قراءة في رواية “أنا من الدّيار المقدّسة”، رواية للفتيان للرّوائي جميل السّلحوت. صدرت الطّبعة الأولى عن دار النّشر( مكتبة كلّ شيء من حيفا) هذا العام 2020، ويحمل غلافها الأوّل لوحة للفنّان التّشكيلي كالب الدويك.
ملخّص الرّواية: فتاتان من فلسطين، من مدينتي القدس وبيت لحم، من أسرتين مسلمة ومسيحيّة تعيشان في أميركا، وتلتحقان بمدرسة أمريكيّة في ولاية إلينوي، يثور بينهما وبين معلمتهما ومعها المديرة، خلاف على تسمية فلسطين بإسرائيل، وأنّ القدس هي مدينة يهوديّة وعاصمة لدولة إسرائيل. اقتضى ذلك أن يتدخّل أولياء أمورهما، نجحت الفتاتان ومعهما أولياء أمورهما في تشكيك المعلمة والمديرة بمعلوماتهما عن القضيّة الفلسطينيّة، وأنّها معلومات خاطئة من صنع الإعلام الصّهيونيّ، فاضطرّت المعلمة والمديرة لزيارة فلسطين في رحلة سياحيّة، لتستكشفا الحقائق بنفسيهما، فقامتا بجولة في القدس وبيت لحم والبحر الميّت، وبعد زيارة الأماكن المقدّسة والاختلاط بالنّاس، ورؤية إجراءات الاحتلال وشهود تعسّفه وجرائمه، اقتنعتا بعدالة القضيّة الفلسطينيّة، وعادتا إلى أميركا نصيرتين لهذه القضيّة ومؤمنتين بعدالتها، وأنّ الإدارة الأمريكيّة تضلّل شعبها وتزوّر الحقائق بتأثير من الحركة الصّهيونيّة وإعلامها.
القارئ للرّواية والمتمعّن فيها يجدها تأخذ أبعادا كثيرة، وتحمل رسائل عديدة لأطراف كثيرة. فالكاتب أبدع في وصف العقليّة الأمريكيّة، وكأنّه يرصد فيها طبائع هذا الشّعب ممثّلا بهاتين المربيتين المعلمة ومديرة المدرسة، ومنها أنّ الشّعب الأمريكيّ لا يهتمّ كثيرا بالشّؤون الخارجيّة، ولا يكلّف نفسه عناء البحث عنها، فهو ليس مثقّفا في هذا الجانب. ومنها أنّه مأسور لإعلامه الرّسميّ وغير الرّسميّ، فحكومتهم تصوغ عقليّاتهم وأفكارهم كما تشاء، فأن يعترف ترامب بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل صكّ ودليل على أنّها مدينة يهوديّة في نظر المعلّمة. ومنها أيضا الأسلوب التّربويّ الرّاقي في معالجة الخلاف الفكريّ بين الطّالب والمعلّم، الذي لا يميل للقمع. ومنها أيضا البحث عن الحقيقة عند الشّعور بجهلها وأنّ ما عنده يخالف الواقع. فالمعلّمة ومديرتها تتكلّفان السّفر إلى فلسطين؛ للتثبّت من حقائق اقتنعتا بهما في أميركا، وأرادتا دليلا على ذلك. وهاتان الأخيرتان تعدّ من القيم التي نحمدها، ويجب أن نلفت انتباه أبنائنا لهما، فنحن أولى بهما.
البعد الثّاني في الرّواية هو الدّور التّربويّ التثقيفي التي تقوم به الأسرة الفلسطينيّة خاصّة والعربيّة عامّة أو يجب أن تقوم به، في تعريف أبنائها بقضيّة فلسطين وعدالتها، ومعرفتها جغرافيّا وتاريخيّا، وتحصينهم من الفهم المشوّه الذي يزرعه الإعلام الأمريكيّ الصّهيونيّ.
البعد الثّالث، استخدم الكاتب أربع مؤثّرات في إقناع المعلمة ومديرتها بعدالة القضيّة، المؤثّر الأول ثقة الطّالبتين من معلوماتهما وصدق انتمائهما للقضيّة، ودعم أسرتيهما لهما، فلم تكونا في موضع ضعف واستخذاء. الجانب الثّاني هو التّراث الفلسطينيّ الماديّ والمعنويّ، ومنه المعالم العمرانيّة الدّينيّة وغير الدّينيّة في المدينتين القدس وبيت لحم والنبذ التّاريخيّة المختارة، أمّا الثّالث فإجراءات الاحتلال الإجراميّة التي رأتها المعلّمتان بأمّ عينيهما، وإجرامه من مثل قمع مظاهرة وجرح المتظاهرين، وترك أحدهم ينزف حتّى الموت، ثمّ الادّعاء بأنّه حاول الطّعن بعد أن ألقوا سكينا بجانب جثته. وهذا يحسب للكاتب في معرفة التّكوين العقليّ والنفسيّ للأمريكيّ، وكيفية التّأثير فيه وإقناعه. وأمّا الرّابع فهو إعطاء صورة للتّعايش بين المسلمين والمسيحيّين في فلسطين، وهذا مؤثّر دينيّ مهمّ في عقليّة الأمريكيّ خاصّة، والذي تصوّر أنّ مسيحيّي فلسطين ليسوا عربا، بل إنّ اختيار مدينتي القدس وبيت لحم يأتي في هذا السّياق.
من النّاحية الفنّيّة نجد الرّواية قد جاءت بنمطين مختلفين باختلاف المكان، فكانت قد اعتمدت الحوار بين الشّخصيات في أميركا، وكان حوارا مناسبا لأفهام الذين وجّهت لهم الرّواية، وامتاز بالبلاغة والإيجاز، أمّا الأحداث في فلسطين خاصّة، وسرد المعلومات فجاء ضمن جولة سياحيّة وتصوير للمكان، ولم يخل من المعلومات التّاريخيّة المركّزة، وبعض اللّفتات المقصودة، التي يراد بها الإقناع دون إثقال. وقد رأيت الكاتب قد نجح في إعطاء الأحداث بعدا مكانيّا، أو إعطاء المكان بعدا سياسيّا متمثّلا في الاحتلال، لم يطغَ على البعد الجماليّ، فعلى سبيل المثال مزج الكاتب بين النّهب الاقتصاديّ لثروات البحر الميّت وبين التّشوية الجماليّ للمكان بطريقة فنّيّة لافتة ودقيقة، فكان أن حمّل الرّواية رسالة بأنّ الاحتلال يقتل الجمال أيضا في فلسطين، وكلّ هذا يقتضية الصّراع على المكان.
المدقّق المتدبّر للرّواية يكتشف أنّ الرّواية ليست موجّهة لفتيان فلسطين وحدهم، بل هي موجّهة للأمريكان أو الفتيان في العالم الغربيّ بشكل عام، فكأنّ الرّواية تلحّ في طلب ترجمتها إلى لغات أخرى، ففيها نكهة الأدب العالميّ، الذي يفوح برائحة الإنسانيّة، والكاتب لم يجعل شخصيّات القصّة في موقف دفاع أو ضعف، فالرّواية تقطر ثقة بعدالة القضيّة، ولم يستغرق الكاتب في حشد أدلّة وبراهين تجلب الإملال للقارئ.
وممّا يحسب للرّواية أنّها ضمّنت الكثير من الصّور للأماكن المقدسّة والتّاريخيّة في فلسطين. وهذا ممّا يقتضية الجانب التّربويّ التأثيريّ.
القدس. 15/10/2020