القدس: 2-6-2022- من ديمة جمعة السمان– ناقشت ندوة اليوم السابع الثّقافيّة المقدسيّة كتاب “همسات وتغاريد” وهو مجموعة نصوص للكاتبة الجليليّة الفلسطينيّة عدلة شدّاد الخشيبون، صدرت عام 2020عن دار طباق للنشر والتّوزيع في رام الله- فلسطين.
افتتحت الأمسية مديرة النّدوة ديمة جمعة السّمّان فقالت:
جمعت الكاتبة في كتابها هذا أربعة وثلاثين نصّا حزينا أشبه ما تكون بالبوح والمناجاة، كتبت بحبر من دموع، تذوّق القارىء ملوحته، فانتقلت المشاعر مبعثرة كما هي الأفكار.
أهدتها الكاتبة عدلة شدّاد الخشيبون لأمّها الوداد وأختها الفاتنة؛ لتصل إليهما هناك في عرشهما السماوي وفاء لأحلامهما. وأهدت النّصوص أيضا لولديها بشير وإيميل محبّة وثقة.
ولم تنس والدها الداعم لحرفها. كما خصت كل من دخل القلب وعانق الرّوح هامسا مغرّدا.
أربعة وثلاثون نصّا موزّعا على ستة وسبعين صفحة من القطع الصّغير.
نصوص حملت عناوين تتأرجح بين الدّمع والعتاب والخريف والغروب والاشتياق والقطار وما يحمل من رمزية سوداوية، والرّقص وما يحمل من وجع وعتاب وشرود وضياع ورفض للواقع.
كانت وقفة صادقة مع الذّات أحيانا، وأحيانا أخرى محاولة تفريغ للمشاعر المضغوطة، وأحيانا أخرى محاولة للبحث عن بصيص من الأمل، قرأناها في نهاية بعض النّصوص الّتي طلّت برأسها من بين الكلمات. شعرنا أنّ هناك بعضا من المقاومة النّفسيّة، فقد اتّخذت الكاتبة “زمناكيّة” خاصّة بها، كي لا ينزف جرحها، وهي تصبّر نفسها لكسب مزيد من القدرة على الاحتمال.
نصوص لم تكن سهلة على القارىء، على الرغم من عدد صفحاتها القليلة، إلا أنّها كانت مرهقة، فقد حشرته في مربّع الحزن والهمّ والغمّ والأنين الموجع المتكرّرالذي يدمي القلوب.
وعلى الرغم من هذه الفوضى في المشاعر والأحاسيس، إلا أن صدقها غفر لها.
كتبت بلغة هادئة، ومفردات جميلة منتقاة بعناية، فوصلت من القلب إلى القلب.
وقالت د. روز اليوسف شعبان:
يحتوي الكتاب على ثلاثة وثلاثين نصّا نثريّا في مواضيع إنسانيّة، عاطفيّة، وجدانيّة، يتخلّلها مواضيع عن مناسبات وأعياد وذكريات، والتي فيها يبدو جليًّا عاطفة الكاتبة الجيّاشة تجاه أمّها التي فقدتها، فتبقى ذكراها تلاحقها في غالبيّة النصوص وتهيمن عليها.
لقد استخدمت الكاتبة في نصوصها لغةً شاعريّةً جميلةً، تكثر فيها التعابير المجازيّة والوصفيّة كما نرى في المثال التالي من نص “حكاية ودمعة “ص 11:” صديقتي خذي من طحين محبّتك حنطة، من عرق جبينك خذي قليلًا، ومن دموع اشتياقك دمعة، والملح خذيه من الدمعة ذاتها، اعجني شوق الغياب واجعليه يبرد وتناوليه بعد أن تغمسيه بزيت انتظارك”.
وفي نص “غروب” ص 22، تصف الغروب بشفافيّة وعذوبة :” وتحت تلك الخرّوبة والرفة الظلال، جلست تناجي شمس الأصيل بأغنية المغيب ورقصت الغيوم في موكب جنائزيّ كبير لأضواء ملأت سماء المكان”.
وفي نص “عشرون وذكريات” ص 37، تستذكر والدتها بكل شوق” في الصباح أستيقظ على صوتك وأشمّ رائحة القهوة فتفعل فعلها في إكسابي ذاك النشاط الروحانيّ الكبير، فنجان الحليب ينتظرني والزوّادة تسبقني”.
في نص ” يوم وامرأة” ص 41، توجّه خطابها للمرأة طالبةً منها أن تكون هي نفسها” كوني المرأة التي في داخلك، واتركي المرأة التي في داخلهم، فلك يوم كونيه سنة”. وهذه رسالة هامّة تدلّ على ثقة الكاتبة بالمرأة وتحثّها على الاعتداد بنفسها.
في نص” وجع حلم عابر” ص 24، تستهلّ الكاتبة نصّها بسؤالين جميلين: ” لماذا لا يزقزق العصفور فوق وسادة التائهين؟ لماذا لا ينام البشر ما دام في الأفق سرير مريح؟ سؤالان يستحقّان التفكير والكتابة عنهما، لكن بدلًا من ذلك نجد الكاتبة تنتقل إلى عدّة مواضيع مختلفة دون أن يكون علاقة أو ترابط بينها، فنجدها تكتب عن الحلم الآسر، وتوجّه كلامها للصراخ تدعوه أن يصمت ثمّ تنتقل إلى أمّها لتقول لها كم هي مشتاقة لها.
