يعيد الاعتبار للخيال باعتباره فعلًا سياسيًا وروحيًا في آن ويقدّم للطفل حقّه في أن يكون شريكًا في إنتاج المعنى، لا مجرّد متلقٍّ له
وفي زمن يتصدّع فيه الواقع الفلسطيني ويتشتت، تمنح الرواية للقارئ لحظة تأمل في معنى أن يظلّ الإنسان قادرًا على أن يحلم، وأن يعيد بناء العالم من الداخل حين يعجز الخارج عن احتوائه
بهذا، تنجح رواية جميل السلحوت في أن تكون أكثر من حكاية لليافعين؛ إنها مساحة لاستعادة الذات الفلسطينية، وللإيمان بأن الخيال، حين يُصاغ بوعي، يمكن أن يكون أصدق أشكال المقاومة

١٤-١١-٢٠٢٥

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات