صدرت رواية المطلقة للأديب المقدسيّ جميل السلحوت عن مكتبة كل شيء في حيفا قبل حوالي شهرين، وتقع الرّواية التي يحمل غلافها الأوّل لوحة للفنّان التشكيليّ محمد نصر الله، ومنتجها وأخرجها شربل الياس في 192 صفحة من الحجم المتوسّط.
جميل السلحوت كاتب روائي وصاحب مقالات سياسية في الشأن الفلسطيني والمقدسي السياسي والاجتماعي، ولقّب بشخصية القدس الثقافية للعام 2012 من قبل وزارة الثقافة الفلسطينية، له مجموعة من الروايات صدرت عن دار الجندي ومكتبة كل شيء، كما صدر له مجموعة من كتب الأطفال والفتيان، وله دور كبير في تعزيز الحراك الثقافي في مدينة القدس الشريف من خلال ندوة اليوم السابع الذي يعتبر من أبرز مؤسسيها في مارس 1991 ومستمرة لغاية اليوم.
رواية المطلقة هي الجزء الثاني بعد رواية الخاصرة الرخوة… لكنني هنا سأكتفي بإبداء الرأي والملاحظات على المطلقة.
لم أترك الرواية حتى أكملت قراءتها في جلسة واحدة، الرواية تتحدّث عن حالة اجتماعيّة منتشرة في مجتمعاتنا العربيّة، وفي الفترة الأخيرة زاد انتشارها بشكل ملحوظ، حيث بلغت حالات الطلاق في فلسطين عام 2018 قرابة 8509 حالة -بحسب ما جاء به مركز المعلومات الوطني الفلسطيني- علما بأن “أبغض الحلال عند الله الطلاق”، جاء بأن أسباب الطلاق قد تكون بفعل الغيرة والقسوة التي تتسم بها بعض الحماوات، كما حصل مع أمّ أسامة التي تصرّ على طلاق ابنها المتعلّم والمتخصّص بالشّريعة الإسلاميّة، إلّا أنّ تنمّرها عليه يسلب منه ومن أبيه شخصيّتهما ليجعلهما كالدّمية بين يديها، ” نحن لا نريدها فلتذهب إلى الجحيم هي ومن خلّفوها”ص12، هذا التّنمّر من قبل أمّ أسامة جعل موقف الرّجال محرجا أمام إمام المسجد، الذي هو نفسه ترك التّدخّل وتنحّى وهو لا يخفي استياءه وغضبه، “يبدو أنّ التّفاهم معكم صعب جدّا، ومشى باتّجاه الباب؛ ليخرج دون استئذان”ص23. ورد في الرواية نموذجان لرجال الدّين، الأوّل ويمثله أسامة زوج جمانة، التي تطلب الطّلاق بسبب ميول أسامة الدّينيّة المتزمّتة التّكفيريّة، فيمنعها من الخروج وعدم فتح النّوافذ، ويمنعها من مشاهدة التّلفاز والهاتف، ولا يسمح لها في غربتها أن تتحدّث مع أهلها إلا بوجوده؛ ليستمع لكلّ حرف…كما ورد على لسان جمانة: يا عمّ، أسامة رجل انطوائيّ، متأثر بأصحاب الفكر التّكفيريّ، كل شيء برأيه حرام، لا تلفاز ولا مذياع ولا صحف، فتح نوافذ البيت حرام…مراجعة المرأة للطّبيب حرام… ص18. أمّا النّموذج الثّاني فهو يمثّل غالبيّة النّاس في فلسطين على وجه الخصوص، وهو رجل الدّين الوسطيّ والذي يمثله هنا إمام المسجد، الذي يقوم بعمل الإصلاح بجانب عمله في الإمامة، وجمانة الزّوجة المتعلّمة والمتخصّصة بالشّريعة… وثمّة رجل يدّعي الدّين والسّماحة، ويمثّل خطرا حقيقيّا في المجتمع ألا وهو “المشعوذ،” وظهر في الرّواية بقالب بشع يدلّ على بشاعة هذه الفئة من البشر الذين هم أقرب إلى الحيوانات؛ وكيف يخدعون النساء بشكل خاصّ، ويهتكون أعراضهنّ، والغريب بالأمر أنّ أسامة الرّجل المتعلّم يذهب بصحبة أمّه لزيارة هذا الدّجال المشعوذ، وهذا دليل على فهمه الخاطيء للدّين، وهي ربّما إشارة من الكاتب بأنّ المتعلّم نفسه أحيانا بحاجة لإعادة تأهيل. تطرّقت الرذواية إلى مواضيع كثيرة، وأحيانا كان الكاتب يضع رأيه عن طريق اختيار الحلول لبعض المشاكل التي جاءت في الرّواية، وأنا غير متأكّد من أنّ للكاتب الحقّ أن يكون مصلحا اجتماعيّا؟ هو يضع إصبعه على المشكلة الاجتماعيّة، ويترك الأمر للمختصّين في حلّ الإشكال بطريقتهم… ومن بين القضايا الهامّة التي وردت في الرّواية هي “الإشاعات” التي تنتشر كالنّار في الهشيم رغم خطورة حيثيّاتها، كما حصل مع عائشة… الإشاعة تهدم بسرعة، وإعادة الحقّ بطيء كما جاء ص43. تطرّقت الرّواية أيضا لدور الإحتلال الصهيونيّ في بلادنا، وخاصّة منع النّاس من التنقّل من القرى المحيطة بالقدس إلى مدينتهم؛ ما يؤثر على اقتصاد المدينة من جهة، وعلى الحياة الاجتماعيّة والصّحّيّة من جهة، وهو الذي منع فارس من السّفر للعلاج ومن دخوله القدس ليذهب إلى مستشفى المطلع، فتسبّب هذا المنع بموت فارس. وتطرّقت الرّواية أيضا إلى أهميّة العمل التّطوعيّ، من خلال التّبرّع بالدّم وجمع تبرعات ماليّة لمساعدة المحتاجين من المرضى، ثمة تناقض بسيط حدث في الرّواية حين اتّصلت أخت الدّكتور بجمانة وتغريد لأخذ موعد للزيارة، لم يجبن على الهاتف بحجّة أنّهما لا يردّان على الأرقام غير المعروفة، ص128، بينما ردّت جمانة على هاتف ” المشعوذ” دون أن تعرفه ص77. كما أنّ كلمة “شبق” وردت في غير محلّها، وقد جاء في لسان العرب معنى شبق أنّ الرجل أو المرأة اشتدت غُلمته، فجمانة لم تكن بهذه الحالة حسب واقع الحال في سوق العطارين ص175. بل كانت محبّة هيمانة متيّمة بحسب توصيف ابن حزم الأندلسيّ في كتابه “طوق الحمامة في الألفة والإئتلاف” … أمّا وصف جمانة لوالدها بالإقحوان البرّيّ الفلسطينيّ فكان وصفا رائعا لما لهذه الزّهرة من أناقة وطيبة وفوائد غنيّة. ص124.
وكما عرضت لنا الرّواية باهتمام قضيّة الطلاق، وبيّنت أهمّيّة التّعامل مع المطلقة وإعطائها فرصة أخرى للحياة الزّوجية الكريمة، مثلما يأخذ الرّجل المطلق الفرصة تلو الفرصة حين طلب رمزي يد جمانة، وكما ورد عن والدي فريد ورمزي اللذين تزوّجا بعد أن كانت أمّهما مطلقة، بل أنّ حياتهما الاجتماعيّة ناجحة جدّا، وهذا يعدّ توازنا لصالح المرأة انظر ص 133+ 147+180.
استطاع الكاتب بكلّ مقدرة أن يصوّر لنا شخصيّاته، وجعلنا نقف أمامها وكأنّها من لحم ودم، فقد تعاطفنا مع جمانة المثقّفة الرّزينة التي طالبت بحقّها وحصلت عليه بكلّ هدوء، ثم عرَّفنا بشخصيّة الأب الطّيّب وتمثّل ذلك بأبي أسامة وأبو جمانة، أمّا شخصيّة أمّ أسامة فقد أبدع الكاتب برسمها، حتّى أنّ شخصيّتها الشّريرة تستفزّ القاريء سواء بألفاظها السّوقيّة أو بأفعالها القبيحة، أو بغضبها المستمرّ، أو بتنمرّها الواضح.