وفي نصّ “برقيّة لأيّار” ص 27، تستهلّه بقصة مؤثّرة:” وكان لنيسان نهاية، وكانت النهاية حكاية. هذا الصباح أراني وقد اختبأت خلف شجرة كثيفة الأغصان، أراقب عصفورًا أصابته رصاصة الغدر، ونزف جناحه نزيف الشوق. رأيت دموعه حزينة.
بعد هذه القصّة تنتقل الكاتبة للحديث عن صخب الحياة الذي أطربها، تصف ذلك بتعابير شاعريّة لا تتناسب مع القصة الحزينة التي استهلّت بها نصّها.
في نصّ” مجرّد هل” ص 65، تأتي الكاتبة عدلة بأسئلة جوهريّة فلسفيّة مثل:” هل السير بعكس التيّار جريمة إن كانت الريح لا تغيّر اتجاهها؟
وهل السير بأقدام حافية عار إن كانت الأحذيّة ضيّقة أو مثقوبة؟
هل العطاء من الروح جرم إن كانت الأيدي مكسورة والأنامل مقطوعة؟
بعد هذه الأسئلة تنتقل الكاتبة مباشرة للحديث عن أمّها علمًا أن هذه الأسئلة الجوهريّة يمكن الكتابة عنها عدّة نصوص. لكنّ الكاتبة آثرت طرحها فقط وانتقلت إلى مواضيع أخرى.
يمكن القول إنّ نصوص عدلة شدّاد تحوي مواضيع جميلة صيغت بلغة شاعريّةـ لكن في العديد من هذه النصوص نجد الانتقال السريع من فكرة إلى أخرى ومن موضوع إلى آخر داخل النص الواحد، دون وجود ترابط في الأفكار.
وكتب جميل السلحوت:
لفت انتباهي إهداء الكاتبة نصوصها للمرحومتين والدتها”الوداد وشقيقتها الفاتنة”، ولابنيها “البشير والإميل”، فتساءلت عن إضافتها ” أل التّعريف” لأسماء العلم”وداد، فاتنة، بشير وإميل” التي هي معرفة بذاتها، فما هو تبرير هذا؟
وإذا عدنا إلى استعمالات “أل التّعريف” في اللغة العربيّة سنجد” أنّها إذا دخلت على الأعلام حكمنا عليها بأنّها زائدة غير لازمة،
تدخل على أسماء العلم مثال: الحارث؛ العباس، وهذا النوع من الزيادة سماعي.”
وعند قراءتنا لنصوص كاتبتنا سنجد أنّها بوح عاطفيّ وجدانيّ يغلب عليه الحزن، خصوصا فيما كتبته عن المرحومتين والدتها وشقيقتها فاتنة، وهذه قضايا إنسانيّة تعبّر عن حالة الفقد، وما يترتّب عليها من أحزان.
وسنرى أنّ هذه النّصوص تتفاوت في تصنيفها بين الخاطرة وما يشبه المقالة، واعتمدت على فكرة راودت الكاتبة فصاغتها بكلمات جميلة، لو أنّها انتبهت إليها قليلا لكان بإمكانها أن تجعل من غالبيّة نصوصها أقاصيص. ومع ذلك فإنّ نصوصها لم تسلم من استعمالات خاطئة للغة، فمثلا جاء في الصّفحة 15عندما تحدّثت عن ذكرياتها ” هي عاصفة الرّوح خلعت عنّي رداء الخجل”، وكان الأجدر بها أن تستعمل كلمة “الحياء” بدل الخجل، فالإنسان يخجل من عمل سيّء ارتكبه، بينما الحياء حلية يتحلّى بها الرّجل والمرأة، وممّا جاء في وصف خاتم النّبيّين أنّه كان حييّا.
وممّا جاء في الصّفحة نفسها “15” “فبتّ أستمدّ جرأتي من عواء جرو”، والجرو هو “طفل الكلب”، ومع أنّ “الجرو” من أسماء ابن الذّئب أيضا، إلا أنّ الطاغي هو استعماله لصغير الكلب، وهذا ما قصدته الكاتبة في نصّها، وصوت الكلب نباح بينما العواء هو صوت الذئب، يقول الأحيمر السّعديّ:
عوى الذّئب فاستأنست بالذئب إذ عوى….وصوّت إنسان فكدت أطير.
وكتبت رفيقة عثمان:
صدر كتاب “همسات وتغاريد” للكاتبة عدلة شدّاد خشيبون، عن دار النشر والتّوزيع طباق، فلسطين.
احتوى الكتاب على سبع وسبعين صفحة من القطع المتوسّط، من تصميم أيمن حروب، وقدّمت المقدّمة للكتاب الدّكتورة رباب القاسم سرحان. اهدت الكاتبة نصوصها لأمّها وداد واختها فاتنة، كما أطلقت عليهما بأل التّعريف (الوداد، والفاتنة) كما أهدتها لوالدها ولولديها بشير وإميل. إنّ استخدام أل التعريف بالإسمين (الوداد والفاتنة)، ربّما للتخصيص وتعريف بارز للشخصيتين، لما لهما تقدير كبير وأهميّة عظيمة في نفس الكاتبة.
من الممكن تصنيف هذا الكتاب ضمن نصوص نثريّة، فيها من البوح الذّاتي، وفقسّمت الكاتبة هذا الكتاب إلى ثلاثةٍ وثلاثين عنوانًا؛ إنّ قراءة هذه العناوين وما يحتويها متشابهة جدًّا في البوح والطّرح، عبّرت الكاتبة عن مشاعرها الدّفينة، ووظّفت وأطلقت العنان للّغة العربيّة الجزلة والقويّة، وطوّعتها للتّعبير الذّاتي والحزين؛ ودعوة النفس نحو النّهوض بها ودعوتها نحو القوّة، وعدم الاستسلام للضعف والحزن، هذه الرّسالة ظهرت جليًّا في كافّة المواضيع.
