محمود شقير الأديب المتجدّد والمتميّز دائما

م

جميل السلحوت:

البدايات:

محمود شقير الكاتب المقدسي الفلسطيني ظهر اسمه على صفحات الجرائد المقدسية منذ بدايات ستينات القرن الماضي عندما شارك في الكتابة في زاوية “يوميات” في صحيفة الجهاد المقدسية، لكنه وجد ضالته بنشر قصصه على صفحات مجلة” الأفق الجديد” التي أصدرها المرحوم أمين  شنار ما بين 1961-1966 في القدس أيضا، وظهر على صفحاتها أقلام فلسطينية ما لبثت أن أصبحت بارزة أمثال: الشهيد ماجد أبو شرار، المرحوم محمد البطراوي، يحيى يخلف، حكم بلعاوي، صبحي الشحروري،  الشاعر عبد الرحيم عمر، ماجد أبو شرار، نمر سرحان، خليل السواحري، د.ابراهيم العلم، جمال بنورة…وآخرين، وكانت قصصه الأولى لافتة لانتباه النقاد من حيث الشكل والمضمون، وقصته”خبز الآخرين” التي حملت عنوان مجموعته القصصية الأولى لقيت ردود فعل ايجابية واسعة، وأنبأت بميلاد قاص ذي شأن، وهذا ما كان.

وأديبنا منحاز الى الطبقات الكادحة، وقصصه كانت انعكاسا لفكره ومعتقداته اليسارية.

السجن والإبعاد:

شكلت حرب حزيران 1967 العدوانية وما ترتب عليها من هزيمة أوقعت ما تبقى من فلسطين والجولان السورية وسيناء المصرية تحت احتلال

غاشم، شكلت هذه الحرب انعكاسا حادا في مسيرة حياة الأديب شقير، لكنه لم يتخلّ عن القلم، فواصل كتابة القصة والنشر على صفحات مجلة” الجديد” وصحيفة “الاتحاد” الحيفاويتين، تحت اسم” ربحي حافظ” …وانخرط أديبنا في النضال ضدّ الاحتلال...ولهذا فقد تعرّض للاعتقال والتعذيب في  28 تموز 1969، كنتُ وقتها معتقلا اداريا في سجن الدامون الواقع على قمة جبل الكرمل، ذلك الجبل الذي تتربع على سفوحه مدينة حيفا بشموخ، لكن نزلاء هذا السجن لا يرون من جمال الطبيعة الخلاب في تلك المنطقة شيئا، فهم محجوزون عنه بجدران إسمنتية عالية، وبشبكات من الأسلاك الشائكة التي تعلوه فتبدو السماء مجزوءة أيضا….ومحمود شقير كان شابا نحيفا حينها، وزنه حوالي 50 كيلو غرام، فالرجل قانع بطعامه القليل جدّا حتى أيامنا هذه، ولم يزدد وزنه إلّا بعد ان ترك التدخين في ثمانينيات القرن الماضي، وقد تعرض لتعذيب قاس جدّا وقتئذ، مما أفقده بضعة كيلو غرامات من وزنه، وعندما أحضروه الى سجن الدامون بعد انتهاء التحقيق كان وزنه قد انخفض الى 44 كيلو غرام، وهو وزن الجلد والعظم والملابس، كان منهكا من نتائج التعذيب وقلّة النّوم وقلّة الطّعام أيضا، وكانت بقايا ضربة قويّة قد تركت بروزا ظاهرا على صحن عينه اليسرى، وصل المعتقل في أوّل يوم يعلن فيه معتقلو السجن إضرابا عن الطّعام للمطالبة بتحسين ظروفهم، ومع أنّ العادة السّائدة أن لا يشارك القادمون من غرف التّحقيق في هكذا اضرابات إلّا أنّ محمود شقير أبى أن يتناول طعامه وزملاؤه مضربون، ولم يرضخ لضغوطات قادة القسم من المعتقلين كي لا يشارك في الإضراب؛ لأنّ ذلك قد يهدّد حياته…وشارك في الإضراب لمدّة أربعة أيّام ….كان منهكا جسميّا، لكنّه قويّ في معنويّاته وإرادته، فلم تلن له قناة.