أمّا الأمر الهامّ بالنّسبة لي ومن وجهة نظري؛ فهز ذلك التّوظيف للتّراث في رواية “المطلقة” لجميل السلحوت، لقد وظّف التّراث الدّينيّ المباشر بشكل لافت، باستخدام الآيات القرآنية لإسناد أفكاره في الرّواية، كما استخدم الأحاديث النّبويّة الشّريفة، لن أخوض بهذا التّوظيف بالذّات في هذه العجالة، إنّما سأكتفي بدراسة المثل الشّعبيّ في الرّواية، فقد استخدم الكاتب المثل الشّعبيّ أكثر من مئة وسبع مرّات، وسأكتفي بالولوج إلى عمق المثل لأرى كيف؟ ولماذا؟ اتّكأ الكاتب السلحوت على المثل الشّعبيّ بهذه الكثافة اللافتة، خاصّة وأنّه استعمل المثل بصيغته المباشرة. فلطالما شغل هذا التّراث اهتمام الباحثين والدّارسين الذين ما فتئوا يقفون عند كلّ جزئيّاته ليعطوا صورة واضحة المعالم عن هذا التّراث الذي نشأ في الأوساط الشّعبيّة، وهكذا هو السلحوت بحكم نشأته في مجتمع قرويّ، بدويّ، مدينيّ، فإنّ هذا المزيج من التّنوّع البيئيّ جعل منه ملّما بعادات وتقاليد مجتمعه، متشبّعا بقيمه وثقافته؛ فينبئ بذلك عن مناحي الحياة المختلفة، مركّزا على جوانبها الحضاريّة والفكريّة والإجتماعية.
سأتناول جميع الأمثال التي استملها السلحوت في نصّه الرّوائيّ، والتي جعل الكاتب من خلالها قضيّة الطلاق قضيّة اجتماعية تناولها من جانب تراثيّ دينيّ وشعبيّ؛ ففي الصّفحة العاشرة وعلى لسان بطلة الرّواية “جمانة ” التي تحاول تهدئة والدها المنزعج ممّا سمع من زوج ابنته “أسامة” برميه الطّلاق على ابنته، ومن ردّة فعل الإبنة غير المتوّقع على طلاقها، وهذه كانت رغبتها الأكيدة، وقد قالت لوالدها: “المكتوب على الجبين بتشوفه العين”ص10، وهنا كان استخدام المثل لتخفيف حدّة الموقف، وجاء بصيغته المباشرة ممّا اعطى مفعوله المنشود. بعد ذلك وعلى لسان والد الزّوج المطلّق يردّ على ابنه وهو غير راضٍ عن تصرّفه مع زوجته، ودليل على أنه يرفض ما آلت إليه الأمور بينه وبين زوجته إذ يقول له: “فش بس بيهرب من عرس”ص11 متّكئا على هذا المثل لإثبات أنّ ما يقوله ابنه غير مقنع، ورد هذا المثل كما هو بالعاميّة في النّصّ، وهو مثل شعبيّ دارج في بلاد الشّام. إنّ استخدام الكاتب لهكذا أمثال يختصر الطّريق باختزاله موقف الشّخصية بكلمات المثل الشّعبيّ القليلة. وفي نفس السّياق وعلى لسان أبي أسامة أيضا يوجه كلامه هذه المرّة إلى زوجته أمّ أسامة قائلا: ” فاقد الشّيء لا يعطيه”؛ص13، وهو هنا يريد القول بأنّ هذه المرأة لا تتمتّع بالحدّ الأدنى من الخلق الإجتماعيّ، وليس لها دراية بأمور التّربية، ولا يحقّ لها المشاركة بالنّقاش لأنّ كلامها ينمّ عن جهل وغباء وعنجهيّة، فأراد من خلال استخدامه للمثل الشّعبيّ أن يضع حدّا قاطعا بينه وبينها. وهنا يختصر لنا الكاتب الطّريق في تقديم لمحة مهمّة لتعريفنا بهذه الشّخصيّة الجاهلة. وبنفس الجلسة التي لم تهدأ ثائرة أمّ أسامة على زوجها وابنها وعلى مطلّقة ابنها ووالدتها، فأمّ أسامة تحمل الوالدة ذنب ابنتها إذ تقول: “يا ما تحت السّواهي دواهي”ص13، كما نلاحظ أنّ لغة المثل بسيطة وعاميّة، وهذا يناسب نوعيّة الشّخصيّة تماما، ولذلك نستطيع القول أنّ المثل أدّى وظيفته بشكل كامل.
يقول إمام المسجد في مجلس يضمّ أسامة وأمه وأباه والإمام نفسه بعد أن هدأت ثائرة الأمّ الغاضبة، وبعد حديث داخليّ بينه وبين نفسه يقول في سرّه: “السّكوت من الشّيطان” ص22 وهذه مقولة تقارب المثل وينسبه بالخطأ بعض النّاس إلى الرّسول محمّد صلى الله عليه وسلم، بالأصل هي” السّاكت عن الحقّ شيطان أخرس”، لكنّ استخدام الكاتب لهذه المقولة لإقناع الإمام بأنّه من الواجب عليه أن يستمرّ برأب الصّدع بين النّاس؛ من هذا المنطلق الوارد في المقولة، وجدير بالذّكر أنّ الإمام يقول بسرّه “مع أنّي أرى أنّ السّكوت في هذه الحالة فضيلة”ص22، دليل على نفوره من تصرّفات أمّ أسامة. تستمرّ الأمّ ببث سمومها في نفوس أبنائها وتتمادى في قولها ” اتركها لا معلّقة ولا مطلّقة” ص25، وهنا فإنها تبرز حقدها على الزّوجة المطلّقة وعلى أمّها أيضا، يخرج مقدار هذا الحقد من داخلها بشكل قاسٍ، أجاد الكاتب باستخدامه المثل، وقد تكرّر هذا المثل لاحقا في ص48، عندما حاول أسامة السّفر وترك جمانة ” معلقة لا متزوجة ولا مطلقة” بناءً على نصيحة والدته، وأسلوب الاسترجاع هذا يدلّ على متانة الحبكة الرّوائيّة، وعلى لسان “تغريد” شقيقة جمانة عندما حاولت إقناع والدها لترك جمانة تقرّر وحدها ما تريده فاتّكأت على مثل شعبيّ كثير الاستعمال في مجتمعاتنا في الوقت الحاضر حين قالت: ” العزوبيّة ولا الجيزة الرّديّة” كثير من الأزواج الشّابة يتعرّضون للانفصال والطّلاق، وعندما يسألهم أحدهم يقولون هذا المثل، أحيانا أعتبر هذا المثل من الأمثال السّلبيّة التي تضرّ أكثر مما تنفع، لكن اتّكاء الكاتب عليه في هذا الواقع كان موفقا، وقد تكرر هذا المثل في ثلاثة مواضع في الرّواية ص83 وص149؛ وفي المرّة الثّانية جاء المثل على لسان صابرين وهي مطلقة يأتي لخطبتها رجال عجائز، فردّت بقولها تبرّر رفضها لخطابها العجائز: “العزوبية ولا الجيزة الرّديّة”ص83. وفي المرّة الثّالثة التي تكرّر فيها استخدام المثل كان أيضا على لسان صابرين؛ لتبرّر موقفها أمام جمانة، ص149، ننتقل إلى عائلة جمانة وعلى لسان أمّها، تقول لها في إشارة بأنّها ستربّي ابنها وتتعب معه، ولكن في النهاية الولد لأبيه ولعائلة أبيه، إذ تقول: ” ربّيني وبعرف أهلي”ص26 وتضيف فورا “ابن الكلب جرو”، لو نظرنا إلى المثلين سنجدهما تقريبا يعطيان نفس المعنى، إلا أنّ اللفظ يختلف كليّا، فالمثل الأوّل يتحدّث عن التّربية، والتّربية لها علاقة مباشرة بالأمّ، وهذا لائق ومناسب جدّا في توصيل الفكرة، بينما المثل الثّاني تختلف ألفاظه إذ أنّه يتحدّث بشكل فيه غصّة وفيه نوع من الشّتيمة لهذا الطفل ولأبيه، وينمّ عن كره الموقف، وأظنّ الكاتب لو اكتفى بالمثل الأوّل لكان أمرا جيدا. أمّا جمانة والدة الطفل المثقّفة فإنّها تردّ على والدتها بأنّها ستربي ابنها ولن تحرمه من أبيه وأهله إذ تقول: “ابن الحلال لا ينسى والديه”ص26، أي أنّها ستربّيه أحسن تربية ولن تغيّبه عن أبيه وأهل أبيه، بحيث يكون ولدا بارّا بأبيه وبأمّه، وهذا من الأمثال الشّعبيّة الإيجابيّة. ثمّ يستخدم الكاتب مثلا شعبيّا بغير صورته المعروفة حين قال على لسان الفتاة تغريد وربما لم يقل المثل على هيئته الصّحيحة ليدل على مستوى الشّخصيّة غير الواعية تماما لأصل المثل، حين تقول: “يا ناس أعتقد إن أسامة مجنون وعلى رأي المثل “مش كل المجانين بيرموا احجار”ص28، لم أجد ضرورة لاستخدام هذا المثل في هذا الحال، إذ أنّه لم يخدم النّصّ ولم يثرِ الحديث، وأصل المثل القريب ممّا ذكر على لسان تغريد هو:” مجنون بيرمي حجر في البير ومئة عاقل لا يستطيعون إخراجه.”