برأيي الشّخصي: إنّ تكرار البوح الذّاتي في كافّة المضامين، دون أن تتناول رسائل وأفكارًا متجدّدة، بعيدة عن التمركز حول الذّات، لا تُثري النّصوص الأدبيّة، نحو الإبداع والتّنوّع؛ ممّا تضيف الملل وعدم التّشويق للقراءة.
فصل الخريف كدلالة رمزيّة في النّصوص النثريّة:
استعانت الكاتبة بالظّواهر الطبيعيّة، لتبّث الكاتبة شكواها ومناجاتها، والحنين إلى الماضي “عندما أقف عاجزة عن الكتابة، أكتب بشغف أكثر، أكتب بحرّيّة صارخة، وأكتب بضمير الطّبيعة” بنص نثري عنوانه وصول صفحة 41.
كان لفصل الخريف النّصيب الأكبر؛ حيث تكرّر ذكره في معظم النّصوص، والعناوين؛ كما ورد صفحة 13 ” انا لا أكرهك يا خريف؛ لكن عاصفتك هوجاء وصفير قاطرتك خطير خطير.”. “شكرًا لم أيقظ عاطفتي وتركني أخطّ حنيني على ورقة من ورقات الخّريف.”. ورد أيضًا صفحة 17 بعنوان: خريف في مشاعر ” الخريف أشدّ الفصول ازدحامًا لصفرة الأوراق، وعشق خلوة المكان. فتناثري وتناثري، فتناثرك مبعث للأمل.”. عنوان آخر خريف في كلمات “دخل الخريف من بوّابة الصّمت وقد اعتراه خجل الغربة، إذ كيف لعصافيرها أن تغادر وقد سجّلت اسمها في ملف الحاضرين.” كذلك الخريف احتلّ عنوان صدى الأحلام صفحة 49 ” نسائم الخريف عصفت بأغصان الشّوق ، فكل ما تبقّى هباء للهباء.”. لم تكتفي الكاتبة بتلك العناوين فحسب، بل هناك عنوان آخر ريشة خريف صفحة 71 “هو الخريف يا أمي وأصفره الجميل يعاتبني وبين الاختناق والعتاب، يكون حفيف وفرحة الأشواق.”. عنوان شرود حرف صفحة 71 “كلّ الطّيور المهاجرة يا أمّي تُبشّر بحزنٍ قادم، رغم ربيع في الرّوح.”. وأخيرًا عنوان خريف في كلمات صفحة 21 “دخل الخريف من بوّابة الصّمت وقد اعتراه خجل الغربة، إذ كيف لعصافيره أن تغادر وقد سجّلت اسمها في ملف الحاضرين”.
من الاقتباسات السابقة المتعلّقة بفصل الخريف، نلاحظ الرّمزيّة والدّلالات والرمزيّة الإنسانيّة الّتي تناولتها الكاتبة، في نصوصها النّثريّة؛ لتبثّ أحزانها وحنينها، وخيبات أمل، من خلال هذا الفصل وتغيير ظواهره، لِما له ارتباط وثيق بالمشاعرالحزينة والحنين إلى الماضي، كما جسّدتها الكاتبة، باصفرار وسقوط أوراق الأشجار، وهجرة الطّيور، واختلاف درجات الحرارة، وكل التّناقضات والتّقلّبات الّتي يتحلّى بها هذا الفصل.
ظهر الارتباط وثيقًا بين العواطف الحزينة وظواهر فصل الخريف في النّصوص النثريّة المُتداوَلة.
فصل الخريف أيضًا يوحي بولادة جديدة، وتمهيد لحياة جديدة ستنمو، فهو فصل الحياة والموت؛ فهذا ما جسّدته الكاتبة خشيبون، الامل والفرح القادم، كما ورد صفحة 52 بعنوان: بطاقتي ليست للبيع ” أنت امرأة كونها بكلّ عنفوانها، غوصي في محيط الأحلام وحلّقي في سماء العطاء.”؛ كذلك صفحة 28 بعنوان برقيّة أيّار ” ما أجمل أوّلكَ يا أيّار، وما أنقى سنابلكِ يا حقول.”. استخلص من تلك النّصوص، على الرّغم من وجود الحزن والشكوى بشكل ظاهر، إلّا أن الأمل نحو التجدّد لمستقبل أفضل فهو حاضر في نفس الكاتبة.
صيغت النّصوص النّثريّة، بصيغة ضمير الأنا، ممّا أضفت على صِدق الإحساس بالعاطفة الحزينة، والّتي تكاد تخلو من الُفرح، النصوص النثريّة تكاد تخلو من الحوار؛ بل اهتمّت بالحوار الذّاتي – (المونولوغ)- وهو الطّاغي على كافّة النّصوص.
نصوص همسات وتغاريد، كتاب بوح ذاتي؛ لمضامين متشابهة، فيه مركزيّة نحو الّات، وبعيدة عن الإبداع، العنوان همسات فهو فعلا يهمس بمشاعر حزينة، ويخلو من التغاريد.
وقالت هدى عثمان أبو غوش:
نصوص قصيرة، تعبر عن الحالة النفسية للكاتبة،حيث تبوح بفوضى مشاعرها المختزنة من الوجع، الفراق والحنين والاشتياق لوالدتها المتوفاة، وقد أكثرت من رسائل الشوق ومخاطبتها لوالدتها من خلال نصوصها، كما وجهت خطابها أيضا إلى صديق.
