أعرف الكاتب والروائي الفلسطيني جميل السلحوت منذ مدة طويلة، حيث كنا ننشر إبداعاتنا معًا في عدد من المواقع العربية والجرائد التي تهتم بالشأن الأدبي والثقافي عمومًا، وكل إبداعاته موجهة إلى قضايا الإنسان والمجتمع الفلسطيني أولًا والعربي عامة. والكتابة الأدبية لدى السلحوت تنطلق من قناعته الخاصة بأهمية الأدب وقدرته على طرق مواضيع مسكوت عنها أو محظور التطرق إليها سواء عرفًا أم قانونًا. وتأتي روايته الجديدة “الخاصرة الرخوة” (دار مكتبة كل شيء، حيفا، 2020) في إطار هذه النظرة، نظرًا لكونها رواية تعالج قضية المرأة ومعاناتها داخل المجتمع وخاصة في مواجهة نظرة ذكورية تسلطية تفرض قوانين ما أنزل الله بها من سلطان ولا يمكنها أن تمنح المرأة إنسانيتها وحريتها في اتخاذ قراراتها.
إن صورة المرأة في الرواية قد اتّسمت بالتعدّد والتنوع، لأنها لم تعدْ فقط صورة نمطية قارة في العقول والأذهان، وثابتة في الأفكار عند الروائي نفسه، بل أصبحت موضوعة للقول الإبداعي وتيمة له، فكانت موضوعًا مهمًا له ما لهُ وعليه ما عليه، خلافًا لما كانت عليه من قبل، وخاصة في التصورات المتشددة لفائدة الثقافة الذكورية المحضة، والتي تستمد مشروعيتها من الفكر الكلاسيكي والرجعي الموغل في التراث القروسطي… ومن هنا، يمكننا القول إن جعل قضية المرأة في معزل عن القضايا الإنسانية الأساسية، وتجريدها من سياقها الجمعي داخل المجتمع البشري، كما نستنتج من الرواية، هو قول غير صائب، وعمل لا ينفع في شيء، خاصة وأن المرأة وقضيتها هي جزء من قضايا الإنسان عامة، أن تنفتح على آفاق واسعة ورحبة في مقاربتها لقضية المرأة في المجتمع التقليدي، حيث نجد في الرواية رؤية مختلفة وواعية تلحُّ على الاندماج الطبيعي المفترض بين المرأة والرجل في عالم يبحث عن الحداثة ويهدف إليها، لكنه منقسم بين غرب يقف حجرة عثرة أمام التحديث، من خلال تمزيق الأنساق التقليدية للعلاقات الاجتماعية التي لا بد لكل تحديث أن يقوم بتفكيكها، وبين مجتمع أبوي ذكوري مستبد يمنع نصفه الثاني من المساهمة في هذا التحديث بدعوى أنه عورة فاضحة قاصرة ومبتورة ومطمورة، ولكنه نصف مثير للشبق والرغبة، على حدّ قول فاطمة المرنيسي. ولنتصور ذلك مع الروائي حينما يقول في الرواية: “التفتَ أبوه إليه غاضبًا وتساءل: ماذا ستستفيد من دراستها؟ فالنساء خُلقن للزواج والإنجاب وخدمة أزواجهن” (الرواية، الصفحة 9). أو كما في قوله: “التفتَ أبو جمانة إلى أبي أسامة وقال متجهمًا: إذا جئتم تطلبون خادمة لابنكم، فقد أخطأتمْ في العنوان، فالنساء شقائق الرجال، والزواج سنة الحياة، والحياة الزوجية تقوم على البر والإحسان، وابنتي لن تكون خادمة لأحدٍ، لكنها ستكون زوجة صالحة لمن تكون من نصيبه” (الصفحة 10).