وفي جلسة بين إمام الجامع ووالد جمانة يقدّم الإمام اعتذاره بالانسحاب من القضيّة، فيردّ عليه والد جمانة بأنّه لم يعد ثمّة حلّ للأمر، وأفضل شيء هو استكمال الطلاق بسلاسة واتّفاق، مضيفا المثل الشعبي القائل” العقدة التي تحلها بأيدك أحسن من اللي بتحلها بأسنانك”ص29، مشيرا إلى رغبته بحل الموضوع بالاتّفاق لا بالمحاكم، والقضايا التي تمتدّ طويلا وتستنزف الكثير من المال، فالحلّ باليد أفضل من حلّ الأسنان، اليد هنا مصدر الخير والسّلام والأسنان مصدر القوّة والعنف، وقد استخدم الكاتب المثل في مكانه وهو دعوة صريحة بأن تحلّ المشاكل بطرق سهلة تصنع الخير مهما كانت المشاكل، ثمّ يضيف على لسان والد جمانة بأنّهم إن وافقوا على الحلّ بالطّريق السّلميّ كان به، وإن لم يوافقوا فسيتحمّلون نتيجة عنادهم وحدهم حين قال: ” ذنبهم على جنبهم”ص29، وهذا تحذير ودعوة بنفس الوقت للعقلانيّة في التعامل مع القضيّة.
وفي جلسة صفاء وهدوء في بيت أبي جمانة، سألت تغريد مازحة أباها وجمانة من تحبّ يا أبي جمانة أم ابنها سعيد، فأجابها: “ما أغلى من الولد إلا ولد الولد”ص31، باستخدام هذا المثل اختصر الإجابة بجملة واحدة عبّر فيها عن غلاوة الحفيد الذي زادت عن غلاوة الابن، فالولد ما في أغلى منه على قلب الأب في فرحه وحزنه في صحّته ومرضه هو المسؤول عن ولده، ولهذا يكون الولد مسبّبا للفرح ومسبّبا للحزن لأبيه، بينما الحفيد دوما مسبّبا للفرح بشكل نسبيّ، وعندما يمرض يكون غيره الذي يهتمّ به، وهو والد الحفيد وأمّه هنا، لا أعباء تذكر على الجدّ، ولذلك العلاقة أسهل مع الحفيد.
وفي سياق آخر في جلسة عائليّة في بيت أبي أسامة، بينما كانت أمّ أسامة مكابرة في موقفها ومعاندة لأي حديث يرأب الصّدع بين ابنها أسامة التي تعتبره أهمّ رجل في العالم، وأنّ النّساء جميعهنّ يتمنّينه، يقول الأب ردّا على كلام زوجته المتنمّرة: “رحم الله امرأ عرف قدر نفسه” ص32 بإشارة صريحة لم تعجب زوجته أن لا نطلب زيادة عما نستحق، لكن استخدام هذا المثل لا يناسب واقع الحال، فإذا حللنا المثل فإنّ معناه لا يدلّ على توافقه مع السّياق، ولذلك فإنّني أرى أنّ الكاتب لم يوفّق في توظيف هذا المثل في هذا السّياق، لكن الكاتب كرّر استخدام هذا المثل في موقع آخر وبنفس واقع الحال، وعلى لسان رأفت أخ أسامة عند حديثهم العائليّ، وردا على عناد والدته التي تعتبر أنّها أفضل من الجميع ص180، والحالتان تقريبا متشابهتان تماما، ولذلك أعاد الكاتب ذكر المثل مرّة ثانية. لكنّه أجاد باستخدام المثل على لسان رأفت الذي لا يعجبه تكبّر والدته، ووصفها لابنها أسامة بأنّه أفضل الشّباب وتفتخر به أمام الجميع، وأنّه محطّ أفئدة النّساء، فعلق رأفت قائلا: ” القرد في عين أمّه غزال” ص33، وهنا فإنّ المثل جاء في مكانه بكلّ تأكيد. وتتوالى الأمثال الشّعبيّة في النّصّ الرّوائيّ عند السلحوت حين وصف ابو أسامة زوجته اللئيمة بأنّه “لا يعجبها العجب” ص33، وهذا وصف دقيق لهذه المرأة، التي اعتادت دوما على رفض أيّ طرح يطرحه الزّوج أو الأبناء وهي متعنّتة في مواقفها، ذكر الكاتب نصف المثل وكان يكفي على الدّلالة المرغوب بها، ونذكر بقيّة المثل بحسب ما جاء في كتاب المثل الشّعبيّ بين المتحفيّة والإستمراريّة للكاتب د. شكري عراف” لا يعجبه العجب ولا الصيام برجب”. وفي حوار في داخله يرى أبو أسامة أنّه المخطيء في تعامله مع زوجته مبرّرا تماديها وتنمرّها عليه وعلى أبنائه، فيقول: ” لو أنّني قطعت راس البس” ص33 ويقصد المثل القائل “قطع رأس القط في ليلة الدّخلة” دلالة على إثبات الحزم والرّجولة، وأنّه الحاكم النّاهي للمرأة منذ أوّل يوم، وليس المقصود بطبيعة الحال هنا قطع بمعنى قطع، إنّما هي كناية عن الحزم مع المرأة منذ بدء العلاقة. لا أعرف ما هو رأي المرأة بهذا المثل لكنّه مثل سلبيّ على ما أعتقد! وتتوالى المواقف المختلفة منها الرّافضة مثل موقف أمّ أسامة ومنها التي جاءت من أسامة، حتى وصل الأمر أنّه يرى بأنّ “عملا” جعل عندها مسّا، وأنّه يجب أن يعمل لها رقية، فما كان من أمّ أسامة إلا أن قالت لهم اتركوا الأمر لي، لكنّ أبو أسامة لا يوافق فيقول” الحقوا البوم يدلكم على الخراب”! ص34 أي أنّها سوف تخرّب الكون كلّه في مشورتها، وفي خطواتها غير الموزونة، فردّت على زوجها وبدون مقدّمات: ” سكت دهرا ونطق كفرا”ص34 إشارة بأنّ أبا أسامة لم يشارك بالحديث ولم يقل شيئا، فكان ردّ فعل زوجته بأن قالت هذا المثل الشّعبيّ؛ فإن الكاتب استخدم المثل الشّعبي بالحوار بين الشّخصيات؛ واستخدام هذه الأمثال المكثّفة في معناها، ما أثرى النّصّ بشكل واضح، وجعل من المشهد وكأنّه قطعة حيَّة من حياتنا اليوميّة. جاء في الرّواية سبب تعامل أبو أسامة مع زوجته بهذا الشكل، وعلى لسان الراوي بأنّ الزّوج ” أطلق لها الحبل على غاربه”ص35، لأنّها لا أهل لها في البلد بعد أن هاجر جميعهم في العام 1967 بعد الحرب وكانت حينها عروسا.
” العتب على قدر العشم”ص36، قالته أمّ أسامة لصابرين التي أرادت تزويجها لابنها أسامة بعد طلاقه من جمانة، وقد بدأت حديثها مع صابرين بالعتاب، ومن أجل أن تتحبّب لها قالت هذا المثل الشّعبيّ، اتكاء الكاتب على هذا المثل لتحقيق هذا التحبّب المصطنع كان موفقا جدا.
وحين أرادت أمّ أسامة بثّ سمومها بطريقة مبطنة عندما أتت صابرين على ذكر جمانة طليقة أسامة؛ لتستفسر منها على صدق الخبر قالت أمّ أسامة: ” ربنا يستر على كلّ الولايا”ص36، وهذا المثل فيه التّضاد باللغة العربيّة إذ أنّها تلفظ الكلام الحسن وتقصد الشّرّ من ورائه، وهذا هو هدف الكاتب أن تثير المرأة الشّكّ بأخلاق مطلقة ابنها في نفس صابرين؛ فقالت ما قالته في هذا المثل، لكن هذه المقولة لا تعتبر مثلا شعبيّا بمفهوم الأمثال الشّعبيّة لكنّها دارجة على لسان النّاس في مجتمعاتنا العربيّة وبخاصة في فلسطين، وهذا ما دفعني بشملها ضمن الأمثال التي وظّفها الكاتب السلحوت في رواية المطلقة.