وقد وجهت النصائح للمرأة من خلال بعض النصوص المتعلقة بالمرأة كيوم المرأة العالمي ويوم الأمّ.
تطفو مشاعر الحزن على النصوص، هي آهات أرادت الكاتبة أن تشاركنا إياها، تقول”انتفضي يا حروفي فقد ضقت ذرعا بصمت الأشواق””الجسد يا صديقي ضاق ذرعا بوجعه” “تعبت عشقا لأجراس الرحيل.”
جاءت هذه النصوص بأسلوب سهل بسيط وبعض الرمزية، نقرأ من خلال نصوصها مشاعر القلق والوحدة، ونجد تكرار الخريف في نصوصها للدلالة على حالتها النفسية المتعبة، والحاجة للبوح للآخرين؛ كي تشعر بالراحة، وقد انتصرت مشاعر الأمل في نصوصها رغم الألم والحزن.
هناك تفاوت بين قوة النصوص، حيث يمكن اعتبار بعض النصوص كمواضيع تعبير خفيفة تحتاج إلى تعديل وتطوير في أدواتها الأدبية، والبعض الآخر هي نصوص جاءت بشكل أقوى مقارنة بالأخرى، وقد جاءت عناوين النصوص ملائمة ومعبرة.
وقالت فاطمة كيوان:
مجموعة نصوص أهدتها الكاتبة وفاءا منها لروح والدتها وشقيقتها
ولأبنائها الذين ساندوها في الكتابة والنشر هم وزوجها.
الكتاب عبارة عن مجموعة من النصوص منها النثرية، ومنها القريب للشعر، وفيها بوح هواجس وخواطر الكاتبة نسجتها وغفت فيها على كتف الذكريات.
تنقلت بها أيانا بصورة سلسة تراكمية، وأحيانا قفزت بنا قفزات نوعية استتشقت بها عبيرا من عبور طيف الأم خاصة، ذات الحضور الأبدي في القلب، كما الجميع لتساعد نفسها على تقبل الغياب، وتكون في أفضل اللحظات.
كما ورد في العديد من النصوص منها ص 37 وصفحة 39 وصفحة 40 حيث تقول:
” “عذرا أحبتي الأمّ لا تموت.. الأم تحيا بحياة الخلود .. ويبقى نداؤك أجمل نداء”.
وفي عشرين – استذكار الأم في كل اللحظات.
وهذه الخواطر تحديدا عزفت على أوتار قلبي حين قرأتها، وفجرت مكنونات ذاكرتي، فتحت دفاتري وكل الأبواب لأحاديث الأحبة؛ لتنقل نفس الصور أحيانا، ونفس الانفعالات الصامتة منها والهواجس الدفينة التي تعترينا وتغرقنا في دوامة الصمت، والذاكرة التي تأبى النسيان لحظات من الاغتراب والحزن تغمر قلبي، كنا غمرت قلب الكاتبة في المناسبات العديدة منها: آذار المرأة، عيد الأمّ، ورأس السنة بوفاء لمن سبقونا الى الحياة الأبدية، وسقونا قبل رحيلهم من أنهار الحب.
يرحلون بأجسادهم ولا يرحلون من القلوب. لأنهم مصادر النور والحب.
في أكثر من نص وعنوان تكرر الكاتبة مشاهد وتعابير الحزن منها::
نهر النسيان، الوجع، الصمت، نهر الأحزان، أزقة النسيان، غبار الذكريات، عتاب، فراق.
كلها تعابير تدخلنا لحالة من الألم، وربما اليأس حتى نهاية الكتاب حين تقول:
كل الطيور المهاجرة تبشر بخريف قادم، رغم ربيع في الروح جميل ص 73، ويا حبذا لو تطرقت فعلا لموضوع استمرارية الحياة وشعاع الأمل والضوء الذي يمكننا أن نستمده من رحلة الفقدان خاصة لمن كانوا مصدر قوة والهام ونور لأرواحنا.
لان الموت هو الحقيقة الوحيدة التي لا نستطيع تغييرها وعلينا ان نكمل بعدها المسيرة.
وكتبت فوز فرنسيس:
أن أقرأ الكاتبة عدلة شدّاد خشيبون وما تنشره على صفحتها في الفيسبوك أو في مواقع أخرى وأبدي اعجابي، أمر يختلف كثيرا عن قراءة جملة من نصوص منتقاة جُمعت بكل عناية ودقّة في كتاب حمل عنوان “همسات وتغاريد.”
لقد استوقفني عنوان الإصدار، ووجدتني أبحث في معاجم اللغة عن أصول الألفاظ. قال ابن فارس في “معجم مقاييس اللغة” إن الهاء والميم في “همسَ” يدلّان على خفاء صوت وحسّ، والهمس هو الصوت الخفي، بينما “غرّد” تغريدا الطائر أو الإنسان، أي رفع صوته بالغناء وطرّب به، وتغاريد جمع تغريد أي زقزقة العصافير وترديد أصواتها، وفي معجم “لسان العرب” لابن منظور، التغريد هو صوت به بَحَحٌ. فما أجمل هذا التّمازج بين اللفظتين في اختيار عنوان الإصدار، بين خفض الصوت حينا ورفعه حينا آخر، وكأني بكاتبتنا تخشى حينا أن تجهر بكلماتها فتهمسها لنا، وحيناً آخر نجدها ترغب في إطرابنا وفي إيصال فكرة؛ فيعلو صوتها ويزهو طربا مغرّدا ممزوجا ببحّة خفيفة خفيّة تكاد لا تُسمع تميّز صوت “عدلة.”
