وإذا أراد المتابع المهتم أن يرى مدى عقم مناهجنا التعليمية، فهذا يتطلب منه أن يطلع على على نماذج من المناهج المطبقة في الدول المتقدّمة في مختلف المجالات، مع التأكيد على أن التعليم في بلداننا نحن العربان يعاني من مشاكل متداخلة، ما أن تخرج من إحداها حتى تدخل ما تلاها وهكذا الى أن تعود الى النقطة التي انطلقت منها، فمناهجنا مضخمة والنتائج المرجوّة منها غير مدروسة، وفي غالبيتها لا تتطوّر مع تطوّر الحياة، فمثلا مادّة التاريخ العربي تتكلم عن الدّولة الاقليمية، ولا تقدّم للطالب أن الوطن العربي دولة واحدة، جزّأتها اتفاقات سايكس بيكو الى دويلات تقاسمتها الدول الامبريالية للسيطرة عليه وعلى خيراته، بل على العكس هناك وصف لبعض الشعوب العربية الصغيرة بأنّها أمّة! وهذه عملية تعليمية تضليليّة وتجهيليّة للطالب، تكرّس الاقليمية والتشرذم، أمّا المواد العلمية فتكاد تكون أمرا ثانويا في مناهجنا، ونحن هنا –أقصد العربان- نغرّد خارج السرب، فكثير من “مفكّرينا” خصوصا “المتأسلمين الجدد” يعتبرون العلوم الشرعية أساس العلوم، في حين أنّ العالم يعتبر الرّياضيات أساس العلوم، فلذلك هم غزوا الفضاء الخارجي، وداسوا وجه القمر بأقدامهم ورفعوا أعلامهم عليه، وهم في طريقهم لاستيطان المرّيخ، بينما نحن نخرج من دنيانا فقراء مهزومين تفتك بنا الأمراض، راضين بذلك على أمل النعيم الذي ينتظرنا في جنّة الحياة الأخرى التي لا يعلم كنهها إلّا الله. ولم يتساءل “مفكّرونا” عن أسباب التقدم التكنولوجي الذي تعيشه الدول المتقدمة، تماما مثلما لم يتساءلوا عن أسباب التقدّم الاقتصادي الهائل في الدول المتقدّمة، فدولة مثل بلجيكا لا يزيد عدد سكانها عن سبعة ملايين شخص، ثرواتها تعتمد على صيد الأسماك وتصنيع الأخشاب من غاباتها، يعادل دخلها القومي دخل المملكة السعودية أكبر مصدّر للنفط في العالم. والحديث هنا يطول.
وإذا كان واضعوا المناهج عندنا لجنة يتم اختيارها من وزارات التربية والتعليم، وتلتزم المدارس جميعها في الدولة بتعليم هذه المناهج، فإن دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، تقسم الولايات الى مقاطعات تعليمية، وكل مقاطعة فيها لجنة لوضع المنهاج حسب الإطار التعليمي الذي يراه خبراء محترفون في الدولة، وتتابعه عاما بعد عام، بحيث أننا نجد أكثر من منهاج في الولاية الواحدة، وعند دراسة النتائج في نهاية كلّ عام دراسيّ تهتم الوزارة بالمناهج التي أثبتت جدواها وتقدمها للمقاطعات التعليمية للاستفادة منها دون فرضها عليهم، وهكذا تتم المنافسة الشريفة بين لجان وضع المناهج للوصول الى الأفضل.
ويلاحظ أن المستوى التعليمي العلمي لطلاب الصف الابتدائي السادس عندهم يفوق المستوى العلمي لطلاب القسم العلمي في مدارسنا الثانوية.
وعدم تجديد المناهج التعليمية عندنا كارثة حقيقية، فعلى سبيل المثال حتى ثمانينات القرن الماضي كان طلابنا يدرسون أن عدد سكان مصر هو ثمانية عشر مليون شخص، وهو عددهم قبل ثورة يوليو عام 1952.
وضخامة مناهجنا التعليمية، تثقل كاهل الطالب، جسديا ونفسيا، مع مردود معلوماتي قليل، ففي بداية العام الدراسي الحالي 2013 رافقت شقيقي داود مع ابنه علاء الذي يدرس في احدى مدارس شيكاغو في الصف الحادي عشر، سلّمت المدرسة علاء ستة كتب هي المنهاج المقرر لهذا العام الدراسي، وهي في عدد صفحاتها لا تساوي عدد صفحات الكتب المقررة للصف الابتدائي الثالث عندنا، مع الفارق في المضمون والمستوى.
أمّا وسائل التعليم المساعدة فحدّث ولا حرج، فمثلا عند تعليم الطلبة هناك عن الثروة الحيوانية في أمريكا مثلا، فانه يظهر للطلاب على لوحة فلما يبثه “بروجيكتور” تظهر عليه خارطة الولايات المتحدة، وتظهر الحيوانات في أماكن تواجدها تمارس حياتها الطبيعية، وكأن الطلاب يشاهدونها على أرض الواقع، وكذلك بالنسبة للأنهار ومصادر المياه من أنهار وبحيرات والثروة الزراعية وغيرها، وكذلك بالنسبة للمواد العلمية، فطلاب الصف الابتدائي الثالث مثلا يدرسون مبادئ الطاقة، وكيف تتحول من شكل الى آخر، وتقدمها المعلمات للطلبة مع التطبيق العملي على أجهزة مخصصة وموجودة في المدرسة.
وقد فوجئت هذا العام بوجود مادة اضافية لطلبة الصف الحادي عشر في أمريكا تتعلق بالعلاقات العامة واللياقة في التصرفات، مثل كيف تجلس على طاولة السفرة وأين تضع الملعقة والشوكة والسكين، وفي أيّ يد تحمل كلّا منها، وكيف تقدّم “المملحة”لمن يشاركك المائدة إذا ما طلبها منك، حتى أن علاء بن شقيقي داود قال لي بأنهم يعلموننا كيف نحكّ رؤوسنا، أو كيف ننظف أنوفنا؟ وكيف نخاطب والدينا وإخوتنا ومعلمنا ومديرنا، وكيف نسير بصحبة أيّ منهم. إنهم يعدون الطلبة للدخول الى مجال الحياة….وهكذا. فلماذا لا توجد أمور كهذه في مدارسنا؟ والحديث يطول.
“يتبع”
17-9-2013