وعندما بدأت صابرين بذكر جمانة على أنّها فتاة رزينة محترمة، ردّت عليها أمّ أسامة بالنّفي من خلال قولها: ” يا ما تحت السّواهي دواهي” ص37، وهذا مثل صريح في ذمّ جمانة، أرادت بقوله وضع كّل أسباب الطلاق عليها، وعلى أخلاقها “السّيّئة” بشكل مبطن، وبأنّ ابنها أسامة سيّد الشّباب الذي تتمنّاه كلّ بنت. وعندما ادَّعت بأنّ جمانة وأمّها عملتا سحرا لأسامة؛ كي يكرهها ويطلقها قالت: “سأذهب إلى “الفتَّاح” ذي السّمعة “الطيبة” المشهود له عند كلّ الناس؛ كي يفكّ السّحر عن أسامة، ويعمل على زرع محبّتك في قلبه” فقالت صابرين: ” من صدق مشعوذا كذّب نبيّا”ص39، هذا هو رد صابرين المختصر وهو موقف الكاتب نفسه من المشعوذين الدّجالين، جاء المثل على لسان صابرين، ولكنه أكثر تصريحا من الكاتب، كون الشّخصيّة لا تدل ثقافتها على مقدرتها لقول هذا المثل بالتّحديد…
وعلى لسان الرّاوي في الصفحة 42، يتساءل عن هدف خطبة الجمعة التي خصّصها الإمام للحديث عن قذف المحصنات، ونسب الرّاوي الكلام إلى أبي زياد وأمّ زياد والديْ زوج عائشة التي طلقها طاعنا بعذريّتها بعد أن ثبتت براءتها دون أدنى شك قائلا: “إلي في بطنه عظام بتكركع”ص42، أي أن والدا الزّوج سيعرفان أن خطبة الإمام نتيجة لبراءة عائشة وظلمها من زوجها وعائلته… هذا المثل جاء في مكانه تماما وخدم النّصّ والفكرة التي وصلت بسهولة للقاريء.
أثناء قيام أمّ أسامة بالتّسلّل خلسة خلف أمّ جمانة لخطف حفيدها سعيد، وهي تكيل الشّتائم على جمانة وأهلها، وبعد ان التقطت الطّفل لتهرب به قائلة ” جحا أولى بلحم ثوره” ص46 أي أنّ الطفل لأبيه وأهل أبيه، وهي نظرة شريرة تنمّ عن حقد وجهل، خاصّة عندما أضافت قائلة النّساء ليس لهنّ أبناء، هنّ فقط وعاء للإنجاب لا أكثر من ذلك ” بطن حفظ نفض” ص46 وهذه نظرة متخلفة للمرأة وخاصّة أنّ القائل هي امرأة، وهذا دليل آخر على سوء هذه الشّخصيّة التي أحد مسببات فساد المجتمع. استغربت تغريد والعائلة برود جمانة عندما خطف ابنها وعاد دون أن يظهر عليها الإنزعاج، وقد ردّت عليهم بقولها: “إن لم تكن ذئبا، أكلتك الذّئاب”ص47، فقد قرّرت أن تكون قويّة متسلّحة بالعلم والمعرفة؛ لتدافع عن نفسها، بالرّغم من أنّ هذا المثل قد خدم الفكرة بشكل كامل إلا أنّه يجب التّوضيح بأنّ هذا المثل يعتبر من الأمثال السّلبيّة، فالمثل الشّعبيّ ينقسم إلى قسمين مثل إيجابي يؤدّي إلى نتيجة إيجابيّة دوما، ومثل سلبيّ نتيجته سلبيّة في المعنى وفي القيم، فهذا المثل يجعل الإنسان أنانيّا، متنمّرا، عنيدا، وهذه الصّفات ليست جيّدة إذا لازمت أيّ إنسان، ومرّة أخرى يسترسل الرّاوي في الحديث الدّاخلي عن نيّة أمّ أسامة التي استفحلت بالإساءة لسمعة صابرين حين حملت سفاحا وتزوّجت من يونس، ثم طلقها يونس بسبب هذا الحمل، وكان لها الدّور الكبير في المجتمع بالإساءة لصابرين، واليوم تأتي لطلب يدها لابنها أسامة، فالرّاوي الذي هو الكاتب نفسه يتساءل هل أمّ أسامة تابت وتطلب الغفران من خلال طلب يد صابرين؟ أم ” إن وراء الأكمة ما وراءها”؟ وهذا المثل يفشي بشكل ما عمّا يدور في خلد هذه المرأة الشّرّيرة؛ فالمثل خدم الفكرة وأجاب على نيّة المرأة الشّريرّة بطريقة رائعة.
وفي صفحة 50 يستخدم الكاتب المثل الشّعبيّ بصورة مكثّفة إذ تحتوي الصّفحة الواحدة على سبعة أمثال، وإن دلّ هذا على شيء إنّما يدل على عمق ثقافة الكاتب الشّعبيّة، ولا يختلف اثنان على هذا الأمر فالشيخ جميل السلحوت ابن القرية البدويّة نشأ في أسرة على جانب عظيم من الإنتماء للمجتمع، ومن التّراث الشّعبيّ بشكل عامّ، كما أنّه واسع الإطّلاع بحكم عمله في مجال التّدريس مدّة طويلة، ومن معرفتي الشّخصيّة به أجزم بأنّه مطالع بصورة كبيرة، بالإضافة إلى مشاركاته الفعليّة في الحراك الإجتماعيّ التّطوّعيّ، فكلّ هذه المجالات زرعت في نفس الكاتب ثقافة شعبيّة عميقة. أمّا الأمثال التي وردت في هذه الصّفحة من الرّواية فقد جاءت على النّحو الآتي بالتّرتيب حسب ورودها في النّصّ؛ تقول أمّ صابرين لابنتها عندما سمعت بطلب أمّ أسامة يدها قائلة لها ومحذرة: ” ابن الحيّة ما بينحط بالعبّ”ص50، وهذا دليل على عدم ثقة الأمّ بما تفعله تلك المرأة الشّرّيرة، مهما قالت ومهما فعلت أمّ أسامة تبقى في نظر أمّ صابرين الشّرّيرة التي لا يؤمن جانبها، وهذا المثل يلخّص القول ويوصل الفكرة للعمق، وأضافت الأمّ بقولها: هذه المرأة شرّيرة وابنها (شخشيخة) بيدها، وما له أيّ رأي، وهي “كلّ ساعة برأي” وأخاف أن تكون هذه المرأة الشّرّيرة تريد الانتقام من جمانة وأهلها من خلال طلب يدك لابنها في هذا الوقت، بحسب المثل ” اضرب النّساء بالنّساء” “وما بكيد المرأة إلا المرأة”، جميعها أمثال تصبّ بنفس المعنى تقريبا، لكن الكاتب نوّع باستخدامها ليدلّل على حساسيّة الموقف من جهة وعلى خطورة أفكار هذه المرأة الشّرّيرة، وهذه الكثافة باستخدام المثل قصد منها الكاتب دون أدنى شكّ تبيان مقدار الشّرّ المعتمل في نفس هذه الشّخصيّة، ثم تكمل نصائحها المتعدّدة لابنتها داعية لها بعدم الذّهاب إلى بيت أمّ أسامة خوفا عليها متّكئة على المثل القائل” إللي بيطلع من داره يقلّ مقداره”ص50، أمّا عندما سألت صابرين أمّها عن رأيها إذا كان أسامة سيقبل بها، فكان ردّها بالمثل القائل” الزّواج قسمة ونصيب” لم تبد رأيها بالإيجاب أو الرّفض لكنّها بقولها هذا المثل تكون قد تهرّبت من الإجابة الصّريحة، وخلّصت نفسها من أيّ إجابة، وقد تكرّر هذا المثل ص180، لكنّه هذه المرّة صدر عن أبي أسامة الذي يستنكر محاولات زوجته في البحث عن عروس لابنها المطلّق أسامة فيقول لها ” الزّواج قسمة ونصيب” ص180، وهنا يتهرّب أيضا من الإجابة عن تساؤل لا يوافق هو نفسه عليه، لكنّه يتهرب من الإجابة أيضا، فهل يستخدم هذا المثل من قبل من يريد أن يتهرب من الإجابة على سؤال؟ أنا أعتقد ّنّ الإجابة: نعم. وأتّفق مع الكاتب في استخدام المثل بهذا السّياق.