لست بحاجة إلى جواز سفر لدخول عالم عدلة الأدبي، فقد أعجبتني لغتها من خلال إصدارها الأول “نبضات ضمير” ومن خلال عرافاتها المميّزة لبعض الأمسيات الأدبية في نادي حيفا الثقافي. كاتبة مبدعة تطرّز كلماتها بعناية وصدق، أوليست كلماتها مرآة واضحة تعكس ما بداخلها من محبّة وصدق وروح جميلة؟
أهدتني همساتها وتغاريدها مؤخرا، وكان قد شوّقني ما قرأت عنه من قبل بعض الأصدقاء، تأملت صورة الغلاف وعادتي أنش لا أتوقف كثيرا عند أغلفة الكتب، فقرأت فيه الحزن والفرح، الأرض والفضاء، العتمة والضوء الذي احتل مساحة أكبر يفصل بين الفضائين عصفور يحتلّ حيّزا لا بأس به، متّجها برأسه صوب النور مغرّدا؛ ليتمازج مع عنوان النصّ.
جاء الكتاب في ثلاثة وثلاثين نصّا، وتساءلت أهو محض اختيار أم هناك إشارة ما كأن تكون مثلا عدد السنوات التي قضاها السيد المسيح على الأرض، لكن هذا الأمر لم يشغلني كثيرا، فانتقلت لعناوين النصوص؛ ليتكشّف أمامي بعض الحزن الذي يغلّفها، ولفت انتباهي استخدام لفظة دمعة في بعض العناوين “حكاية دمعة”، “دموع الأسرار”، “أسرار دمعات عاتبة”، “تهنئة دامعة”، هذا إضافة إلى كلمات مثل خريف، حلم، غروب، وجع، أسرار، صمت، عتاب، شرود، حنين وأشواق وغيرها من ألفاظ لا تخلو من معاني الحزن.
بدأت بقراءة النصوص ووجدتني أمام تدافع في الأفكار، المضامين والعمق الفكري، الصور والتشبيهات الجميلة، اللغة الغنيّة والتي تميل إلى الشاعرية، الألغاز التي تطلّبت قراءة ثانية استطعت حلّ بعضها، وعصي علي الأمر في أحيان أخرى، وسأتطرق فيما يلي لبعض الأمور التي أعجبتني واستوقفتني:
المناجاة والحديث مع الأمّ الراحلة “الحاضرة” دائما رغم البعاد في وجدان الكاتبة، تشاركها بكل ما يحدث معها، ظهر ذلك بكل قوة ووضوح في غالبية النصوص، وأذكر على سبيل المثال؛ “أمّاه لا تخافي هي قصة أسطورية بنكهة الخيال”(ص 16)، “أمّاه .. أسيرة أنا، سيكتبني التاريخ بسجن الحرية” ص 25، “أمّاه اعذريني فجرحي اليوم مفتوح وسيل الدمع غزير” (ص 32)، “أنا بخير يا أمي، وقد رفعت الكأس عاليا، وتجرّعت نبيذ المحبة مع الأحبّة”(ص 33-34)، “هو وصدى الأحلام يا أمّي عاد من جديد” (ص50)، “هي المتناقضات يا أمّي تحمل عبء الأيام ..”(ص51)، “موجوعة أنا يا أمّي وصفير قاطرتي بعيد بعيد”(ص53)، “أمّاه .. لماذا ابتلع لعابه وبصقه في زحمة تزاحم الحقيقة”(ص60) وفي مواقع أخرى كثيرة.
وكأني بالأمومة والأمّ باتت موتيـﭬـا خاصا بكاتبتنا، يسكنها ويسكن حرفها حتّى بات صعبا التنازل عنه، كيف ونحن نراها إضافة إلى توجّهها الدائم للأمّ في غالبية النصوص، تكرّس بعض النصوص لها فقط، فمثلاً في نص “تهنئة دامعة” (ص39)، تعلن فيه أن أمّها لم تمت وأنها لا تزال تحيا بين أضلعها وتتنفس من هواء عطائها النقيّ، منها تستمدّ طاقتها وهي شمسها، أمّها قصة المحبة والعطاء وهي البطلة ولها كل الأدوار. لا أنكر أن العنوان استوقفني وفاجأني بمزجه بين التهنئة والفرح الكامن بين ثنايا اللفظة والدمعة. واستبشرت أملا من العنوان وظننت أن النصّ عن فرح ما، وأنّ الدموع دموع فرح، ولكن سرعان ما تكشّف الأمر؛ لأفهم أنها تهنئة بمناسبة عيد الأمّ، فرغم مرور عشرين سنة على رحيل والدتها، لكنها لا تزال حاضرة في نفس عدلة وحياتها، ولمست في كلامها صدق المشاعر وعمقها، وفاءها وإخلاصها لأمها، ونراها في نص آخر “عشرون وذكريات”( ص37) تخاطب والدتها وتبوح لها ولنا بأحد أسرارها، فآخر طبخة أعددتها الأمّ قبل وفاتها لعدلة وأسرتها، قُدّمَت في قدّاس ذكرى الثالث فأكل منها الجميع وكأنّها قربان لهم. ما أجمل هذا الوفاء! ويا للمحبّة غير المتناهية! إذ لم تشأ عدلة أن تأكل وأسرتها هذه الطبخة الأخيرة من يديّ أمّها، بل فضّلت أن يتشارك كل الأهل والأقارب بها. قد يحتفظ الانسان ببعض ذكرياته مع أعزّ الناس، وقد يصعب الإفصاح عنها والتنازل عنها، قد تتعبه وتؤلمه وها نحن نرى كاتبتنا تفشي هذا السرّ على الملأ، وتشاركنا به بعد مرور أكثر من عشرين سنة على وفاة الأمّ.