وبقي في الاعتقال الإداري لمدة عشرة أشهر، حيث تمّ الفراج عنه في 26 أيار-مايو- 1970. وكان أوّل مبدع فلسطينيّ يُعتقل من المناطق المحتّلة

عام1967، سبقه في حزيران من نفس العام خليل السواحري حيث أبعد الى الأردنّ.

تحرّر أديبنا من المعتقل ليفصله المحتلّون من عمله كمدرس، فعمل مدرسا في بعض المدارس الخاصّة ومنها المعهد العربيّ في أبو ديس، لكنّه واصل نشاطاته السّياسيّة، وواصل كتاباته الإبداعيّة، فنشر  في صحيفة ” الاتّحاد” ومجلة” الجديد” الحيفاويّتين قصصا موقعة باسم” ربحي حافظ” الى أن أعيد اعتقاله مرة أخرى في 19 نيسان 1974 وليتمّ إبعاده إلى لبنان في العام 1975…وهناك عمل محرّرا في مجلة فلسطين الثّورة، لكنه ما لبث أن عاد الى العاصمة الأردنية عمّان، حيث عمل في التّدريس، ومحرّرا في صحيفة الرّأي الأردنيّة، إلى أن سافر الى براغ؛ ليعمل في مجلّة” قضايا السّلم والاشتراكيّة؛ ليواصل نضاله وإبداعه إلى أن عاد الى أرض الوطن في أيّار 1993.

شقير القاصّ:

محمود شقير أديب كتب القصّة القصيرة، والقصّة القصيرة جدّا، وقصّة الأطفال، ورواية الأطفال والفتية، والمسرحيّة، والمسلسلات التّلفزيونيّة، وأدب الرّحلات، واليوميّات، والسّرة الذّاتيّة والغيريّة، والسرد الذي خلط فيه فنونا إبداعية مختلفة، لكنّه يقدّم نفسه للقراء ك “قاصّ” فقط ” أحب أن يعرفني القرّاء بصفة كوني كاتبا للقصّة القصيرة، بعد ذلك تأتي أنشطة كتابيّة أخرى متوازية مع كتابتي للقصّة، أو على هامش كتابتي لها”(1)

وقد كانت بداياته في كتابة القصّة لافتة للنّقاد والمهتمّين، فقصّة” متى يعود اسماعيل” فازت في المسابقة التي نظّمتها مجلّة” الأفق الجديد” عام 1963، وقصّة”خبز الآخرين” فازت بجائزة وزارة الإعلام الأردنيّة في العام 1966، وتلا ذلك تحويلها إلى تمثيلية جرى بثّها من إذاعة “صوت العرب” القاهريّة الّتي يتابعها ملايين المستمعين العرب في تلك الأيّام”(2)

وأديبنا كاتب محترف، وصاحب رسالة فهو يتسلح بالقلم ليخوض معارك اجتماعيّة وأخلاقيّة واقتصاديّة وسياسيّة،” أنا ضعيف خارج

الكتابة….الكتابة مصدر قوتي الوحيدة تقريبا…أستطيع عبر الكتابة أن أخوض صراعي المشروع ضدّ التّخلف والجهل وضدّ التّسلط والاستغلال”.(3)

وأديبنا يطوّر أدواته الفنّيّة باستمرار، فيأتينا بكلّ جديد دائما، وهو يزاوج بين الشّكل والمضمون بفنّيّة عالية، بلغة فصيحة بليغة، فهو “علم من أعلام  فنّ القصّة في فلسطين والأردن…..ذو حضور بهي يتجدد باستمرار مع كل اطلالة،….في كل مجموعة قصصية جديدة يصدرها ومع كل قصة يكتبها”(4).

والمتابع لحراك القصّة القصيرة في عالمنا العربيّ، سيجد أن اسم محمود شقير قد ترسخ كقاصّ مبدع ومتميّز على مستوى العالم العربيّ، ” يبدو شقير واحدا من كتّابنا القلائل الذي يمكن القول أنّهم تطوّروا لا على مستوى الفنّ وحسب، ولكن على مستوى ما يطرحه هذا الفنّ بشكل لا يجاريه فيه غيره من كتّاب القصّة، ليس على مستوى الكلمة الفلسطينيّة فقط، وإنّما على مستوى الوطن الكبير(5) وقد وصل شقير إلى العالميّة من خلال ترجمة العديد من مؤلّفاته إلى عشرات اللغات العالميّة، وروايته للفتيان” في انتار الثّلج” اعتبرت واحدة من أفضل مائة رواية في العالم.