وعندما قالت أمّ صابرين لابنتها تمتدح الرّجال المتديّنين مثل أسامة الذي يخاف الله، قالت لها ابنتها أنّ أسامة تغيّر وأصبح يؤمن بالفكر التّكفيري، ولذلك انفصلت جمانة عنه، ثم أضافت ” ما يبقى على ما هو إلا هو”ص51، وأضاف الكاتب توضيحا غير ضروريّ لأنّه كل من يقرأ المثل يعرف بأنه (هو= الله) وكان عليه عدم الاستخفاف بمستوى قرائه لهذه الدّرجة، وحتّى “الشّخص العاديّ يدرك أنّ هو تعني الله”. المثل جاء في مكانه في خدمة النّصّ الرّوائي. وأضافت الأمّ في استرسالها بالكلام عن جمانة وأسامة وبأنهما ما زالا متزوّجين، وربّما تكون خلافاتهما مجرّد غيمة وتزول ثم قالت” ستعود المياه إلى مجاريها”ص51، لتدلّل على صحّة كلامها بالإستناد على هذا المثل الشّعبي.
تأكّدت صابرين أنّ ” سوس الخشب منه وفيه”ص53 عند الحديث عن مشكلة أسامة وجمانة وأنّ سبب المشكلة هي طباع أمّ أسامة، زوجة عمّها. إذن، فالمشكلة من الدّاخل ولذلك استدلّت على كلامها باستخدام المثل في مكانه؛ لتؤكد عمق الرّأي بأنّ فاطمة زوجة العمّ هي التي تخرّب بيتها بإيدها، ولكنّها تستغرب بشدّة موقف أسامة الشاّبّ المتعلم والذي يدرس ليحصل على الدكتوراة بالشّريعة، فكيف ينجرّ وراء كلام أمّه غير البنّاء؟ بل الهدّام؟ هو بار بوالديه معروف عنه ولكن” لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”ص53، هذا بالأصل حديث صحيح، ورد في شرح السّنّة تحت رقم (2455)، وقد أخرجه “البغوي”، لكن الحديث كثر استعماله بين النّاس حتى صار على لسانهم مسار المثل، وقد ورد في هذا النّصّ للدّلالة على أنّ أسامة شخصيّة ضعيفة، وبحجّة البرّ بوالدته فإنّه وصل إلى ما وصل إليه، أي أنّه عمل تماما بعكس ما جاء في الحديث، فهو يغطّي على جبنه بادّعاء البرّ متناسيا وهو الدّارس لشرع الله ان “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”، فهو وحده يتحمّل وزر سكوته عن الحقّ. وها هي أمّ أسامة وبالرّغم من أنّها سجنت لأربع وعشرين ساعة، إلا أنّها عندما خرجت استمرّت بكيل الشتائم والسّباب والألفاظ غير اللائقة التي جعلت الرّاوي يقول” الطّبع غلب التّطبّع”ص53 دلالة على أن هذه المرأة الشّرّيرة لا يمكن إصلاحها، وأنّها هي سبب كلّ البلاوي، وباستخدامه لهذا المثل يكون قد حسم الموقف من سوء أخلاقها، حتّى أنّ زوجها يقول لأولاده بعد أن وقفت وعيناها تقدحان شررا، وهي تحرض ابنها على إحضار طفله، وتقول له بأن يسافر ويترك زوجته معلقة، فيقول الزّوج لأبنائه: أمّكم “كالغراب لا يدلّ إلا على الخراب”ص54، فهي المسؤولة عن تدمير حياتنا كلها، وهذا حكم آخر على المرأة الشّرّيرة التي تنخر حقدا في عظام أبنائها.
وعندما شعر أسامة بالمهانة من سخرية أخيه رأفت حين قال: “ستتقاتل النساء على أسامة إذا طلق جمانة” فردّ عليه أسامة وعلامات الغضب بادية عليه: “العبوا يا أولاد واللعبة على رأس عمكم”ص55 وهذه مقولة شعبية دارجة على لسان النّاس كما عرفها الكاتب نفسه في إحدى مقالاته السّياسيّة، فأنا لم أجدها في كتب الأمثال التي بين يديّ، إلا إنّها أخذت هنا مكان المثل حين وظّفها الكاتب في مكانها وخدمت الحوار المستفزّ بين أسامة وأخيه في حضرة الأمّ المشاكسة والأب الطّيّب… لكنّ أسامة بالرّغم من موقف الأب الإيجابيّ تجاه ابنه وزوجة ابنه ودعوته بالتّمسك بها، إلا أنّ أسامة وضع كلّ الأسباب على والده لأنّه هو الذي أوصل أمّه لهذه الدّرجة من التّنمّر والشّراسة في معاملة من حولها، ولولا أنّ الأب قد تهاون في تعامله معها لما وصلت لهذه الدرجة من القسوة، فهو الذي ” ترك لها الحبل على الغارب” وباستخدامه لهذا المثل الشّعبيّ فقد ألقى كلّ اللوم على هذا الأب المسكين، وهذا اللوم يظهر لنا مدى ضعف أسامة أمام والدته، وقد أجاد الكاتب باستخدام هذا المثل الذي وفّر لنا الجوّ المناسب الذي يبيّن لنا جوانب الشّخصيّة الضّعيفة بالرّغم من الدّرجة العلميّة العالية التي يتمتّع بها، وأنّ تخصّصه في مادّة الشّريعة الإسلاميّة وصبّ اهتمامه على هذا الجانب بالحياة، ليس كافيا أبدا في بناء الشّخصيّة التي تتناسب وواقع الحال، إذ عليه أن ينوّع بثقافته حتّى تقوى إمكانيّاته الشّخصيّة.
تعبّر جمانة عن فرحتها بالطّلاق وعن إصرارها على ذلك أمام زوجها وأبيها، وتقول: ” كلّ الأمّهات تبكي ولا أمّي تبكي” يستخدم الكاتب هذا المثل وهو يدري بكلّ تأكيد قساوة هذا المثل، وسلبيّته الشديدة، ويعبر عن مقدار كبير من الأنانيّة، لكنّه يؤدّي الهدف منه، في هذا النّصّ، إنّ هذا المثل من الأمثال الشّعبيّة السّلبيّة جدّا، حتّى أنّ العدوّ الصّهيونيّ في غرف التّحقيق يستخدمه لإسقاط المعتقلين الأسرى ولأخذ اعترافاتهم، حين يقول لهم ” كلّ الأمهات تبكي ولا أمّي تبكي” أو مئة عين تبكي ولا عين أمي تبكي” فهذا يدفع الشّخص نحو الأنانيّة وحبّ الذّات وهي الخطوة الأولى نحو الإسقاط.
ثمّ تستمرّ جمانة في عدم إخفاء فرحتها وزهوّها للتّعبير عن راحة الضّمير فتقول” على نفسها جنت براقش” ص60 وهو من الأمثال العربيّة القديمة، يستخدم من العصر الجاهليّ، على أهلها جنت براقش أو على نفسها جنت براقش، ويضرب لمن عمل عملا أضرّ به نفسه، أي أنّ هذه هي نتيجة الظّلم الذي وقع عليها في سنوات الغربة مع هذا الرّجل، فليتحمل نتيجة أعماله، وباستخدام هذا المثل العربيّ يكون الكاتب قد أغلق الطّريق أمام أيّ حلّ ممكن أن يحصل بين الطّرفين، والطّلاق أصبح حتميّا، وقد تكرّر هذا المثل في موقع آخر من الرّواية بالتّحديد ص99 وعلى لسان نفس الشّخصيّة، وبنفس الوضع تقريبا، وهنا كانت قد حصلت على ورقة الطّلاق، فهي تبرّر ما حصل بقولها: “على نفسها جنت براقش”… لا يغيب عنكم أنّ هذا المثل أيضا من الأمثال العربيّة السّلبيّة، فهو حادّ كالسّكين قاطع لا يعطي مجالا للجدال ولا يمنح أيّ خيارات.