أشير هنا إلى أني لست بناقدة، وقد يعيب البعض هذا الاستخدام الكثير للأمّ في النصوص إلى هذا الحدّ، وقد يرى البعض أنها خطة شفاء من ألم لا شفاء منه، وأقول تبقى الأمّ في المنزلة الأعلى مهما اختلفنا في الرأي.
الأمل الذي تختم به الكاتبة قسما لا بأس به من النصوص رغم الحزن المتبعثر فيها؛ إضافة إلى الفرح، القوة، التحرّر والعنفوان: “تناثري وتناثري فتناثرك مبعث آخر للأمل” (ص 18)، “ولنكمل مشوار العطاء ببسمة أخرى من آذار المرأة، آذار العطاء وزهر اللوز والبيلسان” (ص 42)،”اضبطوا ساعاتكم، فبالساعات وحدها يتحرر الوقت ويحلو اللقاء” (ص48)، “أنت امرأة كونيها بكل عنفوانها وغوصي في محيط الأحلام، وحلّقي في سماء العطاء” (ص52)، “انتفضي يا حروفي فقد ضقت ذرعا بصمت الأشواق” (ص56)، “… ليغرّد عصفور الحرية أغنية جديدة تليق بحياة راغدة جميلة، فكن لها” ( ص60)، لتختم الكتاب بروعة الكلام “… رغم ربيع في الروح جميل” (ص73).
كاتبتنا بنت الطبيعة بكل فصولها، تكثر من حديثها عنها في همساتها وهي ابنة الأرض وصديقتها الوفيّة، نصوصها مطعّمة بخيرات الأرض كالزّعتر، الحنطة، البنفسج، الجلنار، اللوز، البيلسان، الصبر، الريحان حتى للأشواك نصيب كبير في النصوص، ويتكلّل هذا التمسّك بالأرض في نصّ رائع “الأرض صديقتي الوفية” (ص29) احتفاء بذكرى يوم الأرض، فيه يظهر مدى التعلق والتشبّث بالأرض، تقول: “عانقيني أيتها الوفية وسامحي قدميّ إن داستا على ترابك المقدس بعفوية”، “في يومك لن أحتاج أن أتبرّج؛ لأكون معك.. سأخرج إليك أعانق روحك وأخلد لغفوة على صخرة دافئة بعبير أزهارك والربيع”، فهل أوفى من هذا الوفاء الذي يخشى أن يطأ الأرض خشية أن يلوّثها؟ وهل أسمى وأجمل من هذا العناق؟
وجدت كاتبتنا تجاهر بقوّتها وعنفوان المرأة، كرامتها وحرّيتها بصورة واضحة في بعض النصوص، ففي ” يوم وامرأة” (ص41)، نراها تعلن عن فرحها بيوم المرأة العالمي” ما أجمل حظّي اليوم! فلي يوم عالمي بامتياز، يوم يضعني في زاوية العالمية ليوم” وهي تتوجه لكل امرأة مخاطبة إيّاها” كوني المرأة التي في داخلك واتركي المرأة التي في داخلهم، فلَكِ يوم، كونيه سنة”. وفي “بطاقتي ليست للبيع” (ص51) تقول “كل عام وأنت جميلة، لا تقذفها عاصفة الجهل، لا، ولا تلوي أغصانها رياح القمع والظلم”، “أنت امرأة، كونيها بكل عنفوانها.”
قرأت في بعض النصوص قصصا قصيرة تحتوي على عناصر القصة أو بدايات لقصص: “صدى الأحلام”، “بطاقتي ليست للبيع”، “ظمأ الشوق وحنين اللقاء”، “رسمة حجر”، وراقني عمق الفكر والتجربة الحياتية أكثر في بداية “رقصة الحبر”(ص67)، ووجدت نفسي أقرأ حكما ونصائح رائعة: “لا تدع حلمك في محطة الانتظار، فهناك برد الليل، ينتقم من كل دفء”، “لا تنتظر قطار الغد فقد يزيد سرعة بطئه إلى تأخر غير معلوم”، ” .. خذ من سرعة البرق بريق الأمل”، وحبّذا لو أكملت كاتبتنا هذا النص على نفس النهج فأتحفتنا ببعض تجربتها الحياتية في الأمور، لكانت كلّلت إبداعها بتاج الحكمة.
عدلة شداد خشيبون ابنة قرية “البقيعة” ما انعتقت وتحررت من جمال طبيعة الجليل الأخّاذة، فنرى ألفاظها وأسلوبها المتأثر والمشبع بهذا الجمال، وفي ثنايا نصوصها شعرت حقاً أني أقرأ حكمة وفلسفة جبران خليل جبران: ” وجدت الحب يتربع بثقة ونبضات القلب توزع إيقاعها بلحن الوفاء أو ميخائيل نعيمه: “تناثري وتناثري فتناثرك مبعث آخر للأمل”، وهي إلى جانب هذا التأثر نلمس لغتها وأسلوبها المفعم بالصور الجميلة والتشبيهات، لا يمكنك أن تمرّ عليها سريعا، بل تجد نفسك تتأمل وتعيد القراءة ثانية وتبدي استحسانك، وهنا أذكر بعضا قليلا من هذا الجمال؛ “هي الحياة يا صديقي بحر صدق على خارطة الطريق” (ص 16)، “الحلم يحب أن ينام” ، “ألهو في بستان الحياة” (ص 20)، “تنزع شويكات الصبر عن قلبها الرهيف” (ص21)، “أصالح الذات لأراني ملفّعة بشال الغربة ومنتعلة صقيع الظلم” (ص 22)، “هي صفعتك يا قدر ألزمتني فراش الأمل” (ص 27) “تقوّس به حبل المحبة بألوان الطيف”(ص33)، “وجدت الحب يتربع بثقة ونبضات القلب توزع إيقاعها بلحن الوفاء”(ص70)، وكذلك أبرقت سماء عينيها، فاصلة الزمن، نبيذ المحبة، أشواك الرحيل، نهر الأوجاع وغيرها كثير.
