على مساحة صغيرة لا تتجاوز مساحة ورقة واحدة أدخلنا الكاتب جميل السلحوت مباشرة الى أجواء القدس الحزينة، ليقول لنا أن حزن المدينة وغياب مباهجها سببه الاحتلال الذي مزق كل بقعة جميلة كانت في المدينة، وأن مباهج ومآثر المدينة كانت كثيرة ومتعددة، لكنها اختفت، يفعل الكاتب ذلك على لسان الأستاذ خليل، خليل الأكتع بن أبي كامل، بطل وشخصية مقدسية مقاومة يستعملها الكاتب حسب المواقف والاحتياجات الأدبية، وهو الوجه الناصع الذي لا يرضى بالضيم ولا يقر بالهزيمة التي لحقت بمدينة وشعبها. مقاوم للاحتلال وواثق بزواله ولا يهادن المنحرفين. بسبب ذلك منحه الكاتب مساحة واسعة وقلده شرف الخاتمة”اعتقال، تعذيب مبرح وصمود أسطوري، بعد أكثر من شهر صمد خليل وغادر السجن. شخصية وطنية أخرى كان الأستاذ داود، اعتقال وشرح مفصل عن عذاب التحقيق وصمود الأستاذ داود الأسطوري ثمّ نفيه بسبب ذلك الى الأردن.”
بعد حوار قصير دار بين سمّار مضافة المختار أبي السعيد، حول مشاكل الاحتلال المستجدة من: سهولة العمالة في اسرائيل عند المحتل.”جدّوع بن أبو القمل لم تتعثر قدماه عندما عمل مع مقاول اسرائيلي في حارة الشرف، بعد الحرب بأقل من اسبوعين، لم يرفّ له جفن وهو يرى الغبار المتطاير من الأبنية العربية التاريخية المهدمة ويحطّ في ساحة المسجد الأقصى، وعلى قبّة الصخرة المشرفة وعلى جدرانها المزخرفة،…جدّوع بن أبو القمل اغتنى من الاحتلال، شبع بعد أن كان جائعا، الاحتلال غيّر الدنيا، وما كان مقبولا بالأمس لم يعد مقبولا اليوم، فتزوج امرأة أخرى” بعض السّمّار تحدث عن ضرورة مقاومة الاحتلال، والبعض الآخر تحدث عن ضرورة العودة الى فلاحة الأرض، قبل أن يسلبها المحتل.
بعد تلك المقدمة المقتضبة جدا ولج الحضور في بحث مشكلة مهمة تقلق بال المختار.
ضرورة العودة الى الحياة الطبيعية والتقيد بنواميس المجتمع؛ زواج البنات وستر العرض واجب وطني من الدرجة الأولى،…كالعادة فالمختار قدوة، فكان أول من يزوج ابنه ماهر من أميرة بنت أبي صالح بدون”طنطنه وجراس…ع السكت”. يفعل ذلك لأن الحياة يجب أن تستمر، رغم أن دماء الشهداء لم تجف بعد، ونعيق غراب البين شتّت الأحبة والأهل، والفرحة سرقها الاحتلال من قلوب الناس…نعضّ على النواجذ ونستعد للغد الوافد.”كون وبدّه يعمر”
ضائقة “تزويج البنات” مساحة جديدة في الهمّ الفلسطيني، لم يتناولها أدبنا المحليّ من قبل، كأن الكاتب جميل السلحوت أراد أن يوسع الساحة الفلسطينية، وهو فعلا قد وسّعها، لدرجة أنني اعتقدت أن هذا سيكون محور الرواية، فبقيت مشدودا أبحث عن مصير تلك الفتيات، محنتهن المستجدة ومعاناة ذويهن، وتمزيق أسر كانت تحلم بعشّ الزوجيّة وبغد أفضل،…حبّذا لو طوّر الكاتب هذه الفكرة ودفعها نحو خواتم مؤثّرة أكثر، وفاجعة أعمق وأشدّ إيلاما….لكن الكاتب كان له رأي آخر، فرواية”برد الصيف” تعالج تفكّك القيم الخلقية في شخصية مهادن”عند مخالفة الدّول الشاطر بخبي راسه” وساقط منحل باع ضميره والوطن للمحتل “اللي بتزوج أمّي هو عمّي”.
أبو سالم بطل الرواية الحقيقي يقدّمه لنا الكاتب في دور السّاقط المتعاون مع الاحتلال”سارق، جاسوس، كلب، مرتشي، نذل، حمار، زائر في ماخور المخنثين، يصلي لكنه يشرب المحرمات، حليف الشيطان، يطلب المحتل منه أن يجند احدى بناته أو إحدى قريباته، أو زوجة ابنه”عصفورة” بيد المحتل يغري أو يهدّد بها الشباب الفلسطينيين…الكاتب عرّاه حتى أخمص قدميه، وزبّله تحقيرا، وشحننا غيظا وكراهية له ولكل أمثاله وأفعاله.
الاحتلال وشروره كثيرة ومتعدّدة، خاصة وأنّ هذا الاحتلال طال كلّ شيء؛ البشر والشجر والحجر، اعتدى على التاريخ والفضاء الانساني، وما سلمت من شرّه العقيدة، وأن هذا الاحتلال امتدّ زمنا طويلا، ولا يزال الفلسطيني يعاني منه حتى يومنا هذا، وهذا الاحتلال في مسبباته وعواقبه يذكر باحتلال عام 1948، أو ما اتفق على تسميته بـ”النكبة” الفلسطينية.
الأدب الفلسطيني في العموم هو أدب “القضية” وقلّما نجد عملا فنّيّا لا يشيل هذا الهمّ والغمّ،…ما بين أيدينا الآن”برد الصيف” للأديب جميل السلحوت رواية تتناسق وتنسجم مع التيمة الأساس، وهي الوطن-فلسطين. ولأن واقع البلاد الجديد ثقيل بغيض ضاغط جدا، قدّم الكاتب خيال الرواية قربانا رخيصا للصريح المباشر.
يتبرع أبو سالم باصطحاب البنات الى الأردن، تنفيذا لقرار”الجماعة” ستر أعراضهن بأن يتزوجن من خطّابهن الذين شرّدتهم الحرب الى الأردن. طبعا أبو سالم يفعل ذلك مقابل المال…أبو سالم ينسّق الأمر مع سيّده المحتل بواسطة مشغله المباشر كابتن نمرود الذي يزوّده بمهمات أخرى،؛ التجسّس على رجالات المقاومة الفلسطينية في الأردن،؛ انتماءاتهم السياسية والعقائدية، مكان تمركز فصائلهم،…أبو سالم لا يخيّب توقعات مشغله “من يهن يسهل الهوان عليه”.
الرواية عبارة عن شحنة وطنية تثقيفية غنية للقارئ، لا سيّما الشباب منهم، الذين ما عاشوا الحرب…وهذه أجرة الكاتب.
سؤال: ص22 بيت المخنث جبريئيل”جيئولا” زوجة عليان بن الحاج عبد الرؤوف، هو بيت عربي لصاحبه السابق محمد محمود جودة، بناه في حيّ رحافيا سنة 1789″حي رحافيا حيّ يهودي، تعود ملكية الأرض الى الكنيسة المسكوبية، لم يسكن فيه عرب، وهو أيضا حديث لا تناسبه السنة المشار اليها”.