جميل السلحوت:
” الخليفة سرديّة بطعم سيرة ذاتيّة” للدّكتور أحمد هيبي. تقع في ١٥٧ صفحة من الحجم المتوسّط”، ولا يوجد عليها اسم دار نشر.
الكاتب: د. أحمد هيبي يحمل درجة الأستاذيّة” الدّكتوراة” في الرّياضيّات، كتب الشعر والقصّة والأبحاث والمقالات.
النّص: عندما قرأت هذا النّصّ الذي وصلتني نسخة إلكترونيّة منه، توقّفت عند العنوان، وتساءلت عن أيّ خليفة يكتب كاتبنا، ولم أستعجل الأمر، لأجد في ثنايا النّصّ أنّ الكاتب يكتب عن نفسه، فهو خليفة والديه وأجداده، ونحن نقول في الدّارج عندنا” خير خَلَفٍ لخير سَلَفٍ”، ومن يقرأ النّصّ سيجد أنّ
” الخليفة” قد كتب عن والديه وأجداده وعن ذاته وجيله أيضا، وكأنّي به يكتب شيئا عن جانب من سيرة ثلاثة أجيال أو أكثر، أو بالأحرى يكتب عن الواقع الّذي عاشه الأجداد والأبناء والأحفاد.
ما علينا، لقد قرأت هذا النّصّ في جلسة واحدة، فطريقة السّرد مشوّقة، ووجدت أنّ هذا الكتاب خليط بين” السّيرة الذّاتيّة والسّيرة الغيريّة”، واستعمل الكاتب فيه أسلوب السّرد الرّوائيّ والحكائيّ، ومعروف أنّ هناك تداخلا بين السّيرة والرّواية، فكلّ سيرة رواية وليست كلّ رواية سيرة، فالرّواية حتّى وإن كانت خياليّة فإنّها تسرد سيرة بطلها.
ويلاحظ أنّ السّرد جاء بلغة” الأنا”؛ ليكون أكثر حميميّة، والكاتب في نصّه هذا لم تقتصر كتابته على ذكرياته في مرحلة الطّفولة، ولا عن والديه وجدّيه، بل كتب عن الواقع الّذي عاشه هو وووالداه وجدّاه، وبهذا فقد كتب عن سيرة ومسيرة شعبه، وعن نكبة شعبه الأولى. وقد تحلّى بمصداقيّة عالية في نقل الأحداث الّتي عاشها كطفل، والّتي عاشتها أسرته بمن فيهم والداه وجدّاه. وأثناء قراءتي للنّصّ وجدته وكأنّه يكتب عنّي شخصيّا أنا المولود في العام ١٩٤٩، في بيئة فقيرة وكانت السّيادة فيه للجهل وللعقليّة الذّكوريّة وللعادات والتّقاليد، الّتي تضطهد النّساء والأطفال دون الانتباه إلى العواقب الوخيمة النّاتجة عن ذلك.
يبدأ الرّاوي العليم النّصّ بوفاة شقيقه الّذي يكبره بعام واحد، وحمل اسمه. ولهذا فقد حظي بدفء حضني والديه، وفَقْد شقيقه جعله وكأنّه يعيش في شخصيّتين شخصيّته وشخصيّة أخيه الرّاحل. ولاحقا تديّن أخوه غير الشّقيق فوهبه مكتبته، وهذا ساعده على تثقيف نفسه. والكاتب الّذي يتحلّى بعقلية علميّة يفلسف بعض الأمور، فرغم العلاقة غير المتكافئة بين الرّجل والمرأة، إلّا أنّ كليهما راض عن وضعه وعن جنسه” ففي الصّفحة التّاسعة فإنّ الإنسان يتحلّى بالأنانيّة ويحاول أن يُجيّر الأمور لصالحه”.