شقير والقصّة القصيرة جدّا:

ومحمود شقير من المؤمنين بالتّجريب” أنا مع نزعة التّجريب، إذ من دون تجريب لن تتطوّر الأشكال الأدبيّة”(6) يخوض بحر التّجريب دائما، فيخرج علينا بما هو جديد ولافت، كتب القصّة القصيرة جدّا أيضا، وله أسبابه في ذلك حيث يقول:” أشعر عند كتابة القصّة القصيرة أنّني أحتاج الى أن أكون في المكان الّذي أكتب عنه، أتفاعل مع هذا المكان، وأحسّ جوّ هذا المكان، وأشعر بالنّاس الّذين هم في هذا المكان، ……….وحينما ابتعدت عن المكان على أيدي قوّات الاحتلال الإسرائيليّة، بدأت أفتقد المكان، والصّلة بالمكان أصبحت غير متحقّقة، بسبب النّفي، فلجأت الى كتابة القصّة القصيرة جدّا، الّتي أعتقد أنّها لا تحتاج الى حيّز مكانيّ

محدّد”.(7) وبالرغم من كثرة النّقاد والباحثين الذين كتبوا عن هذا الفنّ الإبداعي، إلا أنّهم لم يصلوا حتّى الآن  إلى اتّفاق حول تعريف شامل وجامع له، ولا حتّى للشّروط التي يجب أن تتوفر في النّصّ حتى نستطيع أن نطلق عليه” قصّة قصيرة جّدا” ويبدو أن أديبنا يحاول ذلك، فلا مكان محدّد لأحداث القصّة القصيرة جدّا، ويبدو أنّ القصّة القصيرة جدّا تعتمد على الاضطراب والانفعال السّريع، “لأنّني لم أعد مستقرّا أو مطمئنّا، لهذا السّبب وجدت أنّ القصّة القصيرة جدّا تعبّر عن نفسي في الجوّ الذي وجدت نفسي فيه…جوّ النّفى والإبعاد”(8) وهي تعتمد على التّكثيف الّلغويّ، وفيها رصد للأحداث الصّغيرة،” تأثّرت بأشعار يانيس ر يتسوس هذا اليونانيّ العظيم، الذي كان يرصد التّفاصيل الصّغيرة بشكل مكثّف، ثمّ يبحث عن ما في الواقع من شعر، ثمّ يعمّق هذا اليوميّ بعودة وإشارات الى التّراث البشريّ واليونانيّ، وما فيه من أساطير وأبعاد إنسانيّة”(9) وتعتمد القصة القصيرة جدّا على” النّهايات المفاجئة والصّادمة،” ومجموعة أديبنا الأولى من القصص القصيرة جدّا” طقوس للمرأة الشّقيّة” يقول عنها:” مكثّفة تعتمد على الاقتصاد في الّلغة والتّقشف في استخدامها، وسرد سريع متلاحق ونهايات مفاجئة وصادمة”(10) ويقول في موقع آخر عن القفلة الصّادمة:” لا بدّ من العناية بنهاية القصّة القصيرة جدّا، أقصد النّهاية المفاجئة الصّادمة، بعيدا عن الافتعال، أو الإمعان في الّلعب المجّانيّ بالمواقف الّتي لا تستند الى خبرة بشريّة مقنعة”.(11)

ولغة القصّة القصيرة جدّا عند محمود شقير ليست كلاما عابرا، بل هي كلمات شاعريّة منتقاة” في كتابة محمود شقير، يتواطأ الشّعر مع السّرد المكثّف، والّلغة المقتصدة مع الحدث المختزل”.(12) وهو عندما يعجن الّلغة، ويتلاعب بجماليّاتها في قصّه الوجيز لا يتخلّى مطلقا عن عنصر القصّ” في قراءة قصص شقير القصيرة جدّا، ننتبه لاحتفاظها بعنصر القصّ، فثمّة دائما حكاية يبرع الكاتب في سردها علينا كقرّاء، وهي تحسب لكاتبها، الذي أعتقد أنه نجح في تطوير هذا الجنس الأدبيّ الصّاعد

