لوحات ومرايا في رواية العسف لجميل السلحوت
سأبدأ بالسؤال: هل جميل السلحوت كاتب ومؤلف للرواية؟ أو هو سارد وراوٍ لأحداثها؟ أو هو إحدى شخصياتها؟
وحتى لا يسبق الظن إلى غير ما أقصد أبادر إلى التأكيد بأن السلحوت هو هؤلاء الثلاثة معاً.
هذه هي أهم ثلاث أدوات لإنجاز أي عمل روائي ينجزه كاتب الرواية، وكلما كان المؤلف على وعي بقيمة الشخصية الروائية، ويرتبط بها ويفهمها، يكون قادراً على تشكيلها، وبنائها، ومسرحتها وعرضها من خلال صوت السارد. بهذه المعايير يكون المؤلف قادراً على إبراز سمات الشخصيات التي يقررها مباشرة (السمات) أو بصورة إيحائية. والشخصية في العمل الروائي –كما هو معلوم- تعدّ العنصر الرئيسي فيها بسبب ارتباطها بالأحداث تأثيراً أو تأثراً، فاعلة أو مفعولاً بها، وهذه العناصر ذات تأثير كبير في المتلقي وتفاعله مع النص الروائي، وتقييمه له.
العلاقات في “العسف” علاقات متشابكة ومتداخلة، متعانقة، أو متناقضة، أو متعادية أو مشاركة في الأفعال وتوليد الأحداث. هي علاقة بين الرغبة والمشاركة الفاعلة، وبين علاقة الحذر والتحفز والانتباه والتركيز، وبين العداء المستحكم الذي لا يعرف للرحمة مكاناً. وقد شكلت كل هذه العلاقات في “العسف” محوراً أساسياً فيها، اشتُقّت منه، أو انبثقت منه لتشبه الواقع مشابهة وثيقة بين جميل السلحوت والسارد العليم والشخصية الرئيسية في الرواية (خليل الأكتع) ولكن هذه العلاقة لا تستقل كل واحدة بذاتها بل تلتصق، أو تتماس، أو تتناقض وتتفاعل معاً ومع شخصيات أخرى في الرواية لتشكل المشهد المتكامل في هذا العمل الروائي.
في هذا البناء الروائي يتكئ السلحوت في تأسيس هذه العلاقات على تنويع أساليب السرد، ومن ذلك تنويعاته على ضمائر السرد، فمرة يكون السرد بضمير المتكلم، ومرة بضمير الغائب، ومرة يكون بضمير المخاطب في مواقف الحوار المتعددة في مشاهد الرواية. وهذه الضمائر تحيل في معظم الأحيان على شخصية خليل الأكتع غياباَ وحضوراً، وهي إحالة تكشف عن بواطن وخفايا الشخصية الرئيسية، وبقية الشخصيات في الرواية، وتكشف عن مواقفها، وتتعمق في مكوناتها وانتماءاتها وأفكارها، سواء من خلال الموقف، أو السلوك أو اللغة.
“العسف” رواية قصيرة، من السهل تصنيفها ضمن روايات أدب السجون التي يزخر بها أدبنا الفلسطيني الحديث والمعاصر. موضوع السجن والاعتقال والتعذيب ومعاناة التحقيق ليست جديدة في هذا الأدب، بل من المعقول والواقعي القول إن تجربة السجن والاعتقال من أكثر التجارب والموضوعات وروداً في الرواية الفلسطينية، وبشكل خاص منذ ثمانيات القرن الماضي وحتى اليوم، وإن كانت الروايات السابقة لذلك الوقت لا تخلو من تداول هذه “الثيمة بتواتر”، ولكن احتدام الصراع المادي العنيف منذ انتفاضة الحجارة، وقيام سلطات الاحتلال بالزج بالآف المعتقلين والسجناء، وبخاصة الكتاب، في المعتقلات والسجون، ومعاناة هؤلاء كغيرهم، أثرى النصوص الروائية بهذه التجارب، بالإضافة إلى أن تجارب الاعتقال ذاتها (قديمها وحديثها)، أمكن التعبير عنها بصورة أوضح مع تقدم وسائل النشر، وانفتاح أفق التعبير نتيجة ظروف متعددة يعرفها كل متتبع لأحوال النشر في فلسطين المحتلة والعالم.
