صدرت رواية الفتيات والفتيان “أنا من الديار المقدسة” للأديب المقدسي جميل السلحوت قبل أيّام عن مكتبة كل شيء في حيفا، وتقع الرواية التي يحمل غلافها الأوّل لوحة للفنّان التشكيليّ طالب الدويك، ومنتجها وأخرجها شربل الياس في 62 صفحة من الحجم المتوسّط، في حين يحمل غلافها الأخير صورة لحفيدتي الكاتب لينا وميرا ابنتي قيس ومروة..
هم مغتربون عن الوطن، لكنهم يحملونه بين ضلوعهم. يقتلهم الأنين ويذوب ثلج قلوبهم على حدود أرض الياسمين، وتبقى تلك الدّمعة الغائبة في حضن العيون. تركَ كلّ مغترب روحه تجول في ربوع الوطن بين الحارات والطّرقات، بين الأزقّة وسفوح الجبال الشّامخات. تركها بين الطّبيعة والأطلال وشوق الأهل والأصدقاء وأجمل العلاقات. لملم المغترب الذّكريات ولم ينسَ العقيدة والتّراث والحكايات.
الكاتب المقدسيّ (جميل السلحوت) يخرج إلينا من جديد بعمل أدبيّ للفتيات والفتيان، ويزرع في قلب كلّ مغترب ذلك التّحفيز العظيم بأن لا يتخلّى عن وطنه الأمّ المتأصّل في أعماقه، مهما بَعُدَ المكان أو طال الزّمان. فكرة هذا العمل الأدبيّ تنصهر من أرض الواقع، وهي قريبة جدًا إلى العين والذّهن والمشاعر.
” أنا من الّديار المُقدّسة” رواية موجّهة للفتيات والفتيان.
ويحتدُّ النّقاش في أجواء الفصل الدّراسي في المدرسة الإبتدائيّة “المنتسيوري” في ولاية إلينوي وفي مدينة شيكاغو الأمريكية، وذلك عندما بدأ بين ( لينا) من مدينة القدس و( ميليسّا) من مدينة بيت لحم، وبين المُدَرسّة ( سوزي) الأمريكيّة الأصل، بأن لا وجود لفلسطين على الخارطة، وأنَّ كلّ شيء هو ملك لليهود؛ لأنّها الأرض التي وعدهم بها الله في دينهم وكتابهم.
وإن كان الأهل العرب يدركون تلك الحقيقة المُرَّة لهذا الاحتلال الذي أصبح مشروعًا لهم حسب الدّستور الأمريكي. وأنَّ الشعب الأمريكي يعيش على الترويج الكاذب للحقائق التّاريخيّة، فما عليهم أولئك الأهل العرب إلاّ الصّمود والنّضال في مكافحة هكذا تضليل وتزييف للتّاريخ.
هذه كانت أحداث مقدّمة الرّواية، حيث وضعنا الكاتب في لحظات حرجة حين قرار الأهل نقل ابنتيهما إلى مدرسة عربيّة إسلاميّة تحكمها جميع العادات الطيّبة واللغة العربيّة الأصيلة. وقد عمد أديبنا وكعادته إلى إظهار التآخي الوطنيّ والقوميّ بين الدّيانة المسيحية لعائلة ( ميليسّا) والدّيانة الإسلاميّة لعائلة ( لينا) أمام أي تحدٍّ يمسّ بالوطن فلسطين.
أمّا الحبكة هنا فبدأت عندما اجتمعت إدارة المدرسة مع الأهل للخروج من هذا المأزق التي حاولت به المُدرسة ( سوزي) تغيير حقائق عاشتها الطّفلتان (لينا وميليسّا) منذ صغرهما، وتربيّتا على حُبّ كل شبر وقطرة ماء ونسمة هواء من أرض فلسطين والقدس وبيت لحم.
نجد أنَّ الإدارة تستفيق من صدمة طويلة عاشتها، ويعيشها شعب بأكمله على الخداع والتّمويه والأخبار المزيّفة. أمّا الأديب السلحوت، فيستخدم هنا كلّ طاقاته المتاحة له ليرسم سيناريو عمليّا ومشاهِد مُحكمة بريشة مهندس، وذلك ليفضي للقارئ صورة كاملة عن أوضاع الشّعب الفلسطينيّ اليوميّة المأساويّة التي يعيشها على أرض وطنه تحت احتلال بغيض أهلك البشر والشّجر والحجر.
قرّرت المعلمة (سوزي) ومديرتها (جاكلين) زيارة الدّيار المقدسة والوقوف عن كثب على أوضاعها. فزارتا القدس وبلدتها القديمة، وزارتا بيت لحم والبحر الميت في جولات سياحيّة، بالنّسبة لهما كانت أغرب من الخيال. وقد قصد كاتبنا أن يوفّر في هذه الزّيارات أكثر المشاهد عُنفًا وظُلمًا، فكانت المظاهرات والقمع بالرّصاص والغاز المسيل للدّموع والذي نالهم منه نصيب. وقد قُتِل شابّ فلسطينيّ أمام أعينهم وأمام عيون والدته الثّكلى. شاهدوا المذلّة على الحواجز العسكريّة والمعاملة الفظّة هناك، وكذلك شاهدوا عمليّات التّنكيل بالشّعب البسيط الأعزل على نقاط التّفتيش، وأمّا شكل جدار التّوسّع الإسرائيلي، فحدِّث ولا حرج. وما زاد الطّين بِلّة أنّهما سمعتا في الأخبار الأمريكيّة عكس ما شهدتاه على أرض الواقع، ومن هنا نضجت الفكرة وعَلَت على السّطح الحقيقة، وتأكّد جزء بسيط من الشّعب الأمريكيّ من تلك الكذبة الكبيرة التي يعيشونها. فتعودان وترفعان العلم الفلسطينيّ فوق بيتيهما وتُعَرِّفان عليه بأنّه علم ( الهنود الحمر ) في الشّرق الأوسط.
لم يبخل الكاتب السلحوت في إثراء القارئ بالمعلومات التّاريخية والدّينية عن فلسطين بهدف زرع الحقائق لدى كلّ باحث عن ديارنا. فكان هذا الإنجاز الأدبيّ بمثابة مرجع للكبار وللصّغار إضافة إلى إقحامه إسم المفكّر الفلسطيني (إدوارد سعيد) في الرّواية وعن كتبه التي تشرح القضية الفلسطينية.
إستخدم أديبنا اللغة البسيطة والمعاني المباشرة دون تكلّف أو تعقيد، وعمد إلى سلاسة تطوّر الأحداث في الرّواية بعيدًا عن الخيال، فالكلمات كانت لها ذلك الأثر النّفسي المؤلم الذي يؤثّر على نفسيّة المتلقّي. وأسلوب السّرد لا ينقصه عنصر التّشويق.
يبعث الأديب المقدسيّ (جميل السلحوت) بإحساسه السّاخن وقلبه الدّافئ وقلمه الدّافق برسالته الواضحة لكلّ مظلوم على أرض فلسطين، ولكلّ مغترب أوشك على نسيان وطنه، أنَّ النّضال واجب، وأقلّها بالعِلم والثّقافة، لمواجهة التّحديّات. وأيضا الإستمرار في التّشبثّ بالمواقف الوطنيّة والدّفاع عن كلّ ما يمسّ بقدسية الوطن التي لا تقدَر بثمن، فلا شيء يشبه الموت كالبعد عن الوطن، فالوطن الحياة بكلّ معانيها.
1 اكتوبر 2020