وتأصيله، ومنحه أسباب وعوامل البقاء، قابلا للتّجدّد والتّطوّر”.(13) ويكمن تميّز أديبنا في  كتابته للقصّ الوجيز، كونه لا يكتب قصصه كيفما تيسّر، بل من خلال تطويره الدّؤوب لهذا الفن، يقول الأديب محمد علي طه في نقده لمجموعة”احتمالات طفيفة”:” يبني محمود شقير في هذه المجموعة مدماكا قويّا هامّا في بناية القصّة القصيرة جدّا، الّتي بدأ الكتّاب العرب بتشييدها، وهو يرسّخ هذا الّلون الأدبيّ في حياتنا”.(14) ودور أديبنا في كتابة القصّة القصيرة جدّا راسخ وأصيل ” لم يكن شقير أوّل من كتب القصّة القصيرة جدّا، عالميّا أو عربيّا أو فلسطينيّا، ولن يكون الأخير، لكنّنا نستطيع الإدّعاء بأنّه يبقى الكاتب الأكثر إخلاصا لهذا النّوع من الكتابة”(15).

الرّواية:

كتب محمود شقير مجموعة روايات للفتيات والفتيان، لكنّه لم يكتب رواية مستقلة للكبار حتى العام 2013 عندما خرج علينا برواية ” فرس العائلة” وتبعها بجزئين آخرين، أو لم يطلق -في حينه- على أيّ من إصداراته الأخرى رواية، وإن كان بشكل وآخر يحوم حول ذلك.  يقول: “في ثلاثة من كتبي وهي: احتمالات طفيفة، القدس وحدها هناك ومدينة الخسارات والرغبة.  ثمة استفادة من أجواء الرّواية وبعض شروطها، تقرأ قصصا قصيرة جدّا في هذه الكتب، لكن هذه القصص مترابطة ويفضي بعضها الى بعض، بحيث تتشكّل سياقات روائيّة فيها على نحو ما”.(16)

وفي تقديري أن أديبنا لم يقصد كتابة الرّواية عندما كتب مجموعاته القصصية آنفة الذكر، لكنّه بالتّأكيد انتبه الى وحدة القصص وتتابعها عند ترتيبه لها، ولم ينتبه الى الخيط الرّوائيّ الّذي يربطها ببعضها البعض إلّا بعدما كتب النّقاد عنها، تقول زينب عسّاف عن احتمالات طفيفة: “يمكن القول أنّ محمود شقير رسم في نصوصه ملامح غير مكتملة لرواية”.(17) ويقول حسن خضر أيضا:” تبدو احتمالات طفيفة الّتي أميل إلى التّعامل معها كرواية – لأسباب ستتضّح لاحقا-وسيلة إيضاح ناجحة، إذ تقبل القراءة

كنصوص قصصيّة مستقلّة من ناحية، وكنصّ واحد وموحّد من ناحية ثانية، بصرف النّظر عن التّقسيمات والعناوين الدّاخلية، وربّما بسببها أيضا”(18)

ومع أن جميع سرديّات أديبنا لا تخلو من القصّ، إلا أنّ رائعته”ظل آخر للمدينة لا تخلو من القصّ والرويّ أيضا. وفي العام ٢٠٢٤م صدرت رائعته ” منازل الذّكريات” الّتي حظيت بردود فعل إيجابيّة واسعة. وفي العام ٢٠٢٥ صدرت له رواية ” خريف آخر” وهي أوّل رواية كتبها عام ١٩٧٨ كما جاد في مقدّمتها.

القدس في كتابات محمود شقير:

عندما أُبعد محمود شقير عام 1975 عن أرض الوطن، ظهر على شاشة التّلفاز وهو يقول لجنود الاحتلال عند الحدود اللبنانية:”سنعود رغما عن أنوفكم”! وقد تساءل كثيرون حينها عن سبب إطلاق مبدعنا لعبارته تلك؟ وعلى ماذا اعتمد؟ لكنّ تهديده ووعده بالعودة قد تحقّق، فقد عاد الى أرض الوطن مع مبعدين آخرين في أيّار 1993كمقدمة لاتّفاقات أوسلو الّتي تمّ توقيعها في ساحة البيت الأبيض في أيلول-سبتمبر- 1993.