لا شك لدي أن تجربة (خليل الأكتع) السجنية بخاصة، وربما أعرض من ذلك، هل تجربة جميل السلحوت ذاته، وبين جميل وخليل الأكتع كثير من صور التشابه، إن لم نقل التطابق، بصرف النظر عن التفاصيل الصغيرة التي لا شك أنها مقصودة من الكاتب لتشكل كلّا جَمعياً لا صورة ذاتية، فلا يمكن لأي كاتب روائي أن يبني شخصية متطابقة كلياً مع ذاته، إلا إذا كتب سيرة ذاتية، وحتى في هذه فهو يكتب من زاوية رؤيته لذاته، وكيف يراها هو، بصرف النظر عن التطابق التام بينه وبين الذات التي رسمها في سيرته.
ليس ذلك فقط، بل إن جميل السلحوت (الكاتب) يتماهى بالسارد الذي هو في معظم الأحيان خليل الأكتع، وهو الراوي العليم، وهو الشخصية القيادية على الرغم من صغر سنه، وهو المبادر، وهو كاتم الأسرار، وهو الواعي على ما يدور حوله مع قلة تجربته السجنية والاعتقالية، ومع حداثة تجربته النضالية. خليل الأكتع يحرص على التعلم وتثقيف الذات، وخليل الأكتع صبور كتوم وصلب المراس، وعاطفي حين يتعلق الأمر بعائلته ووالديه وأخته. وخليل الأكتع يميل كثيرا في سرده إلى اللغة التصويرية التي يمتاز بها أسلوب السلحوت في الوصف بخاصة. خليل الأكتع بدوي قروي كجميل السلحوت، عمره في عام 1968 يقارب سن جميل السلحوت، وهو من المعلمين النادرين في تلك القرية كجميل، ويكاد يمكث في السجن قريباً من المدة التي مكثها جميل أيضاً، هذا بالإضافة إلى السمات التي سبق ذكرها في شخصيتيهما.
كون موضوع الاعتقال والسجن موضوع متواتر في الرواية الفلسطينية نظرا لظروف موضوعية واقعية قائمة ومتواترة، هل يقلل من أهمية تناول هذا الموضوع؟
الجواب أبدا لا. وذلك لعدة أسباب: أهمها أن لكل شخصية تجربتها التي قد تتشابه أو تتوافق مع تجارب آخرين من حيث الشكل والعموم، أقصد ظروف الاعتقال والتحقيق والتعذيب … الخ، ولكن تفاصيلها والإحساس بها وفهمها وتفسير تفاصيلها والاستجابة لها، كل ذلك مختلف عند كل معتقل عن الآخر، ولدى كل أسير عن غيره. ومن جهة أخرى فإن أساليب التعبير عن تلك التجارب المتنوعة والمتعددة مختلفة ومتنوعة و”مشخصنة” بناء على عوامل متعددة كذلك. وهذه التويعات هي ما يجعل كل تجربة ذات مذاق فني خاص، وما يجعل كل قصة مختلفة عن الأخرى بنية وتركيبة وأسلوباً وصياغة وتصويراً وغير ذلك من المقومات والمكونات الفنية الجمالية.
لذلك، فالقارئ لهذه الرواية (العسف) ما أن ينشب عينيه فيها لا يكاد يفارقها حتى ينتهي منها لما فيها من قدرة على الجذب ومفاجآت وتوقعات ومسرحة وتنقل في المواقف باستغلال جميل لعنصر الزمن يجعل هذا النص فريداً في جماليته عن النصوص الأخرى التي تناولت تجربة الاعتقال والسجن. إنها قصة خليل الأكتع المتمايزة عن غيرها من القصص.
لقد سبقني إخوة أفاضل طيبون في التحدث عن الرواية في ندوة اليوم السابع، وقد تناولوا كل شيء فيها تقريبا، وليس لدي شيء كثير أضيفه إلى ما قالوه فيها. وما أعيده هنا فقط للتأكيد على ما قالوه. فالرواية تمثل بداية حركة المقاومة بعد حرب 67، وبداية انضمام الجيل الجديد إلى نوع جديد من المقاومة، وفيها محاولة تمييز للاتجاهات الفكرية والاجتماعية والسياسية في الأوساط الفلسطينية، وفيها حشد كبير من وسائل التعذيب المادي الجسدي والنفسي التي تمارسها سلطات الاحتلال مع المقاومين والمعتقلين والسجناء، ومحاولاتها ضرب اللحمة الفلسطينية، وإثارة الشكوك، وتمزيق اللحمة الوطنية والاجتماعية، وفيها التباين، بل والتناقض أحياناً (وربما بداية الصراع) بين الاتجاهات الفكرية الفلسطينية حتى في داخل السجون، وفيها محاولات جادة ومفيدة من السجناء للتغلب على قهر السجان وبؤس السجن وتحويله إلى فرصة للتضامن والتعاون وصنع القيادات الواعية ومقاومة ممارسات السجن، والتثقيف الذاتي، ومحاولة تعزية الذات بالأقاصيص والحكايات كنوع من الحفاظ على التوازن النفسي الذي بدا مختلاً في بعض مشاهد الرواية (بدت فليتسيا لانجر شابة فاتنة).