“في الرواية رؤية مختلفة وواعية تلحُّ على الاندماج الطبيعي المفترض بين المرأة والرجل في عالم يبحث عن الحداثة ويهدف إليها، لكنه منقسم بين غرب يقف حجرة عثرة أمام التحديث وبين مجتمع أبوي ذكوري مستبد”
ولكي تستطيع الأنثى استرجاع ما فقدته، واستعادة شعورها بذاتها، فهل هي في حاجة إلى ولي أمرها أو إلى أي أحد آخر ليدافع عن كرامتها وعن إنسانيتها أمام جبروت النظرة المجتمعية التسلطية؟ وهل هي في حاجة إلى من يأخذ بيدها إلى برّ الأمان ويخرجها من عنق الزجاجة الذي وُضعت فيه باسم عناوين وأعراف ما أنزل الله بها من سلطان؟ ولكي تحقّق كل هذه الأشياء كان لا بد لها أن تستغل شيئًا تملكه لتحقق به ما عجزت عن تحقيقه بعقلها وفكرها ورأيها، وهو العلم والمعرفة، معرفة حقوقها كإنسان أولًا وأخيرًا من حقه أن يدافع عن نفسه ويشعر بوجوده وذاته دون حاجة إلى وصي أو واسطة. هنا تتجلّى قوة المرأة وقدرة الأنثى على التمرّد والثورة ضد الأعراف التقليدية، ورغم أنها في بعض الأحيان، تسقط فريسة أمام سلطة الأب والأم، فإنها في أحيان أخرى تستطيع أن تمرر عبرهما العديد من الأفكار والقناعات التي تحافظ على كرامتها وعلى حقها في الرفض والتعبير عن أحاسيسها بكل حرية.
وإن في اتساع الهوة بين الذات والحياة، بل بين الذات والعالم المحيط بها، ما يؤدي إلى التيه على مستوى الفكر والعاطفة، وينتج بالمقابل مشاعر مهزوزة ومشتتة بين أطراف تلك العلاقات الأسرية. فغياب الحب داخل الأسرة بين الأم والأب مثلًا، يدفع الفتاة إلى البحث عنه خارجًا لأنها تعرف أن الحب هو إكسير الحياة الأسرية، ووقودها، ومنتج السعادة والمحبة والمودة الدائمة. ولذلك تجد الفتاة، في مثل هذه الحالات، تروم الوحدة والعزلة والانزواء إلى الخفاء والغياب ودخول سراديب وممرات التفكير السلبي والقاتل للأنوثة والأمومة، أو البحث عن شخص آخر يمكنه أن يفهمها ولو مؤقتًا ويحافظ على ماء وجهها الذي فقدته في إطار وعي ذكوري تعيشه داخل البيت وتعاني منه في كل تفاصيل الحياة، كما فعلت صابرين التي أرادت أن تعيش حياتها بأسلوب مختلف عن باقي فتيات العائلة وتختار لنفسها زوجًا وحبيبًا وتمارس حياتها بشكل مختلف انطلاقًا من خلع الحجاب إلى الخروج مع حبيبها والذهاب معه إلى بيته دون ترقب للعواقب أو حساب منها لكلام الناس ورقابتهم.
لقد مزّقت صابرين كل مواقف الخجل والحياء والخوف من المجتمع وردود فعله في الصوت الأنثوي، مثل لقائها بحبيبها في بيته أو في كل الأماكن والأوقات، ومصافحته بسلاسة وتقبيله بحرية أمام الناس، والخروج معه في أوقات متأخرة من الليل أمام الجميع، ووصف عشقها له ورغبتها في الزواج به وممارسة الحب معه.. فصابرين توجّهت في هذه المواقف نحو موضوعات تتعلق بهويتها الأنثوية، وسؤال الذات المتمركزة في منطقة غير متكافئة مع الرجل في مجتمعها الفلسطيني الذي يكرّس ثقافة معينة تنحو في اتجاه تكريس الصوت الذكوري الذي يقطع الطريق على المرأة لتحقيق ذاتها، والخروج من سلطته المطلقة التي تمنحه إحساسًا بوجوده وبذاته المتضخمة، التي يشعر في بعض الأحيان باضمحلالها خاصة أمام الأنثى. إن الابتهاج بالحب، والفرح بهذا الشعور الجميل، جعل صابرين تقوم بجهد كبير لإقناع أمها بالخروج مع عشيقها وعدم البوح بسرها إلى أبيها. هذا الحب منحها إرادة جديدة في تحقيق الذات، وأعطاها قدرة هائلة على الإبداع الفني، لأنه قضى على تلك المشاعر الدفينة داخلها والتي كانت تقضي على آمالها في الحب والزواج وبناء أسرة. ورغم أنها في النهاية كانت عرضة للخيانة من حبيبها، زير النساء، حيث تطلقت منه، لكنها بقيت وفية لنهجها في الحياة دون أن تتعرض لصدمة قوية تفقدها ثقتها في ذاتها.
