صدرت الرواية عن دار الجندي للنشر والتوزيع – القدس
الطبعة الأولى – كانون ثانٍ \ يناير 2012
رواية “هوان النّعيم” هي الجزء الثالث من مجموعة روايات للكاتب جميل السّلحوت ، فالروايات حسب الأجزاء هي :
1. ظلام النّهار .
2. جنّة الجحيم .
3. هوان النّعيم .
صراحة لا أعلم إذا كان المقصود بالجزء أنّ الرواية جزء من روايات ثلاثيّة (trio novels) كثلاثيّة نجيب محفوظ أو ثلاثيّة أحلام مستغانمي … . فالجزء يدلّ على أنّه قسم من شيء مكتمل، فهل هذه الأجزاء مكتملة تكوّن لوحة واحدة؟ للأسف لا أملك الإجابة لأنّ الرواية الوحيدة المتوفّرة بين يديّ هي “هوان النّعيم”، وعندما انتبهت إلى قضيّة الجزء حاولت البحث عن الجزأين الأوّل والثاني، لكنّني لم أجدها في مكتباتنا الفقيرة، ممّا سيضطرّني إلى زيارة القدس أو مكتبة الشروق في رام الله التي اشتقت إليها كثيرًا بعد انقطاع طويل .
الشيء الأوّل الذي يشدّ القارئ هو عنوان كل جزء من الأجزاء الثلاثة، حيث أنّ كلّ جزء عنوانه يجمع متضادّين، فعندما نتحدّث عن النهار نذكر النّور لا ضدّه الظلام، وعند ذكرنا للجحيم لا نقصد حتمًا الجنّة، كذلك الأمر في الجزء الثالث، كيف لنا أن نشير إلى الشدّة والعوز والاحتقار عند تلويحنا بالنّعيم! إذًا يشدّنا الكاتب من خلال تضادّ أجزاء العناوين إلى الغوص في البحث عن المتناقضات .
يقوم الكاتب في رواية “هوان النّعيم” بسرد تاريخيّ يصف فيها ذلك الألم الذي رافق الناس إثر حرب 1967، حيث كانت هزيمة الجيوش العربيّة أمام قوّات الاحتلال، هذا الشّعور بالهزيمة والضّياع بعد أحلام دامت 19 عامًا تلت النّكبة، كانت قاعدتها وعودات بتحرير فلسطين وتخليصها من أنياب المحتلّ .
لقد جعل الكاتب القدس، تلك المدينة المقدّسة عند جميع الفلسطينيّين، نموذجًا للإحباط واليأس نتيجة الهزائم المتتالية؛ النّكبة ثمّ النكسة، يقيس هذا الشّعور من خلال وصف الأحداث في المدينة وتغيير معالمها. إنّ الكاتب وظّف المكان في سبيل توضيح الشّعور المحبط، ففي البحث من خلال المكان نجد أن خليل الأكتع يحاول الإجابة عن أسئلته التي سبّبتها حالة الضياع. المكان الأوّل كان القدس وتكرار زيارتها في أمكنة مختلفة منها ليعرف أين آلت الأمور؟ أمّا المكان الثاني فكان زيارته للناصرة لمعرفة المزيد عن هذا الجزء الحيّ من أبناء الشّعب الفلسطينيّ في إسرائيل، بعد الحادثة التي اتّهم فيها أحد الشيوخ هذا الجزء بالخيانة وتعاونه مع المحتلّ .
نقل لنا الكاتب من خلال المكان الأوّل الكثير من حالات الإحباط، فها هي الجيوش العربيّة تتراجع أما الدبّابات والطائرات الإسرائيليّة، هروب الأهالي من قراهم ومدنهم، كيف لا ونحن نسمع المختار ص33 يقول :”ضاعت البلاد وهلك العباد”؟ ويستمرّ الكاتب في نقل الصور المختلفة التي تدلّ على حالة الضياع واليأس، “خيّم الحزن على الجميع، تحلّقوا حول مذياع أبي عليّ يستمعون للأخبار وسط وجوم تامّ” ص34. حتّى أنّ بعضهم قد اتّخذ قرارًا بأنّه “لم يعد لنا خيار سوى الهروب إلى الضفّة الشّرقيّة” ص34. وقد صرّح فؤاد تصريحًا انهزاميًّا واضحًا عندما قال :”الحقيقة واضحة لقد هُزمنا هزيمة نكراء، ولن تقوم لنا بعدها قائمة” ص40. “كثيرون من الرّجال والنّساء بكوا بمرارة، واحتاروا فيما سيفعلونه” ص40 . “الأستاذ داود لا يريد أن يصدّق الأخبار التي يسمعها ” ص41. “الكلّ مشغول بتعاسته … والهزيمة طغت على تفكير الجميع” ص 53. يصف حالة التيه بين النّاس، هل الحلّ في الهروب؟ كذلك كان التيه عند من هربوا، فهل حان أوان العودة إلى القرى والبيوت أم سيبقون في البراري حتى يتأكّدوا من أن الوضع أصبح آمنًا؟ ومن حالات التّيه نرى كيف يقع أبو سالم في فخّ العمالة. وطبعًا هذا غيض من فيض .