في الرواية نماذج فلسطينية بشرية عادية وطبيعية، سواء أحببناها أو كرهناها. أبو سالم المختار الجاسوس (هذه صورة نمطية للمخاتير في الرواية الفلسطينية)، والعصافير، ونماذج أخرى عنيدة وبطيئة الفهم والتمسك بالرأي القائم على الجهل وأمية فكرية أكثر مما هو قائم على الوعي والفهم، وهناك بذور وعي بدأت تطل برأسها وتتفتح نتيجة التعليم والتثقيف.
أما في الوسط المعادي فمهما حاولت شخصية المحتل أن تلمع ذاتها، ومهما حاولت من أساليب التزوير والتظاهر باللطف والإنسانية والرفق لانتزاع اعتراف المعتقلين، فإنها كريهة وتعود إلى عنصريتها وعسفها وبذاءتها مهما حاولت أن تبدو غير ذلك، حتى أمام المنظمات الدولية كالصليب الأحمر. صورة الشخصية اليهودية في الرواية شخصية كريهة محتالة مخاتلة خبيثة وقاسية ومتجردة من الإنسانية والرحمة. هذه الشخصية تزور كل شيء، الأسماء والمظاهر، والنوايا. ولكن ما استغربته في الرواية أن كلام هذه الشخصيات كان في معظمه بلغة عربية فصيحة تماما إلا في بعض المشاهد، وهذا ما يجعل هذه المشاهد بالعربية الفصيحة تبدو لغتها مصنوعة بلسان الراوي العليم. أي أن ذلك يجعل الرواية (كما قيل في ندوة اليوم السابع) تبتعد عن الواقعية التي حرصت عليها الرواية وهي الواقعية التسجيلية.
شخصيات الرواية تراوح بين النمطية الثابتة، وبين النامية المتطورة، وكمثل على هذه الأخيرة، وتتجلى في أبرز صورها، هي شخصية خليل النامية التي تبقى تتصاعد في نموها من بداية الرواية حتى آخر سطر فيها، في حين كان دور بعض الشخصيات ثانويا وثابتاً، تظهر وتختفي بالملامح ذاتها، سوى تغيير طفيف كشخصية زينب مثلا والمختار أبو سالم.
السارد الرئيسي في أحداث القصة هو سارد عليم، يعرف حركة كل واحد من شخصياتها، بل كانت الشخصيات تتحرك بخيوط من أصابع السلحوت، يوجهها كيف يشاء، ولذلك جعل من السارد الأساسي (خليل الأكتع) راوياً مشاركاً في صنع الأحداث وفعلها، أو راوياً لها على طريقته. هذا الرواي المشارك في صنع الأحداث هو موجه ومسيّر لتلك الأحداث كما يشاء، ولما كان السارد من صنع الكاتب، فإنه بالتالي مسيّر من المؤلف.
أخيرا هناك مسألتان بقي أن أتوقف عندهما: الأولى هي لماذا غامر الأستاذ جميل بإبعاد الأستاذ داود عن المشهد؟ وبصرف النظر عن دوره ومقارنته بدور خليل الأكتع، فهل كان الإبعاد هو إنهاء لدور داود في التجربة النضالية الفلسطينية؟ هل سنصادف داود يعود في رواية جديدة ليكمل دوره الذي بدأه في داخل الوطن؟ ألم يكن من الممكن تطوير الرواية من خلال دور أو أدوار لداود إذ تم اعتقاله، لم نعرف عن ظروف اعتقاله والتحقيق معه الكثير؟ ولماذا تبادر سلطات الاحتلال إلى إبعاده وهو المنظم للمقاومة، ولم نر استكمالا للتحقيق معه؟ هل هناك مفاجآت يخبئها لنا السلحوت في شخصية داود؟
المسألة الثانية هي الدمامل التي ظهرت في أماكن مختلفة وحساسة من أجسام السجناء في نهاية الرواية، وبعد أن غيرت مصلحة السجون شكليا بعض إجراءاتها (الفراش والطعام). هذه الدمامل التي يجب التخلص منها بوسيلة واحدة وهي إخراج نواتها من الجسم كلياً. إنه الجسم الفلسطيني، والدمل الداخلي، بمعنى أن هذه الأوبئة هي أوبئة داخلية ممثلة في أبو سالم المختار، ومن هو على شاكله، فهذه الفئة لا يمكن المهادنة أو التلاين معها، فحتي يكون الجسم سليما، أو ليعود سليماً، فلا بد من استئصال هذه الدمامل من جوهرها ومن نواتها.
