تمثل رواية ” جنة الجحيم” للأديب جميل السلحوت واقع الريف المقدسي في أواخر خمسينيات القرن العشرين، حيث بدايات الوعي القومي والوطني، ومهد تشكل الأحزاب السياسية في القدس أثناء الحكم الأردني، حيث تدور رحى حرب فكرية طاحنة بين مختلف الأحزاب القومية والشيوعية والإسلامية، وتحاول هذه الأحزاب التسلل ضمن مجتمع القرية المقدسية الوادعة عبر شخص وصولي يمثل حلقة الوصل بين تلك الأحزاب، وبين مجتمع القرية الساذج، حيث اتخذ الكاتب قرية ” جبل المكبر” التي تضم مجتمعا ينحدر من أصل بدوي قبلي نموذجا على قرى القدس إبان تلك الفترة.
ومما زاد في حمى تلك المنافسة، الإنتخابات البرلمانية التي جعلها النظام الأردني آنذاك متنفسا للناس،وهامشا لحرية التعبير، للحد من خطورة حمى الإنقلابات العسكرية التي شهدتها المنطقة بعد ثورة يوليو تموز 1952 على يد جمال عبد الناصر.
والراوية أشبه بالتاريخ الشفوي والحكايات المروية على لسان آبائنا عندما يتحدثون مع بعضهم البعض عن تاريخ تلك الفترة، حيث يجسدها الكاتب بأسلوب جميل ولغة تتفاصح وتميل الى العامية البسيطة إمعانا في الواقعية، وتجسيد الصدق الفني.
الرواية حيث تبدو الشخصيات ناطقة بلغة السواحرة ” أهالي جبل المكبر” دون أي تزيين أو تزييف، مما أعطى الشخصيات صدقا وحيوية، ولا سيما أن الكاتب ينحدر من صميم تلك القرية.
ويغلب الثوب الإجتماعي أحيانا على أحداث الرواية، فتبدو سطوة الشيخ على أبناء عشيرته وسطوة الرجل على زوجته، وعجزالمرأة وامتهان كرامتها، والفقر المدقع والجهل، وبداية تكون المجتمع التعاوني في داخل القرية، وتسرب الفكر الشيوعي الى تلك القرية حيث أصبحت في السبعينيات مركزا للشباب الشيوعي في القدس لأإنهم كانوا يمثلون النخبة في ذلك الوقت.
أما بطل الرواية ” أبو سالم” فهو الوصولي الإنتهازي الذي يلعب على الحبال كافة لتحقيق مبتغاه في النهاية، وهو جمع مبلغ من المال يبني به بيتا ليزوج ابنه، ويشتري قطيعا من الغنم يؤمن به مستقبله، وينجح في تحقيق ذلك عبر العمل لصالح مرشح قبلي لقرية مجاورة.
ويخفي الكاتب أسماء النخب السياسية التي شكلت المشهد الإنتخابي في تلك الإنتخابات عبر ستار شفييف من الأسماء، ليعرف من سمع بتلك الحملة الإنتخابية من المقصود بكل شخصية، وما التيار السياسي الذي يمثله، وربما تعمد الكاتب اظهار فساد تلك النخب ولا سيما القبلية منها.
وتعالج الرواية مجموعة من المشاهد والمآسي الإجتماعية في تلك الفترة، فخليل يفقد ذراعه نتيجة الجهل بأصول الطب، ويوسف ونايف يهربان من الفقر ويخلفان زوجتين وطفلين ليرحلا الى الأرجنتين، فيجدا فقرا وغربة وامتهانا جنسيا في الوقت نفسه، فيما تعاني الزوجتان من فقد الأزواج وشظف العيش، وكل ذلك لا يخلو من مشاهد طريفة صورها الكاتب بأدق التفاصيل.
كان الكاتب بارعا في تصوير الشخصيات تصويرا ديناميكيا يجعلها تقفز وتتحرك وتظهر بأدق حركاتها وسكناتها، وقد زادها صدقا اللهجة المحلية، فلم يتقمص الكاتب لهجة أخرى، بل أدار الحوار بذات اللهجة المحلية حيث يصلح هذا الحوار نموذجا لغويا للهجة أهل السواحرة في فترة الخمسينيات، حتى وإن ظهرت بعض الألفاظ النابية فيها.
وأما المشهد الأخير في الرواية فهو مشهد سياسي بامتياز، يمثل دور مدرسة الآثار البريطانية في التمهيد لتوطئة التأصيل التاريخي والأثري لقيام اسرائيل على الجزء الآخر من الوطن، وأغلى ما فيه القدس التي يظهر شوق اليهود في الاستيلاء عليها عبر شخصية جاسيكا التي دخلت الى القدس بجنسية بريطانية.
وأما حضور المكان في الرواية فقد كان المحور الأهم، حيث تبدو القدس في خمسينيات القرن الماضي بشقها الشرقي العربي، يطل عليها جبل المكبر بعزة وأنفة، وتبدو جارتها سلوان الملاصقة بجدارها الغربي، يظهر ذلك عبر ارتحال أبي سالم إليها يوميا، وتبدو أزقة البلدة القديمة بكل مسميات أزقتها وأسواقها وحاراتها كالعطارين وخان الزيت والباشورة ،وحتى محلات الحلويات والعطارة، ويبدو شارع صلاح الدين ناشئا تمثل فيه المدرسة الرشيدية ومدرسة الآثار البريطانية أولى البنايات في ذلك العهد، وتبدو الحركة واضحة فيها بين أهل القرية الغرباء عن جو المدينة السذج في بعض الأحيان، وبين أهل المدينة الذين يمثلون نموذج الرقي والتمدن والتشبه بالغرب.
تمثل هذه الرواية أكثر من محور للصراع، ويمكن أن نجمل محاور الصراع فيها بالصراع بين النخب والأفكار السياسية في تلك الفترة، والصراع بين قيم المجتمع الغربي وقيم الأصالة والتراث، والصراع بين مبادئ الوطنية ومبادئ الإنتهازية والوصولية، ناهيك عن الصراع العربي الإسرائيلي الذي يشد الرواية من أولها الى آخرها، لقد مثلت هذه الرواية مجتمع مدينة القدس بريفه ومدينته، هذه الجنة التي حولها الإحتلال الى جحيم، فأصبحت جنة الجحيم.