أمّا من خلال المكان الثاني فقد نقل حالة إحباط أخرى، كيف لا وهناك الكثيرون ممّن لا يعلمون شيئًا عن إخوانهم الفلسطينيّين الذين بقوا في أراضيهم؟. فها هو رجل عجوز يتّهم عرب الدّاخل بالخيانة، فيقول لامرأة من كفركنّا كانت هي ومجموعة من النساء يردن أن يصلن إلى المسجد الأقصى :”لم يبق في الدّاخل سوى من تعاونوا مع الهجاناه، ولا يستحقّون الصّلاة في المسجد الأقصى” ص104. وكذلك كان “المصلّون المقدسيّون خائفون من المصلّين الذين جاؤوا من مختلف المناطق التي أقيمت عليها دولة إسرائيل”. لكنّ الشّيخ ياسين لاحظ كيف ينفر المقدسيّون من إخوانهم، فدعا المقدسيّين من على منبر الأقصى إلى إكرام إخوانهم ووصفهم بالإخوة المرابطين المجاهدين، فقد تمسّكوا بديارهم، وعانوا كثيرًا من جور الاحتلال . ويجيب الشّيخ على سؤال أحد الشّباب ما إذا كانوا عملاء؟ “متى صار المدافع عن حقوقه والمتمسّك ببيته عميلًا؟…. وأهلنا في الدّاخل قابضون على جمر الوطن، ومنهم شعراء وأدباء ، ومفكّرون كتب عنهم الأديب غسّان كنفاني كتابًا أسماه “أدب المقاومة” كتب فيه عن شعراء وأدباء رائعين أمثال: توفيق زيّاد ، راشد حسين، محمود درويش، سميح القاسم، إميل حبيبي، إميل توما ، سالم جبران … وآخرون ” ص109. فبكى المستمعون، “وأكثر من بكى هم من انتظروا النصر، وصدمتهم الهزيمة الجديدة” ص109.
هذه البلبلة في عدم معرفة الكثير من أبناء الشّعب الواحد لبعضهم البعض إن دلّت على شيء فإنّها تدلّ على عمق الجرح الفلسطينيّ. تلك المرأة التي لا تعرف أين الأقصى؟! وذلك الرجل الذي يتهم نصفه الآخر بالخيانة. لكنّ هناك من يعلم ويعي هذا الجرح كالشّيخ ياسين
يقوم الكاتب بنقل صورة واضحة عن ذلك الجزء الحيّ النّابض من الشعب الفلسطيني الذي بقي في أرضه بما يسمّى عرب ال”48″ . عندما سأل خليل الأكتع (هل جعله(الكاتب) أكتعًا بسبب ضياع جزء من الجسد الفلسطيني بسبب النكبة؟ أم جعله أكتعًا ليؤكّد أنّ سلخ عرب ال”48″ هي كنفس حالة خليل؟ وربّما أشياء أخرى…) ، عن الفلسطينيّين الذين بقوا في نكبة عام 1948 ، ليعرف عنهم وعن أوضاعهم وكيف يعيشون وما علاقتهم بإسرائيل؟ فجاء تأكيد الأستاذ داود لما قاله الشيخ ياسين بأنه قرأ صحيفة “الاتّحاد” وهي النّاطقة بلسان الحزب الشّيوعي، حيث أنّ “كلّ ما جاء في الصحيفة معادٍ للاحتلال، والمقالات تطالب بالانسحاب الفوريّ وغير المشروط من الأراضي المحتلّة، وتهاجم قرار الكنيست الإسرائيليّ بضمّ القدس العربيّة المحتلّة إلى دولة الاحتلال، وتستنكر ما تعرّض له مائير فلنر أمين عام الحزب وعضو الكنيست من طعن بالسكّين بعدما أدان الاحتلال من على منبر الكنيست” ص111، من هنا جاء اقتراح فؤاد ليزوروا النّاصرة وهي عاصمة هذه الجماهير العربية، ليروا وليكتشفوا هذا الجزء من شعبهم الذي سلخ عنوة وقسرًا. يبيّن الكاتب من خلال المعلومات التي أوردها عن هذا الجزء الحيّ من الشعب الفلسطيني مدى المعاناة التي لحقت بهم من خلال نضال الحزب الشيوعي، فعدا صحيفة الاتّحاد يذكر مجلاّت أشرف عليها الحزب مثل الجديد والغد التي ساهمت في الحفاظ على الهويّة الفلسطينيّة، والتي أدانت العدوان الإسرائيلي، وتدعو إلى الانسحاب الفوري وغير المشروط من الأراضي العربيّة المحتلّة. وقد أيّدت الجماهير العربية هذا الحزب بجوارحها، ويبيّن الكاتب ذلك عندما حاولت الشرطة دقّ الأسافين بين المتظاهرين والشيوعيّين، باتّهامهم بالكفر، “… وأنتنّ يا حاجّات مغرر بكن من الشيوعيين الكفرة … فلا تسمعن لهم” ص123، فجاء الردّ حازمًا من الحاجّة أمّ نعيم “ليقط الله لسانك … نحن لسنا كفرة … نحن شيوعيّون على سنّة الله وسنّة رسوله … والآن صلّينا في الأقصى … ولا نريدكم في بلادنا” ص124 .
