هوان النعيم رواية لجميل السلحوت تقض مضجعك، تتناولك منذ لحظة البداية حتى آخر سطر فيها، تبكيك وتزرع فيك أملا رغم ما مرّ على صوت العرب. تتناوب عليك أحداثها لحظة فلحظة تردك ردحا طويلا، وتعصف بك الآن كأنك تبدأ الحكاية من منتصف تعرف أوله، ولا تدري متى آخرهّ، لكنك تؤمن أنه بيدك أنت لا بيد أي عمرو .. كانتحار العقارب السوداء(ص42) التي في دائرة الحصار الحجري أو انتحار الزباء زنوبيا الأسطورية … لكن بيدك لا بيد عمرو ألا تنتحر بل تمنع الانتحار هي الرسالة ( لأننا أمجاد يا عرب أمجاد ) وتمنح ليديك وفكرك تكامل النصوص والحقائق … فالقدس مدينتنا كما يقول خليل (الاستاذ) أحد أبطال الرواية – أليست مدينتنا؟ نريد أن نرى ما حلّ بها في هذه الحرب الظالمة . ومحمد ابن عمته يجيبه –من يسمعك تقول مدينتنا يحسب أنها ملكك ..وتأتي إجابة خليل: نعم إنها ملكي، وإذا لم يعجبك كلامي “بلط البحر” …. (ص59)نعم هي ملك لكل منا. ليس بالأمر إيحاء بل ترابط منذ فتح المذياع على صوت العرب، عندما حطت طائرة الملك في مطار القاهرة وصار كل شيء مباح تحت الحكم الأردني .. يقول صوت العرب وعند صوت العرب كان القول الفاصل حتى سقوط دموع الدكتور صبحي المكلف بجمع رفات الشهداء(ص85) التي تؤكد سقوط القدس تحت احتلال اسرائيل …يرفعك فوق الجبل جبل المكبر مع كل المعلومة عن أمير المؤمنين عمر، وغواية الحبّ في مشاهدة القدس تغتسل بأشعة شمس تعانقها … شيخنا جميل السلحوت في هذه الرواية الإيقاعية يثبت وحدة الشعب الفلسطيني المشتت، لكنه يركز بالذات على شطري برتقالة بين 1948و1967.. يثبت وحدته بين احتلالين، ووحدته بين معتقداته وأديانه، جريس الذي يحمل خليل ومحمد الى الناصرة (ص138) ولمحات عن كون هذا الجزء مغيبا ملعونا، لكن في إحدى ذروات الرواية نجد الحكم النهائي في الحوار بين القادمات من كفر كنّا، ويسألن عن المسجد الأقصى ” نحن من كفر كنا يا عمّاه، ويسألها وأين كفر كنّا هذه؟ قضاء الناصرة – وهل بقي في الداخل عرب بعد النكبة؟ ( أبكاني السؤال والجواب أكثر ) نعم بقي مائة وخمسون ألفا، وهم الآن 350 ألف .”ما قالوا عنه أضحى جزءا من الهاجاناه ص104″ ولكنه صمد في وجه التغييب وتمترس في ثقافته ولغت.ه
فعلا ابداع رائع لشيخنا جميل السلحوت حيث جمع في هذه الرواية، ماحدث عشية احتلال القدس عام 1967 مع ربط التواصل مع من تبقى من أجزاء الشعب الفلسطيني في الداخل 1948 .. وطرح مفردات وأفكارا مسبقة، كانت سائدة عنهم. الأشمل في الرواية إيقاع الحدث وتناغم أصدائه، وتمرير المعلومات لكل أجيالنا عمّا حدث، وكيف ومتى وكم؟ ففي ثلاثة مواضع على الأقل يخبرنا الكاتب أن عدد من تشبثوا بأرضهم في 1948 مئة وخمسون ألف، واليوم (فيعام 1967) صاروا 350 ألفا … وعن الحفاظ على الثقافة واللغة يمنحنا معلومات واسعة ..
