أيها الإخوة
أيها الضيوف الكرام
أرحب بكم أجمل ترحيب.. وأهلا وسهلا بكم جميعًا.
باسم نادي حيفا الثقافي واتحاد “الكرمل” للأدباء الفلسطينيين ..باسم حيفا وكرملها وبحرها ومساجدها وكنائسها وشوارعها وحواريها وأزقتها العتيقة..باسم ناسها المتمسكين بجذورهم التي تضرب عميقًا في رحم الأرض ..أرحب بضيفنا القادم من زهرة المدائن. هذه الزهرة ستظل-رغم وقوعها في الأسر العابر- ستظل زهرة فواحة بعطر تاريخها وتراثها ومقدساتها ..وستظل قلعة تتحدّى الجلاد بعينيها وكبريائها..بكنائسها ومآذنها. بأقصاها وقيامتها..برجالها ونسائها وشيوخها وأطفالها والأجنّة في أرحامها.
إن سيّدة العواصم..لن تركع..ولن ترفع الرّاية البيضاء. لقد آلت على نفسها أن تقيم القيامة على رأس جلادها، وتظل تتحدّى السّيف المشهر فوق رأسها..حتى تنتصر على الغطرسة والعجرفة والصّلافة والوجوه القبيحة..وستقذف بها غير مأسوف على شبابها..إلى مزبلة التّاريخ.
فزهرة المدائن في نظر الكاتب هي جنّة السّماوات والأرض.. وهي الحبيبة الأولى والحبيبة الأخيرة.
أرحب بالكاتب الفلسطيني جميل السلحوت.. الذي جاءنا من زهرة المدائن يحمل في حقيبته ثروة أدبية تشكل وسام شرف تضعه عاصمة العواصم على صدرها..وشهادة يفخر بها المشهد الأدبي الفلسطيني.
لقد كان لحيفا الشّرف في استقبال كوكبة من الأدباء الفلسطينيين، بدءا من أنور حامد والمتوكل طه، وسامح خضر وعبلة الفاري ومزيّن برقان، وأحمد رفيق عوض وديمة السّمّان، وزياد عبد الفتاح وربعي المدهون..وكان لقاؤنا الأخير مع عاشق حيفا ومجنونها صديقنا الشّاعر أحمد دحبور..هؤلاء عطّروا حيفا بشاطئها وكرملها وأكسبوها مذاقًا ثقافيًا خارجًا على الإيقاع المألوف.
**
جسر بين شاطئين
جميل أيها العزيز جميل السلحوت أن يلتقي الشاطئان..وتقام جسور التّواصل بين زهرة المدائن وعروس الكرمل.. بوجودكم معنا هذا المساء.. تزداد الجسور شموخًا وألقًا وشبابًا وعنفوانًا وصلابة..
وجميل أيها الجميل هذا التّواصل الثقافي بين شطري البرتقالة الفلسطينيّة.
إن نادي حيفا الثقافي واتحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيين توأمان يتنفّسان من رئة واحدة. . وينضويان تحت لواء واحد مع ندوة اليوم السّابع المقدسية..فهذه عين وهاتان أختاها من أمّها وأبيها..وجميع هذه المنابر الثقافية خرجت من رحم واحد..و تقوم بدور هامّ في تعزيز الانتماء إلى الهويّة القوميّة..والأخذ بيد الحركة الثقافية والنّهوض باللغة العربية.. وإيصالها إلى شواطئ الأجمل!
*
الهمّ الفلسطيني.. يسكن الكاتب ويجري كالدّم في عروقه من الوريد إلى الوريد..ومن رأسه حتى أخمص قدميه..والجرح الفلسطينيّ النّازف ما زال مشرعًا يزوبع الضّمير الغائب..وجميع الضّمائر الغائبة المغيّبة التي تغطّ غيبوبة عميقة.
**
حكاية طريفة لم يكتبها جميل*
أيها الإخوة
فتحت خزينة الثروة الأدبية التي أبدعها هذا القلم النازف فأطلت منها صور من الأدب الشعبي الفلسطيني..وشيء من الصّراع الطبقي في الحكاية الفلسطينية ..وصورة لمعاناة الأطفال الفلسطينيين تحت حراب الاحتلال.
**
وفتحت ملف الرّوايات..فعثرت على حكاية طريفة لم يكتبها جميل السلحوت..واكتشفت ما فيها من عناوين أدبية .. خرجت من الورشة الإبداعية السلحوتية..لتصبّ في هذه الحكاية الرّمزية الصّغيرة.
**
قال الراوي:
“كانت هناك” قصّة قصيرة..بطلتها أميرة.. تسير في درب الآلام الفلسطينيّ.. في هذا الزّمن الرّمادي.
كان “ظلام النهار” مخيمًا على المدينة الأسيرة..وفي زنازين التتار..تقبع ” الأميرة”..عارية.. مقصوصة الضّفيرة…يقتلها “برد الصيف” ..وفوق رأسها جلاد وسيف..وتحاصرها جدران العزل العنصرية.. وفي لحظة غضب تاريخية..تنزع الأغلال من يديها..وتحطم قضبان زنزانتها..وتنزع عن كاهلها “جنة الجحيم”. فـ“جنة الجحيم”..يسودها “هوان النعيم”..وتدنسها سنابك الشيطان الرجيم.
