عن دار الزيزفونة- بيتونيا، صدرت عام ٢٠١٤ رواية لليافعين بعنوان” الحصاد” للأديب المقدسي جميل السلحوت. وقدّم للرّواية الدكتور طارق البكري.
تمهيد: من تربة الواقع إلى فضاء الرمز
حين يكتب جميل السلحوت للأطفال، فهو لا يكتب عنهم بل يكتب بهم ولهم. روايته الحصاد ليست مجرد عمل أدبي للناشئة، بل هي تجربة فكرية وإنسانية عميقة تُعيد تعريف الطفولة بوصفها مشروعًا وطنيًا وجماليًا.
تُخاطب الرواية الذاكرة الجمعية الفلسطينية، لكنها تتجاوزها إلى الإنسان في عمومه، إلى العلاقة الأبدية بين الأرض والكرامة، وبين الطفل والهوية.
في تقديمه للرواية، يفتتح الدكتور طارق البكري قراءته بكلمات تؤطر النص في بُعده القيمي والفلسفي، معتبرًا أن جميل السلحوت لا يكتب ليروي، بل ليزرع، لا يحكي ليُسلّي، بل ليُحرّض الوعي النائم فينا على النهوض.
تقديم البكري هو مفتاح الدخول إلى عالم الرواية، إذ يقرأها من زاوية كونها مشروع تنوير أدبي للجيل الجديد، لا مجرد سردٍ تربوي.
الطفل بوصفه الوعي الأوّل… محمود كاستعارة للإنسان الفلسطيني.
يقدّم السلحوت بطله الصغير محمود بعمق يتجاوز الشكل التقليدي لشخصية الطفل في الأدب العربي.
فهو ليس بريئًا بمعنى السذاجة، بل بريء بمعنى النقاء الذي يرى الحقيقة دون وسائط.
يتعامل مع الأرض كما يتعامل الطفل مع الحلم: بصدق مطلق.
تبدأ الرواية بمشاهد زراعية تبدو بسيطة — الأب يحرث الأرض، الأمّ تُعِد الطعام، الجدّة تروي الحكايات — لكن خلف هذا الترتيب اليومي تنمو ملحمة كاملة عن الهوية والذاكرة.
في شخصية محمود تتقاطع براءة الطفولة مع وعي التجربة، فيغدو الطفل شاهدًا على التاريخ لا ضحية له.
إنه يتعلّم من الأرض معنى الولاء، ومن والده معنى الصبر، ومن جدته معنى الرواية نفسها: أن الحكاية مقاومة.
بهذا المعنى، يُعيد السلحوت للطفل الفلسطيني مكانته الأصلية كحامل للذاكرة، لا كمفعولٍ به في النص التاريخي.
بين الحصار والحصاد… جدلية الألم والأمل
يُدهشنا السلحوت باختياره العنوان الحصاد، كلمةٌ واحدة تختزن طبقات من الدلالات.
في الحصاد تلتقي الدائرة: الزرع والنّموّ، الجهد والثمر، الصبر والمكافأة.
لكن تحت العنوان يختبئ “الحصار”، الفارق بين الكلمتين حرفٌ واحد، كما لو أن الكاتب يُذكّرنا بأن بين الحرية والقيد، بين الغرس والقتل، مسافةً من الوعي فقط.
هذه الازدواجية تشكل بنية الرواية كلها.
فالأرض التي يُحرثها الأب ليست مجرد مساحة جغرافية، بل هي ساحة وعي.
والماء الذي يسقي به محمود الزرع هو رمزٌ للمعرفة، بينما الشمس التي تنضج القمح هي رمزٌ للزمن، للحقيقة التي لا يمكن حجبها.
هكذا تتحول اللغة إلى طقسٍ زراعيٍّ مقدّس، ويغدو العمل اليومي فعلًا وجوديًا يؤكد أن البقاء نفسه نوعٌ من المقاومة.
اللغة… كائن حيّ يتنفس الذاكرة
لغة الحصاد هي إحدى أعمدتها الفنية الكبرى.
السلحوت لا يكتب بلغة تزيينية، بل بلغة من لحم التراب وملح العرق.
عباراته قصيرة لكنها مكتنزة، مشبعة بالإيحاء، تميل إلى الاقتصاد اللفظي مع غنى دلالي هائل.
هو وريث الحكاية الشعبية، لكنه يقدّمها بوعيٍ سردي حديث، فيخلق توازنًا بين البساطة التعبيرية والعمق الرمزي.