القدس تسكنه:

وقد كانت فرحته بالعودة كبيرة مثلما كانت فرحة أسرته وأبناء شعبه والحركة الأدبيّة كبيرة به أيضا.

وفور عودته تجوّل في أزقّة وحارات القدس التي يسكنها وتسكنه، وكتب رائعته (ظلّ آخر للمدينة) الّتي صدرت عام 1998 عن دار القدس للنّشر، وأثارت ردود فعل إيجابية واسعة، فقد عاد إلى القدس الّتي عرفها منذ طفولته المبكرة، وكيف وجدها بعد غيابه القسريّ عنها لمدّة ثمانية عشر عاما، وقد اعتبر النّقاد هذا المؤلف خلطا لجوانب من سيرة الكاتب الشخصية ومن سيرة مدينته الّتي تسكنه، وتجلّت روعة هذا الكتاب بلغته الأدبيّة التي شملت سردا روائيّا وقصصيّا وتأريخيّا بعاطفة صادقة، وتوالت إبداعاته عن القدس، فكانت مجموعة (القدس وحدها هناك). “ينشئ الكاتب نصوصه حجرا حجرا، فكأنه يبني مدينته، والجميل مراوحتها بين شكل

 اليوميّات واستحضار التّاريخ، ليوحي بأنّ الفرنجة مرّوا قديما بالمدينة، ولم يستطيعوا امتلاكها”.(19)  وهذه المجموعة يمكن قراءتها كقصص قصيرة جدّا منفصلة، وكرواية أيضا، ثم جاء كتاب(قالت لنا القدس) وهو جانب من جوانب سيرة المدينة” سيرة مقدسيّة نتناول بها ومعها من جيل الى جيل: هي في جوهرها سيرة المكان الفلسطينيّ كلّه، في سبيل الحرّيّة والعدل والسّلام”.(20) وفي هذا الكتاب خرج الكاتب عن اسلوب القصّ إلى أسلوب يوميّات عن المدينة، كانت لافتة خصوصا ما كتبه عن” شبابيك” بيوت المدينة القديمة، وبعدها جاء كتابه (مدينة الخسارات والرّغبة) الذي يمكن قراءته كقصص قصيرة جدا وكرواية أيضا وبعدها مجموعة “سقوف الرّغبة”.

ولا يعتقدنّ أحد أن الأديب شقير لم يكتب عن القدس إلّا بعد عودته الى أرض الوطن من المنفى في أيار 1993، فالقدس كانت حاضرة في قصصه منذ بداياته في القصّ، وفي مجموعته القصصية الأولى “خبز الآخرين” فقّصة خبز الآخرين تدور أحداثها في القدس القديمة، وقصّتاه” في الطّريق الى البلدة القديمة” و”متى يعود اسماعيل” يرسم لنا أديبنا جانبا من مأساة وقوع المدينة تحت الاحتلال الإسرائيليّ.

لكنّه وبعد عودته من المنفى، وقد بلغت تجربته الأدبيّة ذروتها، أفزعه ما جرى على مدينته من تغييرات استلابيّة، في محاولة لطمس هويّتها العربيّة، فخصّص لها شيئا من إبداعه السّرديّ، وكأنّه يطلق صرخة غير مباشرة لإنقاذ المدينة.

أدب الأطفال:

 ومحمود شقير إنسان  يحبّ الأطفال، ويعيش عذابات أطفال شعبه، حتى أن توفيق زياد في تقديمه لمجموعة شقير القصصيّة الأولى” خبز الآخرين” انتبه لذلك فكتب(وفي قصصه المشار اليها تحسّ بالحبّ الجارف الذي يكنّه الكاتب للأطفال، فينحت أطفاله من بينهم في كلّ قصّة تقريبا، إنّه يدخلنا  الى عالمهم، ويكشف لنا عن قدرهم القاسي، وأحلامهم الرّائعة وتطلّعاتهم