لمست بعض الرومانسية الحالمة البريئة والجميلة، وبشكل خاص في “صدى الأحلام” (ص49-50) وذكرت يمكن اعتباره قصة قصيرة. تقول: “فالحب الذي يعشّش في قلبه قد ضاق ذرعا بعشّه ونبض قلبه بات مزعجا لقفصه الصدري”، ” ما أقوى ساعديك أيها الحب! وما أعظك نبضات روحك!”، “وعاد يدق شباك حنينها” إلى غير ذلك من العبارات الرقيقة.
عدلة الإنسانة المشبعة بالمشاعر وبالحب، الأمل، جمال الروح، الوفاء والصدق جاءت كلماتك صورة لذاتك فهنيئا لك وهنيئاً لنا بكاتبة تتقن الكتابة فيعزف حرفها على أوتار القلب، دام حرفك ربيعاً كما روحك.
وقالت صباح بشير:
أستهلُ حديثي بالقول بأنه لا يمكننا فصلُ الأدبِ عن الحياةِ الواقعية، فالأدبُ يَصفُ الواقعَ بكلِ صورهِ وأشكاله، يقدمُ لنا النماذجَ على صعيدِ الفردِ والجماعة، وذلك في إطارِ حالةٍ إنسانيّةٍ أو حدثٍ ما، كما يُساهمُ في الارتقاءِ بمفاهيمِ المُجتمع، ويلقي الضوءَ على تجاربِ المبدعين، التي تثري التجاربَ الإنسانية بشكل عام.
عندما نقرأ نصًا أدبيّا فإننا بذلكَ نقرأُ تجرِبة حيّة، كُتبت برؤية صاحبِها ومداد قلبه، ليعبّر عمّا يجولُ في خاطرهِ من أفكارٍوآراء، وعمّا يكتنزُ في وجدانه من حسّ وشعور.
هكذا تتاحُ لنا فرصة المعرفة والاطلاع والتعاطف مع من خاضوا تجارب الحياة المختلفة، فنتعلمُ منها الكثير، ونختبرُ ظروفا وأحداثا لم نعرفها من قبل، ولم نجربها بعد.
همساتٌ وتغاريد، مجموعة من النصوصِ المنتقاة والنسج النثريّ والخواطرِ والصورِ القلميّة، جُمعت في قالب فنيّ وصياغة أنيقة.
نستشفُ في هذه المجموعة اعتمالاتٍ نفسيّة تعكس شخوصا وأحداثا وجوانبَ مختلفة من حياتنا، كما نلمس سطوة الثنائية في كلّ أجزائها، فبين اليأس والتفاؤلِوالفرح، تبقى لوحة الحزن غالبة مسيطرة.
ولعلّ أول ما يُنبئنا به العنوان، همساٌ وتغاريد، أنه يقدّم صيغة ثريّة، توصل إلى مقاصد الكتاب ودلالته، وكأنه المفتاحُ الضروريّ لسبرِ أغوارِ النصِّ والتعمقِ في شعابهِ، فجاء ملتحما بمحتواهُ عاكسا لمرآهُ ومكنوناته، واصفا الحالةَ الوجدانيةَالتي عاشتها الكاتبة.
فالتغريدُ هنا يشي بالبوح، الترتيلُ والإنشاد، والهمس يشي بصوت التكلُّم الخفيّ للآخر والذكريات، وهذا ما عكس لحظات التأملِ في أقسى أوضاعها، وقت العودةِ للذات والاشتغال في فضاءاتِ التذكر والتخيّلِ والكتابة. وكأنّ عدلة راحت تبث! شكواها لتخفف بذلكَ لوعة الفراق، وتبعثُ في نفسها الراحة والصفاء.
فحين يغيّب الموت أحد الأحبّة، تبقى رؤى المبدع هي من تبلسم ضعفهُ الإنسانيّ. يحضرُني هنا ما قال شاعرنا الكبير محمود درويش: الموت لا يوجع الموتى .. الموت يوجع الأحياء!
وبهذه المجموعةِ من الشذرات والنبضات، استعادت الكاتبةُالفقد، وهذا ما وصفته بصدق وتدفق، فكانت صورة الأمّ مترابطة لا متناهيّة، ظَهَرت في قالب يحمل شيئا من روحها أحيانا، أو يحمل فلسفتها في تجاوز الألم أحيانا أخرى، واسترسلت تمَضي معتمدة أساليب هادئة يسيرة، شاعريّة المشهد، الحركة والإيماءات.
اعتبرت الحياة قيّمة ثريّة بما يتذكر الإنسان، استهجنت الفناء، واستحضرت الغيابَ بحضورِ النصّ، قبضت على اللحظةِ الشعوريّة، وتمكنت من البعثِ مرة أخرى، فمواكبُ الراحلين لم تغادرها، بل ظلّت بداخلِها تنمو كشجرة، فكتبت بالحنينِ وحبرِ القلبِ على حوافِ النص طريقةً جديدةً لصياغةِ الحياة، همست بوشوشةِ البحر، وغرّدت بشوقِها للراحلين.
