لا جدال في أن مسيحي العالم العربي هم مواطنون أصليون وأصيلون في بلدانهم،وهم في غالبيتهم ينحدرون من قبائل عربية معروفة،اعتنقت المسيحية قبل الاسلام،وجاء الاسلام وأقرهم على دينهم(لا اكراه في الدين)وهم مواطنون كاملو المواطنة،لهم ما على بقية المواطنين من حقوق، وعليهم ما عليهم، وقد اعتبر المسلمون الأوائل اصحاب الديانتين السماويتين السابقتين أهل ذمّة،أيّ أنهم في ذمّة المسلمين،ولم يشركوهم في الفتوحات الاسلامية-لأنها حروب دينية لنشر الاسلام-وطلبوا منهم دفع(الجزية)مقابل اعفائهم من المشاركة في حروب الفتح،أيّ مقابل اعفائهم من خدمة العلم في المصطلحات الحديثة، وعندما اشترك أحد النصارى في حروب الفتح زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب-رضي الله عنه وأرضاه-،من منطلقات انه يقاتل دفاعا عن –عزّ العرب-أسقط عنه الخليفة الجزية.
وللتذكير فقط فإنه عندما فُتحت القدس في العام 636 م زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب،كان مواطنوها يدينون بالمسيحية،وقصة استلام الخليفة لمفاتيح المدينة من بطريركها صفرونيوس،والعهدة العمرية معروفة ومذكورة في كتب التاريخ، وكذلك عندما فتح عمرو بن العاص مصر في زمن عمر بن الخطاب ايضا،كان الاقباط فيها،وديانتهم كانت ولا تزال المسيحية،فأقرهم على ذلك،بل هناك ما هو أبعد من هذا،فقد حافظ الحكم الاسلامي على المعابد والتماثيل والمقابر والاثار
الفرعونية،كتراث حضاري لهذا البلد.
وللتذكير ايضا فإن الأوروبين عندما اضطهدوا اليهود في القرون الوسطى،لم يجدوا لهم ملاذا آمنا الا في الاندلس-اسبانيا-التي كانت تحت الحكم العربي الاسلامي،حيث استقروا آمنين محميين وانتجوا حضارة وثقافة.
وانا أسوق هذا وغيره كثير لتبيان ان الطائفية والانغلاق الديني،والفكر التكفيري ليست من الاسلام لا من قريب ولا من بعيد،وما هي الا أفكار وليدة عصور انحطاط فكري وحضاري تعيشها الأمة،وحصدت جراءها هزائم فادحة، وهي ردات فعل ضيقة الأفق على المظالم التي تلحق بالعرب والمسلمين من المستعمرين الغربيين الذين يدينون في غالبيتهم بالمسيحية،واذا ما قفزنا عن حروب الفرنجة كما سمّاها بوعي معاصروها من العرب والمسلمين،في حين سماها المستعمرون الغربيون –الحروب الصليبية-لاستغلال العاطفة الدينية لعامة شعوبهم لتجنيدهم في حروبهم الاستعمارية،فإن ما يشهده العالمان العربي والاسلامي من حروب وصراعات واحتلالات هو نتاج لاطماع اقتصادية وسياسية، لا علاقة لها بالمسيحية،وللتذكير أيضا فإن أبشع الحروب وأكثرها ضحايا ودمارا في تاريخ البشرية، هي الحرب العالمية الثانية التي زاد ضحاياها عن الستين مليون شخص استهدفت اوروبا وشعوبها المسيحية.
والمسيحيون العرب مندمجون في شعوبهم، ويحملون قضايا أمتهم وأوطانهم،فقد سقط الى قمة المجد عشرات الاف الاقباط المصريين في حروب مصر مع اسرائيل،وسقط كثيرون من مسيحي فلسطين،وشرد منهم مئات الآلاف تماما مثلما حصل مع اخوتهم المسلمين،وكان من مسيحي فلسطين مقاتلون وقادة لفصائل مقاومة منهم حكيم الثورة الفلسطينية الراحل الدكتور جورج حبش، ومنهم نايف حواتمة زعيم الجبهة الديمقراطية-وهو ينحدر من اصول اردنية-.