أليس هذا “عسفا” في زمن العسف التاريخي؟
أليس هذا عسفًا وظلمًا وقهرًا واستكبارًا..لم يشهد له التاريخ مثيلًا؟
أيها الجميل..ما كنت أوثر أن يمتدّ بي زمني..حتى أرى سنابك الغزاة تلوّث ثرى وطني.
إنه “زمن وضحة” مقصوفة الرقبة ..التي قرّرت أن تسير على الشوك والزّجاج والأمعاء الخاوية.. ومعها أليس في بلاد العجائب والغرائب والثعالب والعقارب.
وفي “زمن وضحة” يشهر البطل محمود أبو عُقيلة معوله ليحطم أوثان الحاضر الرمادي.. ويكسّر قيود التخلف الحضاري.
إنه يحمل روحه على راحته..ويلقي بها في مهاوي الرّدى..يدفعه طموح جامح..لأنّ يقلب الدّنيا العربية رأسًا على عقب..وينفض غبار التّخلف عن كاهل المجتمعات العربية..في أزيائها الجاهلية العصرية!
**
أنا وحماري..في دنيا الأطفال
يقتلني الشّوق لاقتحام دنيا الأطفال..ولقاء لينا حفيدة جميل السلحوت. يرفع سندباد الصواري فيخوض البحار الهائجة..ويحط في دنيا الأطفال.
اقتربتُ من البوابة..أخرجت مفاتيحي..وعالجت الأقفال..فانفتحت أمامي الأبواب ..واستقبلني الأصحاب..فدخلت مثل “أبو الشباب”..ورأيت سماء تخيم عليها أقواس قزح..فكدت أطير من الفرح..
دخلت ” أنا وحماري”..والتقينا بحمار القرداوي. فاعترض الحمار سبيلنا وأخرج من خُرجه بطاقة الهُوية وقال معرّفًا نفسه: أنا الشيخ سلطان الزمان..ومالك العصر والأوان. أنا شيخ المشايخ وتحت قدميّ جميع الأمصار والبلدان..
وتذكّرت المثل الشعبي: “كلب الشيخ..شيخ.” فالشيخ أبو حسين المُقعي في البيت الأسود..يفلّت “أرانبه” وكلابه ونعاجه لتسرح وتمرح في الدّنيا العربية..وتعيث فسادًا ودمًا وخرابًا ودمارًا.
فأشحت بوجهي عن الرّمم والنفايات والجرذان والصّراصير..
ثم واصلت المسيرة حتى وصلت إلى “عش الدبابير”.. ويبدو أنني أخطأت الحساب والتقدير..لقد حاولت اقتحام سجن الأميرة ففاعت الدّبابير من كلّ الأقطار..وكانت مدبرة كادت أن تزرع في الشّرق الدّمار..وبعد التّقصي لمعرفة السّرّ في ما حدث اكتشفنا “الغول”..ومعه سنابك المغول.. إنّه وحيد القرن وحارق الزّرع والضرع وخضراء الحقول. . وشاهدت الأرض الخراب من جبال وسهول..وهالني ما رأيت من معاناة الأطفال..في زهرة المدائن التي تنوء تحت نير الاحتلال.
فأتزرت بالصبر والصمود.. شوقًا إلى اليوم الموعود. جاء موسم “الحصاد”..فضحكت الحقول والبيادر..وعمّ البلاد فرح غامر. ولم يعكر صفو الأيام الجميلة إلا “كلب البراري”..ومعه عصابته من الكلاب المسعورة..التي لم يخلق مثلها في المعمورة.
ومن تحت الأرض والسّهول والجبال..ومن الشّوارع والحواري والأزقّة.. نبز العفاريت والمناحيس الصّغار.. فتقاطروا ودكّوا بعصيّهم ومقاليعهم وحجارتهم قلعته الحصينة.. وهزموا الكلب ابن الكلب وطردوه شرّ طردة..وهزموه شرّ هزيمة.. وعلى مزبلة التاريخ..لقي مصيره!
**
ومن الأفق البعيد..أطل أحد الشّعراء المؤمنين بالله واليوم الآخر وحتميّة التّاريخ وأنشد قائلا:
وما من يد إلا يد الله فوقها…وما ظالم إلا سيبلى بأظلم،
وأدرك شهرزاد الصباح..فتثاءبت..وسكتت عن الكلام المباح!
وفي الختام.. لا بد من السّلام..
فالسّلام لنا ولكم..والسّلام عليكم..وتصبحون على وطن يسوده الحقّ والعدل والسّلام ..وعلى الأرض السلام وفي النّاس المسرّة
**
(نص الكلمة التي ألقيت في الأمسية الثقافية التي عقدت في حيفا بتاريخ 14-4-2016 وشارك فيها الإخوة:
د. نبيه القاسم. د. محمد هيبي. الأستاذ فتحي فوراني. المحامية نائلة عطية. المحامي حسن عبادي.
وتولى عرافتها الشاعرة معالي مصاروة
أقيمت الأمسية تحت رعاية نادي حيفا الثقافي واتحاد “الكرمل” للأدباء الفلسطينيين)