الى مجتمع سليم يضمن لهم القوت والفرحة وإمكانيّة التّطوّر، فتتمنّى لو تستطيع أن تحّققها لهم بضربة واحدة.”(21)

ولا يخلو أيّ من كتب محمود شقير المختلفة من الكتابة عن الأطفال، لكنّه لم يكتب أدبا موجها للأطفال إلا في أواسط سبعينات القرن الماضي” منذ أواسط السّبعينات من القرن العشرين انتبهت الى ضرورة الكتابة للأطفال”.(22) ومع أنّه من الكتّاب المرموقين الذين كتبوا القصّة للأطفال، والرّواية والمسرحية للفتيات والفتيان، وهو يعود الى الطّفل في داخله عندما يكتب لهم، بل ويجد متعة في الكتابة اليهم” أجد متعة  حينما أكتب قصصا أو روايات أو مسرحيّات للأطفال”.(23) إلّا أنّ هذا لم يمنعه من انتقاد النّقص في هذا الفنّ الابداعيّ، وعدم إعطائه الرّعاية الكافية على مستوى العالم العربيّ،”من يتابع ما يُكتب في العالم للأطفال من كتب، وبالذّات في مجال القصص والرّوايات لمختلف الأعمار، بدءا من الكتاب المصوّر، وانتهاء بالكتاب المخصصّ للفتيان اليافعين، نجد أنّنا متخلّفون كثيرا في هذا المضمار، لأنّ الكثيرين من الأدباء العرب يعتقدون أنّ الكتابة للأطفال وللفتيان أمر يأتي في درجة دنيا من اهتماماتهم.”(24).

أمّا بالنّسبة للرّسومات المصاحبة لقصص الأطفال العربيّة فحدث ولا حرج،” يظهر تقصير فادح، وضعف في مستوى الرّسوم المرافقة للقصّ في كتب الأطفال، الرّسوم ضعيفة  في أكثرها وبائسة.(25)

ومع ذلك فقد صدر لأديبنا عشرات الكتب بين قصّة ورواية ومسرحيّة للأطفال وللفتية، وكانت كتاباته تلك مميّزة نال عليها أكثر من جائزة وأكثر من تكريم في محافل ثقافيّة مختلفة، وقد كانت إشارة الى تميّزه هذا في ديباجة حصوله على جائزة محمود درويش للإبداع.

السّخرية:

السّخرية ليست جديدة على الأدب العربيّ، بل هي معروفة عبر العصور، من العصر الجاهليّ وحتّى أيامنا هذه، وتختلف السّخرية عن الإضحاك بأنّ

 الإضحاك قد يكون بسبب فكاهة، أمّا السّخرية فهي الضّحك من الّلذع والإيلام، أو على رأي الحكمة الشّعبية” شرّ البلية ما يضحك”

وأسلوب الكتابة السّاخر هو أحد الأساليب الأقرب قبولا لدى المتلقي، والأكثر نفاذا الى ذهنه وفكره.

ومن يعرف الأديب شقير يعرف أنّه انسان جديّ، لكنّه خفيف الظلّ، يحبّ الطرافة بغير سماجة، وبدون إسفاف…وقد وظف محمود شقير السّخرية في مجموعتيه القصصيتين”صورة شاكيرا”و”ابنة خالتي كونداليزا” أيّما توظيف “وكأنّ شقير في صورة شاكيرا، يشحذ سلاح السّخرية من الجلاد، ليسدّد ضربة له دون أن يعلن ذلك”(26)

جائزة محمود درويش:

وفي 13-3-2011 بلغ تقدير نتاج محمود شقير الإبداعي ذروته بفوزه بجائزة الرّاحل العظيم محمود درويش للعام 2011،  وهي أرفع جائزة فلسطينيّة للإبداع والثّقافة، وهو أوّل فلسطينيّ يفوز بهذه الجائزة الرّفيعة، ومما جاء في ديباجة لجنة التّحكيم المكوّنة من: د. فيصل درّاج رئيسا، وعضوية كّل من: د.خالد الكركي، د.شيرين أبو النّجا، د.جمال شحيّد، د.سليمان جبران، د.أحمد حرب، د.محمد لطفي اليوسفي، الأستاذ صبحي الحديدي، د.ابراهيم موسى، د.محمد شاهين، ود. ابراهيم أبو هشهش، عن أسباب قرارهم منح الجائزة للأديب محمود شقير:

(لم يفصل محمود شقير (مواليد القدس ـ 1941)، منذ عقود أربعة، بين الكتابة الأدبيّة المبدعة وأخلاقيّة الثّقافة، مؤكّدا القيم الثّقافيّة منهجا في الحياة. ولعلّ الرّبط النّزيه بين الثّقافة ودورها الّنقديّ هو الذي جعل منه أديباه مختصّا، يحاور القصّة القصيرة ويسائل إمكانيّاتها المختلفة، ومثقّفا عامّا متحزّبا، ينقد الواقع ويساجله بأدوات ثقافيّة.

انتمى شقير، منذ بداياته، إلى النّسق الأدبيّ الفلسطينيّ، الذي رأى في الثّقافة الدّيمقراطية نهجا في النّهوض والمقاومة، وفي الإنسان الواعي لإمكانيّاته مبتدأ لكلّ مشروع تحرّري محتمل. ولعل الإيمان بوضع الإنسان، كما يجب أن يكون، هو الذي أملى عليه أن يكرّس جهدا خاصا لـ “أدب الأطفال”، فمارسه بإخلاص كبير، وجعل منه ” جنسا أدبيّا” جديرا بالاحتفاء والتّكريم زاوله بلا انقطاع، من عام 1986 حتى اليوم، وأعطى فيه مجموعات متعددة. وإلى جانب “قصص الأطفال” جاء بكتابة موازية “ للفتيات والفتيان”، مدرجاً إبداعه في سياسة كتابيّة، توحّد بين التّربية والإمتاع والمساءلة، مبتعدا عن ثقافة الاستظهار التّقليديّة، الّتي تساوي بين” التّعليم والعبوديّة”. غير أنّ الجهد الجادّ الخاصّ بـ “أدب الأطفال” و”الفتيان”، كما استلهام الموروث الشّعبيّ، لم يصرف هذا الأديب المقدسيّ عن مجاله الإبداعيّ الأساسيّ، المتمثّل في القصّة القصيرة، الّذي استهلّه في عام 1975 بمجموعته “خبز الآخرين” وتابعه بمنظور متجدّد حتى عمله الأخير “القدس وحدها هناك”ـ 2010. انطوى إسهامه في هذا المجال، الذي تمثّل في مجموعات قصيرة متنوّعة، على وجوه إيجابيّة متنوّعة: مارس شقير القصّة القصيرة كمشروع كتابيّه، يتنوّع ويتطوّر في ممارسة كتابيّة طموحة لا تكفّ عن التّجدّد، أتاحت تطويرا متميّزا في الشّكل والبناء. دفعه الطّموح الأدبيّ، كما الحوار المستمرّ مع القصّة القصيرة، إلى شكل خاصّ منها هو: قصّة قصيرة جدا، الّتي تمدّها الّلغة الأدبيّة المصقولة والمقتصدة بفضاء واسع، يحرّض على التّفكير والمساءلة.

ولعل هذا المنظور الرّهيف، الذي يوكل إلى الّلغة توسيع الضيق، هو في أساس جهده الّنثري المتميّز، الّذي ينتمي إلى أفضل ما أنجزه الأدباء الفلسطيّنيون في هذا المجال، بدءاً من السّكاكيني وإميل حبيبي وصولا إلى حسين البرغوثي. وبسبب ذلك تحيل “القصّة القصيرة جدّا” عند محمود

شقير، في علاقاتها المتكاملة، إلى “فضاء روائيّ”، يرى الإنسان المحاصر في عالميه الدّاخليّ والخارجيّ معا.