عود على بدء:
إن كانت كل رواية تتكون من روايات قصيرة، تتراتب وتتناسق لتكون الرواية الكبرى، فكذلك كانت (العسف)، وقصصها ليست فقط واقعية تتعلق بالاعتقال والسجن، وليست آنية مرتبطة بهذا الحدث فقط، بل في نسقها قصص أخرى شكلت مقومات مهمة في الرواية، فما كان قد تداوله السجناء من قصص الماضي ذات الدلالة، والتي تحمل كل منها هدفاً ما، وعظياً تعليميا، كانت قد شكلت عنصراً في بنية الروائية وجاءت متماسكة في هذا البناء بدون أن نشعر أنها اقتحمت على الرواية ظرفها ومحيطها وأجواءها وخياراتها. بل إن بعض هذه القصص أعطت نكهة إضافية ومهمة في بيئة السجن تلك.
المشاهد والمواقف التي رواها لنا الرواة وبخاصة خليل الأكتع مشاهد مسرحية أخذ الوصف النصيب الأكبر فيها، وصف للأشخاص، ووصف للأمكنة، ووصف للحالات، ووصف حتى للزمان. هذا الوصف الخارجي للأشياء وللأمكنة وللشخصيات كان في كثير من الأحيان موحيا لعناصر داخلية، ومؤشرات ذات دلالة أكبر من الوصف الخارجي، كوصف أدوات التعذيب، ووصف الحشرات والقوارض والفراش … لم يكن لذاته، بل لتصوير ما هو وراء ذلك من دلالات ومعاني (إنه العسف والظلم والقهر والاستكبار)، ووصف الشخصيات أو السرد على لسانها جاء بتحليل لنفسيتها ولتفاعلها، ولدواخل نفسها. هذه اللوحات التصويرة ظلت هي التي تشد القارئ من أول الرواية حتى آخرها بلغتها وأسلوبها وجاذبيتها التي عرفت به روايات السلحوت، وبخاصة في توظيف أساليب السرد من استذكار وتوقع وتذكر ومراوحة بين السرد والحوار والمناجاة والحلم والإيهام، ومن التلاعب بالزمن اختصاراً وحذفاً وقفزاً واستحضاره نصاً أو معنى. بل إن للتراث الفلسطيني والعربي حضوراً واضحا نصا من خلال التناص للقصص الشعبية الفلسطينية وللأمثال السائدة في المنطقة العربية والفلسطينية بخاصة، وهذا أعطى خصوصية معينة للرواية جعلت منها أفقاً للحالة الفلسطينية وثقافتها الاجتماعية ودلالات هذه العبارات (المقولات والأمثال) الحضارية والمعرفية والفكرية.
أما المرايا فهي أن كل شخصية في الرواية هي انعكاس واستحضار لشخصية واقعية أو لنموذج اجتماعي في الحياة الفلسطينية، فشخصيات الرواية كلها شخصيات نموذجية، بمعنى أن كلاً منها يمثل قطاعاً اجتماعيا وفكريا فلسطينياً، وهو مجتمع طبيعي، وليس مجتمعا مثاليا طاهراً خاليا من الشوائب، ففيه العميل، وفيه المناضل، وفيه اغلواهي، وفيه الجاهل، وفيه المؤثر على نفسه، وفيه الأناني الفردي المصلحي، وفيه القاد المبادر وفيه المتخذل المتواني، وفيه المحترم المقدر اجتماعيا، وفيه المنبوذ، وهكذا تشكل هذه النماذج الكل الفلسطيني، وفي ذلك إشارة من الكاتب إلى توجهه الواقعي في الكتابة الروائية، وفي فهم المجتمع عامة، كما أن فيها نزعة نقدية تنموية تطويرية إيجابية وليست نقدية سلبية هادمة، ولذل فالعناصر الخيّرة في الجتمع، والعناصر المتعلمة، والعناصر الصامدة الثابتة هي الفائزة، وهي التي تنال التقدير الاجتماعي، وفي هذا نزعة حضارية مهمة للناء لا للهدم.