من جهة أخرى فقد فكّر أسامة أن يعمل لوالدته رقية شرعيّة، معتقدا أنّ فيها مسّا من الجنّ، لكنها سبقته بقولها أن ثمّة رجل يستطيع فكّ العمل وزرع المحبّة في القلوب، ووجدها أسامة فرصة ليقول لها أنّه ممكن أن يفعل الرّقية الشّرعيّة بنفسه فهو دارس للشّريعة، لكنّها رفضت عرضه باستخفاف قائلة: لا تخف فأنا سأدفع الأجرة، وهنا قال أسامة في نفسه على لسان الرّاوي ” لا كرامة لنبيّ في وطنه”. وهذا قول مأثور يستخدم عند إغفال شخصيّة هامّة في مجال العلم أو الطّبّ أو الأدب أو الفنّ أو أيّ مجال من مجالات الأبداع، فيغفله مجتمعه ويتمّ تهميشه، وهذا ما يحدث في وطننا العربيّ حيث تجد المبدعين يهاجرون فيبدعون في البلاد التي يهاجرون إليها؛ لأن تلك البلاد تقدر أعمالهم الإبداعية بعكس بلادنا فيتمّ ما نسمّيه هجرة الكفاءات، فقد استخدم الكاتب جميل السلحوت هذا المثل وعلى لسان الرّاوي الذي هو الكاتب نفسه -كما أسلفنا-؛ ليعبّر عن رفضه لما يحدث في بلادنا من تهميش واضح لمبدعينا، وأنا أعتبرها صرخة صادقة من مثقّف كبير يؤدّي دوره من خلال أعماله الأدبيّة.
وعندما ذهب أسامة وأمّه إلى المشعوذ، وعرض أسامه على المشعوذ حالته، ثم اجتمع مع الأمّ وحدها وبدأ يسألها وهي تتحدّث عن وضعها الخاصّ جدّا، خاصّة علاقتها مع زوجها، وهي تخبره ثم قال لها المشعوذ: ” لا حياء في الدّين”ص72 مستندا على هذا القول كي يجعلها تحكي أشياء خاصّة جدا، هذا كان هدف المشعوذ وهذا ما أراده الكاتب؛ كي يعرّفنا على مدى حقارة المشعوذين الذين هدفهم سلب أموال الجهلاء وهتك أعراضهم… هذا القول في المعنى صحيح، فالرّسول محمد صلى الله عليه وسلم يقول: ” إن الله لا يستحي من الحقّ، ” فمعنى لا حياء في الدّين يعني: لا حياء يمنع السّؤال، أمّا إن كان لا حياء في الدّين بالكليّة فهذا غير صحيح، فقد قال الرّسول صلى الله عليه وسلم: ” الحياء من الإيمان” فالحياء الذي يمنع من المعاصي هو من الإيمان. يريد الكاتب أن يفضح أساليب المشعوذين وأن يظهر خطرهم الاجتماعيّ وقد نجح بجدارة. وقد وجد المشعوذ أمّ أسامة صيدا سهلا، فنسج شباكه حولها حتى سقطت فريسة سهلة بين أنيابه، حين أقنعها بأنّ زوجها قد مسّه الجنّ، ويرتعب منه، ولذلك فإنّه لا يقترب منها، وقد قال لها: ” القطّ يعرف خامشه”ص75 لكن المثل الدّارج جاء على نحو ” القطّ يعرف خناقه”. وهنا نجد كيف أنّ المشعوذ الخطير يستخدم كلّ وسيلة لإيقاع ضحيّته، فمرة يستخدم بعض آيات من القرآن الكريم أو حديث من أحاديث الرّسول من باب قول الحقّ من أجل الباطل… لكن جمانة لم تقع في شراكه، ولم تعطه أيّ جواب على تساؤله عندما اتّصل فيها المشعوذ بناء على طلب أمّ أسامة التي أعطته رقم هاتف زوجة ابنها، وهذا الفعل الخاطيء كان من الممكن أن يؤدّي إلى مصيبة أخرى لو أنّ جمانة لم تكن محصّنة بالتّربية الصّحيحة، حين أجابته قائلة: “من تدخّل فيما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه”ص78. ثم أغلقت السّماعة… وعندما أعاد الاتّصال بها مرّة ثانية هددته بأن ترفع عليه شكوى، بعد أن تسجّل كلامه، فما كان من المشعوذ إلا أن قال لزميله: ” مش كلّ الطيور بيتاكل لحمها” وهذا المثل يدلّنا على إدراك المشعوذ بأنّه عجز عن إسقاط جمانة بين براثنه، فالنّاس ليسوا بنفس السّوء والجهل…اتّكأ الكاتب على هذه الأمثال في مكانها في النّصّ، ممّا قرب الفكرة للقاريء، وأوصل الرّسالة التي مفادها: تحذير النّاس من هذه الفئة الضّالة، والابتعاد عنها كليّا.
عندما قامت أمّ أسامة بزيارة صابرين في بيتها لمحاولة إقناعها بقبول الزّواج من ابنها على الرّغم من أنّها متأكّدة أنّ صابرين لا تصلح للزّواج من أسامة، ولكنّها تفعل ذلك نكاية بجمانة زوجة ابنها، وهذه إشارة على مدى كره أمّ أسامة لكنّتها، لهذا فإنّها تريد تزويجه من صابرين التي هي نفسها من قامت بالتّشهير بها وفضحها أمام النّاس، وبلقائها بصابرين ووالدتها أخذت تحضنها وتحضن طفلتها وهي تقول في سرّها: ” بوس الكلب من ثمّه حتى تأخذ حاجتك منه”ص80، وهذا المثل ينطبق مئة بالمئة على هذا المشهد الدّراميّ الصّريح، ويناسب لغة الخطاب لهذه المرأة الشّريرة التي تحاول فعل أيّ شيء لتحقيق مآربها الدّنيئة… بل إنّها وصلت بها الوقاحة أن تتظاهر بالوقار عندما طردت صابرين اثنين من العجائز اللذين حضرا لطلب يدها قائلة لهما ارحلا قبل أن أجمع أهل الحيّ عليكما، فقالت لها أمّ أسامة: ” الكلام ما عليه جمرك”ص82، محاولة الصّيد بالماء العكر واستغلال الظّرف لتحقيق غايتها في قبول زواج صابرين من ابنها. وقد تكرّر هذا المثل صفحة 140، ولكن هذه المرّة على لسان جمانة حين حاولت الطّبيبة صديقتها بإقناعها بالزّواج، من منطلق نسمع ما ستقولين ولكن الموقف ربّما يبقى كما هو من رفض العرض الذي جاءت به الطّبيبة… لقد استخدم الكاتب المثل في مشهدين يشبه أحدهما الآخر لكن النّوايا في كلا المشهدين تختلف تماما؛ في الأوّل كانت النّوايا شرّيرة تماما، أمّا في الثّاني فكانت حسنة… وعندما قامت صابرين بطرد العجوزين اللذين جاءا لخطبة ” البنت المطلقة” بحضور أمّ أسامة التي ضحكت من الرّجلين ووصفت الرّجل الذي أرادها خطيبة بأنّه مغفل لم يقل ولا كلمة، وبأنّه “عريس الغفلة”ص82 وهذه صفة تنطبق على الرجل. وقد استخدم الكاتب هذه العبارة للدّلالة بعمق على ضيق النّوايا عند هكذا رجال، وكان صائبا في استعمال العبارة، ثم أردفت أمّ أسامة قائلة الدّنيا كلها مصائب ” عيش كثير بتشوف كثير”ص82 وهذا مثل يقال عندما يواجه الشّخص أمورا غير متوقّعة، وقد قيل المثل على لسان الشخصية التي يتناغم سلوكها وثقافتها مع المراد من معناه بهذه الطّريقة الممتازة التي استخدمها الكاتب في اثراء وتعزيز نصّه الحواريّ، فناسب واقع الحال. ثمّ وكأنها تتعاطف مع الرّجل حين قالت ربّما ترمّل هذا الرجل ولا يستطيع أن يعيش دون امرأة بعد أن جرّب النّساء فأراد أن يتزوّج والمثل يقول” أعزب دهر ولا أرمل شهر”ص82+83. وهي إشارة صريحة بأنّ الذي تعوّد على الحياة مع المرأة لا يمكن أن يعيش بعيدا عنها، فلا غنى عن الحياة دون المرأة، وكثيرا ما نسمع أنّ رجلا توفّي فورا بعد أن توفّيت زوجته أو العكس، نتيجة الحزن أو الفراغ الذي يتركه أحدهما حين يرحل… وفي سياق آخر وعلى هامش الاحتفال بتخرّج تغريد أخت جمانة بمرتبة الشّرف من الجامعة، وفرحة الأب الذي أخذ يلوم نفسه على عدم حضور تخريج جمانة، إلا أنّه يبرر غيابه بسبب البحث عن توفير الرّزق لعائلته فيقول: ” مطاردة رغيف الخبز” الخبز المرّ”ص89، فهو يصف الخبز بالمرارة، والخبز بطبيعة الحال ليس مرّا، إنّماما الحصول على الخبز الذي هو المعادل الموضوعيّ للرزق الحلال، فإن طريقة الحصول عليه صعبة جدّا تماثل مرارة الطعم، وللتّطير هناك مجموعة قصصيّة للشّهيد الأديب ماجد أبو شرار اسمها”الخبز المرّ”… وقد لاحظت جمانة سرحان والدها فقالت مشجّعة وممازحة إيّاه: “ما بعد الضّيق إلا الفرج”ص89، وهذا المثل من صميم الأمثال العربيّة الإيجابيّة التي تحثّ على الصّبر والاحتمال وتزرع بالنّفس طاقة إيجابيّة، وقد أجاد الكاتب السلحوت بذكر المثل في هذا الحال ممّا أضاء النّص.