اللغة هنا تُشبه تربة فلسطين نفسها: خصبة رغم القسوة، ناعمة رغم الجراح.
من خلالها ينقل الكاتب الإحساس الجمعي بالانتماء دون وعظٍ أو مباشرة.
كأن كل جملة تنبت من الأرض التي يكتب عنها.
البنية السردية… من الواقعي إلى الفلسفي
في ظاهر الرواية، البناء بسيط: بداية – عقدة – نهاية.
لكن في عمقها، السرد يتحرك على مستويات متداخلة.
الحدث الواقعي (زراعة الأرض) يتقاطع مع الحدث الرمزي (تكوين الوعي)، ليولّد نصًا مزدوج البنية: نصًّا عن الأرض، ونصًّا عن الإنسان.
تسير الرواية وفق منطقٍ إيقاعي يقترب من الشعر. فالفصول تتوالى كما تتوالى المواسم، وفي نهاية كل فصل ثمة حصادٌ صغير – للمعرفة، للخبرة، أو للحلم.
حتى النهاية ليست ختامًا، بل وعدٌ بدورة جديدة.
الرموز الكبرى: الأرض والطفل والسنابل
الأرض هي الأمّ الكبرى، الحاضنة والمعلّمة والمُنقذة.
الطفل هو البذرة الجديدة، والسنابل هي الذاكرة التي تواصل النضج جيلاً بعد جيل.
يُعيد السلحوت بهذه الرموز بناء العلاقة الروحية بين الإنسان والتراب، تلك العلاقة التي حاول الاستعمار طمسها.
كل مشهد زراعي هو في جوهره بيانٌ سياسي، وكل لقطة من الطبيعة هي فعلُ مقاومة ناعمة.
الرواية بذلك تُقدّم العمل الزراعي كفعل وطنيٍّ مقدّس، وتربط بين الحبّ والحراثة، بين الفلاحة والهوية، في معمارٍ رمزيٍّ رفيع.
دور التقديم: قراءة مضيئة للدكتور طارق البكري
تقديم الدكتور طارق البكري لا يأتي بوصفه افتتاحًا تقنيًا، بل كمدخلٍ تأويلي للنصّ.
فهو يرى في الحصاد تجسيدًا لـ “الوعي المقاوم الهادئ”، أي الأدب الذي لا يرفع شعاراتٍ مباشرة، لكنه يُعيد تشكيل الوجدان من الداخل.
يصف البكري السلحوت بأنه “يكتب بعيونٍ ترى الغيبوبة العربية وتوقظها بالصدق لا بالصراخ”، فيضع الرواية ضمن أدب الطفولة المقاوم، حيث تصبح البذرة استعارةً للكرامة.
القيمة التربوية والمعرفية
ما يميز الحصاد أنه يُعلّم دون أن يُلقّن، ويُهذّب دون أن يُؤطر.
إنها رواية تربوية بالمعنى الأصيل: تُربّي الوجدان لا السلوك فقط.
يتعلم القارئ – صغيرًا كان أو كبيرًا – أن الأرض ليست مِلْكًا يُباع، بل علاقة أخلاقية.
وأن الحرية تُزرع كما تُزرع القمح: بالصبر، بالعناء، وبالأمل.
بهذا، تُعيد الرواية تعريف الأدب الطفولي العربي كمجالٍ للفكر لا للتسلية، ومختبرٍ للهوية لا للوعظ.
خاتمة: الحصاد بوصفه وعدًا بالخلود
في النهاية، تُغلق الرواية على مشهدٍ من الضوء:
الطفل يُمسك بحفنة قمح، يرفعها نحو السماء، كأنه يقول للأرض “لن أتركك”.
إنها لحظة ما بعد الحصاد، لحظة اكتمال المعنى: فكل زرعٍ نبت من الألم، وكل جيلٍ جديد هو وعدٌ ألا تموت فلسطين.
١١-١١-٢٠٢٥
بهذا المعنى، الحصاد ليست فقط رواية عن الأرض، بل عن الإنسان الذي يزرع في نفسه بذور الحياة رغم أنف الموت.
إنها بيانٌ أدبيٌّ رفيع، وسفرٌ فلسطينيٌّ صغير، كتبه جميل السلحوت بصدق الفلاح وبصبر الأنبياء، وقدّمه الدكتور طارق البكري كمن يُضيء الطريق للأجيال القادمة.
رانية مرجية
كاتبة وشاعرة وناقدة فلسطينية