وأمامَ تلكَ الحالةِ الحسيّة ومناجاةِ الأمّ الراحلة، نقف أمامَ الوصفِ وجمعٌ من الأسئلة والمواقف، ونَسَقٌ جميلٌ من الدهشةِ والبهجة.
وهنا، لا بدّ من التّطرقِ إلى الصدق، فهو كما استَشعَرتُه، كان العنصر الأهمّ في هذه المجموعة، بما نبعَ من عفويةِ الخاطرِ وفاضَ بوطأةِ الشعور، فالصّدقُ هنا حرّرَ الذاتَ المبدعة، أطلقَ سَجيّتَها دونَ تجميلٍ أو إضافة، وجعلها تنطلقُ مسترسلة، بتلقائيةٍ طبيعية.
أمّا عناوينُ النصوصِ فقد مثلّت تلكَ البوابةُ الفنيةُ المبدَئيّة، التي يجتازُها القارئ، وينطلقُ منها إلى باقي الصَفحاتِ بفضولٍ كبير، تلك الصفحاتُ التي ازدحمت بثيّماتِ المشاعرِ والدموع، الحلم والأسرار، الشوق والذكريات والنسيان، وألم شفيف مزخرفٌ بحريرِ اللغة.
وبما يخصُّ الفكرة، فقد حققت التوازنَ والترابط في الجُملِ والألفاظِ والتراكيب، كانت واضحةً متماسكة، بعيدةً عن التكلّفِ والتعقيدِ أو الجفاف، وبعاطفةٍ صّادقةٍ عبّرت الكاتبةُ عن نفسها، اعتمدت وجدانيةَ الأسلوبِ والتنوّعِ في المواضيع، فما بينَ الومضةِ واللقطةِ والخاطرةِ الإنسانيةِ والاجتماعية، امتازت السطورُ بالإيجازِ وقوةِ التأثير، تزاحمِ الصُّوَرِ والتشبيهات، بساطةِ الألفاظِ والاتِّساقِ مع الدفقةِ الشعوريّةِ المرافقة.
كما وُظِفَت المفرداتُ بطريقةِ التكثيف، بمعنى إيجازٌ مكثفٌ يترك إيحاءاتٍ تتداعى عند القارئ، وذلك بالقليلِ من الألفاظِ والكثيرِ من المعاني التي تحملُ الانفعالات، وما إلى ذلك مما يُفَعِّل ذّهنَ القارئ.
وعن اللغةِ فقد استمَدت تفاعلاتِها من قلب الحدث، استُخدِمت اللغةُ الواقعيّةُ الحيّة، التي لا تحتاجُ إلى معاجمَ أو قواميس، وشُحِنَت بالعواطفِ الجيّاشةِ والحسِّ الإنسانيِّ الشَفيف، والأسئلةِ الوجوديّةِ والتماسكِ التعبيريِّ سرّدا ووصفا، تَمَكّنت من الولوجِ إلى فضاءاتٍ متخيّلَةٍ وعوالمَ جديدة, فوصفت الواقعَ ونقلَته، وزادَت في معانيهِ سَعَةً ونَمَاء.
أخيرا، فمن يعرف الكاتبةَ عن قُرب، يعرفُ بأنها تتميّزُ بعفويتِها وإنسانيّتِها، فهي تسكبُ ذاتَها مع كلِّ سطرٍ تخطّه، ودائما ما تشي كتاباتُها بتفاعُلِها الإيجابيِّ معَ محيطِها، لذا فهي تصعدُ إلى معارجِ الوجدِ في عالمٍ من السكينةِ والرواء.
وقالت رائدة أبو الصوي:
أيّ إطار وضعت به تلك الشذرات، بالنسبة لي وجدت فيها حلاوة بوح جميل، بالقطارة كانت تنقط العسل، كانت تترجم مشاعرها واحاسيسها
من بين السطور كنت أجد الأشخاص،وجدتني أمام كاتبة متميزة بثقافة إنسانية عالية، لديها مفردات جذابة معطرة بشذى الزهور عندها وفاء وانتماء قوي للعائلة، للأمّ وللأخت، أمّها وداد وأختها عفاف. وجدت كل من دخل القلب وعانق الروح هامسا مغردا موجودا.
بدأت الرؤيا تتضح في أسرار دمعات عاتبة،من هنا بدأت أجد جمال النصوص صورا ناطقة، وجدت أمامي كاتبة راقية تحترم الغير
وتقدرهم حتى لو ظلمت.
في نص شكرا لمن أهداني صفعة على الخد، فمن خلالها تورد الخد وأزهرت أشواك غربتي. تنظر للنصف الممتليء من الكأس وتتبع نهج المسامح كريم .
في النصوص حنين وأمل، في النصوص شوق ووجع، تطرقت ليوم المرأة بصورة جميلة جدا، بنفسجتي المختبئة بين أشواق الرحيل لا تخافي .
وجدتني أمام تناص مع اغنية كاظم الساهر، كوني امرأة نمرة .
حلو مصطلح زمكانية الذي جمعت به الزمان والمكان، صباحك كمسائك
بالخير معطر، فساعتي شتوية بدفء اللقاء .
ربيعية تنتظر، ورد البيلسان، هنا أقف أمام خطأ البيلسان عزيزتي ليس ورد بل زهر. هناك فرق بين الوردة والزهرة.
عجبتني هذه الفقرة:” أنا لا احب ذاك المتملق، الذي يغرف من جعبة غيره ليروي غروره، ويغفو على صخرة احلامه كنسر عنيد.