تتكشّف فلسطين، في مأساتها وصمودها وآفاقها، في كتابات محمود شقير كلّها: فهي ماثلة في حكايات الإنسان المقهور الّذي يستولد الأمل، وفي التمسّك بعالم القيم، إذ لا تقدّم ولا ارتقاء ولا أمل من دون فلسطينيّ يرى في الدّفاع عن قضيّته تجسيداً للقيم الإنسانيّة الإيجابيّة المتنوّعة، وفلسطين ماثلة في المجاز الجماليّ الّذي بنى عليه شقير كتابه “القدس وحدها هناك”، حيث القدس هي فلسطين، وحيث فلسطين هي الإنسان الفلسطينيّ، الجميل في بساطته، والذي يجسّد، في بساطته وجماله معا، تاريخا طويلا من الألم والأمل والمقاومة والكتابة المبدعة أيضا.ً

يتعيّن الأديب المقدسي محمود شقير بإبداعه الكتابي المتعدّد، وبقيمه الأخلاقيّة التي تترجم معنى الثّقافة المبدعة، وبجدارته بالانتساب إلى تاريخ الإبداع الكتابيّ الفلسطينيّ. وهذه الأسباب مجتمعة تجعله جديرا بـ “جائزة محمود درويش للحرية والإبداع” لعام 2011.)

وماذا بعد: وأنا أتابعكتابات محمود شقير في مختلف الأصناف الأدبيّة أقول بضمير مرتاح بأنّ الأدب الفلسطينيّ بشكل خاصّ والعربيّ بشكل عام قد حظي بالمحمودين محمود درويش في الشعر ومحمود شقير في السّرد.

المصادر:

  1. حوار صباح بشير مع محمود شقير”نشر على الفيس بوك في 20-4-2011.
  2. المصدر السابق.
  3. عبدالله المتقي-المغرب-المظلة-ابداع ونقد-موقع الكتروني-الأربعاء:4-11-2009
  4. د.حسين جمعة-سرماتا-موقع الكتروني-28-7-2010.
  5. وليد أبو بكر:محمود شقير كتابة ومعايشة( مداخلة في حفل التكريم الذي أقامته وزارة الثقافة على هامش معرض فلسطين السادس للكتاب-البيرة-فلسطين-2005.
  • زمن العقيلي تحاور محمود شقير-العرب اليوم-25-11-2008.
  • المصدر السابق.
  • المصدر السابق.
  • المصدر السابق.
  • المصدر السابق
  • 11-                عبدالله المتقي-المغرب-المظلة-ابداع ونقد-موقع الكتروني-الأربعاء:4-11-2009
  1. ايلي عبده-القدس مدينة عارية” مدينة الخسارات والرغبة”جريدة الأخبار اللبنانية-الجمعة:24-6-2011.
  1. راسم المدهون: محمود شقير حارس القدس الجميل.دمشق-صحيفة تشرين-الأحد:26 كانون اول 2010.
  1. محمد علي طه” عن احتمالات طفيفة لمحمود شقير-صحيفة الاتحاد –حيفا-15-12-2006.
  1. فاروق وادي: رسالة مفتوحة-جريدة الرأي-عمان-الجمعة:4-5-2007-جريدة الأيام-رام الله – الجمعة11-5-2007.
  1. معن سمارة يحاور محمود شقير-جريدة الأيام رام الله فلسطين الثلاثاء 15-3-2011.
  1. زينب عساف: احتمالات طفيفة لمحمود شقير-جريدة النهار البيروتية-السبت:7-10-2007.
  1. حسن خضر: في جعبة محمود شقير أدوات كثيرة-جريدة الأيام –رام الله فلسطين- 5-8-2008.
  1. مي باسيل: عن القدس وحدها هناك-الحياة اللندنية-الاثنين:25 يناير 2010.
  • علي الخليلي: ما قالته لنا القدس-جريدة الأيام13-4-2010.
  • توفيق زياد: خبز الآخرين-منشورات صلاح الدين-القدس الطبعة الثالثة-ص9.
  • حوار صباح بشير مع محمود شقير”نشر على الفيس بوك في 20-4-2011
  • عبدالله المتقي-المغرب-المظلة-ابداع ونقد-موقع الكتروني-الأربعاء:4-11-2009
  • زمن العقيلي تحاور محمود شقير-العرب اليوم-25-11-2008.
  • عبدالله المتقي-المغرب-المظلة-ابداع ونقد-موقع الكتروني-الأربعاء:4-11-2009
  • مصطفى الولي:صورة شاكيرا…الفلسطيني يتحدى جلاده بالسخرية أيضا-مجلة الموقف الأدبي-دمشق-العدد408-نيسان 2005.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات