لعلّ ما كُتب عن رواية جميل السلحوت “الخاصرة الرخوة”، وقد تابعت أكثره، لم يناقش الرواية من ناحية فنية، الكل تقريبا غاص في الفكرة. ما لنا وللفكرة؟ الأفكار مطروحة في الطريق على زعم الجاحظ. ولا بد من اتحاد الناحية الفنية بالفكرة لنرى الصنعة الروائية. هذا ما فكرت به وأنا أتابع تلقي القرّاء للرواية التي صدرت عن دار كل شيء في حيفا، وتقع في (251) صفحة من القطع المتوسط.
على ما يبدو لقد شكلت تلك القراءات سردية موازية للسرد الروائي، وأعادت تأكيد المؤكد روائيا، والمعيش واقعيا، وسكتت تلك القراءات عمّا وراء تلك “البنية الروائية” من أسئلة فنيّة، وأوّلها المذهب الذي ينطلق منه الكاتب في كتابة روايته، وعلاقته بالخطاب الروائي الفكري، وما بعد ذلك الخطاب، وما يتعلق بهذا الخطاب من شخصيات روائية ومدى حملها لفكرة الكاتب نفسه.
يصف السلحوت نفسه بأنه كاتب “واقعي”، ويرى أن الأدب لا بدّ من أن يكون مفهوما، ولذلك فهو يبتعد عن لغة الزخرفة والرمز وكل ما يشكل عائقا أمام القارئ، ويضيف السلحوت أن العمل الأدبي الناجح هو من يستطيع أن يقرأه ويفهمه قارئ بمستوى الثانوية العامة. هذه هي إذن ملامح واقعية الكاتب الذي ينطلق منها، وتفترضها قناعة الكاتب أن يكون العمل واضحا، ذا لغة سهلة، قريبا من الأفهام، ولكنه أيضا يضع الإبداع في أزمة حقيقية؛ فإذا أراد الكاتب أن يكتب لمتلقٍ بمستوى طالب في الثانوية العامة، بمعنى آخر سنّ الطفولة، كيف يمكن مخاطبة القارئ المتمرس؟ وهل سيجد القارئ الباحث عن المتعة الذهنية بغيته في رواية بنيت على هذا النمط من الكتابة؟ عموما هذه إحدى مشاكل تلقي الأدب والأعمال الأدبية، ولها ما لها وعليها ما عليها، وهي مرتبطة بالتأكيد بالذهنية الأساسية التي تحكم الكاتب وتوجهاته الفكرية والأدبية.
لعل ما يميّز معظم روايات الكاتب جميل السلحوت هو بعده في الرواية عن التجريب، أي اقتراح أشكال فنية جديدة للرواية، بل إنه يتعمّد وبناء على نظرته للأدب أن يظل في دائرة المتعارف عليه، لأن هذه الواقعية تحمل معها أهدافا ورسائل اجتماعية وثقافية، هذه الرسائل كانت موجهة في الرواية نحو مناقشة اجتماعية لأفكار الزواج والعلاقة بين الزوجين، ولم يخرج الكاتب عن هذه الفكرة تماما، بل سخر كل معارفه ليبني رواية تستهدف مناقشة هادئة وجادة ومنحازة لموضوع اجتماعي له امتداد فقهي وثقافي، ولذلك انعكست هذه النظرة أيضا على الحكايات المسرودة في الرواية، وعلى رسم الشخصيات، وعلى البناء الروائي والخطاب الفكري.
لقد استندت رواية “الخاصرة الرخوة” على الواقعية في طرح الأفكار، ولكنها ليست واحدة من الواقعيات المتعارف عليها في الأدب من واقعية نقدية أو اشتراكية، وبالتأكيد ليست الواقعية السحرية، وإنما استندت إلى ما عُرف عند منظّري الأدب الإسلامي بـ “الواقعية الإسلامية”، ولهذه الواقعية ملامح بارزة عند كل من كتب في الأدب الإسلامي، إذ تنطلق هذه الواقعية من الفلسفة الكلية التي تحكم الإنسان والكون والحياة بالنظرة الإسلامية، يحمله ويعبّر عنه جهاز مفاهيمي ولغوي يحيل إلى المدونات الإسلامية المتمثلة في النصوص الدينية بوصفها أساس كل خطاب ديني، سواء أكان اجتماعيا أم غيره، وما يتفرع عن تلك النصوص الدينية من دراسات وكتب وفقهيات تتصارع عليها شخصيات العمل الروائي. وقد ظهر ذلك في العلاقات المتوترة بين الشخصيات، وكانت كل شخصية من تلك الشخصيات تنحاز إلى فكرة ما من هذه الفقهيات، فظهر في الرواية المسلم الملتزم المعتدل، والمسلم الملتزم المتزمت، والمسلم الفطري، ذو التدين الشعبي، وتمثل هذا النوع من التدين مثلا في أسرة أسامة؛ أمّه وأبيه، وأسرة جمانة؛ أمّها وأبيها. وظل صراع الفقهيات على المسألة الاجتماعية خاضعا لفكرة الحلال والحرام، بمعنى أن المسألة لدى طرفي النزاع الفكري والفقهي هو مسألة الحلال والحرام، أي الالتزام بالأحكام الشرعية التي ظهرت بفهمين متناقضين وعلى طرفي نقيض بين أسامة وجمانة.