” وعلى هذا فإنّ الإنسان يبني تفوّقه وتميّزه علي الحيوان، لهذا فهو يستعبده، أو يطرده من مكان سكناه أو يقتله.” وجاء أيضا:”” هذه الأنانيّة الخافية أو الظّاهرة، هي سمة الأحياء. المرأة لا ترغب أن تتحوّل إلى رجل، لو خيّرت بذلك، رغم ما للرّجل من أولويّة في أغلب المجتمعات البشريّة، تماما كما لا يرغب الرّجل أن يتحوّل إلى امرأة، وأشكّ أن يرغب الكلب أن يصير إنسانا لو أعطي الفرصة لهذا التّحوّل، أو أن يتحوّل القرد إلى أرنب أو وطواط.” ص١٠. ويواصل الكاتب فلسفته عن جدليّة الموت والحياة بطريقة لافتة.
ويتحدّث النّصّّ عن المظالم الّتي عاشها الشّعب في أواخر العهد العثمانيّ. وما صاحب ذلك العهد من جهل وضرائب باهظة، وتجنيد الشّباب عنوة في السفر بلّك” التّجنيد الإجباري” لمحاربة الرّوس والبلغار، وهروب المجنّدين بإلقاء أنفسهم من القطارات. ص٢٠،.
ومن مظاهر تلك المرحلة ردح الجدّ والجدّة لبعضهما. وعدم التّعليم، وحتّى أئمّة المساجد كنوا لا يؤذّنون ولا يقيمون الصّلاة إلّا في السّاعات الّتي يزور فيها مفتّش المساجد القرية.
ونظرا للفقر السّائد فقد كان الآباء يصطحبون أطفالهم ليأكلوا من قِرى الأعراس، ويتحدّث السّارد وأظنّه الكاتب نفسه كيف دخل المستشفى لأكثر من عام وهو في الثّالثة من عمره، وكيف أتقن العبريّة في المستشفى، حتّى أنّه وجد صعوبة في التّحدِث مع الآخرين ومنهم والدته لعدم معرفتهم تلك اللغة، وهذه إشارة إلى الانفصام بين اللغة الأمّ واللغة الجديدة الّتي صارت لغة رسميّة.
وتحدّث السّارد العليم عن النّكبة، وكيف تشرّدت أسرته من قرية ميعار إلى قرية” شعب”، وكيف سكنوا في بيت من شعر الماعز. وقرية شعب هذه قال عنها الشّاعر الشّعبيّ الرّاحل أبو سعود الأسدي” شعب اللى قاومت أكثر من شَعب”. لكنّها لم تنج من ويلات النّكبة وتشرّد وقتل الكثيرون من أبنائها، مثلها مثل بقيّة البلدات.
قسوة الأب وحنان الأمّ: هناك تركيز على قسوة الأب وحنان الأمّ في النّصّ، فالوالد كان يعاقب الإبن على أبسط الأمور. في حين كانت الأمّ هي الصّدر الحنون والحامية لطفلها، وهناك إشارة إلى عمل الأطفال غير المأجور في زراعة الأرض ورعي الماشية والمشاركة في تسويق المنتوج وغيرها.
الشّيخ الأنصاري: عندما ذهب الرّاوي للبحث عن الصّيدليّ الأنصاري في مدينة طبريّة، وجد الأحياء العربيّة مدمّرة وخالية من سكّانها، ولم يجده في عنوانه، بل أرشدته إحداهنّ أنّه موجود في ملجأ المسنّين، وعندما وصل الملجأ وجده قد مات، ودفن في مكان ما، وهناك أخبرته الموظّفة أنّه قد ترك أوراقا وطلب منها أن تعطيها لأوّل شخص يسأل عنه، وشخصيّة الأنصاريّ مثيرة للجدل فقد مات وحيدا غريبا عن أهله، فهل هذه إشارة إلى من شرّدوا من ديارهم هربا من ويلات الحرب؟ وهل الأوراق الّتي تركها هي عبارة عن وصيّة للأجيال القادمة وهذا ما أعتقده، فالذّاكرة لا تزال حيّة وستبقى وستتوارثها الأجيال.
١٦-١٢-٢٠٢٥