“توجّهت صابرين نحو موضوعات تتعلق بهويتها الأنثوية، وسؤال الذات المتمركزة في منطقة غير متكافئة مع الرجل الذي يقطع الطريق على المرأة لتحقيق ذاتها”
عندما تصل الأنثى إلى مرحلة معينة من حياتها، وعندما تبدأ بالشعور بذاتها كأنثى وكإنسان قادر على التفكير والتعبير عن نفسه وعن مشاعره وأحاسيسه خاصة بعد تعرّضها للعديد من الهزات، وتحّس بعقلها وقد عرف الكثير من الإصلاحات والتدخلات التي تتحكم في أفكاره ومواقفه، وترسم له مساحات التحرك والتفكير والتعبير، فإنها تكون في النهاية فريسة وعي يجعلها تفقد القدرة على السيطرة في تصرفاتها وأفعالها، لأنها تكون قد تعرضت لتشويش معين على مستوى الوعي بالصواب والخطأ، وبالمقبول والممنوع، بل يصل بها الأمر إلى الحد الذي يجعل منها امرأة متمردة على كل ما له صلة بالصواب والمقبول وما يقرره الرجل من قوانين وقيم وأخلاق وحدود، فتخرج عليها مدعية الحرية والحق في الاختيار والتعبير… وهذا لعمري يؤكد بالملموس نتائج التسلط القيمي والفكري المفروض عليها وعلى فكرها وحقها في الحياة. ولنقرأ مع جميل السلحوت المقطع التالي: “انتفضتْ عائشة باكية غاضبة: ما هذه القرية الظالمة؟ يا إلهي إنهم يكذبون ويصدقون كذبهم، فوالله إنني ظُلمتُ، ولا أزال مظلومة، ولم أجدْ من يرفع الظلم عني، ليتني متُّ واسترحتُ من هذه الدنيا البائسة” (الصفحة 115).
تعلن عائشة عن هذا الظلم والتسلط البشري في مجتمع ذكوري ظالم لا يعترف بقيمة المرأة وبراءتها أمام أفعال الرجل التي قد تصل إلى وأد طموحها وكرامتها تحت ظلال عناوين ثقافية تستمد شرعيتها من وعي قروسطي منغلق، فتتشبث بالله والأمل في رحمته، بل إنها تطلب منه أن يمدها بالقوة على الصبر على هذا الظلم والمغفرة منه جراء التفكير في الانتحار ومغادرة الحياة الظالمين أهلها. إنها مفارقة عجيبة. كيف لامرأة شرقية أن تنتفض وتتمرد على إرادة المجتمع الذكوري وترفض قراراته وتقاليده؟ وحتى لو شعرت المرأة بالظلم والإهانة فعليها أن تتقبل الأمر وتحتسب ذلك عند الله، لكن أن يصل بها الأمر إلى المعاناة والتعبير عنها علنًا وترفض ما يقرره لها الرجال فإن في ذلك ثورة على القيم المجتمعية التي رسموها وتفرض عليها الطاعة دون نقاش أو تمرد. فإنها مطالبة بالانتحار على أن تبادر إلى الاعتراف بالظلم فهذا شيء مرفوض وغير مقبول ولا يمكنها أن تعود إليه مرة أخرى.
“تعلن عائشة عن الظلم والتسلط البشري في مجتمع ظالم لا يعترف بقيمة المرأة وبراءتها أمام أفعال الرجل التي قد تصل إلى وأد طموحها وكرامتها تحت ظلال عناوين ثقافية تستمد شرعيتها من وعي قروسطي منغلق”
ختامًا، نقول إن جميل السلحوت من خلال روايته هاته، يحاول أن يقرأ مجتمعه الفلسطيني من جانبين اثنين: جانب متعلّق بما يؤمن به من تقاليد وعادات وأعراف تكاد تقضي على حق المرأة باعتبارها نصف المجتمع في التعبير عن الذات والحفاظ على إنسانيتها واختلافها عن شقيقها الرجل، وجانب مرتبط أساسًا بمدى قدرة جزء مهم من النساء على التمرد والثورة ضد هذه التقاليد رغم التضييق وأساليب المنع والقمع باسم عناوين لا علاقة لها بتعاليم الدين والقيم المتعارف عليها إنسانيًا. وبالتالي يمكن اعتبار الرواية نقدًا موجهًا إلى المجتمع الفلسطيني عامة من أجل إعادة النظر في بناء وعي إنساني جديد يعطي لكل ذي حقٍ حقه، ويمنح المرأة الفلسطينية إمكانية المساهمة في بناء المجتمع دون تضييق عليها أو وصاية، فلا يعقل أن تكون المرأة الفلسطينية أمُّ الشهداء والمقاومين والشرفاء عرضة للظلم والاضطهاد. فمقاومة الاحتلال والظلم تبدأ بالضرورة من شعور أفراد المجتمع دون تمييز جنسي أو عرقي أو ديني بحريتهم أولًا وأخيرًا.
21-مايو-2021
*ناقد مغربي.