لقد حاولت الرواية تجسيد الفكرة الإسلامية المعتدلة فيما يخص العلاقة بين الرجل والمرأة، فظهر أسامة متزمتا إلى أبعد حد ممكن، بينما ظهرت جمانة ذات فكر منفتح إسلامي متنور، وقد حشد الكاتب لهذه الفكرة مجموعة كبيرة من النصوص والمناقشات التي جعلت الرواية أحيانا تبتعد عن الفن الروائي وتدخل في سرد طويل فقهي، أبعد الرواية عن دقائق وتفاصيل في الصنعة الروائية، ومع أنها تفاصيل صغيرة إلا أنها تساهم بلا شك في التأثير على قناعة القارئ الذي يقرأ رواية، ويهتم بالعلاقات التي يجب أن تكون منطقية مقنعة في السرد.
ربما فتح واقع الشخصيتين واسمهما في الرواية آفاقا أوسع في التحليل الروائي، وسبق أن أشرت إلى أنه ليس من الحكمة التغاضي عن دلالة الأسماء في العمل الأدبي، فهي تحمل جزءا مهمّا من الفكرة، ويصبح الاسم “سيميائيا” حاملا للأفكار، ولنوايا الكاتب أيضا، ابتداء من الإيحاء الفكري للأسماء وانتهاء بالرسالة المعنيّ إيصالها مرورا بالسلوك الروائي لتلك الشخصيات. فهل كان محض صدفة أن يكون الزوج أسامة وأن تكون الزوجة جمانة؟ كما أنه ليس صدفة أن يتم تزويجهما ومن ثم تطليقهما. فكلّ هذا له دلالات وحامل لأفكار ورؤى ضمن سياق القدَر الروائي الذي صنعه الكاتب.
يحيل اسم أسامة إلى أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، وأصبح الاستدعاء لازما وضروريا إذ إن أسامة الفلسطيني متأثر بأفكار السلفية السعودية وأقطاب الحركة الوهابية، ويطبق التعاليم الوهابية حرفيا، لذلك فقد حرّم تسعة أعشار المباح، وظهر شخصية منفّرة وغير سوية، وزيادة في تقبيح هذه الشخصية والتنفير منها اتّسم أسامة بالبخل وحب جمع المال، حتى وإن كان على حساب تأمين أساسيات الحياة اللازمة، فكأن هناك خطابا إسلاميا فقهيا حاضرا في السياق الروائي، يجعل أسامة شخصية مدانة من ناحيتين، فكرية وسلوكية، وتأتي جمانة نقيضه في كل شيء، ولإبراز الفروقات الكبيرة بين الشخصيتين ظهرت جمانة جميلة ليس في اسمها الذي يشير إلى معنى الجمال والشفافية وارتفاع القدر والقيمة وحسب، بل تصفها الرواية أنها فتاة فائقة الجمال، تبهر كل من يراها، ذات صدر بارز، لافت للنظر، قارئة للكتب والروايات العالمية، تمتلك فكرا نقديا وشخصية قادرة على الحوار والمناقشة. وما عمّق التضاد بين الفكرتين/ الشخصيتين هو جعل جمانة مضادة لأسامة المتزمّت الذّكوري، وهي شخصية نسائية، وفي هذا كسر لنمطية التفكير الإسلامي المتداول إعلاميا، على الأقل، الذي يصر على أخذ الدين ونصوصه نحو تفسير ذكوري منغلق ومسيء للمرأة وللدين معا، فلا تظهر فيه المرأة إلا منفذة للأوامر ليس لها عمل إلا إرضاء زوجها وفقط، وكأنه الرب وظلّ الله في البيت. فلم تبتعد صورة جمانة في نظر أسامة عن صورة المرأة التقليدية المتمثلة في دورها التقليدي المنزلي والتشديد على أنها مقضى شهوة الزوج، ووعاء لأطفاله، على الرغم من أن “المرأة” جمانة متفوّقة على “الرجل” أسامه في كلّ شيء، ولكنها ظهرت خاضعة ومستسلمة، ربما دفعا لحالة التّضاد أو دفعا للتفكير في المسألة للتحرر الفكري الهادي من السيطرة غير المبررة عليها روائيا واجتماعيا كذلك.