عندما التقت أمّ أسامة بالمشعوذ، الذي أخذ يملي عليها بعض التّعليمات في التّعامل مع زوجها بأن تلاطفه وتلبّي طلباته؛ لتشعره أنّه رجل البيت ضحكت أمّ أسامة وقالت له: “أنّني قمت بعمل ذلك منذ الصّباح وقبل أن تطلب منّي ذلك؛ فأجابها المشعوذ بخبث ودهاء: ” القلوب عند بعضها”ص93، بهذا المثل أراد المشعوذ أن يزيد تقرّبه من المرأة وأن يحكم سيطرته عليها، ويؤكد وقوعها هامدة بين فكّيه، فكانت هذه حركة ذكيّة من الكاتب حقّقت الفكرة دون أيّ لبس.
لم تدفع أمّ أسامة المال المتفق عليه للمشعوذ، فسألها: أين المتفق عليه فقالت اعذرني لقد أنساني الحديث معك أن أعطيك المبلغ، فردّ عليه باستحياء مصطنع قائلا: ” جلّ من لا يسهو”ص94، ثم بعد أن انتهيا من فعلتهما الشّنيعة، خرجت أمّ أسامة من عنده والسعادة بادية عليه، ثم أخذت تفكّر بعد أن ” ذهبت السّكرة وجاءت الفكرة” وتندم على فعلتها الشّنيعة، وقد اختصر الكاتب السلحوت حالة النّدم عند المرأة بهذه الجملة العميقة التي تشي بكلّ خلجات المرأة، وهذا ما أسمّيه التّوظيف الرّائع للمثل الشّعبي في النّص الرّوائي هذا التوظيف الذي لا يأتي من فراغ، بل من إنسان يجيد التّعامل مع الموروث الشّعبيّ، بل ويتقن هذا التّوظيف في نصّه؛ ليجعل منه نصّا مقنعا متماهيا مع الفكرة والموضوع، ومبرزا أهمّ جوانب رسالته الأخلاقيّة.
لم يستغرب أسامة عدم ردّ والدته عندما قال انه لا يريد أن يتزوّج، ظنّا منه أنّ الرّقية التي عملها لها “الشّيخ عديّ” المشعوذ، إلا أنّ أمّ أسامة تقول في سريرتها : ” اللي بيعرف بيعرف واللي ما بيعرف بقول في الكف عدس”ص101، هنا أسامة يتحدّث في سريرته، وأمّه أيضا تتحدّث في سريرتها! لكن كان لكلّ منهما هدفا مغايرا.
عائشة المرأة التي عانت ما عانت من المجتمع وظلمه وحين تزوّجت أسيرا محرّرا يمرض زوجها بمرض خطير ، مما دفع تغريد أن تقول أمام جمانة: “المتعوس متعوس ولو ضويت له مية فانوس”ص104 كناية على حالة عائشة البائسة التي لم تقابل في حياتها يوما سعيدا واحدا، فهي تعيسة والحياة بكل بريقها لم تنجح بصنع ابتسامة واحدة على محيّاها، هذا المثل قيل بوقته وعبّر الكاتب من خلاله عن حزن تغريد واستنكارها لما يحدث لعائشة البائسة، أجاد الكاتب باختزال الحالة النّفسيّة لشخصيته وبرع في ذلك.
وعندما همّت جمانة بمصاحبة تغريد لزيارة عائشة وزوجها في المستشفى لعيادته، قالت أمّ جمانة وأنا سآتي معكما! وهنا استنكر الأب بتحبّب رغبة الأمّ بمصاحبة بناتها لزيارة عائشة حين قال: ” لولا الغيرة ما حبلت النّسا” ص107، على اعتبار أنّ الأمّ غارت من بناتها بفعل الخير لتفعل ما فعلتا.
“لو صبر القاتل على المقتول لمات لحاله”ص112، قيل هذا المثل على لسان جمانة في حوارها مع أمّ فارس حين تحدّثتا عن الذّهاب للصّلاة في المسجد الأقصى، وسبقتها أمّ فارس بالقول بأنّها تريد الذّهاب معهم للصلاة، أي أنّ جمانة كانت ستدعوها للقدوم معهم قبل أن تطلب ذلك، وقد جاء المثل في هذا السّياق ليعبّر عن صدق نوايا جمانة في تعاملها مع الضّيفة أمّ فارس، وقد نجح الكاتب في ذلك الاتّكاء.
وفي أوّل اجتماع بين الطّبيب فريد وتغريد وجمانة والطّبيبة أميرة يَعد الطّبيب بأن تكون عائلة تغريد عائلته حين قال: ” كون نسيب ولا تكون قريب” ونسبك حسبك”ص121 استخدم الكاتب مثلين بفقرة واحدة ليدلّ على صدق القول والنّيّة عند الدّكتور فريد الذي يتطلّع للزّواج من تغريد، ممّا ولّد ارتياحا لدى جمانة، وهذا ما أراد الكاتب الوصول إليه ففعل… وبنفس السّياق تسأل جمانة الطّبيب فريد، إذا كان قد سأل عنهم بحسب عادات النّاس المتبّعة فيجيبها الطّبيب بكلّ ثقة أنّ: ” المكتوب يقرأ من عنوانه”ص123 في إشارة منه أنّ تعامل تغريد وتصرّفها المؤدّب معه دلّ على رفيع أخلاقها، وباستخدام الكاتب لهذا المثل يكون قد ولّد عند الشّخصية قناعة وصلت لنفس القاريء بيسر… وقد تكرّر هذا المثل صفحة174 على لسان أبي جمانة حين سألته زوجته في جلسة صفاء عن رأيه بالدّكتور فريد وأخيه رمزي، فقال لها المثل، لقد استخدم الكاتب المثل نفسه في مناسبتين متشابهتين تماما ونجح بتوظيفهما بشكل جيّد.
” كلّه قسمة ونصيب”ص124، قالته جمانة لتخفّف عن أبيها في ندمه من عدم توفيق جمانة في زواجها، وقد طيّبت خاطره باتّكائها على المثل، وهذه غاية الكاتب التي تحقّقت. ثم أكملت كلامها لتغريد قائلة لها أمام الجميع أن لا أحد يعرف كيف سيكون الزّواج وهذا في علم الغيب ثم أردفت قائلة: ” الزواج كالبطّيخة”ص25 أي لا يعرف مذاقها إلا بعد أن تفتحها وترى مدى احمرارها وطعم مذاقها، وهذا اتّكاء مناسب لتقديم الفكرة بطريقة دبلوماسيّة لا تبدي فيها رأيك بصراحة، وقد تكرّر نفس المثل هذا في صفحة 162 وعلى لسان جمانة أيضا، ولم تعط رأيها بصراحة عن زواج تغريد بالدّكتور بل كان لديها شيئ من القلق حتّى أنّها تقول في نفس الصّفحة ” الملدوغ يخاف من جرّة الحبل”ص162 لتعبّر عن قلقها من الزّواج بشكل صريح، وقد نجح الكاتب بإيصال قلقها للقاريء بشكل جيّد، ولولا عمق الثّقافة الشّعبيّة في قلب الكاتب لما استطاع توظيف هذه الأمثال بمكانها السّليم. أمّا كلمة الفصل فكانت على لسان جمانة أيضا بعد أن سمعت رأي أمّ فارس بعائلة الدّكتور فريد التي تعرفها معرفة جيدة، فقالت بثقة: “قطعت جهيزة قول كل خطيب”ص126، وبشهادة أمّ فارس تستكفي، كي تقرر بالموافقة على زواج تغريد من الدّكتور فريد. وفي موقع آخر تكون فيه أمّ فارس في ضيافة عائلة الدّكتور فريد وتتحدث إليهم بأنها فرحة جدّا أن تقدم الدكتور فريد لخطبة تغريد، إذ قالت: ” طنجرة ولقت غطاها”ص130، كناية على أنّ العروسين يناسبان بعضهما تماما. ثم تلفت جمانة أنظار أخت الدّكتور فريد وتعمل على التّوفيق بينها وبين أخيها رمزي، فتقول: ” عصفورين بحجر واحد”ص133، وهكذا تسير الأمور بأن يتمّ طلب الأختين للأخوين بنفس الوقت، فيكون قد تحقّق المثل المذكور “عصفورين بحجر واحد”.