عن الصحف والمجلات الأدبية للشيوعيين العرب”على سنة الله ورسوله ص 124″ عن أدباء المقاومة … وعن المقاومة الثقافية عندهم … عن جهينة اميل حبيبي صاحب سعيد بن أبي النحس المتشائل .. يحملنا بأسلوب شيّق بين حارات القدس العتيقة حتى الأقصى والصلاة فيذكرنا بحارة الشرف المهدمة وسلوان بعيونها وكرم أهلها أمس واليوم وغدا، وما أشبه الأمس باليوم لكن الغد بأيدينا صياغته.
تتداخل الأحداث والمحدثين بين شارع ابن بطوطة (الرحالة) الذي فيه مكتب الداخلية في القدس مفارقة مذهلة بين الرحيل والبقاء، بين الحصول على بطاقة الإقامة أو عدم الحصول عليها، وعن أنواع الشخوص التي نعايشها، ففيهم المعلم والدكتور والمختار الوطني، وفيهم أبو سالم …فأمّا أبا سالم … فقد سلــّم حتى أسرار أمّ سالم، وليس فقط نبح بل نهش أمانته لذاته
واستباح لنفسه الذلّ والمهانة، وانسلّ باختياره مغيّرا موقعه .. الى مواقع العدو ولا حول ولا قوة الا بالله، قلّة هذه الثّلة، لكنها بأقل القول نفايات نتعرقل بها في الدروب دوما، وتكون عووووووووو …… ذات معنى واحد لا لبس فيه – قافلتنا تسير وكلابهم تنبح عوووووووووو………………….وووووووووووووو…….
كانت التظاهرات المبكرة جدا ضد الاحتلال تمنحنا الأسماء التي في الواقع أسماءنا وحياتنا اليومية الآن وغدا … من وحي الربط بين شهيد القسطل الشهيد عبد القادر الحسيني الى دماء ابنه فيصل على باب العامود في التظاهرات ص124 .. تنويهك سيدي أن أسماء الشخصيات والعائلات غير حقيقية، وأنه اذا ورد بينها وبين شخصيات حقيقية ..فذلك بمحض الصدفة ..طغت عليه حقيقة الأحداث، وحقيقة تصويرك المبدع لتواترها وتدافعها ..زاد للقارئ من أيّ جيل، كان وجبة دسمة من الأحداث عن عبد القادر الحسيني وأبنائه الثلاثة وابنته ” وهل تزوجّ الشهيد؟” .. وفيصل المتوج بعمله الدائم الذي استشهد على البعد من أجل كحل عيني القدس .. نعم الرواية –هوان النعيم – هي المرتع الحاني لتحتضن كل هذه الأسماء، لتفتح الأفق لأجيال ما عاصرتها، أن تسأل وأن تأتي على الكأس المترعة بهم، فتشرب وتشرب وتشرب لترتوي وتقوم تنفض عن جنبات القدس أخطر مما جرى.
أختم بأجمل منظر على الإطلاق ” شرعا ينظران إلى المدينة ويركزان عيونهما عليها .. خصوصا على المسجد الأقصى بقبته الرمادية، بينما تنعكس شمس الضّحى على القبّة الذهبيّة للصخرة المشرفة .. حبّات النّدى تتزحلق من القبّة بحياء الحسناء التي ينزاح نقابها بهبة نسيم عابرة … رأيا كيف تتسلق بيوت سلوان الجبل الى راس العمود، حيث تفصلها مقبرة اليهود عن جبل الزيتون .. ورأيا كيف ينفرج وادياها اللذان يحتضنان المدينة، ليلتقيا حيّ البستان عند بير أيوب .. وأصابتهما غصّة وهما يريان غبار الهدم المتطاير من حارة المغاربة …ص89″ ما أروع تصوير منظر يتم نحت تفاصيل عروس النعيم الذي لن يهون علينا يا شيخنا، وعلى هذا الجيل تلقي أنت بمهمة الحفاظ على استمرار وجود سلوان اليوم، وكل أرجاء القدس ووجود الاستمرار بالعمل والجد … في كل حرف وكلمة وجملة وصورة يقول لنا شيخنا في هوان النعيم …. أنه لم يهن علينا ولن … طالما بقي فينا أمثال خليل وجريس وديانا والأستاذ داود
الرسالة وصلت وصلت وصلت
عزالدين السعد
اللجون – القدس