وبناء على هذا التّضاد الحادّ في الرواية، وتأكيد أنّهما خطان متنافران، مهما حاول البعض التوفيق بينهما، فقد أصبح من الطبيعي أن تنتهي العلاقة بينهما إلى طلاق أي إلى انفصام، أو ربّما إلى هزيمة أسامة فكريّا واجتماعيّا، وإن كان ثمرة هذا الزواج طفلا، إلا أن هذا الطفل سيكون تحت رعاية أمّه المتنوّرة المعتدلة، ما يعني حسب تفسير علم الاجتماع وعلم النفس وعلوم التربية أن الطفل سينشأ في كنف أفكار غير متزمتة، ما يضمن له تربية سوية فكرية وطفولة متّسقة مع متطلباتها الحياتيّة والنّفسيّة، إذ إنّ مرحلة الطفولة هي أهم مرحلة يعيشها الإنسان، وعليها المعول في صقل شخصيّته واستقرار سلوكه، وخاصّة السّنوات الخمس الأولى من عمر الطفل وهي مشمولة في فترة حضانة الأمّ كما هو مقرر فقهيا ومعمول به في المحاكم الشّرعيّة الفلسطينيّة، وعليه ربّما أشارت هذه اللفتة الرّوائيّة إلى أمرين مهمّين، وهما: أهمّيّة التّربية الصّحيحة المتوازنة فهي التي تخلق شخصيّة معتدلة بعيدة عن التزمّت، وأشارت كذلك إلى أنّ المستقبل هو للأفكار المعتدلة، فسينبت جيل جديد متّزن يحب الاعتدال ويسير عليه، لأنّه قد تشرّبه صغيرا، ويتلاشى تلقائيا كلّ فكر يخالفه، أو سيظلّ منزويا محصورا غير مؤثّر في فئة هامشيّة من أفراد المجتمع.
ربّما كانت حكاية جمانة وأسامة هي أهم حكاية في رواية “الخاصرة الرخوة”، جعلت الحكايتين الأخريين حكايتين باهتتين لا لزوم لهما في السّياق الرّوائيّ، فما الذي أضافته حكاية عائشة وزواجها سوى إقحام موضوع العذريّة والحديث عن البكارة وفضّها، ولم ترتبط تلك الحكاية ربطا عضويا بالفكرة العامّة من الرّواية وذكرت عابرة، ولم تأخذ مساحة من القصّ تجعلها حكاية عضويّة لازمة لدعم الفكرة، إذ إنّ فكرة الرّواية ليس موضوع فضّ البكارة وأنواعها ومشاكل ذلك، والشّيء نفسه يقال عن حكاية صابرين ويونس. فقد أوشكت تلك الحكاية أن تأخذ الرّواية نحو منحى آخر، فلا جامع بين تلك الشّخصيّات وشخصيّة أسامة وجمانة، ربما يتمحّل البعض ويجعل من فكرة التّوازي ومقارنة السّلوكيات الشّخصيّة مدخلا للرّبط، ولكنّها لم تشكّل محورا أساسيّا لازما مع الحكاية الأصليّة، وظلّت بلا مبرّر فنيّ قويّ.
وبهذا تشكّل رواية الكاتب جميل السلحوت مثالا على “الواقعيّة الإسلاميّة” التي ترى أنّ الأدب له دور فاعل في ترسيخ مفهوم الدّين الصّحيح البعيد عن تشوّهات الأفكار والأفهام المعتلة له، وتأصيله فقهيّا، وتؤكّد هذه الواقعيّة إيجابيّة النّظرة للإنسان المسلم المنفتح، بعيدا عن النّظرة الإيجابيّة التي توحي بها الواقعيّة الاشتراكيّة، وبالتّالي فهو أدب ملتزم بالمفهوم الإسلاميّ، “لسان حال المؤمن في التّعبير عمّا شهده وأحسّه ولاقاه في مجالات الحياة، كما يربطه بربّه، يوضح الصّراط المفضي به إليه”، وهذا عينه ما سعت إليه الرّواية.
ولم يسلم هذا الأدب وهذه الرّواية أيضا من الوعظ وإن كان بطريقة غير مباشرة، فقد كان واضحا صوت الكاتب جميل السلحوت بوصفه كاتبا واقعيّا يحارب أيضا في مقالاته الاجتماعيّة والسّياسيّة أمراض المجتمع المتّصلة بالدّين والسّياسة ويؤصّلها فقهيّا، فلم تبتعد أفكار الرّواية عن أفكار الكاتب التي وضعها في كتابه “ثقافة الهبل وتقديس الجهل” فيما يتّصل بموضوع التزمّت الدّينيّ والنّظرة إلى المذهب الوّهابيّ والحركات المتطرّفة والنّظرة إلى المرأة وضرورة احترامها ومعاملتها إنسانا كامل الأهليّة مثلها مثل الرّجل سواء بسواء مستندا في كلّ ذلك إلى النّصّ الدّينيّ، وليس إلى الفلسفات المعاصرة والحركات التّحرّريّة النّسويّة التي انتشرت في مؤلّفات كثير من كتّاب وكاتبات العالم الإسلاميّ.
نيسان 2020