لقد تألّم الفلسطينيّون في إسرائيل كثيرًا، وذاقوا من المعاناة، ينقل نجيب هذه الصورة لخليل وفؤاد وعبدالمجيد “… والمعاناة التي عاناها عرب البلاد بعد النّكبة تحتاج إلى تأريخ … فـ 90% من أراضيهم صودرت، وحارس أملاك الغائبين استولى على عقارات كثيرة … وخضعت البلدات العربيّة للحكم العسكري منذ نشوء الدولة وحتى قبل عام … تصوّروا أنّ من كان يخرج من قريته إلى قرية أو مدينة أخرى كان بحاجة إلى تصريح من الحاكم العسكريّ …” ص145 . ويقول أبو نجيب لضيوفه إجابة على سؤال كيف يعيشون “ذقنا ألوانًا من الذلّ والهوان يا ولدي … وحالنا أفضل من حال من تشتّتوا في بلاد الله … مع أنّ منّا من تشتّتوا في هذه البلاد أيضًا” ص147 ، هل هذا هو هوان النّعيم الذي قصده الكاتب في عنوان روايته؟! كذلك أحسّوا بألم بسبب هزيمة حرب 1967، “بكى عبدالمجيد وداود وخليل، بعد أن بكت أم نجيب النصراويّة، وأبكت من تواجدوا … النّكبة أصبحت نكبتين، وبدل التّحرير وقع النّاس تحت احتلال جديد” ص138 . كذلك أبو نجيب فقد استقبلهم بالأحضان “… كان الرجل عابسًا مهمومًا فضربتان في الرأس قاتلتان كما قال، فالنكبة قصمت ظهورنا، وهزيمة حزيران قضت علينا، كنّا نتمنّى عودة الأحبّة ولقاءهم، وتحقّق اللقاء على غير ما نتمنّى …” ص145 .
إذًا يقوم الكاتب في رواية “هوان النّعيم” بسرد تاريخيّ يتحدّث فيه عن الحلم الفلسطيني الذي دام 19 عامًا بعد النكبة الأولى، إلاّ أنّ هذا الحلم تحوّل إلى نكبة ثانية في حرب 1967. ويبيّن هذا الشعور المؤلم المهزوم عند الفلسطينييّن جميعًا، وكان نصيب القدس -التي يبرزها الكاتب بشكل كبير لتكون بوصلة للشعور الذي يتحدّث عنه-كبيرا، ممّا يدلّ على مدى عشقه النازف لهذه المدينة العظيمة .
ينهي الكاتب روايته مع أبي سالم، الذي تمّت خديعته وأصبح عميلًا للمخابرات الصهيونيّة، بعد أن أحرج بمشاهد جنسيّة فاضحة لم يردها أن تصل إلى معارفه. فيجعل الكاتب أبا سالم نموذجًا لذلك المهزوم الانهزامي الذي وقع ضحيّة المخابرات، وأصبح عميلًا ينقل الأخبار عن الناس للكابتن المخابراتي نمرود. أبو سالم يصبح كلبًا وفيًّا ، ويسلّم بهذه الصّفة الجديدة “عووووووو” كانت جوابًا للمخابراتي نمرود عندما قال له أنت كلب وفيّ .
مأخذي على الكاتب جميل السّلحوت أنّه أنهى روايته بالانهزامي العميل، ممّا يخلق انطباعًا أن هذه النهاية هي الجوّ العام لما بعد حرب 1967، كنت آمل أن تنتهي الرواية بذلك الإصرار على الوقوف مجدّدًا كما وقف هذا الشّعب البطل مرّة أخرى وأخرى وأخرى بعد أن كبا كبوة بعد أخرى، ويقول قول توفيق زياد “كبوة هذي وكم يحدث أن يكبو الهمام … للخلف كانت خطوة من أجل عشر للأمام”