تتحبّب الدكتورة أميرة مع صديقتها جمانة عبر الاتّصال الهاتفيّ، فتناديها باللؤلوة ثم تجيبها جمانة أهلا بالأميرة، يعني تناديها بصفة اسمها ثم تقول لها: “اسم على مسمّى”ص139، وهذا ما يؤمن به البعض “أنّ لكل منّا في اسمه نصيب”…
تحاول الدّكتورة أميرة اقناع جمانة بالزّواج مرّة ثانية، وأنّها فرصة طيّبة أن يكون الخطيب أخ للدّكتور فريد خطيب أختها تغريد، وكي تسند قولها وتقوّي موقفها فإنّها تتّكيء عل المقولة: ” الزّواج سنّة الحياة”ص141، نعم فالزّواج فطرة في نفوس البشر به يحفظ الله النّوع البشريّ، ويعفَّ النّاس.
جمانة تفكّر بطلب رمزي ليدها، ثم تمرّ بتفكيرها على صابرين، وكيف يأتي لخطبتها رجال مسنّون، فتضحك بينها وبين نفسها وتقول: لو أتاني رجل مسنّ لخطبتي لطردته ولشتمته ” وهيك مضبطة بدها هيك ختم” أي الرّدّ من نوع العمل، وهذا مثل شعبيّ استخدم في سياق مناسب جدّا. لكن الإلحاح ولّد عند جمانة الرّغبة بالتّعرف على العريس، فطلبت ترتيب لقاء بينها وبينه بحضور كلّ من الدّكتور فريد وتغريد والدكتورة أميرة، وعندما سألتها تغريد عن موقفها قالت بدبلوماسية واضحة: ” عندما يأتي الصّبيّ بنصلّي على النّبي”ص153، وهذه إجابة ليس فيها قطع، وهذا ما أسميه إجابة دبلوماسيّة، واستخدام المثل هنا أغنانا عن أيّ إجابة أو إسهاب، وهو توظيف ممتاز في هذا السّياق، وعندما اجتمعوا بادرت الدكتورة أميرة بعد أن عرّفت الجميع على بعضهم بالقول: ” هذا الجمل وهذا الجمَّال”ص157، أي ها أنتما وجها لوجه فقرّرا وتعرّفا وتساءلا كما ترغبان، وهذا المثل المكثّف يغني عن أيّ كلام بالفعل… أمّا عندما قالت الدّكتورة أميرة: ” الزّائد في الشّيء كالنّاقص فيه” ص159، لم يكن لهذا المثل أيّة أهمية في هذا السّياق ولم يؤدّ أيّة وظيفة، إذ كان الحديث عن أخذ موعد للاتّصال بأبي جمانة، فجاء هذا المثل الذي نصّه الأصليّ هو” الزائد أخو النّاقص” حسب ما ورد في (مجمع الأمثال العربيّة، وفي المثل الشّعبيّ بين الاستمراريّة والمتحفيّة للدّكتور شكري عرّاف)… في خضم الحديث العائليّ تقول أمّ جمانة ببساطة المرأة الفلسطينيّة: ” بيت الضّيق يسع مئة صديق”ص157، وهذا المثل يقال كثيرا في مثل هذه الحالة، واستخدام الكاتب السلحوت لهذا المثل جاء في مكانه الصّحيح… وفي حضرة الإمام عند كتب الكتاب سأل عن المهر فقالت أمّ العريس : ” اللي يسمّي الولد أبوه”ص171، وهذا القول يتردد كثيرا في الصفقات التجارية بين التجار والزبائن، وقد استخدم القول هذا في مثل هذا السّياق لأمر راجع إلى ثقافة الكاتب الإجتماعيّة… وحين علم أسامة عن خطبة طليقته وهربا من كلام أمّه فقد غادر البيت ” كأنّ على رأسه الطّير”ص173، وقد جاء هذا المثل على لسان الرّاوي الذي وضعه في مكانه؛ ليختزل لنا حالة أسامة النّفسيّة، وقد أجاد في ذلك. لكنّ أمّ أسامة غضبت وبدأت تشتم وتتفوّه بأبشع الكلام، ممّا دفع زوجها للطّلب منها بالسّكوت واتّقاء الله قائلا لها: ” من كان بيته من زجاج لا يرمي بيوت النّاس بالحجارة”ص174، وبكلامه هذا يحاول كتم زوجته، بأن تسكت لأنّها هي التي تسبّبت بكل المشاكل، وأن تحترم النّاس ولا تسيء لهم، لأن السّوء جاء من بيتها وليس من بيت غيره، فهي سبب مصائب العائلة، هذا المثل عادة ما يأتي على لسان طرف ثالث خارج عن نطاق العائلة، لكنه هنا جاء من ربّ الأسرة نفسها؛ ليدلّ على مدى الألم الذي تسبّبه هذه المرأة لأسرتها.
تطلب جمانة من أختها تغريد أن تتروّى في تعاملها مع خطيبها فتقول لها: ” في العجلة النّدامة وفي التّأنّي السّلامة” ص178، ثم تحثّها على الانتباه لما تفعل فتقول لها: ” إذا بليتم فاستتروا”ص178، وهذا القول جاء في حديث نبويّ ضعيف، إلّا أنّه يتكرر كثيرا على ألسنة النّاس، حتّى أصبح بمثابة المثل الشّعبيّ، فالمطلوب من الإنسان أن يستتر بستر الله وأن لا يفضح نفسه.
قرّرت أمّ أسامة التي جنّ جنونها عندما سمعت بخطبة جمانة أن تزوّج أسامة قبل موعد زواج جمانة، لكنّها لم تفلح بإقناع أيّ من البنات في قبول الزّواج من ابنها، حتّى شقيقتها التي أجابتها قائلة: ” كل شيء بخناق إلا الزّواج باتّفاق”ص179، وبهذا المثل تكون شقيقتها قد قطعت عليها الطّريق فلا مجال للنّقاش أو فتح هذا الموضوع مرّة أخرى، نعم. فاستخدام هذا المثل الشّعبيّ خدم الفكرة بطريقة قطعيّة نافذة إلى عمق الحدث، فتصرفات أمّ أسامة وسوء أخلاقها وتعاملها المتعالي مع أسرتها ومع مجتمعها جعلها منبوذة من الجميع حتّى ابنها يقول لها: ” نعيب زماننا والعيب فينا”ص180، وكان والده قبله قد استنكر أفعالها كما ذكرنا سابقا، بل إنّها لم تتعلّم وأخذت تتمادى في غيّها عندما وجّهت كلاما غير لائق لصابرين، فرد عليها زوجها الذي هو عمّ صابرين قائلا: ” ذنب الكلب أعوج”ص181، وهذه إشارة على أنّ أمّ أسامة لن تتغيّر، وستبقى كما هي بهذا السّوء، نلاحظ أنّ الكاتب قد استخدم الأمثال بكثافة في أماكن الجدال الأسريّ، وخاصّة أسرة المرأة التي تسيء لأبنائها وزوجها وكلّ من يتقرّب منها، والكاتب يستخدم المثل ويتّكئ عليه بشكل نافذ وصحيح، يجعل القاريء متفهما ومستفزّا حين يتطلّب الأمر استفزازه، ومتعاطفا حين يتطلّب الأمر تعاطفه، وهذا يصبّ في مقدرة الكاتب جميل السلحوت في التّعامل مع النّصّ وإرفاده بالتّراث الشّعبيّ من خلال المثل أحيانا كثيرة، ومن خلال الآيات والأحاديث النّبويّة ومن خلال التّاريخ الفلسطيني والعربيّ والاسلاميّ، ما يجعلني أقرّر أن أدرس مجموعة من أعمال الكاتب السلحوت من حيث توظيفه للتّراث الشّعبيّ والدّينيّ والتّاريخيّ والأسطوريّ والأدبيّ، وجمعه في كتاب واحد لعلّ الدارس يجد فيه بعض ضالّته حين يدرس الرّواية المقدسيّة الفلسطينيّة.
11-نوفمبر 2020