ومسيحيو العالم العربي هم جزء من فسيفساء هذا العالم،لهم دور ريادي في البناء الحضاري للمنطقة عبر التاريخ،وكان لهم دور اساسي في تدوين اللغة العربية والحفاظ عليها،فمؤلف (المنجد)مثلا مسيحي،وكثير من الرهبان والمطارنة والبطاركة لهم مؤلفات وابحاث قيمة في اللغة العربية. وفي التاريخ المعاصر فإن مفكرا كبيرا كادوارد سعيد،خدم القضية الفلسطينية والقضايا العربية اكثر من فصيل مقاومة، ودافع عن الاسلام من منطلقات قومية اكثر من غيره من علماء المسلمين.
وما منظرو(ملة الكفر واحدة) الا منغلقون ثقافيا، وجهلة بأمور دينهم ودنياهم، وهم يسيئون في ايامنا هذه الى الاسلام اكثر من إساءتهم للاعداء،ومع انهم ليسوا حجة على الاسلام، الا ان الاعداء يأخذونهم كمشجب يعلقون عليه حروبهم العدائية للاسلام والمسلمين والعرب، ولا يخفى على أحد ان المستعمرين والطامعين والحاقدين والمحتلين يحاولون بشتى الوسائل اثارة النعرات الطائفية، والاحتراب الداخلي من اجل تسهيل سيطرتهم على المنطقة،فتارة يثيرون النعرات بين المسلمين والمسيحين،وفي مرحلتنا هذه يثيرون النعرات بين المسلمين انفسهم من خلال تأجيج الخلافات بين الشيعة والسنة،ويجدون من يُروج لسياساتهم من اصحاب العمائم والقلنسوات مع الأسف،بقصد أو بدون قصد فالنتيجة واحدة،والا كيف يمكن تفسير الاعتداء القاتل على اقباط مصر خصوصا في احتفالات اعياد الميلاد المجيدة، ورأس السنة الميلادية، فالمصريون مسلمون ومسيحيون يعيشون بمحبة ووئام سوية منذ خمسة عشر قرنا،.وكيف يمكن تفسير الاعتداء على الكنائس في ماليزيا لاستعمالها كلمة(الله).فهل الله سبحانه وتعالى إله وخالق الملسمين وحدهم،أم هي محاولة لتدمير ماليزيا واقتصادها الذي ينافس الاقتصادات الاستعمارية؟؟
ومن المريب الى درجة الهلع هو هجرة المسيحيين من البلدان العربية تحت شعار –الهروب بدينهم- من الاضطهاد،أو نتيجة للحروب الأهلية كما حصل في لبنان،أو كنتاج لفجور ومظالم الاحتلال في فلسطين والعراق،حيث يتعرض المسيحيون في الأخيرة الى عمليات قتل وتفجير للكنائس من أصحاب الفكر التكفيري،فعدد المسيحيين العرب الفلسطينيين في القدس كمثال كان في العام 1967-أيّ عام وقوع المدينة تحت الاحتلال-اثني عشر الف مواطن،وهم الآن اقل من خمسة آلاف وهكذا.
وقد ادرك الزعيم الفلسطيني الشهيد ياسر عرفات اهمية وجود الأقليات الدينية في نسيج المجتمع الفلسطيني،فاللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير دائما في عضويتها مسيحي أو اكثر،وفي المجلس التشريعي خصص لدائرة القدس مقعدين مسيحيين للمسيحيين،علما ان عدد سكان دائرتها الانتخابية 420 الف مواطن،كما خصص مقعدا للمسيحين في غزة مع ان عددهم اقل من الف شخص،حتى انه خصص مقعدا للطائفة السامرية اليهودية في نابلس،مع ان عددها لا يتجاوز الالف شخص ايضا،وكان رحمه الله من المؤمنين بأن(الدين لله والوطن للجميع).من هنا فإن الحكومات العربية والاسلامية مطالبة بالضرب بيد حديدية كل من يحاول المس بالامن الاجتماعي واثارة القلاقل والفتن،وفي مقدمتها الطائفية البغيضة